تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

افتقاره إلى المبقى إذ لعلّ للشيء بقاء بعد وجوده نعم الحقّ أنّ مسألة الحاجة إلى المبقى أوضح من أن يستدلّ عليه بمثل هذه الظّواهر ، بل الإمكان الذّاتي الّذى لا ينفكّ منه أصلا دليل الافتقار ، وبعد ثبوت الحاجة به أو بوجه آخر تدلّ الآية على أنّه سبحانه هو المنعم بالإبقاء لا غيره.

وممّا مرّ يظهر النّظر أيضا فيما ذكره الشّيخ البهائي عطّر الله مرقده مضافا إلى ما قيل من أنّ توجيهه لا يوافق مذهب البيضاوي ، إذ مختاره كون الرّبّ مصدرا لا وصفا فتأمّل.

وأمّا ما ذكره الصّدر الأجلّ ففيه أوّلا انّ ما ذكره من المناقشة كأنه مبنىّ على ما صرّح به أخيرا من كون الموجودات كافة تدريجيّة الحصول ، وعلى هذا فلا معنى للتّربية إلّا الافاضة السّيالة التّجديدية الّتي هي الإبقاء لطروّ الفناء بعدمها فتربية الجماد مثلا بدوام إفاضة الوجود عليه حيث إنّ وجوده وكينونته من حيث المادّة والصّورة سيّال متصرّم غير قارة ـ الذّات ، وعلى هذا فما ذكره من المناقشة كانّه تحقيق لمعنى التّربية وإثبات لها.

وثانيا : انّ ما ذكره من دلالة الآية على كون العالم تدريجيّ الحصول غريب جدّا إذ مدلول الآية كونه سبحانه مربيّا للعالم ، موصلا له إلى كماله ، وامّا إنّ هذا الإيصال هل هو مجرّد الإبقاء أو بإعطاء الكمالات المفقودة أو بتجدّد الأمثال بالإيجاد بعد الفناء أو بسيلان الفيض الموجب للصّوغ بعد الكسر حسبما تسمع في موضعه إن شاء الله ، فلا دلالة فيها على شيء منها بوجه من الوجوه ومن أين يستفاد منها كون العالم بجميع أجزائه الجوهريّة سيّالة الحصول غير قارّة الوجود كالحركة المتّصلة ، بل الإنصاف أنّ فيها دلالة على ثبوتها وتقرّرها وبقائها كى يصحّ نسبة التّربية الظّاهرة في تكميل الشّيء بعد ثبوته وتقرّره إليه سبحانه.

٤٤١

وصل

لمّا نبّه سبحانه على اختصاص جميع أفراد الحمد وأنواعه من جميع خلقه بألسنة ذواتهم وصفاتهم ووجوداتهم واستعداداتهم وقابليّاتهم في جميع شؤوناتهم وظهوراتهم وتطوّراتهم وتجلّياتهم ومراتبهم به سبحانه بحيث لا يشاركه فيه غيره ووصف نفسه بما هو كالبرهان على ذلك من كونه مربّيا لجميع ذوات الوجود من الغيب والشهود بل لجميع العوالم الكلّية والجزئيّة من الدّرة إلى الذّرّة حسب ما سمعت عقّبه بذكر وصف ثان وثالث ورابع تفصيلا لما أجمل أوّلا من ذكر التّربية وبيانا لأركانها ومقوّماتها وسريان حكمها ولو على وجه الاقتضاء لو لا المانع من المحلّ في جميع العوالم والنشئات بالنّسبة إلى جميع الأشياء والمكوّنات ولذا قيل : إنّ الثلاثة وصف للأوّل لا لله وعلى كلّ حال فقد نبّه سبحانه بالتّفصيل بعد الإجمال على ما هو كالاستدلال فقال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.)

أمّا الاسمان الكريمان فقد مرّ بعض القول فيهما وفائدة التكرير زيادة التقرير وإيقاع الحكم في الضّمير ، سيّما مع ذكر المنعم عليهم في الأخير ، مع ما فيه من الإشعار على أنّ من فقد شيئا من النعم فليس ذلك لقصور الكرم ، لأنّ رحمته وسعت كلّ شيء على حسب قابليّته واستعداده وقبوله ، فتربيته عامة تامة شاملة لجميع الأكوان في كينوناتهم واختياراتهم وشؤونهم التكوينيّة والتّشريعيّة في الدّنيا والآخرة على مقتضى العدل والفضل ، ولذلك كان أهل الحمد ومستحقّه بحقيقة الحمد كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله وبجميع تطوّراته بألسنة خلقه حسب ما سمعت من أقسام الحمد ، فتقديم مثل هذا التحميد كالتمهيد للتّمجيد باستحقاقه لاختصاصه بالعبادة له والاستعانة به دون غيره من خلقه.

٤٤٢

وهذا أولى ممّا قيل في وجه التكرير : أنّ في الأوّل ذكر الإلهيّة فوصل بذكر النعم الّتي بها يستحقّ العبادة ، وهنا ذكر الحمد ، فوصله بذكر ما يستحقّ به الحمد والشكر على النّعم فتأمّل.

نعم ربّما يقال في وجه إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذّات الجامع لصفات الكمال انّ الّذي يحمده النّاس ويعظّمونه إنّما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة إمّا لكونه كاملا في ذاته وصفاته ، وإن لم يكن منه إحسان إليهم ، وإمّا لكونه محسنا إليهم ومنعما عليهم ، وإمّا لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال ، وإمّا يخافون قهره وكمال قدرته وسطوته وهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتّعظيم فكأنّه تعالى يقول أيّها النّاس ان كنتم تحمدون وتعظّمون للكمال الذّاتى والصّفاتى فاحمدونى فانّى أنا الله ، وان كان للإحسان والتربية والانعام ، فأنا ربّ العالمين ، وإن كان للرّجاء والطّمع في المستقبل ، فأنا الرّحمن الرّحيم ، وإن كان للخوف عن كمال القدرة والسّطوة فأنا مالك يوم الدّين.

وقد يقال إنّ وصفه سبحانه بقسمي الرّحمة للدّلالة على أنّه سبحانه متفضّل بالإيجاد والتربية مختار فيهما ليس يصدر عنه شيء لا يجاب بالذّات كما هو رأى الفلاسفة أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتّى يستحقّ به الحمد كما هو رأى المعتزلة القائلين بوجوب إيصال الثواب إلى العباد في مقابل سوابق أعمال الخير الّتي صدرت عنهم ، فانّ كلّا من المذهبين يقتضي عدم استحقاقه الحمد على تلك الأمور لكونها لازمة لذاته أو واجبة عليه فليس مختارا متفضّلا بها بخلاف الأشاعرة فانّهم لا يوجبون صدور تلك الآثار عنه ، فصدورها عنه ليس إلّا على سبيل التفضّل والرحمة على العباد.

أقول ومراده انّ تعقيب الحمد الّذى هو الثّناء على الجميل الاختياري بالتربية وقسمي الرّحمة دليل على صدورها عنه تعالى لا على وجه اللّزوم والوجوب كما

٤٤٣

عليه الفلاسفة والمعتزلة بل على وجه الإختيار كما هو مختار الأشاعرة.

وفيه نظر أمّا أوّلا فلان مذهب الحكماء في كونه سبحانه فاعلا بالعناية وإن كان باطلا في نفسه لتفسيرهم العناية بالعلم بالوجه الأحسن الأكمل في كلّ شيء فمرجعه إلى العلم الّذى هو ذاته كما صرّحوا به فيلزمه فاعلا بالإيجاب لكون ذاته علّة تامّة لمعلوماته ، فهو غير فاقد لما قدمه ، ضرورة استحالة انفكاك المعلول عن علّته التّامة إلّا أنّهم لا ينكرون التّفضّل والجود منه ، وإن أنكروا الغرض والغاية ، ولذا فسّروا الجود بإفادة ما ينبغي لا لعوض حقّ المدح والثّناء والتخلّص من الذّم إلّا أنّه لا يخفى أنّ عدم قصد التمدح والتخلص غير لازم لعدم استحقاقه فانّ الاستحقاق إنّما هو على فعل الحسن من حيث هو حسن وإن لم يقصد به التمدّح والتخلص عن المذمّة.

بل ربما يقال إنّ مذهبهم في الإيجاب يؤكّد التفضّل فانّهم يوافقون الملّيّين على أنّه تعالى إن شاء فعل وان شاء لم يفعل ، إلّا أنّهم يقولون الفعل الّذي هو خير لازم لذاته الّذي هو خير محض لانّه الجواد الحقّ والفيّاض المطلق فيستحيل انفكاكه عنها فقدم الشّرطيّة الاولى واجب صدقه فقد شاء وفعل ومقدّم الشّرطيّة الثابتة ممتنع الصّدق لاستحالة النقص عليه تعالى ، وصدق الشّرطيّة لا يقتضي صدق الطّرفين ولا صدق إحداهما ، إلا أن يدّعى أنّ الاختيار المأخوذ في تعريف الحمد هو الإختيار بمعنى جواز الفعل والترك وهو ممنوع ، بل سمعت كون الحمد أعمّ من كلّ ذلك وانّ ما أخذوه قيدا في تعريفه من كونه الثناء على الجميل الاختياري إنّما هو في اطلاق البعض وأمّا الأكثر فلا يوجد هذا التقييد في كلامهم كما نبّه عليه شيخنا البهائى قال : بل أنكره بعضهم مستشهدا بقولهم عند الصّباح يحمد القوم السّرى ، وفي قولهم : عاقبة الصّبر محمودة ، ويكفى في ذلك قوله : (عَسى أَنْ

٤٤٤

يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١) ، ثمّ قال : وحينئذ يستغنى عن بعض التكلّفات.

ثمّ بعد تسليم التقيّد لا يخفى في كون أفعاله سبحانه على مذهبهم اختياريّا حسب ما سمعت.

ولذا عدّ الصدر الأجل الشّيرازى وغيره من أفاخم الطّائفة الفاعل بالعناية من أقسام الفاعل بالاختيار ضرورة انّهم لم يقصدوا صرف العلّية الّتي ليس معها إدراك وعلم وإرادة وقدرة أصلا فانّهم يثبتون هذه الصّفات له سبحانه على الوجه الأجلّ الأفضل الأكمل ، وقضية ذلك ثبوت الاختيار له في فعله ولو على الوجه الّذى سمعت ، هذا كلّه مضافا إلى ما سمعت من عدم اختصاص الحمد باللّسان فضلا عن كونه اختياريّا لشموله للحمد الذّاتى والفعلى وغير ذلك من الأقسام في جميع النّشئات وشئون الوجودات الثلاثة.

وأمّا ثانيا فلأنّ ما أورده على المعتزلة غير وارد عليهم ، فانّهم لم يقولوا إنّ جميع ما يصدر عنه سبحانه من النّعم والإحسان وكلّ ما يفاض عنه من الكرم والامتنان واجبة عليه حتّى لا يوصف بالنّسبة إلى شيء منها بالتّفضّل كى يستحقّ به المدح والثّناء كيف وهو سبحانه مبتدئ بالنعم قبل استحقاقها ، بل إنّما ذهبوا إلى وجوب بعض الأشياء عليه كبعض الألطاف المقرّبة بالطّاعات والباعثة على فعل العبادات.

وتوهّم أنّهم كالإماميّة عطّر الله مراقدهم قالوا بوجوب الأصلح عليه سبحانه ، ومن البيّن أنّ كلّ فرد من أفراد الإحسان لحسن بحال لوجوبه لا يكون متفضّلا كى يستحقّ الحمد عليه مدفوع بأنّ هذا تقوّل عليه وجهل بمذهبه حيث ما صرّح به محقّقوهم.

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

٤٤٥

ولذا قال في التّجريد : والأصلح قد يجب عليه تعالى ، والشّارح لمّا لم يتفطّن بما يقتضيه لفظة قد التّقليليّة اعترض بما لا يرد عليه ، ولذا نبّه عليه الورع الأردبيلى وشيخنا البهائى وغيرهما ، سلّمنا كون القضيّة عندهم كلّية بالنّسبة إلى الإمدادات الوجوديّة والكماليّة بعد الإيجاد لكن الإيجاد غير واجب عليه عندهم ، كما صرّحوا به وبه يستحقّ الثّناء عليه بل على جميع الفيوض الواصلة منه بعد الإيجاد لترتّبه عليه.

هذا مضافا إلى أنّ وجوب الأصلح عليه لا ينافي استحقاق الثّناء بفعله ، إذ لا يخرج الفعل بوجوبه عن كونه اختياريّا ، ولذا لم يقيّدوا الجميل في تعريف الحمد بعدم الوجوب بل بكونه اختياريّا ، وليت شعري كيف يستحقّ تعالى الحمد على صفاته الّتي يستحيل انفكاكها منه مع انّه غير مختار فيها ولا موصوف بالتفضل بها ولا يستحق الحمد على أفعاله الجميلة الاختياريّة بمجرّد القول بكونها واجبة عليها.

إيراد كلام لنقض إبرام

قد سمعت وجه اختصاص الرحمن به سبحانه وانّه لا يجوز إطلاقه على غيره وإن جاز اطلاق الرّحمة كقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١) وقوله : (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٢) وقولهم : «ارحم ترحم» (٣) و «انّ الله قسّم جزء من الرّحمة بين خلقه به يتراحمون ويتعاطفون» (٤). إلى غير ذلك من الإطلاقات الكثيرة

__________________

(١) الروم : ٢١.

(٢) يوسف : ٦٦.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٠٠ ح ٤٨.

(٤) لم أظفر على مصدره ولكن قريب منه ما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من رحمته أنّه خلق

٤٤٦

الظّاهرة في كونها على وجه الحقيقة بل لعلّها مقطوعة نعم ذكر بعض الأعلام في المقام أنّ إطلاق الرّحمة على غيره مجاز رأسا واستدلّ بوجوه :

الأوّل : انّ الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض وكلّ أحد غير الله لا يعطى شيئا إلّا ليأخذ عوضا ، لأنّ الأعواض والأغراض بعضها جسمانيّة وبعضها حسيّة وبعضها خياليّة وبعضها عقليّة ، فالأوّل كمن أعطى دينارا ليأخذ ثوبا ، والثّاني كمن يعطى المال لطلب الخدمة والإعانة ، والثالث كمن يعطيه لطلب الثّناء الجميل ، والرّابع كمن يعطيه لطلب الثّواب الجزيل ، أو لإزالة حبّ الدّنيا من قلبه ، وهذه الأقسام كلّها أعواض ، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاوضة ومعاملة ، ولا يكون جودا ولا هبة ، وأمّا الحقّ تعالى فهو لمّا كان كاملا في ذاته وصفاته فيستحيل أن يعطى شيئا ليستفيد به كمالا وهو الجواد المطلق والرّحم الحقّ ، وهذا إنّما يتمّ على مذهب أهل الحقّ القائلين بأنّه تعالى تامّ الفاعليّة بحسب ذاته وصفاته ، لا يعتريه قصد زائد ، ولا لفعله غاية سوى ذاته ، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض دون القصد والروية.

الثّاني : انّ كلّ ما سوية ممكن الوجود بحسب مهيّته والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إيّاه ابتداء إذ إمكان الشيء علّة احتياجه إلى المؤثّر الواجب وكلّ رحمة تصدر عن غير الله فهي إنّما دخلت في الوجود بإيجاد الله ، لا بإيجاد غير الله إذ ليس لغيره صفة الإيجاد بل إنّما شأن غيره الاعداد والتّخصيص في الاستناد فيكون الرّاحم في الحقيقة هو الله.

الثالث : إنّ فلانا يعطى الحنطة مثلا ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم يحصل

__________________

مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلّهم فبها يترحّم الناس ...» البحار ج ٤ / ١٨٣ وج ٨ / ٤٤ وج ٩٢ / ٢٥٠.

٤٤٧

المعدة الهاضمة للطّعام ، والشّهوة الرّاغبة إلى أكله ، والقوى النّاهضة لذلك ، والآلات المعدّة لنقله وطحنه وعجنه وطبخه وغير ذلك ، وما يتوقّف عليها من الخشب والحديد والنّجار والحدّاد والأرض الّتي يقومون عليه ، والهواء الّذي يتنفّسون به ، والفلك الّذى يحدّد جهات أمكنتهم وأزمنتهم ، والكواكب الّتي تنوّر في اللّيل والنّهار بحركاتها أكنافهم ويسخّن أطرافهم وتنضج حبوبهم واثمارهم الّتي يتغذّون بها إلى غير ذلك من الآلات والمعدّات والملائكة الموكّلة بذلك ووسائط فيوضهم فما لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة فخالق تلك الحنطة والممكّن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتّى يحصل الانتفاع هو الرّاحم.

أقول لا يخفى عليك ضعف هذه الوجود ، وعدم مطابقتها للمدّعى رأسا ، إذا المدّعى كما صرّح به كون إطلاق الرّحمة على غيره سبحانه مجازا وأين هذا من إثبات أنّ الفيوض كلّها من الله ابتداء وأصالة وإن جرت على أيدى الخلق من حيث التوسّط وقيوميّة الحقّ.

على أنّ هذا لا اختصاص له بالرّحمة بل يجرى في جميع الأفعال الاختياريّة الّتي تصدر من العبيد بحسب الظّاهر حسب ما يؤمي إليه ، دليله الثّاني ، وفي خصوص الخيرات على بعض الوجوه وكان مراده وإن لم يساعده عنوانه بيان قيوميّة الحقّ سبحانه ، وأنّ الكلّ منه وبيده ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما عليه أقدرهم ، لكن في بعض ما ذكره بعض المناقشات وان اشتمل أيضا على بعض الفوائد ولذا حكيناه بطوله.

وامّا انّ أفعال العباد هل هو منهم على وجه الاستقلال أو من الله كذلك أو منهما على وجه التبعيّة أو الألية أو القيّوميّة أو الإشراق والافاضة أو غير ذلك فلا يناسب المقام بسط الكلام فيه فارتقبه في موضعه إن شاء الله.

٤٤٨

القراءة

اعلم أنّ في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قراءتان مشهورتان وقراءات أخر شاذّة ، فالمحكي عن عاصم ، والكسائي وخلف ، ويعقوب الحضرمي «مالك» بالألف مجرورا ، والباقون من القراء «ملك» من دون الألف مجرورا ، والمحكيّ عن الأعمش بالألف منصوبا على المدح أو الحال ، وعن شاذ آخر مالك بالرّفع منوّنا ، وعن ثالث به مضافا على أنّه فيهما خبر مبتدأ محذوف ، وعن رابع ملك بلفظ الفعل فما بعده منصوب به ، فهو جملة خبرية منصوبة المحلّ بالحاليّة ، وإن قال أبو حيّان لا محلّ لها من الإعراب ، وعن خامس وسادس مضافا مرفوعا ومنصوبا على الخبريّة ، أو النّداء والاضافة فيهما بمعنى اللّام كما عن أبى حيّان لا بمعنى في كما عن بعضهم ، وعن سابع وهو ربيعة بن نزار ملك فصار مجرورا مخفّفا بتسكين اللّام كما يقال : فخذ وفخذ فهذه تسع قراءات ، سبعة منها شاذة ساقطة بالشّذوذ مع الجهل بقائل الجلّ.

أمّا الأوليان فهما المشهورتان إلّا أنّ لهم وجوها في ترجيح كلّ منهما على الاخرى ، فممّا يرجّح به الأولى أنّ المالك أعمّ شمولا وأكثر إحاطة لإضافته إلى الملك والملك بالضّم والكسر ، فيقال : مالك الملك ومالك الملك ، ولا يضاف الملك إلّا إلى الثّانى ، والمالك يضاف إلى كلّ شيء فيقال : مالك الطّير والدّواب والعبيد والإماء والملك لا يضاف إلّا إلى الثقلين ، والمالك يضاف إلى الذّات والفعل فيقال مالك الملك ومالك التّصرف ، والملك لا يضاف إلّا إلى الذّات ، وأنّ المالك أقوى سلطنة من الملك من حيث التّملك إذ المملوك لا يملك لنفسه الخروج من الملكيّة بخلاف الرّعيّة والملك ينفذ أمره ونهيه دون ساير التّصرفات بخلاف المالك ، وأنّ

٤٤٩

الملك بالضمّ قد يكون بالتغلّب وغير الاستحقاق بخلاف الملك بالكسر ، وانّ المملوك لا يقدر على شيء وهو كلّ على موليه بخلاف الرّعيّة ، فلهم التّصرف في أمورهم فسلطنة المالك أقوى ، لأنّه مالك الرّقبة والملك ملك الرّعيّة ورحمته أوسع إذ لا يختار الملك إلّا القوىّ الصّحيح المنتفع به ، ولذا قيل : إنّ المالك نافع والملك طامع ، وانّ المنساق من المالك هو الرّحمة والعناية ومن الملك هو الهيبة والسّياسة ، والمرجوّ المناسب للمقام الموعود لكافّة الأنام يوم القيمة هو الأوّل ، وأنّ زيادة الحروف مع إيجابه فضل الثّواب إذ يعطى القارى بكلّ حرف عشر حسنات ، تدلّ على زيادة المعاني أيضا وأنّه الأوفق بقوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١) فانّ اختصاصه سبحانه بالأمر بعد نفى المالكيّة من غيره يشعر بانّ المراد بالأمر الملك وإثبات الملك له في هذا اليوم هو المقصود بقوله : مالك يوم الدّين وانّ الملك يملك من بعض الوجوه مع قهر وسياسة ، والمالك يملك على كلّ حال وبعد الموت له الولاء ، وأنّ الحقّ سبحانه يمدح بكونه مالك الملك بضمّ الميم في قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٢) ولم يمدح بكونه ملك الملك بالكسر ، وحيث إنّ ـ الملك بالضمّ أشرف فالمالك أولى ، فانّ الملك بالضمّ كما قيل وإن كان يرجع مع الملك بالكسر إلى أصل واحد وهو الرّبط والشّدّ كقولهم : ملكت العجين اى شددته وقوله : ملكت بها كفّى فأنهرت فتقها (٣) أى شددت بالطّعنة كفّى لكنّ المراد به نسبة من قام به ومن تعلّق به ، وإن شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلّقة بالغير تعلّق التّصرف التّام المقتضى استغناء المتصرّف وافتقار المتصرف فيه ، ولهذا لا

__________________

(١) الإنفطار : ١٩.

(٢) آل عمران : ٢٦.

(٣) قائله قيس بن الحطيم الأوسى ، ومصراعه الآخر : يرى قائم من دونها ما ورائها. لسان العرب في مادّة نهر.

٤٥٠

يصحّ على الإطلاق إلّا لله تعالى وهو أخصّ من الملك بالكسر لأنّه تعلّق الاستيلاء مع ضبط وتمكّن من التّصرف في الموضوع اللّغوى ، وبزيادة كونه حقّا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار لكنّهما في الاطلإق قد لا يتصادقان من الطّرفين إذ بينهما العموم من وجه فينفكّ كلّ منهما عن الأخرى لكنّ المالكيّة سبب لإطلاق التّصرف والملكيّة ليست كذلك.

وممّا يرجّح به الاخرى أنّ المالك مندرج في الاسم الرّبّ فانّه أحد معانيه كما سمعت والقرآن ورد بسرّ الاعجاز والإيجاز فقضيّة نفى التكرار تعيين الملك ، على أنّ الكشف التّام أفاد أن لا تكرار في الوجود أصلا ، وأنّ هذه الصّفة أمدح إذ لا يكون إلّا مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير من الأشياء ، ولذا قيل : انّ كلّ ملك مالك ، وليس كلّ مالك ملكا وإنّما قال تعالى : (مالِكَ الْمُلْكِ) (١) لأنّه يملك ملوك الدّنيا وما ملكوا فملكهم له يوليه فيها من يشاء منهم ، وأمّا يوم الدّين فالملك يومئذ لله ، وانّ الله سبحانه وصف نفسه في خاتمة الكتاب بعد وصفه بالرّبوبيّة فقال : ربّ النّاس ملك الناس ، فناسب أن يكون وصفه في فاتحة الكتاب جاريا على هذا المنوال لمطابقة الفاتحة وكشف كلّ منهما عن الآخر وأن قضيّة قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ) (٢) وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) انّه الملك ولذا يقال انّه ملك بيّن الملك بضمّ الميم ومالك بيّن الملك بكسر الميم وفتحها وضمّ الميم فيه لغة شاذة فتكرّر إثبات الملك بالضمّ له في الآيتين وفي قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٤) في آيات كثيرة يؤيّد قراءة الملك مع تكرّر وصفه به أيضا في قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) غافر : ١٦.

(٣) الحج : ٥٦.

(٤) الفرقان : ٢.

٤٥١

الْمَلِكُ الْحَقُ) (١) و (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) (٢) و (مَلِكِ النَّاسِ) (٣).

وإنّ الأسماء المستقلّة لها تقدّم على الأسماء المضافة واسم الملك ورد مستقلّا بخلاف المالك ويؤيّد التقدّم مضافا إلى البساطة أنّ الأسماء المضافة ، «كفالق الإصباح» و «مخرج الحىّ من الميّت» وذي الملك والملكوت وغيرها لم تنقل في الأسماء التّسع والتّسعين الّتي من أحصيها دخل الجنّة وأنّه قد ورد في بعض الأدعية النبويّة : لك الحمد لا اله إلا أنت ربّ كلّ شيء ومليكه ، ولم يرد ومالكه وهذا السياق مناسب لسياق الأسماء المذكورة في أوّل الفاتحة وانّ الملك قراءة أهل الحرمين الّذين هم أدرى بما انزل في الحرم.

وأنّ الملك من الأسماء المذكورة في خبر الإحصاء دون المالك ، وانّ الملك لمّا كان أقدر على ما يريد من متصرّفاته من المالك كان نسبة الجزاء إليه أنسب وأولى ، وأنّه أنسب بالإضافة إلى يوم الدّين كما يقال : ملك المصر ، وأنّ هذه القراءة غنيّة من توجيه وصف المعرفة بما ظاهره التنكير ، وإضافة اسم الفاعل إلى الظّرف لإجرائه مجرى المفعول به توسّعا إذا المراد مالك الأمور كلّها في ذلك اليوم ، وسوّغ وصف المعرفة به وارادة معنى المضيّ تنزيلا لمحقّق الوقوع منزلة ما وقع أو ارادة الاستمرار الثبوتي ، وأمّا قراءة ملك فغنيّة عن التّوجيه لأنّها من قبيل كريم البلد.

هذا قصارى ما قيل في ترجيح كلّ من القراءتين على الأخرى لكنّه لا يخفى عليك اشتراك الجميع في الضّعف إذ الوجوه اللّفظية كما ترى في القصور ومرجع الوجوه المعنويّة من الطّرفين إلى التّرجيح في المعاني المضافة إلينا تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) طه : ١١٤.

(٢) الحشر : ٢٣.

(٣) الناس : ٢.

٤٥٢

وقد سمعت فيما أسلفناه أنّ الأسماء المشتركة لا تطلق على الله وعلى خلقه بمعنى واحد من باب الاشتراك المعنوي ، وليس إطلاقه على خلقه من باب السنخيّة والفرع والظلّ وغير ذلك بل المغايرة بين الوصفين كالمغايرة بين الذّاتين فله معنى المالكيّة إذ لا مملوك والملكيّة إذ لا ملك وبهذا الاعتبار يكونان من صفات الذّات بمعنى اتّحادهما للذّات بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة أو خارجيّة كرجوع الصّفات الذّاتيّة إلى الوجود الحقّ البحت المجرّد وله معنى المالكيّة والملكيّة في فعله بمعنى له الخلق والأمر فبيده ناصية كلّ شيء وحكمه نافذ في كلّ شيء وبقيّوميّته قامت الأشياء كلّها فمالكيّته عامة تامّة ولا تتمّ إلّا بالملكيّة ، وملكيّة تامّة عامّة ولا تتمّ إلّا بالمالكيّة ، وأين هذا من معنى المالكيّة في المخلوق إذ ليس إلّا أمرا جزئيّا ارتباطيّا اعتباريّا شرعيّا قد اعتبر الشّارع بين العباد لرفع حوائجهم وإصلاح حالهم في أمر المعاش والمعاد ، مع أنّه هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، وكذا معنى الملكيّة فيه استيلاء لغلبية أو جعليّة شرعيّة لو قيل بشمولها لمثل الإمامة ويؤمي إلى احتواء كلّ من الملكيّة والمالكيّة في حقّه تعالى على الآخر قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (١) فأضاف المالك إلى مبدء الآخر وإليه الإشارة بلام التّمليك في قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (٣).

ثمّ لو سلّمنا اختلاف المعنيين في قوله تعالى ، ورجحان أحدهما على الآخر في نفسه لكن لا يخفى انّ ذلك لا يقضى بتعيّن الرّاجح في المقام إذ لا خلاف في كونهما اسمين لله وقد وردا معا في الكتاب العزيز ، فالتّعيين بالمرجّح من قبيل إثبات اللّغة بالقياس ، سيّما بعد ورود القراءة بكلّ منهما وورود الرّخصة بل الأمر عن

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) الحديد : ٢ و ٥.

(٣) الليل : ١٣.

٤٥٣

موالينا الأئمّة الأنام عليهم الصّلوة والسّلام بالقراءة كما يقرء النّاس (١) ، وانّه لا يحاجّ بالقرآن اليوم (٢).

ثمّ انّه يمكن ترجيح قراءة مالك بما في تفسير الإمام عليه‌السلام قال : مالك يوم الدّين أى قادر على إقامة يوم الدّين وهو يوم الحساب قادر على تقديمه عن وقته وتأخيره بعد وقته وهو المالك أيضا في يوم الدّين وهو يقضى بالحقّ لا يملك الحكم والقضاء في ذلك اليوم من يظلم ويجور كما يجور في الدّنيا من يملك الأحكام (٣).

نظرا إلى التّعبير في الموضعين بالمطلوب مضافا إلى إرجاع ملك الأحكام إليه ومنه يظهر وجه آخر للتّرجيح فانّ مالكيّته مطلقة بالنّسبة إلى كلّ شيء حتّى ملك الأحكام ونفوذ الأمر والنّهى المستفاد من الملك.

هذا مضافا إلى ما رواه في المجمع عن العيّاشى عن الصّادق عليه‌السلام في فضل الفاتحة إلى أن قال : ومالك يوم الدّين قال جبرئيل ما قالها مسلم قطّ إلّا صدّقها الله وأهل سماواته (٤).

وفي العيون وتفسير الإمام عليه الصّلوة والسّلام عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضلها إلى أن قال : فاذا قال مالك يوم الدّين قال الله : أشهدكم كما اعترف بأنّى أنا الملك (٥) يوم الدّين لأسهلنّ يوم الحساب حسابه ولأفضلنّ حسناته ولأتجاوزنّ عن

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٩٣ وعنه البحار : ج ٩٢ / ٨٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢ / ٢٤٥ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال لابن عبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج : لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمّال ذو وجوه.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ٢٥٠ عن تفسير الامام.

(٤) تفسير العيّاشى : ج ١ / ٢٢.

(٥) في البحار عن تفسير الامام والأمالى والعيون : اعترف عبدي أنّي مالك يوم الدين.

٤٥٤

سيّئاته (١).

وفي تفسير المالك بالملك إشارة إلى ما ذكرناه من رجوعهما إلى معنى واحد في حقّه تعالى ، ولعلّه لذا ولما ذكرناه من جواز القراءة في زمان الغيبة بكلّ ما قرء النّاس قرء مولينا الصّادق عليه‌السلام إرشادا وتعليما لشيعته بالقراءة الأخرى أيضا كما في «المجمع» عنه عليه‌السلام أنّه كان يقرء ملك يوم الدّين وإن كان في التّعبير بلفظة كان الإشعار بالاستمرار (٢).

وفي الصّافي عن العيّاشى أنّه قرأ الصّادق عليه‌السلام ما لا يحصى (٣).

وفيه أيضا دليل على الوجهين ، فالعمدة ما سمعت من الإذن لنا خصوصا في المقام ، وعموما في القراءة بما يقرأ النّاس ، لا ما قيل من دعوى تواتر القراءات السّبعة لعدم تحقّق التواتر بشرائطه الّتي منها بلوغ العدد في جميع الطبقات بالنّسبة إلى شيء منها سيّما بعد ما ذكره بعض العامّة ، وهو كذلك من أنّ منشأ اختلاف القراء السّبعة اختلاف المصاحف العثمانية الغير المعربة.

ثمّ لا يخفى أنّ الرّسم في كثير من المصاحف القديمة بل في كلّها ترك الألف في كثير من الكلمات كأصحب والشّيطين ، والصّعقة ، والكتب ، ومالك أيضا من الكلمات الّتي يكتب في الرّسم ملك فلعلّ هذا هو الوجه في الاختلاف ، بل رأيت كتابا من بعض العامّة ألّفه في ضبط الرّسوم قال ملك كتب بغير الف ، ولا يجوز أن يكتب بإثباتها لانّ في إثباتها يؤدّى إلى مخالفة من قرء بغير الف ومخالفة مصحف الإمام ومراده الثالث ـ قال : ومخالفة الإمام لا يجوز بوجه ما ،

__________________

(١) تفسير الامام ص ٢٧ ـ أمالي الصدوق ص ١٠٥ ـ العيون ج ١ / ٣٠٠ وعنها البحار : ج ٩٢ / ٢٢٦.

(٢) مجمع البيان ج ١ / ٣١ عن تفسير العيّاشى : ج ١ / ٢٢ ح ٢١.

(٣) تفسير الصافي ج ١ / ٧١ عن تفسير العيّاشى ج ١ / ٢٢ ح ٢٢.

٤٥٥

ولهذا وجب مراعاة حروف الإمام ، لأنّ في كلّ حرف فائدة تزول بتغيير ذلك ألا ترى إلى قوله : (يَقْضِي بِالْحَقِ) (١) كتب بغير ياء ، ولو كتب بالياء لبطل قراءة من قرء بالصّاد ، وكذلك قوله : (غَيابَتِ الْجُبِ) (٢) كتب بالتّاء من غير الف إذ لو كتب الألف بطل قراءة من قرء غيابة على الواحدة ، ولو كتب بالهاء بطل قراءة من قرء بالجمع.

أقول : وهو كما ترى مبنىّ على ملاحظة الوجوه الاعتباريّة والرّسوم الغير المعتبرة من دون استناد كلّ من الرّسوم والقراءات إلى ما يصلح الاعتماد عليه ، وعلى فرض انتهاء الجميع إلى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالواسطة بينهم وبينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ذكروه في كتبهم ممّن لا يخفى حاله وعدده ، ومع ذلك فلعلّ الأولى ترجيح قراءة مالك لما سمعت نعم ربما يقال : إنّ الأولى القراءة بكلّ منهما في ركعة ، وتقديم المدّ في الاولى لزيادته نظرا إلى تطويل الاولى على الثّانية فتأمّل.

تنبيه

اعلم أنّ لليوم إطلاقات أحدها : مجرّد الوقت والزّمان طويلا كان أو قصيرا حتى الآن كقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٣) فانّ شئون الرّبوبيّة دائمة مستمرة سيّالة كاستمرار الزّمان وسيلانه ففي كلّ آن له شأن بل شئون وقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (٤) أى وقته (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (٥) ، (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى

__________________

(١) غافر : ٢٠.

(٢) سورة يوسف : ١٠ ـ ١٥.

(٣) الرحمن : ٢٩.

(٤) الانعام : ١٤١.

(٥) الأنفال : ١٦.

٤٥٦

التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) (١) ، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) (٢) ، (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) (٣) قل يوم الفتح (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) (٤) ، (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٥) ، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) (٦) ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة الواردة في القرآن وفي كلام أهل اللّسان كقوله : فيوم علينا ويوم لنا.

بل ربما يقال : إنّ اليوم في الأصل موضوع لمطلق الوقت والزّمان ، وأمّا ما كان بعده ليلة أو بعد اللّيل فهو المخصوص باسم النّهار ، ولذا عدل إليه في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (٧).

ومن هنا يظهر أنّه في أكثر إطلاقاته في الكتاب محمول عليه حتّى في مثل قوله : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) (٨) و (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) (٩) و (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) (١٠) ، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) (١١) و (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) (١٢) إلى غير ذلك ممّا أريد فيه التنبيه على خصوص الفعل ولو بذكر وقته لا

__________________

(١) التوبة : ١٠٨.

(٢) يونس : ٩٢.

(٣) الأنعام : ١٥٨.

(٤) السجدة : ٢٩.

(٥) مريم : ٣٣.

(٦) النحل : ٨٠.

(٧) يس : ٣٧.

(٨) التوبة : ٣٥.

(٩) النازعات : ٣٥.

(١٠) النبأ : ٤٠.

(١١) مريم : ٣٩.

(١٢) ق : ٣٠.

٤٥٧

الإشارة إلى مجموع الوقت المشتمل على غيره من الشّدائد أيضا كما هو أحد الاحتمالين في هذه الآيات أيضا ، نعم ينبغي تعميم الوقت والزّمان بحيث يشمل الوعاء الدّهري والسّرمديّ أيضا.

ثانيها : مرادف النّهار والمقابل للّيل المحدود شرعا بطلوع الفجر الثّاني إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة على الأظهر الأشهر وإلى غيبوبة قرص الشّمس عند بعض ، وعرفا عامّا أو خاصّا عند المنجمين بل قيل عند أهل فارس والروم أيضا من طلوع الشّمس إلى غروبها بل ذكر أبو ريحان (١) انّ هذا التّحديد بتعارف من النّاس قاطبة فيما بينهم واتّفاق من جمهورهم لا يتنازعون فيه إلّا أن بعض علماء الفقه في الإسلام حدّ أوّل النّهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشّمس تسوية منه بينه وبين مدّة الصّوم ، ثمّ استدلّ لإثبات مذهب المنجّمين بوجوه مرجعها إلى أنّه مقتضى الحساب والقواعد النجوميّة لكنّه لا إشكال في استقرار عرف الشّرع على كونه من الفجر الثّاني ، وعليه ينزل يوم الصّوم ويوم الاعتكاف ، ويوم التّراوح ، بل ادّعى المجلسي وغيره استقرار العرف العامّ عليه أيضا قال : وانّما استقرار العرف العامّ والخاصّ على جعل أوّل النّهار الفجر وأوّل اللّيل الغروب لأنّ النّاس لمّا كانوا في اللّيل فارغين عن أعمالهم الضروريّة للظّلمة المانعة فاغتنموا شيئا من الضّياء لحركتهم وتوجّههم إلى أعمالهم الدّينيّة والدّنيويّة وفي اللّيل بالعكس لأنّهم لمّا كلّوا وملّوا من حركات النّهار وأعماله اغتنموا شيئا من الظّلمة لتركهم ذلك فلذلك اختلف الأمر في أوّل النّهار وآخره.

وبالجملة فالعمدة استقرار الشّرع عليه وتبعيّة العرف له حتّى ظنّ استقرار

__________________

(١) هو ابو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي الحكيم الرياضي الطبيب الأديب ولد سنة (٣٦٢) وتوفي سنة (٤٤٠) ه ـ معجم المؤلفين ج ٨ / ٢٤١.

٤٥٨

العرف العامّ عليه أيضا بحيث يحمل عليه الإطلاق في مثل النذر ، وشبهه ، وفي الإجارة ، وغيرها على تأمّل في بعضها بالنّسبة إلى بعض الأعمال الّتي يقضى العرف والعادة استقرارا أو غلبة بوقوعه في النّهار النجومى.

ثالثها : مجموع اللّيل والنّهار وهذا الإطلاق شايع عند المنجّمين بل قال العلّامة الشيرازي : انّه يراد به اليوم بليلته حيث أطلق وينقسم عندهم إلى حقيقىّ ووسطى فالحقيقيّ هو الزّمان المتخلّل بين مفارقة مركز الشّمس نصف عظيمة يتوهّم ثابتا كأحد نصفى دائرة الأفق أو أحد نصفى دائرة نصف النّهار وبين عوده إلى ذلك الموضع بعد دورة تامّة بالحركة الاولى وهي دورة تامّة للمعدّل مع قوس تقطعها الشّمس بحركتها الخاصّة إلى أن تعود إلى موضعها الأوّل والتّرديد في نصف العظيمة بين الدائرتين إنّما هو للاختلاف في تعيين المبدأ ، مع اتّحاد الجميع في المقدار فإنّ كلّ واحد من العظام أفق بالقوّة بل أفق حقيقىّ لمسكن من المساكن ، فمبدأ اليوم بليلته عند العرب غروب الشّمس من أفق البلد إلى غروبها من الغد لأنّ مبادئ شهورهم من الهلال ورؤيته بعد الغروب غالبا ، أو لأنّ الظّلمة أصل في الرّتبة مقدّم بالطّبع ولذا قدّمه في قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) والنّور طار عليه ، والابتداء بالأصل المقدّم بالطبع أولى ، ولذا جرت عادتهم بتقديم اللّيالى على الأيّام إذا نسبوها إلى أسماء الأسابيع أو عدد أيّام الشّهور.

وعند الروم والفرس ومن وافقهم طلوع الشّمس من أفق المشرق إلى طلوعها منه بالغد إذ شهورهم حسابيّة غير متعلّق بشيء من الكواكب فرجّحوا النّور على الظّلمة تفضيلا للوجود على العدم.

وأمّا المنجّمون وأهل الحساب سيّما المغاربة وأهل الأوساط فاليوم بليلته

__________________

(١) الأنعام : ١.

٤٥٩

عندهم من موافاة الشّمس دائرة نصف النّهار إلى موافاتها إيّاه في نهار الغد ، فجعلوا المبدأ النّصف الظّاهر من الدّائرة وبنوا عليه حسابهم في زيجاتهم وتقاويمهم ، وذلك لوجوه يظهر لمن مارس حسابهم وانس بصناعتهم ، نعم آثر بعضهم النصف الخفيّ للبداية فجعلوا المبدأ نصف اللّيل ، فصار حاصل الأقوال في تعيين المبدأ أربعة ، وأمّا الوسطى فهو مقدار دورة من المعدّل مع مطالع قوس تقطعه الشّمس بالسير الوسطى ، ولأجل الاختلاف بين الحركة الوسطية والحركة التقويميّة يختلف الأيّام بالمعنيين اختلافا يسيرا يحسّ به بعد اجتماعه في أيّام كثيرة حسب ما فصّل في موضعه ، ولا يهمّنا التّعرض له في المقام ، نعم ينبغي أن يعلم أنّ هذا المعنى لليوم وهو إطلاقه على مجموع اللّيل والنّهار أى دورة واحدة للشمس من دون اعتبار خصوص وضع من الأوضاع من طلوع أو غروب في المبدأ من المعاني العرفيّة المشهورة يبنى عليها كثير من إطلاقاتهم بل لعلّه المنساق منها إذا لم يقابل بها اللّيالى سيّما إذا كانت بصيغة الجمع أو التثنية ، وهذا المعنى مع كونه مصرّحا به في كلام جمع من الأساطين يبنى عليه والمواعيد ، والآجال العرفيّة ، بل الشرعيّة أيضا.

معترضة استطراديّة في مسألة فقهيّة

قد ورد في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام إطلاق الأيّام وقد أنيط بها كثير من الأحكام كخيار الحيوان المحدود بثلثة أيّام ، وخيار التّأخير ، وقصد إقامة عشرة ايّام ، واقامة الثّلثين من دون قصد ، وأيّام العدد ، والاستبراء ، وأجل الدّين ، والسّلم ، ومدّة الإجارة ، إلى غير ذلك.

والأظهر في جميع ذلك تلفيق المنكسر والابتداء من حين السّبب إلى تمام العدد ولو مع التّلفيق فيدخل اللّيالى في مفهوم الأيّام اسما وحكما ، فلو اشترى

٤٦٠