تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الكلام فيها في مواضعها إن شاء الله.

ثانيهما باعتبار أنه سبحانه خلط أوليائه المقرّبين بنفسه فجعل ظلمهم وقوعا وصدورا ظلمه ، ورضاهم رضاه وسخطهم سخطه ، وحبهم حبّه كما صرّح به الامام عليه‌السلام في الخبرين الأخيرين.

وذلك لما ذكره صدر المحققين في شرح الخبر الأخير من أنّ الولي الكامل والفاني المضمحلّ هو الّذى يستغرق وجوده في وجود الحقّ المعبود لأنّه الموجود في مقام العبودية والشهود الراجع إلى عالم الوحدة الجمعيّة بعد طيّ منازل الكثرة في مراحل التفرقة وقد خرج من البين والأين ، ووصل وفي في العين ، فحينئذ إن بقي على هذه الحالة في المحو ولم يرجع إلى الصحو كان محجوبا بالحقّ عن الخلق على عكس حالة المحجوبين بالخلق عن الحق ، فحينئذ لا شغل له في هذا العالم ولا أسف ولا ضجر ولا غضب ولا رضى ولا غير ذلك مع الخلق لأنّ جميع ذلك فرع الالتفات إليهم ولا معاملة معهم فإذا صارت تلك الحالة ملكة راسخة له وقويت ذاته بحسب وسع شخصه وقلبه انشرح صدره وصار جالسا في مقام التمكين على الحدّ المشترك بين الحق والخلق غير محتجب أحدهما عن الآخر فحينئذ كلّ ما يصدر عنه من الأعمال والأفعال والمجاهدات والمخاصمات وغيرها كان لله وبالله ومن الله وفي الله ، فإن غضب كان غضبه بالله ولله ، وإن رضى كان رضاه كذلك وهكذا في جميع ما يفعل أو ينفعل فكان غضبه غضب الحق ورضاه رضاه من دون أن يكون انضجاره راجعا إلى أسف الخلق وانضجارهم بوجه.

لكن يجب أن يعلم لدفع الإشكال الوارد هنا بأنّ هذه الانفعالات والتغيّرات كيف تنسب إلى الحق تعالى ، إنّ الأولياء الكاملين الكمّلين للخلق ما داموا في هذا العالم لا مخلص لهم عن الإشتغال بالخلق والمخالطة معهم وإصلاحهم وتأديبهم وتعليمهم وأمرهم بالمعروفات ونهيهم عن المنكرات ، وحينئذ تلحقهم لوازم البشرية

٦٨١

ونقائص الخلقيّة من الأذى والألم والانضجار والأسف وغيرها من الانفعالات والاستحالات وإليه الاشارة بقول الامام عليه‌السلام في الخبر المتقدّم : يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون ، ولكن لمّا كان أصل اشتغالهم بأمور الدنيا والتفاتهم إلى الخلائق بواسطة أمر الله وطاعته وعبارته فكلّما يلحقهم من ذلك ويصل إليهم كان لله وفي سبيله ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه.

والحاصل الذي يستحيل على الله من الانفعالات والتغيرات هو الذي يكون وصفا له بالذات وبالحقيقة ويصل إلى ذاته بذاته ، والذي لا يكون أولا وبالذات بل بالعرض وبواسطة العبد واسطة في العروض لا واسطة في الثبوت ولا في الإثبات ، واليه الإشارة بقوله : لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ، ولذلك صاروا كذلك ، فإنّ لهم لتوسّطهم بين الله وبين خلقه جهتين ظاهرية مع الخلق ، وباطنية مع الحقّ.

ثمّ ذكر أنّ في قوله في الخبر : «وليس ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه» تنبيها لطيفا على أنّ كلّما هو من الصفات من الأمور الوجودية التي هي مظاهر أسمائه وصفاته فهو ثابت للحق تعالى على وجه أعلى وأشرف ، فإنّ صفات الوجود كالوجود نفسه في كلّ موطن من المواطن وعالم من العوالم بحسب ذلك الموطن والمقام ، فالغضب مثلا في الجسم جسماني وصفي كما يشاهد من ثوران الدّم وحرارة الجلد وحمرة الوجه ، وفي النفس نفساني إدراكى وهو إرادة الانتقام والتشفي من الغيظ ، وفي العقل عقلي ، وهو الحكم الشرعي والتصديق بتعذيب طائفة ، والمحاربة لأعداء الله ، وإقامة الحدود وما يجرى مجرى ذلك ، وغضب الله ما يليق بمفهومات صفاته بوجود ذاته ، وكذا الشهوة فانّها في النبات الميل إلى جذب الغذاء والنموّ ، وفي البدن الحيواني انفتاخ العضو المخصوص وامتلاء أوعية المنيّ ، وجذب الرحم الإحليل ، وفي نفسه التلذذ النفساني بالمباشرة ، وفي النفس الإنساني محبّة الإخوان والمؤالفة والصداقة والعشق العفيف الّذى منشؤه تناسب

٦٨٢

الأعضاء والشمائل الحسنة لحسان الوجوه ، لا غلبة الشهوة واستيلاء الحيوانيّة البهميّة ، وفي العقل الابتهاج بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وكيفيّة ترتيب الوجود وسلسلتي البدو والنهاية ، والخلق والأمر ، والملك والملكوت ، وقد مرّ سابقا أنّه تعالى بحسب كلّ صفة ونعت هو له ليس كمثله شيء في تلك الصفة ، والمخلوقات وصفاتها رشح وتبع لذاته وصفاته ، والمجعول لا يساوى جاعله في وجوده ولا في صفات وجوده ، فليس كمثله شيء في كلّ الوجوه والجهات ، ولكن الجميع فيه على وجه أعلى وأشرف. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه مع الغضّ عمّا في بعض كلامه من جواز عروض بعض الصفات ولو بواسطة العبد وكونه واسطة في العروض لوضوح فساده إلّا أن يريد به جواز الإطلاق لا العروض ومن إثبات العشق العفيف حسبما أجمله في المقام وفصّله في أسفاره ، وستسمع تمام الكلام في إبطاله عند تفسير قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) (١) آه.

أنّ صفات الإمكانية والمعاني الكلّية لا يتّصف بشيء منها ذات الواجب جلّت عظمته ، والقول بالرشح والنسخ والتنزل وغيرها ممّا تقوله بعض الصوفية القائلين بوحدة الوجود باطل جدّا حسبما أسلفنا بعض القول فيه ، وبيّنا أنّ العلم والقدرة وغيرهما من صفات الذات أو من صفات الفعل ليس إطلاقه عليه سبحانه من باب الاشتراك المعنوي بأن يكون للعلم مثلا معنى واحد مختلف المراتب بحسب الشرافة واللطافة والإحاطة والبساطة وامتدادها فيتّصف الواجب به على وجه أشرف وغيره على حسب مرتبته ، فإنّ هذا المعنى الواحد إن كان واجبا غير الذات فيتعدّد الواجب ، وكيف يتّصف به غيره أو عينه فليس وصفا لغيره وإلا لكان

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

٦٨٣

الذات وصفا للممكن أو من الممكنات فلا يجرى عليه ما هو أجراه على خلقه فهو بمعزل عن أن يكون وصفا للواجب ، فالقول بالشركة المعنوية باطل في نفس الوجود ، وفي الصفات الذاتية والفعلية كما وقع التصريح به في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام.

ومثله القول باتّحاد المعنى مع نسبة الاختلاف إلى المراتب والإضافات والإعتبار كما يقوله الصوفيّة.

بل صرّح هذا الفاضل في موضع آخر أنّه ما من صورة إمكانية وصفة خلقيّة إلّا ولها حقيقة أصليّة في عالم الالهيّة وعالم الأسماء الربانيّة لكن على وجه أعلى وأشرف ، ألا ترى أن الوجود حقيقة واحدة نوعيّة ، وهو في مرتبة جسم ، وفي مرتبة نفس ، وفي مرتبة عقل ، وفي مرتبة حقّ تعالى عن المثل والتشبيه ، وكذا حكم كلّ حقيقة وجوديّة ، إذ الاختلاف بالشدّة والضعف قد ينتهى إلى غاية التخالف. انتهى.

وهو كما ترى صريح في ان الوجود الحقّى والخلقي متحد بحسب الحقيقة ، وأنّه حقيقة واحدة نوعية ، والاختلاف إنما هو بحسب المراتب ، بل صرّح بأنّ الاختلاف بالشّدة والضعف ، فيا لله وللتوحيد ، متى كان ذكر للإمكان وللممكنات في عالم الوجوب كى يتّحد معه في الحقيقة النوعيّة الوحدانيّة ، وهل هذه الاعتبارات والمراتب والقيود كانت قديمة أو حادثة ، والأوّل واضح الفساد ، والثاني خلاف مدّعاهم ، لكنّهم يقولون : إنّ جميع ما في الكون كلّها إشراقات وإضافات واعتبارات للحقيقة الواحدة الّتي هي الوجود ، فلا يثبتون في الكون والإمكان إلّا سلوبا وغيورا ، وإنّهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، فإذا سئلت عن كلّ منهم بل عن كلّ شيء في العالم فإمّا عدم محض عندهم ، أو أنّه واجب الوجود تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وما أحسن ما وصّاه به شيخنا الأفخم الأمجد قدس‌سره في شرحه للعرشيّة حيث

٦٨٤

قال : وأنا أقول للمصنّف لا يتعب نفسه فإنّه إن صعد السّماء أو نزل الأرض أو قتل نفسه أو غير ذلك لا يكون ربّا ولا يكون قديما ، ولا أصل له في الأزل أبدا ولا يقبل منه ذلك إلّا من كان يريد مثل هذه المرتبة ، وهم معه مثل ما قيل في ذمّ أبى الحسين الجزّارة.

إن تاه جزاركم عليكم

بفطنة في الورى وكيس

فليس يرجوه غير كلب

وليس يخشاه غير كيس

وعن الشيخ علاء الدولة السمناني في حاشيته الحتوفات المسماة بالفتوحات عند قول ابن عربي : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها أنه قال : يا شيخ إنّ الله لا يستحيي من الحقّ شيئا لو قيل : إنّ فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه بل تغضب عليه ، فكيف يجوز ذلك أن تنسب هذا الهذيان إلى الملك الديّان تب الى الله تعالى لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي تستنكف عنها الطّبيعيون والدهريون.

نمط آخر من الكلام لتنقيح المرام

اعلم أنّ الله تعالى لم يخلق شيئا فردا لا ضدّ له كما قال : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (١).

وفي خبر عمران الصابي عن مولانا الرضا عليه‌السلام : إنّ الله لم يخلق شيئا فردا قائما بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده (٢).

وذلك لأنّ التماثل والتضاد والاقتران كلّها من صفات الإمكان الّتي لا يتّصف الواجب بشيء منها لتنزّهه عن الأنداد والأضداد.

__________________

(١) الذاريات : ٤٩.

(٢) التوحيد ص ٣١٨ ـ العيون ج ١ ص ١٦٩ وعنهما البحار ج ٥٧ ص ٥٢.

٦٨٥

ولذا ورد في الخطبة العلويّة ومثلها في الخطبة الرضويّة : فبتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف ان لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف ان لا ضدّ له وبمقارنته بين الأمور عرف ان لا قرين له ضادّ النور بالظلمة واليبس بالبلل ، والصرد بالحرور ، مؤلّفا بين متعادياتها مفرّقا بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرّقها وبتأليفها على مؤلّفها ، وذلك قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). آه (١).

فالممكن لا يمكن إيجاده بمعنى أنّه لا ينوجد إلّا أن يكون له ضدّ ، لأنّ كلّ ممكن زوج تركيبي ، فيه جهة من ربّه ، وجهة من نفسه ، وما هو عليه من رتبة إمكانه وفعليته وجوده جهة إمكانيّة يمكن فقدانها وزوالها ، وهو بعينه طرو ضدّها ، فلمّا خلق الله الرحمة محبّة لها وعناية بها أوّلا وبالذات ، لأنّها من فيض جوده وتمام محبّته ومقام قربه استلزم إيجادها خلق الغضب الذي حقيقته البعد عن الرحمة وخلاف المحبّة ، لأن خلق الغضب من تمام قابليّة الرحمة للخلق ، فخلق الرحمة اوّلا وبالذات والغضب ثانيا وبالعرض ، لأنّه بخلاف محبّته ورضاه فلم يرده لذاته بل إنّما اراده لتمام الرحمة ، فمراده ومحبوبه هو الرحمة الّتي وسعت كلّ شيء فكان خلقه قبل خلق الغضب قبليّة ذاتيّة ، ولذا سبقت رحمته غضبه كما في الدعاء.

وعن مولينا الباقر عليه‌السلام : إنّ الله خلق الجنّة قبل أن يخلق النار ، إلى ان قال وخلق الرحمة قبل أن يخلق الغضب (٢).

فنسب الرحمة والمغفرة إلى نفسه واشتقّ لها أسماء منها ليفزع المخلوق بها اليه سبحانه فقال : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٣) ثمّ لم يشتقّ من الغضب

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ١٣٠ ح ٤٩ عن التوحيد.

(٢) البحار ج ٨ ص ٣٠٨ ح ٧٢ عن الكافي ج ٨ ص ١٤٥ ح ١١٦.

(٣) الحجر : ٤٩.

٦٨٦

لنفسه اسما بل وصف العذاب بقوله : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (١) فسبقت رحمته غضبه من وجهين بل من وجوه.

ولذا قال أبو الحسن موسى عليه‌السلام : إنّ الله جلّ ثناؤه خلق العقل وهو أول خلق خلقه الله من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره فقال له اقبل فاقبل ثمّ قال له أدبر فأدبر فقال الله تعالى خلقتك خلقا عظيما وكرّمتك على جميع خلقي ، ثمّ خلق الجهل من البحر الأجاج الظلماني (٢).

ثمّ جعل لكلّ منهما جنودا من جملتها الرحمة والغضب (٣) كما في الخبر وان احتمل فيه ان لا يكونا بالمعنى الكلّى الذي نحن بصدده فإنّ حقيقة الرحمة وأصله موافقة الرضا والمحبّة ومقام القرب خلقها الله بنفسها لنفسها وخلق من أشعّة أنوارها كلّ خير حتّى الجنة وأهلها ومن فروعها الأنبياء والأولياء والصلحاء والأخيار والأبرار والملئكة والروحانيين وغيرهم من المقرّبين الذين فازوا بمقام القرب الّذى هو حقيقة الرحمة ولذا عبر عنها بالولاية الكليّة المختصة بنبينا خاتم النبيّين واله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين فإنهم حقيقة الرحمة ومقام المحبة وتمام النعمة ومن ثمّ أرسله الله تعالى رحمة للعالمين وأكمل بوصيّه الدين المبين وجعل من فروعهم كلّ خير وبرّ من الأكوان والأعيان والكينونات التشريعيّة والتكوينيّة حتى الأخلاق والأحوال الحسنة والعبادات الواجبة والمندوبة وغيرها ممّا هو مقتضى الولاية الكليّة الّتي عرضها الله على جميع ذرأت العالم فما قبلها طاب وطهر ، وتكوّن على وفق مشيّته وإرادته ومحبّته ورضاه.

__________________

(١) الحجر : ٥٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ١٠٩ ح ٧ وص ١٥٨ ح ٣٠ وج ٧٨ ص ٣١٦ ح ١ باب مواعظ ابى الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام عن تحف العقول ص ٣٨٣.

(٣) ليس الغضب من جملتها ، نعم من جملتها ، الانتقام.

٦٨٧

وهذا معنى الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان : «اللهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا ، وفي عليين فارفعنا ، وبكأس من معين من عين سلسبيل فاسقنا. الدعاء.

فإنّ جميع ما ذكره هنا وفي سائر المواضع من شئون الرحمة ومقتضياتها ومظاهرها ، وكذا قولهم بعد التوسلات والتضرّعات والسؤلات : «برحمتك يا أرحم الراحمين» فإنّه توسل بالرّحمة في طلب النعمة الّتي هي من مظاهرها وأشعتها وفروعها ، ولذا يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا ويساق المجرمون إلى جهنّم وردا ، فإنّ الرحمن هو الظاهر بالرحمة الّتي مظهرها في القيمة هو الجنّة أعنى دار القرب والكرامة والفوز والسلامة الّتي خلقها الله برحمته كما أنّه من رحمته جعل لكم الليل والنهار ، وغير ذلك ممّا منّ الله على عباده من مقتضيات الرحمة الواسعة ، والمكتوبة المشار إليهما بالكلمتين في البسملة ، وبالرحمتين في الآية ، وبقوله في دعاء السمات : «وبرحمتك الّتي مننت بها على جميع خلقك» ، فيطلق على النعمة الرحمة قال : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (١) و (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) (٢) ومنه قولهم بعد التسليم : «ورحمة الله وبركاته» ، ويطلق عليها أثر الرحمة (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٣) أى أرض جرز الإمكان بماء رحمة الوجود المشار اليه بقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٤).

إذ ليس المراد به الماء العنصري الذي هو أحد بسلط الأجسام ، مع أنّه لم يخلق منه إلّا بعض الأجسام المركّبة ، والالتزام بالتخصيص مع استغراق العموم وقلّة

__________________

(١) الكهف : ٩٨.

(٢) المؤمنون : ٧٥.

(٣) الروم : ٥٠.

(٤) الأنبياء : ٣٠.

٦٨٨

الباقي مستهجن جدّا ، وهو كما ترى ولو مع جواز التخصيص بالأكثر في نفسه ، والحيوة سارية في جميع الأكوان.

وأمّا الغضب نستجير بالله منه فقد سمعت أنّ حقيقته هو البعد من الله ولذا لم يرضه ولم يرده لذاته ، بل لم يزل بغيظا له سبحانه ، ولذا لم ينظر اليه بعين الرحمة والعناية أبدا ، وكذا إلى ما خلق منه كطينة سجّين ، وأرض الخبال ، والشقاوة والأشقياء الذين هم مظاهر تلك الشقاوة بكلّيتها وكافّة جنودها وأحزابها كأبى الدواهي ، وأبي الشرور وأبى الملاهي ، وأتباعهم وأعوانهم ، والراضيين بأفعالهم ، والمائلين إليهم.

وبالجملة فكلّ منهم مظهر للغضب الإلهى على حسب رتبته من الشقاوة ، بل من جملة مظاهره الكلّية الّتي يتجوهر في الآخرة بل في الدنيا أيضا ولو بصورة اخرى هي نار جهنّم وطبقاتها ودركاتها ، وجميع ما فيها من الأمور المكروهة المناسبة لها من الحميم ، والغسلين ، والأغلال والنكال ، واللهيب ، والشرر وغيرها.

فكما يطلق الغضب على كلّ هذه المذكورات كذلك يطلق أيضا على ولاية أعداء الله ، وعداوة أوليائه ، وما يتفرّع عليها من الأعمال القبيحة الخبيثة الطالحة الّتي كلها من فروع الشجرة المجتثّة ، فهذه الأعمال الشريرة كعامليها الأشرار كلّها من النار وإلى النار الّا ما كان منها من قبيل التلطخ والعروض فإنّه يرد إلى صاحبه يوم الفصل الأكبر وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم.

وامّا ما سواه فقد ذكروا عليهم‌السلام أنّه ليس منّا من يدّعى ولايتنا وهو متمسّك بفروع غيرنا.

ولذا قال مولينا الصادق عليه‌السلام في جواب المفضّل على ما رواه الصّفار في «البصائر» في خبر طويل وفيه : إنّ أعدائنا هو الحرام المحرّم ، وهم الفواحش ما

٦٨٩

ظهر منها وما بطن ، ومن فروعهم (١) الخمر والميسر والزنا والربا أو الدم والميتة ولحم الخنزير فهم الحرام المحرّم ، وأصل كلّ حرام ، وهم الشرّ وأصل كلّ شرّ ، ومنهم فروع الشرّ كلّه ومن ذلك الفروع الحرام واستحلالهم إيّاها ، من فروعهم تكذيب الأنبياء ، وجحود الأوصياء ، وركوب الفواحش : الزنا والسرقة وشرب الخمر والمسكر وأكل مال اليتيم وأكل الربا والخدعة والخيانة وركوب الحرام كلّها وانتهاك المعاصي ، وإنّما يأمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء وهم المنهي عن مودّتهم وطاعتهم.

إلى ان قال : واعلم أنّ الله قد حرّم هذا الأصل وحرّم فرعه ونهى عنه ، وجعل ولايته كمن عبد من دون الله أوثانا ولو أنّي قلت إنّ ذلك كلّه هو فلان لصدقت إنّ فلانا هو المعبود المتعدّى حدود الله الّتي نهانا عن تعدّيها (٢).

الخبر بطوله كما تسمعه إن شاء الله في تفسير قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) (٣) ، الآية.

وبالجملة فللغضب أيضا آثار ومظاهر كثيرة في عوالم متعدّدة ، ومن مظاهرها الفسوق والفجور والخيانة وغيرها من المعاصي.

ومنها الأخلاق السّيئة والإعتقادات الباطلة ، والإرادات والشهوات الرديّة النفسانيّة والبهيمية والسبعية والشيطانيّة.

ومنها المسخ في الدنيا سواء كان صوريا ظاهريا كما في سائر الأمم ، أو باطنيا معنويّا كما في هذه الامة المرحومة.

ومنها الشرك والكفر بجميع أقسامها وأحكامها ولوازمها.

__________________

(١) ليس في البحار : «ومن فروعهم».

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ٢٩٠ ح ١ عن بصائر الدرجات ص ١٥٤.

(٣) الأعراف : ٣٣.

٦٩٠

ومنها كينونات الأشقياء والخبائث والكدورات والظلامات والظلمات في جميع العوالم والنشآت.

ومنها الاستدراج والإمهال في الدنيا لإبداء السرائر وكشف الضمائر ، وإن كان ذلك باستدامة النعمة والعافية.

ومنها الزواجر والعقوبات الدنيوية البرزخيّة والاخروية من سوء الموقف وسوء الحساب والنار أنواع العذاب المعدّة لهم فيها إلى غير ذلك ممّا هي آثار ولوازم وفروع لولاية أعداء الحقّ أعنى الجبت والطاغوت والشياطين وحزبهم الظالمين كما في الزيارة الجامعة.

إذ المراد بالأولين الأولان ، وبالشياطين بنو أميّة قاطبة ومنهم الثالث ، وحزبهم أشياعهم وأتباعهم والراضين بفعالهم ، ممّن كان أو يكون إلى يوم القيمة ، فإنّ كينونات أصولهم أصل الغضب الّذي هو تجوهر البعد من الله سبحانه والمخالفة لإرادته ورضاه في الكينونة والكيفوفة ومراحل التكوين ومنازل التمكين ومراتب التشريع والتفريع ، وقد ظهر ممّا مرّ عموم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) كما هو قضيّة العرف واللغة لكلّ معاند للحق جاهد له قد سخط الله عليه بإنكاره وعناده ونصبه وعداوته لأولياء الحق بلا فرق بين اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من فرق الكفار بل وكذا المخالفين الّذين هم يهود هذه الأمّة وأتباع عجلها وسامريّها فغضب الله عليهم يمسخهم في الباطن ، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شرّ مكانا من فرق الكفار الذين ليسوا من أهل الجحود والنصب والعداوة لولي الأمر وأضلّ عن سواء السبيل الذي هو ولاية مولينا أمير المؤمنين بل قيل : إنّ الغضب أشدّ من اللعنة فخصّ باليهود أشدّ عداوة لأهل الحقّ العاملة الناصبة الجاحدة المعاندة لأهل البيت عليهم‌السلام وذرّيتهم وشيعتهم ومحبيهم فالغضب عليهم أشد وأغلظ.

ولذا ورد في النبوي على ما رواه في المجالس وتفسير العياشي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٩١

قال : غضب الله على اليهود حين قالوا عزير ابن الله ، واشتدّ غضب الله على النصارى حين قالوا المسيح ابن الله واشتد غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي (١).

واشتداد الغضب هو الذي عبّر عنه بالمقت في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (٢).

فعن القمى قال : إنّ الذين كفروا يعنى بنو أميّة ، وتدعون إلى الايمان ، يعنى إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

ومثله في المناقب عن مولانا الباقر والصادق عليهما‌السلام ، بل في المقام أخبار كثيرة نذكرها إن شاء الله في تفسير قوله : و (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٤) و (مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي) (٥) ، و (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٦) ، و (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) (٧) إلى غير ذلك من الآيات.

تفصيل للاجمال في تحقيق معنى الضلال : اعلم هداك الله بنور اليقين وأرشدك إلى ولاية الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أنّ الضلال في الأصل ضدّ الرشاد ، قال في القاموس : الضلال والضلالة والضلّ ويضمّ والضلضلة والاضلولة والضلة بالكسر والضلل محركة ضدّ الهدى ، ضللت كزللت ومللت ، وهذا إشارة إلى ما أشار اليه الفيّومي تبعا للجوهري ، قال : ضلّ الرجل الطريق ، وضلّ عنه يضلّ من باب ضرب ضلالا وضلالة ، ضلّ عنه فلم يهتد اليه فهو ضالّ ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٧١ ح ٨ عن أمالى ابن الشيخ ص ٨٨.

(٢) غافر : ١٠.

(٣) تفسير القمى ج ٢ ص ٢٥٥.

(٤) الفتح : ٦.

(٥) طه : ٨١.

(٦) الممتحنة : ١٣.

(٧) غافر : ٣٥ والصف : ٣.

٦٩٢

هذه لغة نجد ، وهي الفصيح ، وبها جاء القرآن في قوله تعالى : (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) (١).

وفي لغة لأهل العالية من باب تعب ، والأصل في الضلال الغيبة ، ومنه قيل للحيوان الضائع ضالّة بالهاء للذكر والأنثى إلى أخر ما ذكره.

وقد يقال : إنّه في الأصل خفاء الشيء وهلاكه في الشيء من قولهم : ضلّ الماء في اللبن.

ويقال : إنّه قد استعمل في القرآن على وجوه اثنى عشر : طلب الزلة ، (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) (٢) ، والكفر والشرك : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) (٣) والخسران : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٤) اى خسار ، وفرط المحبّة : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥) والشقاء : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٦) ، والبطلان : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٧) و (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) والنسيان : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (٩) ، والتلاشى والاضمحلال : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (١٠) ، والجمل : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا

__________________

(١) سبأ : ٥٠.

(٢) النساء : ١١٣.

(٣) الواقعة : ٥١.

(٤) غافر : ٢٥.

(٥) يوسف : ٣.

(٦) ق : ٢٧.

(٧) الكهف : ١٠٤.

(٨) محمد (ص) : ٨.

(٩) البقرة : ٢٨٢.

(١٠) السجدة : ١٠.

٦٩٣

مِنَ الضَّالِّينَ) (١) والحرمان والياس : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢) والخطاء : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٣) ، والإغواء : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) (٤).

لكنه مع ظهور التكرار فيه في الجملة ورجوع البعض إلى البعض لا يخفى أن المثال في بعضها غير مطابق للممثل سيّما قوله في قصّة موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٥).

فإنّه ليس من الجهالة ، بل الضلال عن الطريق كما عن الإمام عليه‌السلام : مضافا إلى أنّه لم يستوف جميع معانيها الّتي ورد عليها في القرآن كالإضلال من الله في قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) (٦) والضلال للنّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧).

فضلا عن المعاني المستعملة فيها في العرف واللغة كالخفاء ، والضياع ، والغياب ، والحيرة ، والحذق بالدلالة ، وكون الولد لغير رشده إلى غير ذلك ممّا في القاموس وغيره الذي لا داعي إلى الإطناب في نقله ، فضلا عن إرجاع بعضها إلى بعض وإن قيل : إنّ الأصل في معانيه الهلاك أو الميل عن الشيء.

نعم في تفسير النعماني بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الضلال على وجوه فمنه محمود ومنه ما هو مذموم ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم ومنه ضلال النسيان ، فامّا الضلال المحمود وهو المنسوب إلى الله تعالى كقوله : (يُضِلُّ

__________________

(١) الشعراء : ٢٠.

(٢) القمر : ٤٧.

(٣) طه : ٥٢.

(٤) النساء : ١١٥.

(٥) الشعراء : ٢٠.

(٦) البقرة : ٢٦.

(٧) الضحى : ٧.

٦٩٤

اللهُ مَنْ يَشاءُ) (١) ، وهو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم ، والمذموم هو قوله تعالى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٢) ، (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٣) ومثل ذلك كثير.

وأمّا الضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصّة إبراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٤) ، الآية.

والأصنام لا يضللن أحدا على الحقيقة انّما ضلّ الناس بها وكفروا حين عبدوها من دون الله عزوجل.

وامّا الضلال الذي هو النسيان هو قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) (٥).

وقد ذكر الله تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيّه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٦) فمعناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك.

وامّا الضلال المنسوب إلى الله تعالى الذي هو ضدّ الهدى ، والهدى هو البيان وهو معنى قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) (٧) معناه أولم يبيّن لهم مثل قوله : (فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٨) ، اى بيّنا لهم وهو قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (٩).

__________________

(١) المدثر : ٣١.

(٢) طه : ٨٥.

(٣) طه : ٧٩.

(٤) إبراهيم : ٣٦.

(٥) البقرة : ٢٨٢.

(٦) الضحى : ٧.

(٧) طه : ١٢٨.

(٨) فصّلت : ١٧.

(٩) التوبة : ١١٥.

٦٩٥

وامّا معنى الهدى فقوله عزوجل : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١) ، ومعنى الهادي المبيّن لما جاء به المنذر من عند الله ، وقد احتجّ قوم من المنافقين على الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (٢) وذلك أن الله تعالى لمّا أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، قال طائفة من المنافقين : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) فأجابهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) ، الآية.

فهذا معنى الضلال المنسوب إلى الله سبحانه لأنه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر فخالفوه وصرفوا عنه بعد أن أقرّوا بفرض طاعته ، ولمّا بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون فخالفوه وضلّوا.

هذا مع علمهم بما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلّوا على أهل بيتي ولا تقطعوهم عنّى فإنّ كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببى ونسبي ، ولمّا خالفوا الله تعالى ضلّوا واضلّوا فحذر الله الأمّة من إتّباع الهوى ، فقال سبحانه : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٣) والسبيل هاهنا الوصىّ وقال سبحانه : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ) (٤) ، الآية ، فخالفوا ما وصّاهم الله تعالى به واتّبعوا أهواءهم فحرّفوا دين الله جلّت عظمته وشرائعه وبدّلوا فرائضه واحكامه وجميع ما أمروا به كما عدلوا عمّن أمروا بطاعته وأخذ عليهم العهد بموالاته ، واضطرهم ذلك إلى استعمال الرأي والقياس فزادهم ذلك حيرة والتباسا ،

__________________

(١) الرعد : ٧.

(٢) المائدة : ٧٧.

(٣) المائدة : ٧٧.

(٤) الأنعام : ١٥٣.

٦٩٦

ومنه قوله سبحانه : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (١).

فكان تركهم إتّباع الدليل الذي أقام لهم ضلالة لهم ، فصار ذلك كأنّه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في إتّباع الإمام ثمّ افترقوا واختلفوا ولعن بعضهم بعضا واستحلّ بعضهم دماء بعض : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٢). (٣) الخبر.

وعلى كلّ حال فقضية الإطلاق وحذف المتعلق ، سيّما بمعونة اختلاف الأخبار الواردة في تفسيره حسبما مرّ في اوّل تفسير الآية ويأتى أيضا حمل الضلال في المقام على كلّ انحراف وعدول عن الحقّ الّذى هو الدين القويم ، والصراط المستقيم ، بلا فرق بين أن يكون ذلك الانحراف في الإعتقاد أو العمل أو اللسان فيما يتعلق بأصول الدين كلّها أو بعضها أو فروع الدين كذلك ، أو أصول الفروع وفروع الأصول سواء كان ذلك على وجه الجحود والعناد ، أو على سبيل الإعتقاد وتوهّم الصواب والسداد ، أو من جهة الاستضعاف وعدم التميز بين الفساد والرشاد ، انّ الضلالة تشتمل جميع ذلك منفردا ومجتمعا مع غيره حتى المجموع ، وإن فسّرت في بعض الأخبار بالغلوّ وفي بعضها بالنصب الذي هو الضلال عن سبيل الله كما مرّت حكايتهما عن تفسير الامام عليه‌السلام وغيره.

بل فيه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم ينزل عالم إلى عالم تصرّف عنه طلّاب حطام الدنيا وحرامها ويمنعون الحقّ من أهله ، ويجعلونه لغير أهله اتّخذ الناس رؤساء

__________________

(١) المدثر : ٣١.

(٢) يونس : ٣٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ح ٤٨ عن تفسير النعماني ص ١٧ ـ ٢٠.

٦٩٧

جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا (١).

وفي كثير من الأخبار أنّ أهل الضلال هم المستضعفون بل في بعضها تثليث الإيمان والكفر بالضلالة.

عن العيّاشى عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : الناس على ستّ فرق يؤتون كلّهم إلى ثلث فرق : الإيمان ، والكفر ، والضلال ، وهم أهل الوعد من الّذين وعدهم الله الجنّة والنار المؤمنون والكافرون والمستضعفون والمرجون لأمر الله إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم ، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا وأهل الأعراف (٢).

وفيه عن زرارة قال دخلت أنا وحمران أو أنا وبكير (٣) على أبى جعفر عليه‌السلام قال قلنا له إنّما نمد المطمر قال : وما المطمر؟ قلنا : الترّ فمن وافقنا من علويّ أو غيره تولّيناه ، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه ، فقال لي : يا زرارة قول الله أصدق من قولك فأين الّذين قال الله عزوجل : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (٤) ، أين المرجون لأمر الله ، أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ، أين أصحاب الأعراف ، أين المؤلّفة قلوبهم.

وزاد حماد في الحديث قال زرارة : فارتفع صوت أبي جعفر عليه‌السلام وصوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار.

وزاد فيه جميل عن زرارة : فلمّا كثر الكلام بيني وبينه قال لي : يا زرارة حقّا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ / ٨٣ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) البحار : ج ٧٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦ عن تفسير العياشي ج ٢ / ١١١.

(٣) في البحار وتفسير العياشي ليس «أو أنا وبكير».

(٤) النساء : ٩٨.

٦٩٨

على الله أن يدخل الضلّال الجنّة (١).

قلت : في «مجمع البحرين» المطمر بكسر الميم الأولى وفتح الثانية خيط يقوّم عليه البناء ، ويسمّى الترّ أيضا وقال في التر : إنّه بالضم والتثقيل خيط البناء المطمر مثله ثمّ نقل الخبر وغيره (٢).

ومراد زرارة به في الخبر إمّا الضال عن الاستقامة المطلقة في الأصول والفروع وإمّا عن ولاية الائمّة الطاهرين.

وظاهر الخبر أنّ كلّ من عدّه الإمام عليه‌السلام داخل في الضّلال بالضّم والتشديد جمع الضالّ ، واستحقاق الجنة لعدم تماميّة الحجّة عليهم.

ويؤيّده ما في غيبة الشيخ قدس‌سره في الصّحيح عن زرارة عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : حقيق على الله أن يدخل الضلّال الجنة.

فقال زرارة كيف ذلك جعلت فداك؟

قال : يموت الناطق ، ولا ينطق الصامت فيموت المرء بينهما فيدخله الله الجنّة (٣).

على الأوّل لا إشكال فيه لإحراز الإسلام والإيمان ، وإن لم يكن على سبيل الكمال ، وعلى الثاني لعلّ المراد كونهم حينئذ من المستضعفين الّذين لم يتمّ عليهم الحجّة في الدنيا بل يؤجّج لهم في البرزخ أو في الآخرة نار يمتحنون بها كغيرهم ممّن لم يتمّ عليهم الحجّة مثل الأطفال ، والمجانين ، والذي مات في الفترة بين النبيين والأبله ، والأصمّ والأبكم كما رواه في «المعاني» و «الخصال» بل في بعض الأخبار إطلاق الضلّال على المخالفين مع تثليث القسمة.

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٩٣ وعنه البحار ج ٧٢ ص ١٦٤ ح ٢٦.

(٢) مجمع البحرين حرف الراء باب ما أوله التاء.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ / ٢٩٠ عن غيبة الطوسي ص ٢٩٢.

٦٩٩

ففي الكافي بالإسناد عن سليم بن قيس الهلالي عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل أدنى ما يكون به العبد مؤمنا وأدنى ما يكون به العبد كافرا وأدنى ما يكون به العبد ضالّا فقال عليه‌السلام قد سئلت فافهم (١) الجواب.

أمّا أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ويعرّفه إمامه وحجته في أرضه ، وشاهده على خلقه ، فيقرّ بالطاعة ، قلت : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلّا (٢) ما وصفت؟ قال : نعم إذا أمر أطاع وإذا نهى انتهى.

وأدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أنّ شيئا نهى الله عنه أنّ الله أمر به ، ونصبه دينا يتولّى عليه ، ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به وإنّما يعبد الشيطان.

وأدنى ما يكون به العبد ضالّا أن لا يعرف حجّة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عزوجل بطاعته وفرض ولايته.

قلت : يا أمير المؤمنين صفهم لي فقال : الذين قرنهم الله عزوجل بنفسه ونبيّه فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

قلت : يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي ، فقال : الذين قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته يوم قبضه الله عزوجل اليه : إنّى قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، وجمع بين مسبحتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبّحة والوسطى فسبق إحداهما الأخرى فتمسكوا بهما لا تزلّوا ولا تضلّوا ولا تقدّموهم فتضلّوا (٤).

__________________

(١) في البحار : فاسمع الجواب.

(٢) في البحار : غير ما وصفت.

(٣) المائدة : ٩٥.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥ ح ١ ورواه المجلسي قدس‌سره في البحار عن كتاب سليم.

٧٠٠