تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

وخليل الرحمن بقوله : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (١).

ويوسف الصديق بقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) (٢).

والنبي شعيب بقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٣).

وموسى الكليم بقوله : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٤).

وسليمان بن داود بقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً) (٥) و (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ) (٦).

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) (٧).

وزكريا النبي عليه‌السلام بقوله : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (٨).

والمسيح النوراني بقوله : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (٩).

ونبينا خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين بقوله : (أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (١٠).

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وهم الأئمة عليهم‌السلام (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١١).

__________________

(١) البقرة : ٢٦.

(٢) يوسف : ١٠١.

(٣) الأعراف : ٨٩.

(٤) طه : ٢٥.

(٥) ص : ٣٥.

(٦) النمل : ١٩.

(٧) الأنبياء : ٨٣.

(٨) مريم : ٤.

(٩) المائدة : ١١٤.

(١٠) البقرة : ٢٨٥.

(١١) آل عمران : ٧.

٣٦١

وقد خوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ولاية أمير المؤمنين والمعصومين من ذريته بقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) في علي.

وبقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما) (٢) ، إلى قوله : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣) أي لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومولانا سيد الشهداء حين بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ) (٤).

ومولانا القائم عجل الله فرجه كان مكتوبا على عضده الأيمن حين ولادته (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (٥).

وأصحاب الكهف إذ أووا إلى الكهف فقالوا : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (٦).

والحواريون إذ قالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) (٧).

والصحابة بقولهم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) (٨) لولاية أمير المؤمنين وأولاده الطيبين.

والتابعون بقولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٩).

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) النساء : ٦٥.

(٤) الأحقاف : ١٥.

(٥) الأنعام : ١١٥.

(٦) الكهف : ١٠.

(٧) آل عمران : ٥٣.

(٨) آل عمران : ٨.

(٩) الحشر : ١٠.

٣٦٢

وآسية امرأة فرعون إذ قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (١).

وبلقيس ملكة سبأ قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

ومريم إذ قالت : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) (٣).

وحملة العرش : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) (٤).

والآباء : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (٥).

والأولاد : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٦).

وأهل الجنة : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٧) (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٨).

وأهل النار : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) (٩) (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) (١٠) (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) (١١).

وإبليس اللعين : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٢).

وأتباع الجبت والطاغوت : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا

__________________

(١) التحريم : ١١.

(٢) النمل : ٤٤.

(٣) آل عمران : ٤٧.

(٤) غافر : ٧.

(٥) الفرقان : ٧٤.

(٦) الإسراء : ٢٤.

(٧) التحريم : ٨.

(٨) الإنسان : ٢١.

(٩) المؤمنون : ١٠٧.

(١٠) المؤمنون : ١٠٦.

(١١) السجدة : ١٢.

(١٢) الحجر : ٣٦.

٣٦٣

السَّبِيلَا) (١) ، (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٢).

وبالجملة فجميع الفيوض التي تصل من الله إلى عبده إنما تصل من جهة التربية والإفاضة والتكميل ، وقد سمعت أنه سبحانه من حيث ذاته هو المجهول المطلق ، وليس للخلق طريق إلى معرفته إلا من حيث ظهوره في المظاهر الفعلية ، وتجلّيه في المجالى الأسمائية ، وهذا هو السر في تعدّد أسمائه (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٣).

فمن حيث ظهور فعله بصفة الخلق خالق ، وبصفة الرزق رازق ، وبصفة الرحمة الواسعة والمكتوبة هو الرحمن الرحيم ، ومن حيث ربوبيّته لخلقه يسمّى بالرب ، وهذه الربوبية جامعة لأركان العرش الأربعة وهي الخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة المشار إليها في الآية الكريمة : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤).

فالربوبية بشمولها جامعة لجميع الفيوض الواصلة إلى الخلق حين الخلقة وبعدها في الوجود والبقاء وأسباب المعاش والمعاد للأبرار والفجار (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٥) إذ لا بخل في المبدء الفياض ، وبه يسعد السعيد وبه يشقى الشقي (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٦) (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (٧).

__________________

(١) الأحزاب : ٦٧.

(٢) الأحزاب : ٦٨.

(٣) الإسراء : ١١٠.

(٤) الروم : ٤٠.

(٥) الإسراء : ٢٠.

(٦) النساء : ٧٨.

(٧) الأعراف : ٥٨.

٣٦٤

كقطرة الماء في الأصداف درّ

وفي بطن الأفاعي صار سما

نعم له سبحانه نوع من الإفاضات القدسية والإمدادات الإيمانية الغيبية ، وهو الفضل الذي بيده يؤتيه من يشاء ، «إن لربكم في أيام دهركم نفحات إلا فتعرّضوا لها» (١).

فانظر كيف جعله من شؤون الربوبية وأضافه إلى الأيام الدهرية التي هي وعاء للنفوس القدسية والعقول الجبروتية دون الأزمنة التي هي وعاء للأجسام الغاسقة الناسوتية ، والنفوس المنهمكة في الشهوات الجسمانية ، فهو سبحانه قد تجلّى في خلقه لخلقه بخلقه ، بها تجلّى صانعها للعقول ، بحيث قد ملأ العمق الأكبر بشؤون ربوبيته كما قال الإمام عليه‌السلام : «لا يرى في نور إلا نورك ولا يسمع فيها صوت إلا صوتك» (٢) فظهر لكل شيء بصفة ربوبيته ، ولذا علّق المعرفة باسم الرب دون غيره من الأسماء في قوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (٣) و «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه» ، فكلّ من طلب منه حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، أو انتجع منه فائدة فلا بد أن يدعوه بهذا الاسم الذي هو رب نوع المطالب والمقاصد ، وحل طلسم العوائد والفوائد ، بل في دعائه باسم الربوبية إذعان له بحقيقة العبودية التي هي جوهرة كنهها الربوبية كما في الخبر (٤) الذي تأتي إلى تحقيق معناه الإشارة ، ولذا جعلوه مفتاحا لحوائجهم ، تحقيقا لعبوديتهم وتصديقا بربوبيته ، وتوصلا بما هو كالمفتاح للكنوز الغيبية ، والخزائن الإلهية ، وكالطالع للمواليد القدسية والنفحات الملكوتية ، بل أضيف في المقام إلى «العالمين» المحلى بالألف واللام المفيدة للعموم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ ، ص ٢٢١ ، وج ٩٠ ، ص ٩٥ ، ح ١٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٠ / ٢٠٤ ، ح ٣٤ ، دعاء ليلة الخميس.

(٣) البحار : ج ٢ / ٣٢ ، ح ٢٢.

(٤) مصباح الشريعة : الباب الأول في العبودية.

٣٦٥

تنبيها على ظهور ربوبيته وسريان فيض تربيته في جميع الإمكان والأكوان من الدرّة إلى الذرّة ، وعقّبه باسمي الرحمن والرحيم إشعارا بأن إتمام النعمة إنما هو بصفتي الرحمة ، وهذه الجملة كالاستدلال على استحقاقه لجميع المحامد التي سمعت الكلام في عمومها وإحاطتها.

إحقاق وإزهاق

كما أنّ الرب حسبما سمعت إمّا مطلق لا يطلق إلا عليه سبحانه ، أو مقيّد يطلق على غيره أيضا ، كذلك ينقسم إلى حقيقي وواسطي ، وبعبارة أخرى إما أصلي أو ظلي آلي ، والحقيقي الأصلي هو الله سبحانه سواء اعتبر مطلقا أو مقيدا ، لا من حيث التقيد والقصور في نفسه ، بل من حيث التعبير وملاحظة المورد ، فهو الرب الحقيقي لكل شيء من كل وجه ، ولذا قال : (رَبِّ الْعالَمِينَ) و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (١) و (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) (٢).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «توحّد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية» (٣) ، فهو الرب الحق ، والرب المطلق ، ولذلك تنقطع عنده الوسائط ، وتضمحل الكثرات ، ويستند الكل إليه ، لأنه معطي القابليات ومفيض الاستعدادات ، ومسبب الأسباب ، ورب الأرباب.

وإلى هذا أشار كليم الله على نبينا وآله وعليه‌السلام بعد قول فرعون : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٤).

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

(٢) مريم : ٦٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٧٠ ، ح ١٥.

(٤) طه : ٥٠.

٣٦٦

يعني أعطاه وجوده واستعداده وقابليته ، ثم سبّب الأسباب لوصوله إلى مراتب الكمال للتحقق بحقيقة الإقبال ، وأمّا اختلاف المربوبات من أصناف الكائنات فإنما هو مستند إلى اختلافهم في اختياراتهم وقبولهم في بقعة التكوين وصقع التشريع بعد أن بيّن لهم سبيل الخير والشر ، وأمرهم في الموقفين بارتكاب الخيرات واجتناب الشرور (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١).

وأما ما ربما يقال من استناد الاختلاف إلى مراتب الاستعدادت وإمكانات الأشياء في أنفسها بالذات وعدم تعلق الجعل بالإمكان لكونه من الأمور الاعتبارية ففساده واضح عندنا بعد القول بالّتوحيد ونفي الشريك ، إذ كان الله ولم يكن معه شيء ، وهو أمكن الإمكان حيث لا إمكان ، وهي بقسميها خلقها الله بنفسها وخلق بها الإمكان والأكوان والإمكانات بعد تسليم كونها أعداما المقيدة وإن تمايزت من حيث القيود أو التقيدات إلا أنها معتبرة حينئذ باعتبارات وجودية.

فما قيل من أن إمكان الألف مثلا مغاير لإمكان الواو ، لاعتبار الاستقامة في الأول ، والاعوجاج في الثاني ، ولو أنّ الكاتب كتبهما على غير هذا الوجه فكأنه لم يكتبهما لأن ما بالذات لا يتخلف بل الذات لا تتبدل.

ففيه : أن هذا الاختلاف المستند إلى الإمكان بل نفس الإمكان إن كان مجعولا من الله سبحانه ولم يكن قبل ذلك شيئا أصلا فهو المطلوب ، وإلا فلا بد أن يكون ثابتا في القدم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وهذا هو القول بالأعيان الثابتة الذي أسّس عليه بناء القول بوحدة الوجود وتشعّبت منه أنواع الزندقة والجحود ، قال قائلهم وهو عبد الرحمن الجامي (٢) :

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد الجامي الشيرازي توفي سنة (٨٩٨) ه.

٣٦٧

أعيان همه شيشه هاى گوناگون بود

كافتاد بر أو پرتو أنوار وجود

هر شيشه كه بود سرخ يا زرد وكبود

خورشيد در آن آينه آن رنگ نمود

بل أفرط بعضهم في القول وقال : إنّ الماهيات كما هي غير مجعولة فكذلك الوجودات واتصاف الماهيات بها.

قال المحدّث الفيض فيما سماه ب «الكلمات المكنونة» بعد أن ذكر أن الماهيات ليست بجعل جاعل ، وكذلك الوجود ، قال : «بل تأثيره في الماهية باعتبار الوجود ، بمعنى أنه يجعلها متّصفة بالوجود ، لا بمعنى أنه يجعل اتصافها موجودا متحققا في الخارج ، فإنّ الصباغ مثلا إذا صبغ ثوبا فإنه لا يجعل الثوب ثوبا ولا الصبغ صبغا ، بل يجعل الثوب متّصفا بالصبغ في الخارج ، لا أن يجعل اتصافه به موجودا في الخارج.

فليست الماهيات في أنفسها مجعولة ولا وجوداتها في أنفسها أيضا مجعولة ، بل الماهيات في كونها موجودة مجعولة ، والوجودات من حيث تعيناتها وخصوصياتها مجعولة ، وذلك لأن الإمكان إنما يتعلّق بالوجود من حيث التعين والتخصص ، لا من حيث الحقيقة والذات ، فإنه واجب من هذه الحيثية ، فالوجود وجود أزلا وأبدا ، والماهية ماهية أزلا وأبدا ، غير موجودة ولا معدومة أزلا وأبدا.

وليست هي في منزلة بين الوجود والعدم ، بل إنما وجوداتها بالعرض وبتبعية الوجود لا بالذات ، ولهذا لا يسمى وجودا بل ثبوتا.

ومن هنا يعلم أن الماهيات عين الوجود والحقيقة وإن كانت غيره بالاعتبار إلى آخر ما ذكره.

فوا عجبا كيف احتمل الوجود البحت الواجب جميع الوجودات وجميع الماهيات ، بل وجميع الاتصافات بحيث لم يخرج شيء من هذه الثلاثة من العدم إلى الوجود بل الكل عين الوجود البسيط المجرد (تعالى الله عن ذلك وعما يقولون

٣٦٨

علوا كبيرا).

ومع اتحاد الجميع فمن أين حصل التغاير في هذا البين ، وما شؤون الربوبية؟ وما حدود الخلق؟ وكيف تنزيه الخالق بعد اتحاده مع الخلق ، بل الكثافات والقاذورات ، وأنت تعلم أنّ الصباغ لم يؤثّر في خلق الثوب ، ولا في خلق الصبغ ، وقد أوجد الانصباغ واتصاف الثوب بالصبغ ولو بالتسبيب ، فإذا كان الله تعالى لم يوجد شيئا من الماهيات ولا من الوجودات ، بل ولا شيئا من اتصاف الماهية بالوجود ، فكيف يكون خالقا موجدا مبدعا فردا واحدا قديما متفردا في أزليته منزها عما يجوز على خلقه.

وبالجملة القول بوحدة الوجود ينثلم معه جميع أساس التوحيد بل الشرائع كافة ، ولهذا ظهر منهم القول بالحلول والاتحاد وانقطاع العذاب وغيرها من المقالات التي سنفصل الكلام في تحريرها وإبطالها في موضع أليق إن شاء الله تعالى.

وإن كان بطلانها غنيا عن ذلك ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١).

تتميم نفعه عميم

اعلم أنّ الربوبية من الرب مطلقا أو مقيدا لها درجات ومقامات يجمعها أمران :

أحدهما : الربوبية إذ لا مربوب لا ذكرا ولا عينا ولا ظهورا وهي الذات البحت القديم الذي لا اسم له ولا رسم ، ولا وصف ولا نعت ، ولا عبارة ، ولا إشارة ،

__________________

(١) النور : ٤٠.

٣٦٩

الطريق مسدود والطلب مردود.

وربما يذكر بعده قسم آخر وهو دليل تلك الربوبية وصفتها وآيتها ، أي العين التي تستدل بها عليها ، وهي لا ذكر ولا عين ولا ظهور للمربوبية فيها بوجه من الوجوه لأنها وجه الله ودليله ، فلو كانت فيها كثرة لعرفنا الله بالكثرة ، لأن معرفة الوجه عين معرفة ذي الوجه ، وهو معنى قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا من دل على ذاته بذاته» (١).

قلت : وهذه الربوبية إما عين الأولى أو غيرها ، فعلى الأول لا تعدد ، وعلى الثاني ليست إذ لا مربوب على ذلك الوجه ، مع أنه إذا لم يكن للمربوبين فيها ذكر ولا عين ولا ظهور ، فكيف تكون دليلا لهم «تعالى الله عن ذلك».

وأما قوله : «يا من دل على ذاته بذاته» ، فكل من الذات المدلول عليها والذات الدالة هي الذات البحت ، لكن الدلالة هي ما خلق من وصفه لخلقه بذواتهم في الخطاب الفهواني.

كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بها تجلى صانعها للعقول» (٢).

أو بآياته وأمثاله في الآفاق وفي أنفسهم أو بما أشرق على خلقه من صفة وحدته التي يستدلون بها على وحدانيته ، أو أن المدلول عليها هي الذات البحت أيضا والدلالة هي معانيه ، أي معاني أفعاله المشار إليها في خبر جابر بقوله : يا جابر أو تدري ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التوحيد أولا ثم معرفة المعاني ثانيا ، ثم معرفة الأبواب ثالثا إلى أن قال : وأما المعاني فنحن معانيه صلوات الله عليهم (٣).

أو أن المدلول عليها هي المعاني عليهم‌السلام ، والدلالة هي العلامات والمقامات التي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٧ / ٣٣٩ ، ح ١٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٣٠ ، ح ٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٦ / ١٣ ـ ١٤ ح ٢.

٣٧٠

لا تعطيل لها في كل مكان يعرفه بها من عرفه ، وإن أبيت من إطلاق الذات عليهم فلاحظ قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر الأعرابي حيث سئله عن النفس إلى أن قال عليه‌السلام في النفس اللاهوتية الملكية : «إنها قوة لاهوتية ، وجوهرة بسيطة حية بالذات ، أصلها العقل منه بدت ، وعنه دعت ، وإليه دلّت وأشارت ، وعودتها إليه إذ كملت وشابهته ، ومنه بدئت الموجودات ، وإليها تعود بالكمال ، فهي ذات الله العليا ، وشجرة طوبى ، وسدرة المنتهى ، وجنة المأوى (١).

وأيضا في الخبر المشهور في الألسنة وإن لم يحضرني موضعه الآن : «لا تسبوا عليا فإن ذاته ممسوس أو ممسوس بذات الله» (٢).

ثانيهما : الربوبية إذ مربوب ذكرا أو عينا وظهورا ، وهذه الربوبية بهذا القيد من صفات الفعل ، كما أن الأولى من صفات الذات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذا في خطبة مولانا الرضا عليه‌السلام : «له معنى الربوبية إذ لا مربوب» (٣) والظرف إما قيد للربوبية وإما ظرف للثبوت الذي تعلق به الجار ويؤيده قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «وله حقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعنى العالم إذ لا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ، ليس مذ خلق استحق معنى الخالقية ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ولا تغيّبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا يحجبه لعلّ ، ولا يوقته متى ، ولا يشتمله حين ، ولا تقارنه مع ، إنما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها (٤)».

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى ، ملا هادي السبزواري : ج ٢ / ٤٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٩ / ٣١٣ ، «مناقب آل أبي طالب» ج ٣ / ٢٢١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٨٥ ، ح ١٧ ، عن «التوحيد».

(٤) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٢٩ ، ح ٣ ، عن «التوحيد» و «العيون».

٣٧١

وعلى الأول ينقسم الربوبية إلى قسمين ومعناه الإشارة إلى ثبوت معنى الربوبية له سبحانه بالمعنى الأوّل بمعنى أنّه ربّ بهذا المعنى ، فربوبيته نفس ذاته تعالى بلا مغايرة بينهما ، بوجه من الوجوه ، فهو حينئذ من الصفات الذاتية التي لا حاجة في اتصافه بها إلى غيره ، ومرجعها إلى العلم والقدرة وسائر الصفات الذاتية.

وأما الربوبية بالمعنى الثاني بمراتبه ودرجاته فهي ثابتة له سبحانه في ملكه ، لا في ذاته.

فاللام للتمليك فهو يملك الربّ والتربية والربوبية كلّها بغير المعنى الأول في ملكه وخلقه ، وهم الأبواب الذين أمر الله تعالى بمعرفتهم وولايتهم ولا تمسك بحبلهم ، فإن الله تعالى جعلهم أبوابا لفيوضه وأعضادا لبريته ، وأشهادا على خليقته وهم المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان ، يعرفهم به من عرفه ، وهم السبيل الأعظم ، والصراط الأقوم ، وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء.

فالربوبيّة المطلقة المقترنة بالمربوب ولو ذكرا حادثة في عالم الإمكان وهي المشية الكلية ، وأمر الله الفعلي الذي به قامت السموات والأرض قياما صدوريا ركنيا.

فمن عرفهم فقد عرف الله ، ومن أنكرهم فقد أنكر الله ، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله.

وفي الزيارة : «من أراد الله بدأ بكم ، ومن وحّده قبل عنكم ، ومن قصده توجه إليكم» (١).

وذلك أن الله تعالى جعلهم وسائط فيضه ، ومرآة أنوار جلاله وجماله ، وأشهدهم خلق خلقه.

__________________

(١) الجامعة الكبيرة.

٣٧٢

بل يستفاد من بعض الأخبار والخطب المأثورة عنهم عليهم‌السلام أنه سبحانه فوّض إليهم جميع شؤون الربوبية في الخلق والرزق والإحياء والإماتة ، لكن لا تفويض تشريك ، ولا عزلة وتخيير ، ولا تفويض توكيل ، كما يفوّض أحدنا أموره إلى وكيله ، فيتصرّف في أموره بعد إذن الموكل بقوّته بالاستقلال ، فإنّ هذه المعاني للتفويض كلها كفر وزندقة.

وهذا معنى قول مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه شيخنا المجلسي قدس‌سره : «من قال نحن خالقون بأمر الله فقد كفر» (١).

فإن المراد نفي الاستقلال والاستبداد الذي يكون لوكيل بعد إذن الموكل ، إذ ليس لهم توهم هذه الاستقلال والإنيّة (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢) إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٣).

بل المراد بالتفويض الذي نقول به هو تفويض الوساطة والآلية والإشراق والعبوديّة كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

وبالجملة الأخبار الدالّة على تفويض الأمور التكوينية والتشريعية إليهم عليهم‌السلام كثيرة جدا بالغة حدّ التواتر لمن تتبعها في مظانها ، لكن ينبغي حملها على وجهها الذي أريد منها ، وهو أن جميع الآثار من الخلق والرزق وغيرهما منه سبحانه ، إلّا أنّه لمّا جرت عادته سبحانه بأن يكون له وسائط لإفاضته التكوينية كما أنّ له

__________________

(١) لم أظفر على مصدره بعد التفحص في البحار.

(٢) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) الأنبياء : ٢٩.

(٤) آل عمران : ٤٩.

٣٧٣

وسائط لإفاضته التشريعية مع عدم قابلية الداني لتلقي الفيض إلا بالوسائط ، فهم كالمرآة المحاذي لشمس وجود الحق قد تجلى لها ربها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت ، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله.

ولذا قال من قال :

فعلوا فعال الرب إلا أنهم

بشر فضاع على الغلاة الفارق

جعلوا الذي قد كان نفس نبيهم

هو نفس خالقهم تعالى الخالق

لا عذر للنصاب والغالي له

عذر لبعض ذوي العقول موافق

كفرت به الفئتان لكن ليستا

شرعا (١) فإن النصب كفر خارق

لا ينسب الإسلام للغالي له

فإن ادّعى الإسلام فهو منافق

لو شاء تعطيلا لأفلاك السماء

ما عاقه عن مثل ذلك عائق

وبكفّه القلم الذي في جبهة

الاشهاد يكتب مؤمن أو فاسق

ساووا كتاب الله إلّا أنه

هو صامت وهم الكتاب الناطق

وقال ابن أبي الحديد في قصيدته البائية :

تقيّلت (٢) أفعال الربوبية التي

عذرت بها من شكّ أنك مربوب

وبالجملة ، فلهم الربوبية الفعلية ، بل هم نفس الربوبيّة في مقام الفعل ، لكونهم نفس المشية أو محالّها ، كما عن الحجة عجل الله فرجه : «إن قلوبنا أوعية لمشية الله فإذا شاء الله شئنا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله» (٣).

وفي مقام الفعل يتحد الوصف والموصوف ، فافهم.

__________________

(١) الشرع ـ بكسر الشين ـ : المثل.

(٢) تقيل : قال في «المنجد» : تقيل أباه : أشبهه.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٣٧ ، ح ١٦ ، عن غيبة الطوسي : ص ١٥٩ ، والآية في سورة الدهر : ٣٠.

٣٧٤

ولذا ورد أن رسول الله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام أبوا هذه الأمة ، وأن الأب هو الرب الأصغر (١).

وورد في تفسير قوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (٢) عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «رب الأرض إمام الأرض. قيل : فإذا خرج يكون ماذا؟ قال : إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس والقمر ويجتزءون بنور الإمام» (٣).

ومثله في «إرشاد المفيد» و «غيبة الشيخ» و «الدعائم» و «إكمال الدين» وغيرها.

بل في الزيارة الجامعة تبيينا لمعنى الآية وخطابا للأئمة عليهم‌السلام : «وأشرقت الأرض بنوركم» وذلك لأنهم الخلفاء فيها ، وفيهم ورد قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٤).

أو لأنهم مالكها كما ورد : «أن الأرض كلها للإمام عليه‌السلام».

فعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة ، فما كان لآدم عليه‌السلام فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو للأئمة من آل محمد عليهم‌السلام» (٥).

وقال مولانا الصادق عليه‌السلام في خبر أبي سيّار : «إن الأرض كلها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا» (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٦ / ٩ ، ١١ ، ١٤ ، ٢٥٥.

(٢) الزمر : ٦٩.

(٣) البحار : ج ٧ / ٣٢٦ ، ح ١ ، عن «تفسير القمي» : ص ٥٨١.

(٤) النور : ٥٥.

(٥) الكافي : ج ١ / ٤٠٩ ، ح ٧.

(٦) الكافي : ج ١ / ٤٠٨ ، ح ٣.

٣٧٥

وعنه عن كتاب أمير المؤمنين : «أنا وأهل بيتي الذي أورثنا الله الأرض ونحن المتقون والأرض كلها لنا» (١).

وقال عليه‌السلام لأبي بصير : «أما علمت أنّ الدنيا والآخرة للإمام عليه‌السلام يضعها حيث يشاء ، ويدفعها إلى من يشاء ، جايز له ذلك من الله» (٢).

وعنه عليه‌السلام : «إن الدنيا (٣) وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا» (٤).

ولذا حكموا بأن ما في أيدي مخالفيهم من الأرض غصب حرام عليهم التصرف فيه ، بل في بعض الأخبار حرمة مشيهم على الأرض وشربهم الماء.

أو لأنهم المتصرفون فيها بإذن ربهم حيث جعلهم الله وسائط فيوضه وخزان رحمته.

ولذا روى القمي رحمه‌الله في قوله : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٥) ، قال : «يعني عليا ـ إنه ـ جعله خازنه على ما في السموات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه» (٦).

عود إلى الحقيق بطرز أنيق

اعلم أنّ الربوبية إن اعتبرت من صفات الذات فهي فيها حقيقة وذاتا واعتبارا ووجودا ومفهوما وخارجا وواقعا ، وإلا فمع فرض التغاير ولو اعتبارا تنثلم الوحدة ،

__________________

(١) الكافي : ج ١ / ٤٠٧ ، ح ١ ، باب أن الأرض كلها للإمام عليه‌السلام.

(٢) الكافي : ج ١ / ٤٠٨ و ٤٠٩ ، ح ٤.

(٣) في المصدر : الدنيا وما فيها وليس فيه كلمة إن.

(٤) الكافي : ج ١ / ٤٠٨ ، ح ١.

(٥) الشورى : ٥٦.

(٦) تفسير القمى ص ٦٠٦ وعنه البحار ج ٣٥ / ٣٦٧ ح ١٠.

٣٧٦

وكذا الحال في سائر الصفات الذاتية من العلم والوجود والقدرة والسمع والبصر وغيرها.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «كان الله (١) ربنا عزوجل والعلم ذاته ولا معلوم ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر» (٢) الخبر.

على حد ما سمعت من خطبهم عليهم‌السلام له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم ومعنى الخالق ولا مخلوق وتأويل السمع ولا مسموع» (٣).

ومرجع الجميع إلى إثبات وجود هو علم ، هو قدرة ، هو حياة ، هو ربوبية ، إلى غير ذلك حسب ما يأتي بيانه في مقامه ، ولذلك كان كمال التوحيد نفي الصفات ، لأن الاقتران دليل الحدوث والتعدد والتجرية والافتقار ، وهذه الربوبية هي التي يجب تنزيلهم عنها.

كما ورد عنهم : «نزّلونا عن الربوبية وارفعوا عنّا حظوظ البشرية ، فإنّا عنها مبعدون ، وعما يجوز عليكم منزهون ، ثم قولوا في حقنا ما استطعتم فإن البحر لا ينزف ، وسر الغيب لا يعرف ، وكلمة الله لا توصف ، ومن قال لم وبم وممّ فقد كفر» (٤).

وفي الخطبة النورانية : «لا تدعونا أربابا وقولوا فينا ما شئتم ، ففينا هلك من

__________________

(١) في المصدر : «لم يزل الله عزوجل ربنا والعالم ذاته ...».

(٢) الكافي : ج ١ / ١٠٧ ، ح ١ ، باب صفات الذات.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٢٩ ، ح ٣.

(٤) في مشارق الأنوار : ص ٦٩ : «نزهونا عن الربوبية وارفعوا عنا حظوظ البشرية ، يعني الحظوظ التي تجوز عليكم فلا يقاس بنا أحد من الناس ، فإنا نحن الأسرار الإلهية المودعة في الهيا كل البشرية ، والكلمة الربانية الناطقة في الأجساد الترابية ، وقولوا بعد ذلك ما استطعتم فإن البحر لا ينزف ...».

٣٧٧

هلك ، وبنا نجى من نجى» (١).

وعنهم عليهم‌السلام : «اجعلوا لنا ربّا نؤب إليه ثم قولوا فينا ما استطعتم ولن تبلغوا ، فإنه لم يخرج منا إليكم إلا ألف غير معطوفة» (٢).

وإن اعتبرت من صفات الفعل فمن البيّن أن صفات الفعل حادثة ليست في مرتبة الذات في القدم.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام لما قيل له : لم يزل الله مريدا : «إن المريد لا يكون إلا لمراد معه ، بل لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد» (٣).

وقال مولانا الرضا عليه‌السلام : «إن المشية والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أن الله لم يزل شائيا مريدا فليس بموحد» (٤)

وهو سر تقييد الربوبية له سبحانه بقوله : إذ لا مربوب ، فإن الربوبية إذ مربوب علما أو عينا أو وجودا لها صفة الاقتران مع المربوب ، والاقتران دليل الحدوث.

ولأنها نفس المشية التي قال الإمام عليه‌السلام انها محدثة (٥) وأن الله تعالى خلقها بنفسها وخلق الأشياء بها (٦).

ولأنها لو كانت في مرتبة الذات لاعتورتها حالتان : ربوبية إذ مربوب

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : ص ١٦٢.

(٢) في «بصائر الدرجات» ص ١٤٩ بإسناده عن كامل التمار ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ذات يوم ، فقال لي : «يا كامل! اجعل لنا ربا نؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم ... إلى أن قال : وعسى أن نقول : ما خرج إليكم من علمنا إلا ألف غير معطوفة».

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٤٤ ، عن «التوحيد».

(٤) في البحار : ج ٤ / ١٤٥ عن «التوحيد» ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «المشية من صفات الأفعال ، فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد».

(٥) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٤٤.

(٦) البحار : ج ٤ / ١٤٥.

٣٧٨

وربوبية إذ لا مربوب ، فيكون ذاته محلا للحوادث (تعالى الله عن ذلك).

وإن كانتا قديمتين تعددت القدماء ، فإذا ثبت حدوثها فلا تخلو إما أن تكون من الأمور الاعتبارية التي ليس لها تحقق ولا تحصل في الخارج إلا مجرد الفرض والاعتبار ، كما هو الشأن في الأمور الاعتبارية ، أو أنها من الأمور المتأصلة في الوجود المتحصلة في الشهود الخاضعة لحضرة المعبود ، لا سبيل إلى الأول إذ النسبة تقتضي تحقق النسبتين معها في صقع عالمها ، ومجرد الفرض والاعتبار فرع الفارض والمعتبر ، وتعالى الحق عن ذلك ـ لأنه لا يهمّ ولا يفكّر ولا يضمر ولا يروّى ، بل فعله إيجاده لا من شيء ، وإنما الفعل منه إحداثه وإبداعه فلا يجري عليه ما هو أجراه على خلقه.

مع أن المربوبات من أنواع الكائنات منتسبون إلى الربوبية ، منها نشأت ، وإليها انتسبت.

فإذا كانت الربوبية أمرا اعتباريا فالمربوب أولى وأحرى بالاعتبارية.

فإن قلت إنّ المربوبية من جملة الكائنات لا ريب في تذوّتها وتجوهرها وتحققها في الأعيان وإن كان ذلك بقيّومية الحق سبحانه ، وأمّا الربوبيّة فهي من المعاني المصدرية النسبية التي لا تحقق لها بنفسها ولو بقيوميّته تعالى ، لعدم تأهلها لذلك ، فإنها في أصل الجعل مجعولة على وجه الارتباط والتعلق ، ألا ترى أن الضرب لا تحصل له في الأعيان إلا بعد وجود المضروب وتعلقه به ووصوله من الضارب إليه ، فمع فرض عدم وجود المضروب ولو في حال تحقّق الضرب كيف يتصور وجوده في الأعيان؟

نعم يمكن تصوره في الأذهان لكنه خلاف المقصود.

قلت : هذا تمثيل بأفعالنا الناقصة القاصرة لإبداع الخلاق المتعالي وقد قال

٣٧٩

سبحانه : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

ومن البيّن أنّ إبداع المبدع ليس أثرا ارتباطيا وأصلا منه إلى موجود آخر غيره ، وإلّا لزم قدم المتعلق شخصا أو نوعا ، وهذا إنكار للإبداع ، فالفعل المتعدي منّا صدور الأثر عن الفاعل ووقوعه على المفعول ، وفعله سبحانه هو إحداثه لا غير ، وليس لفعله ارتباط به أصلا ، إلا ارتباط الصنع بالصانع على وجه الإبداع في ملكه ولا بالمفعول لانتفاء أثر الوقوع بفقد المتعلق.

فلا بد من أن يكون فعله أول إبداعه ولذا قال مولانا الرضا عليه‌السلام في خبر عمران : «اعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة» (٢).

ومن البيّن أنه لا يجوز اتصافه بالفعل والإرادة والمشية بمعانيها المعروفة التي يتصف بها المخلوق ، لأنها بتلك المعاني عن الكيفيات النفسانية ، ومن الأعراض القائمة بالمحل ، والضرورة قضت باستحالة اتصافه سبحانه بمثل هذه المعاني ، فلا يمكن اعتبارها أعراضا قائمة به لذلك ، ولا بغيره لسبقها على غيرها.

فلا بد أن تكون موجودة بإيجاده قائمة بقيوميّته واسطة في إيصال الفيض منه إلى غيره.

وبالجملة فالربوبية في هذا الموضع هو الرب المخلوق والعبد المرزوق وهو الفعل الذي خلقه بنفسه ، وأقامه في ظله ، والتعبير عنه بالمعنى المصدري النسبي سهل الاندفاع ، وإن شئت فعبر عنه بالمعنى الوصفي لكونه مصدرا لفعل الحق ، بل هو المفعول المطلق لكنه لا بد من حفظ الحدود ولحظ القيود ، بأن يعلم عدم تأصل الوجود لتقومه بفعل الحق المعبود ، فهو عبد ذليل خاضع خاشع منقاد لله سبحانه ،

__________________

(١) النحل : ٧٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٠ / ٣١٤ ، عن «التوحيد» و «العيون».

٣٨٠