تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

حقّها في الأصل أن يوصف بها لما فيها من معنى اسم الفاعل الّذي هو المغايرة ، فمعنى قولك زيد غير عمرو : مغاير له ، وموصوفها نكرة محضة نحو : (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (١) أو معنى خاصّة كما في المقام على أحد الوجهين وإن كان في اللفظ معرفة.

قال في «القاموس» : إنّها بمعنى سوى ، وتكون بمعنى لا (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٢) اى جائعا لا باغيا ، وبمعنى إلّا.

قلت : ومثله عن «التيسير» في استعمالها على الوجوه الثلاثة ، بل ربما يقال بجوازها في المقام أيضا.

فالأولان على قراءة الجرّ ، وان كان الفرق بينهما أنّها في الأوّل بمعنى المغايرة كقوله تعالى : (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) (٣) اي سواه ، وفي الثاني لمجرّد النفي كقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ) (٤) أى لا متجانف ، وعليهما تكون مجرورة بالتّبعية كما تسمع.

والثالث على قراءة النصب على الحال أو الاستثناء أو الإضمار.

ثمّ إنّها لشدّة إبهامها ونسبيّة معناها تلزمها الإضافة في المعنى ، وربما قطعت عنها لفظا إن فهم معناه ، وتقدّمت عليها ليس ، لا غيره من ألفاظ الجحد ، ولذا قيل : إنّ لا غير لحن وردّ بأنّه مسموع في قول الشاعر :

جوابا به تنجو اعتمد فو ربّنا

لعن عمل أسلفت لا غير تسئل

قيل : وقد سمع قبضت عشرة ليس غيرها بالرفع وبالنصب ، وليس غير بالفتح

__________________

(١) فاطر : ٣٧.

(٢) البقرة : ١٧٣ ، الأنعام : ١٤٥ ، النحل : ١١٥.

(٣) الإسراء : ٧٣.

(٤) المائدة : ٣.

٦٦١

على حذف المضاف وإضمار الاسم ، وليس غير بالضم ، ويحتمل كونه ضمّه بناء وإعراب ، وليس غير بالرفع ، وليس غيرا بالنصب.

وعلى كلّ حال فإذا كانت للاستثناء تكون معربة بما يستحقّه المستثنى بإلّا في ذلك الكلام ، وإن حكى في «الصحاح» عن الفراء أنّ بعض بنى أسد وقضاعة ينصبون غير إذا كانت بمعنى إلّا تمّ الكلام قبلها أو لم يتمّ ، يقولون : ما جائني غيرك فإنّه على فرض صحة النقل شاذّ جدّا.

نعم قد يقال : إنّها تفارق إلّا في خمس مسائل.

وهي أنّ إلّا تقع بعدها الجمل دون غير.

وأنّه يجوز عندي درهم غير جيّد على الصّفة ، ويمتنع عندي درهم إلا جيّد.

وأنّه يجوز قام غير زيد ، دون قام إلّا زيد.

وأنّه يجوز ما قام القوم غير زيد وعمرو بجرّ عمرو على لفظ زيد ، ورفعه حملا على المعنى لأنّ المعنى ما قام إلّا زيد وعمرو ، ومع إلّا لا يجوز إلّا مراعاة اللفظ.

وأنّه يجوز ما جئتك إلّا ابتغاء معروفك بالنصب ، ولا يجوز مع غير إلّا بالجرّ فتقول : ما جئتك لغير ابتغاء معروفك.

القراءة والإعراب

اعلم أنّ لهم في هذه الآية اختلافات ثلاثة :

أحدها أنّ المشهور في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) قراءة الجرّ ويحكى في الشواذ النصب ، لكنّ الأكثر على الأوّل ، وإن اختلفوا في وجهه.

فبين من جعله بدلا من ضمير الجمع وهو الهاء والميم في (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)

٦٦٢

لجواز إبدال الظاهر من ضمير الغائب مطلقا نحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١) على أحد الوجوه ، وقوله :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده قد ظنّ بالماء حاتم (٢)

فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده.

أو بدلا من قوله : (الَّذِينَ) بناء على أنّ المقصود بالمنعم عليهم هم الّذين أسلموا من الغضب والضلال.

وإنّما ساغ جعله على الوجهين بدلا نظرا إلى غلبة الاسميّة عليها ، فيسقط ما قد يقال من ضعف بدليتها نظرا إلى أنّ أصل وضعها الوصف ، حسب ما سمعت أنّ معناها المغاير ، والبدل بالوصف ضعيف عندهم ، ولذا قوّى بعضهم الوجه الثالث في جرّها ، وهو كونها صفة لموصولة ، وإن كان يرد عليه أيضا أنّ أصل غير أن تكون صفة للنكرة كما مرّ تقول : مررت برجل غيرك ، فإنّها وإن أضيفت إلى أخصّ المعارف الذي هو ضمير الحاضر ، لكنّها وصفت بها النكرة فكأنك قلت : مررت برجل آخر أو برجل ليس بك ، ومن هنا مع ملاحظة لزوم تطابق الصفة للموصوف اضطرّوا إلى التأويل.

إمّا بتنكير الموصوف الّذي هو الموصولة إجراء لها مجرى النكرة ، نظرا إلى معناه ، حيث لم يقصد بها عامّة المسلمين خاصّة ، ولا طائفة منهم بأعيانهم ، بل طائفة غير معيّنة منهم بأعيانهم ، وإن كانوا معلومين بأوصافهم ، فيجوز حينئذ أن يعامل معاملة المعرفة بالنظر إلى لفظه فيوصف بالمعرفة ، ويجعل مبتدءا ، وذا حال ، ومعاملة النكرة بالنظر إلى المعنى فيوصف بالنكرة كما يوصف بها المحلّى

__________________

(١) الأنبياء : ٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٢٩.

٦٦٣

باللّام في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمّة قلت لا يعنيني

أي لئيم يسبّني إذ لا مرور على الكل ، ولا دلالة على التعيين ، وإن كان يمكن حمله على ضرب من العهد : فتأمّل فإنّ مراد القائل مدح نفسه بالحلم وإغماض العين ، وقصد التنكير من المعارف باب وسيع تقول : إنّى لأمرّ على الرجل مثلك فيكرمني ، بل يجرى في الأعلام الشخصيّة على تأويل المسمّى بهذا الاسم ، ولذا ذكروا أنّ غير المنصرف بالعلميّة وسبب آخر ينصرف عند التنكير كقوله : مررت بأحمدكم.

وإمّا بتعريف اللفظ نظرا إلى زوال إبهامها في المقام رأسا كما مرّ حكايته عن السيرافي ، وغيره ، ولذا قال السراج : إنّ غيرا في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأنّ حكم كلّ مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنّما تنكرت غير ومثل ، مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك أنّك إذا قلت رأيت غيرك فكلّ شيء يرى سوى المخاطب فهو غيره ، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى ، وأمّا إذا كان شيء معرفة له ضدّ واحد وأردت إثباته ونفى ضدّه ، وعلم ذلك السامع ، فوصفت بغير وأضفت غير إلى ضدّه فهو معرفة ، وذلك نحو قولك : عليك بالحركة غير السكون ، فغير السكون معرفة وهي الحركة ، فكأنّك كرّرت الحركة تأكيدا وكذلك قوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم ، فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة ، وكذلك إذا عرف إنسان بأنّه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه : قد جاء مثلك ، كانت معرفة إذا أردت المعروف بمثلك.

قال : ومن جعل غير بدلا استغنى من هذا الإحتجاج ، لأنّ النكرة قد تبدل من المعرفة.

٦٦٤

قلت : وهذا الوجه أولى من تنكير الموصول ، سيّما بعد ما سمعت من تفسيره بالأخبار بالنبيّين والصديقين والشهداء والصالحين ، وغيرهم من أولياء مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

مضافا إلى استفادة حصر أصناف النّاس كافّة حينئذ في الثلاثة الراجعة إلى الإثنين : أهل الحق وهم أهل ولاية من يدور مع الحق حيثما دار ، وأهل الباطل الذين انحرفوا عن الحقّ بالغلوّ والتقصير ، فلا داعي إلى التكليف بتنكير الموصول الذي هو في غاية البعد.

نعم عن عليّ بن عيسى الرّماني أنّه قال : إنّما جاز أن يكون نعتا للّذين لأنّ الّذين بصلتها ليست بالمعرفة المعينة كالأعلام نحو زيد وعمرو ، إنّما هي كالنكرات إذا عرّفت نحو الرّجل والفرس ، فلمّا كانت الذين كذلك ، كانت صفتها كذلك أيضا كما يقال : لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ، ولو كانت بمنزلة الأعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجرّ على الصفة.

ثمّ إنّه على فرض كونها صفة قيل بجواز كونها صفة مبينة له ، على تقدير أن يراد بالنعم في (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) النعم الاخروية ، وما يتوصّل إلى نيلها من الدنيوية ، أو مقيّدة على فرض إرادة مطلق النعم أو الدنيوية مطلقا لدخول الكافر حينئذ.

لكن في «الحواشي البهائيّة» أنّ الأولى التفصيل بأنّه قد سبق أنّ (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هم المؤمنون أو الأنبياء أو أصحاب موسى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام قبل التحريف والنسخ ، فعلى الأوّل إن أريد بهم من اتّصف بالايمان ولو في الجملة ، وبالمغضوب عليهم والضّالّين العصاة منهم ، والجاهلون ببعض العقائد فالصفة مقيّدة ، وإن أريد به الكاملون في الإيمان فمبينة أيضا ، وإن أريد بالمغضوب عليهم والضالين اليهود والنصارى فمبيّنة أيضا سواء أريد بالمؤمنين

٦٦٥

الكاملون أو في الجملة ، وعلى الثاني الصفة مبينة لا غير باىّ تفسير فسّر المغضوب عليهم والضالّين ، وعلى الثالث كالأوّل.

أقول : ولعلّ الأولى من هذا التطويل الّذي لا طائل تحته لابتنائه على تفسير المخالفين الاقتصار على ما يستفاد من أخبار الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم ، من كون الصفة مبيّنة فإنّه وإن كان التأسيس أولى ، للتّبيين هنا مزيد فائدة ، وهو التنبيه على انقسام الناس كافّة إلى أقسام ثلاثة : التالي الموالي ، والقالي ، والغالي ، أو إلى المتوسطين على الصراط السويّ المستقيم ، والمنحرفين عنه بالقصور والتقصير.

وبالجملة فهؤلاء لهم صفتان وجوديّة هو كونهم منعما عليهم بذلك الصراط ، وعدميّة هو عدم الغضب عليهم وعدم ضلالتهم.

وعلى كلّ حال فقراءة النصب محكيّة عن ابن كثير ، ونسبت في غير واحد من التفاسير إلى الشذوذ ، بل في بعضها أنّ الرواية شاذّة ، وقضيتها عدم ثبوت القراءة عنه ، لكن في «الكشّاف» أنّها قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قيل يريد أنّها عادته قبل العرضة الأخيرة والّا فكلّ القراءات قراءته عليه‌السلام.

لكن قد يقال : كلّ من القراءات السبع المتواترة إنّما نسب إلى واحد من الائمّة السبعة لاشتهاره بها ، وتفرّده فيها بأحكام خاصّة ، وامّا غيرها فإذا لم يشتهر بها أحد نسب اليه صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء كان عادته أم لا ، قيل : وهذا هو المختار عند المحقّقين ، ولا يخفى فساده بعد ما سمعت في المقدّمات من سبب حدوث الاختلاف فيها وأنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد.

ثمّ إنّ نصبه إمّا على الحاليّة من المضمر في (عَلَيْهِمْ) والعامل في الحال وصاحبها معا هو (أَنْعَمْتَ) والعبرة بالمجرور ، فإنّ الجار صلة تجرّ معنى الفعل إليه ، فالمجرور بالحرف بنفسه منصوب المحلّ بالفعل ، وبهذا الإعتبار وقع ذا حال ، فلا يرد أنّ العامل في ذي الحال هو الحرف الجارّ ، مع أنّه لا بدّ من اتّحاد العامل في

٦٦٦

الحال وصاحبها.

وإمّا على الاستثناء المنقطع كما صرّح به في «المجمع» وغيره ، بناء على التقريب المتقدّم الذي ظهر منه أن (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) من غير جنس المنعم عليهم ، أو المتصل كما يظهر من البيضاوي حيث اشترط فيه تفسير المنعم بما يعمّ القبيلتين ، ولعلّه لأولويّة التأسيس ، أو أصالة الاتصال ، أو إطلاق النعمة.

لكن الكلّ كما ترى بعد ما سمعت من تفسير النعمة سيّما مع البيانات الواردة عن الأئمّة صلى الله عليهم أجمعين.

نعم عن الرمّانى أنّ من نصب على الاستثناء جعل «لا صلة» كما أنشد أبو عبيدة : «في بئر لا حور سرى وما شعر».

أى في بئر هلكته ، وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين ، كما قال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١) ، (٢) وستسمع الكلام فيه ، بل وفي أنّ «لا» في آية السجود ليست بزائدة وإن اطبقوا عليه ظاهرا.

وإمّا على القطع بتقدير أعني ، واعلم أنّه على فرض التبعيّة أو القطع لا يلزم بل لا يجوز أن يقال غير المغضوبين عليهم لمراعاة المطابقة نظرا إلى الاستغناء عن الجمع بضمير الموصول به بالحرف الجارّ ، بل قيل : إنّ هذا حكم كلّ ما يعدّى بحرف جرّ تقول : رأيت القوم غير مذهوب بهم ، فاستغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب.

ثانيها اختلافهم في الهاء والميم من عليهم هنا ، وفيما تقدّم وإن أغفلنا ذكره هناك ، لكون الجميع آية واحدة ولنظمه مع غيره من الاختلافات ، وبالجملة اختلفوا

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٠.

٦٦٧

في ضمير عليهم في كلّ موضع ، وكذلك لديهم ، وإليهم ، بل كلّ هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية وجمع المذكر والمؤنّث وغيرها نحو عليهما ، وإليهما ، وفيهما ، وعليهم ، وفيهم ، وعليهنّ ، وفيهنّ ، واتيهم ، وصياصيهم ، ويزكّيهم ، وأيديهم ، وأيديهنّ وإن اختلفوا في التعميم والعدم أيضا ، فقرأ يعقوب ثلاثة منها ، وهي : عليهم ، وإليهم ، ولديهم ، حيث وقعت بضمّ الهاء ، ومثله حمزة فيها وإن في التعميم في جميع ما مرّ فإنّه لم يستثن من الهاء الواقعة بعد الياء الساكنة إلّا ضمير المفرد ، وقرء الباقون في الجميع بكسر الهاء ، فالأقوال فيها ثلاثة :

الضمّ مطلقا للأصل ، فإنّها تضمّ مبتدئة نحوهم فعلوا ، وكذا بعد الألف والفتحة والضّمة والواو والسكون في سوى الياء ، بل والياء سوى الساكنة نحو رآهم ، جائهم ، يعلمهم ، أخوهم ، منهم ، يغنيهم ، فيظهر من ذلك أنّ الضّمة هي الأصل فيها لا يعدل عنها إلّا بسبب طار ، وهو مفقود في المقام.

بل عن السراج أنّها القراءة القديمة ، ولغة قريش ، وأهل الحجاز ، ومن حولهم من فصحاء اليمن.

والكسر مطلقا لمناسبته للياء وخفّته بالإضافة ، والفرار من ثقل الانتقال من الياء الّتي تجانس الكسرة إلى الضمّ ، وللتفصيل بين الألفاظ الثلاثة وغيرها انقلاب الياء فيها عن الألف بدليل على زيد ، وإلى عمرو ، ولدي بكر ، والألف بضمّ الهاء بعدها نحو : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (١) فكذلك بعد المنقلب منها إجراء لحكم الأصل ودلالة عليه.

ثمّ إنّهم قد أطبقوا على عدم الضمّ في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (٢).

__________________

(١) البقرة : ٨.

(٢) الأنفال : ١٦.

٦٦٨

بل قيل : لا خلاف بينهم في كسرها إذا كان ما قبلها مشدّدة مكسورة ، فإنّها بمنزلة الكسرتين اللّتين يتعسر الانتقال منهما إلى الضمّ لثقله جدّا ، كما أنّهم قد اتفقوا على الكسر أيضا إذا سقطت الياء بسبب جزم أو بناء نحو : (وَيُخْزِهِمْ) (١) (وَإِنْ يَأْتِهِمْ) (٢) و (فَآتِهِمْ) (٣) و (فَاسْتَفْتِهِمْ) (٤).

إذ لا خلاف بينهم في كسرها حينئذ مطلقا إلا فيما يحكى عن رويس ، حيث إنّه يرعى الأصل ولم يعتد بعارض السقوط.

نعم اختلف النقل عنه في (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) (٥) في سورة الحجر (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) (٦) ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) كلاهما في غافر ، (يُغْنِهِمُ اللهُ) (٨) في النور ، فروى عنه بعضهم ضمّها في الجميع طردا للباب ، وروى آخرون كسرها لأجل الساكن بعدها إلحاقا بنحو (بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٩).

ثمّ إنّ لهم في المقام اختلافا آخر في الميم ، حاصله أنّ ميم الجمع بعد الهاء إمّا أن يكون بعدها متحرّك أو ساكن فعلى الأوّل كما في هذه السورة في موضعين ، وفي قوله : (هُمْ يُوقِنُونَ) (١٠) و (قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ

__________________

(١) التوبة : ١٤.

(٢) الأعراف : ١٦٩.

(٣) الأعراف : ٣٨.

(٤) الصافات : ١١ ـ ١٤٩.

(٥) الحجر : ٣.

(٦) غافر : ١٩.

(٧) غافر : ٧.

(٨) النور : ٣٧.

(٩) البقرة : ١٦٦.

(١٠) البقرة : ٤.

٦٦٩

وَلَهُمْ عَذابٌ) (١).

فالمحكيّ عن أبى جعفر ، وابن كثير ، وقالون بخلاف عنه في حالة الوصل ، وصل الميم بواو انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت فيقولون : عليهم وهمو وقلوبهمو ، وسمعهمو إلى غير ذلك.

ونسبه في الجمع إلى أهل الحجاز ، قال : إلّا أنّ نافعا اختلف عنه ، وأمّا الباقون فبالإسكان من غير صلة.

وحكى في «المجمع» عليهم بالضّمتين قراءة ابن أبى اسحق ، وعيسى الثقفي ، وعليهمى بالكسر والياء قراءة الحسن البصري وعمرو بن فائد ، وعليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو وعليهم مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو ، مرويّتان من الأعرج قال : فهذه سبع قراءات (٢).

قلت : ولعلّه باعتبار انضمام الاختلاف الاول إليه فالثامن ما حكاه الجزري في «طيبة النشر» عن ورش ، وهو الوصل والإشباع قبل همزة القطع كما في (عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (٣) و (أَنَّهُمْ إِلَيْنا) (٤).

امّا الحجّة على هذه القراءات فلعلّ العمدة اختلاف اللّغات بالنسبة إلى الجلّ أو الكلّ ، وإن قال في «المجمع».

أنّ من قرء عليهمو فإنّه اتبع الهاء ما أشبهها وهو الياء أو ترك ما لا يشبه الياء والألف على الأصل وهو الميم.

ومن قرء عليهم فكسر الهاء وأسكن الميم فلأنّه أمن اللبس ، إذ كانت الألف

__________________

(١) البقرة : ٧.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٢٨.

(٣) البقرة : ٦.

(٤) القصص : ٣٩.

٦٧٠

في التثنية قد دلّت على الإثنين ولا ميم في الواحد ، فلمّا لزمت الميم الجمع ، حذفوا الواو وأسكنوا الميم ، طلبا للتخفيف إذا كان ذلك لا يشكل ، وإنّما كسر الهاء مع أنّ الأصل الضمّ للياء الّتي قبلها.

ومن قرء عليهمو فلأنّه الأصل لأنّ هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في التثنية أعنى أنّ ثبات الواو كثبات الألف.

ومن قرء عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وكسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إلى ضمّة الميم ، ثمّ انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

ومن كسر الهاء وضمّ الميم وحذف الواو فإنّه احتمل الضمّة بعد الكسرة لأنّها غير لازمة إذا كانت ألف التثنية يفتحها لكنّه حذف الواو تفاديا وتخلّصا من ثقلها مع ثقل الضمّة.

ومن قرء عليهم فإنه حذف الواو استخفافا واحتمل الضّمة قبلها دليلا عليها ، انتهى (١).

لكنّ الكل كما ترى إن لم تكن مرجعها إلى لغات العرب التي لا يجوز الخروج عنها ، ويجوز الأخذ بكل منها مع عدم شذوذه وجحوه فضلا عن صحّته وشيوعه.

نعم ذكر شارح «منظومة الجزري» أنّ كسر الهاء وإسكان الميم واشباعها لغتان صحيحتان فصيحتان كما ذكر أنّ هذا كلّه في حال الوصل ، إذ كلّهم متّفقون على الوقف عليها بالسكون.

وامّا على الثاني الذي يكون بعد الميم ساكن فعن أهل الحجاز ، وعاصم ،

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٩.

٦٧١

وابن عامر كسر الهاء وضمّ الميم نحو : (بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١) ، (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) (٢) ، (فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٣) لإجراء الميم على الأصل الذي هو الضمّ فيها كما سمعت ، وبقاء الهاء على كسرها نظرا إلى أنّها تبعت الكسرة أو الياء ، ولم يتبعها الميم لبعدها ، ولم يشبعوا الميم في المقام حذرا عن التقاء السالكين ، وعن المدّ الحاصل من الواو الساكنة بعدها سكون ، فلمّا اضطروا إلى تحريكها ترجّح الأصل الذي هو الضم ، وعن أبى عمرو كسر الميم حالة الوصل لأنّه كما كسرت الهاء لاتّباع ما قبلها كسرت الميم لاتّباع الهاء ، مع انّه اتبعت الكسر الكسر لثقل الضّمة بعد الكسر ، وعن حمزة والكسائي وخلف ضمّ الهاء قبلها اتّباعا ، وإذا وقفوا كسروا الهاء ، إلّا حمزة فهو على أصله في ضمّ الهاء في نحو (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) (٤) و (إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) (٥).

وعن يعقوب إتّباع الهاء الميم على ما تقرّر من مذهبه فيضمّ الميم إذا وقعت بعد الهاء المضمومة في مذهبه نحو : (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) (٦) و (يُرِيهِمُ اللهُ) (٧) ويكسرها إذا وقعت بعدها مكسورة نحو : (بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٨) و (قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٩) ، هذا كلّه في الوصل.

وأمّا في الوقف فعلى الميم الساكنة وكسر الهاء سواء كان قبلها ياء ساكنة أو

__________________

(١) البقرة : ١٦٦.

(٢) البقرة : ٢٤٦.

(٣) البقرة : ٩٣.

(٤) البقرة : ٢٤٦.

(٥) يس : ١٤.

(٦) البقرة : ٢٤٦.

(٧) البقرة : ١٦٧.

(٨) البقرة : ١٦٦.

(٩) البقرة : ٩٣.

٦٧٢

كسرة ، نعم عن حمزة في عليهم ، وإليهم ، ولديهم ضمّ الهاء وصلا ووقفا.

ثالثها ما قرء في الشواذّ : «وغير الضالّين» قال في «المجمع» : وروى ذلك عن مولينا أمير المؤمنين روحي له الفداء وعليه وعلى أخيه وذريته آلاف التحيّة والثناء بعد ما حكاه عن أشقى الأشقياء أبى الشرور (١).

ودلالة الحكاية على وضع الرواية أو حملها على التقيّة في غاية الظهور ، سيّما بعد ما ورد في أخبار كثيرة كتفسير الإمام عليه‌السلام وغيره موافقا للقراءة المشهورة الّتي اتّفقوا عليها.

نعم قد مرّ عن القمي أنّه رواه في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام.

وفيه في الصحيح أيضا عنه عليه‌السلام في قوله : «غير المغضوب عليهم وغير الضالّين» قاله : المغضوب عليهم النّصاب ، والضالّين الشكاكون الذين لا يعرفون الإمام (٢).

وفيه مع ضعف الثاني دلالة ، أنّه لا يثبت القرءان بمثله سيّما بعد ما سمعت ، ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ (لا) ليست في المقام للعطف ، إذ شرط عطفها أن تسبق بإيجاب ، ولذا جيء بالواو للعطف ، نعم قد يقال : إنّها زيدت لتوكيد النفي ، كما عن البصريّين ، بل ذكروا أنّ (لا) بعد الواو العاطفة إنّما تزاد إذا كانت في سياق النفي وفائدتها التوكيد ، والتصريح بشموله لكلّ واحد من المعطوف والمعطوف عليه لئلّا يتوهّم أنّ المنفي هو المجموع من حيث هو مجموع ، فلا ينافيه ثبوت أحدهما معيّنا أولا على التّعيين ، وقد سمعت أنّ لفظ غير في الأصل وصف بمعنى المغاير تفيد النفي إمّا بالاستلزام كما إذا وصف به إثباتا للمغايرة كما في الآية الكريمة فإنّ

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٨.

(٢) تفسير القمى ج ١ ص ٢٩.

٦٧٣

وصف الشيء بكونه مغايرا للموصوف بوصف من حيث هذا الوصف تفيد نفى الوصف ، وإمّا بالصراحة كما قيل في قولهم : أنا غير ضارب زيدا حيث إنّ المراد لست ضاربا له ، لا أنا مغاير لشخص ضارب له ، فالإضافة إنّها هي في اللفظ ، والّا فلا إضافة معنى ، ولذا جوّزوا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف في قلوبهم : أنا زيدا غير ضارب كما جاز ذلك في قولهم : أنا زيدا لا ضارب ، فنزّلوا غيرا منزلة لا في صيرورته جزء الكلمة كالمعدولة فينتفى الإضافة من غير أن يتطرق تخصيص إلى ما ذكروه من عدم جواز تقديم معمول المضاف إليه على المضاف.

ولذا لا يقال في أنا مثل ضارب زيدا أنا زيدا مثل ضارب لامتناع وقوع المعمول حيث يمتنع وقوع العامل.

والحاصل جواز تقديم ما في حيّز النفي ولو بغير عليه دون ما في حيّز الإثبات لا لمجرّد الإثبات والنفي بل لما سمعت.

نعم قيل : شرط حرف النفي أن يكون لا أولم أو لن ، دون ما وإن ، وعلّله التفتازاني بأنّ ما تدخل على القبيلتين أي الاسم والفعل فيشبه الاستفهام ، ولم ولن مختصّان بالفعل ، ويكونان كالجزء منه وأمّا لا فهي وإن دخلت على القبيلتين إلّا أنّها حرف متصرّف فيها جاز عمل ما قبلها فيما بعدها ، مثل جئت بلا شيء وأريد أن لا يخرج ، فجاز العكس أيضا.

قلت : ولعلّ الأولى من كلّ ذلك الاقتصار على السمّاع ، وتتبع موارد الاستعمال وما أحسن الكسائي حيث سئل في حلقة يونس لم لا يجوز أعجبني أيّهم قام؟ فقال : أيّ كذا خلقت.

رابعها ما قرء في الشواذّ أيضا ولا الضالّين بالهمزة المفتوحة مقلوبة عن الألف واللام المشالة في لغة من جدّ في الهرب عن التقاء الساكنين حتّى في مثل المقام الذي قد صرّحوا بجوازه فيه ، لكون أوّل الساكنين حرف لين والثاني مدغما

٦٧٤

فيه مع كونهما في كلمة ، من غير فرق بين كون حركة ما قبل حرف اللّين من جنسه أولا ، وإن سمّي في الأول حرف المدّ أيضا ، والدليل على جوازه بعد جريان اللّغة عليه ووروده في كلمة أهلها أنّ في حرف اللّين نوعا من المدّ الذي يتوصل به إلى النطق بالساكن بعده ، مع أنّ المدغم والمدغم فيه بمنزلة حرف واحد ، إذ اللسان يرتفع عنهما دفعة واحدة والثاني متحرك فالأوّل الّذى هو ثاني الساكنين بمنزلته.

نعم يظهر من أبى البقاء عدم جريان هذه اللغة في حروف المدّ فضلا عن اللّين ، حيث قال : إنّها لغة ناشية في كلّ ألف وقع بعدها حرف مشدّدة.

وعن الفيروزآبادي : أنّ الذي نصّ عليه جمهور النحاة أنّ ذلك لا يقاس عليه ، وإنّما سمع منه ألفاظ دابّة وشابّه ثمّ حكى عن أبى زيد سمعت عمرو بن عبيد يقرء (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (١) ، فظننته قد لحن حيث حتى سمعت من العرب دابّة وشابّة.

تحقيق لمعنى الغضب

اعلم أنّ الغضب بالتحريك مصدر أو اسم من غضب كسمع ، عليه ، وله إذا كان حيّا وغضب به إذا كان ميّتا كما في «القاموس» وغيره ، وهو ضدّ الرضا في الخالق والخلق ، ولذا ينسب إلى الله سبحانه أيضا كما في قوله : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢) وكذا في آية اللعان (٣) وغيره ، وإن كان لا يسمّى بالغضبان كما لا يسمّى باللّعان فإنّه فينا كيفيّة نفسانيّة يتبعها حركة الروح إلى الخارج دفعة طلبا

__________________

(١) الرحمن : ٣٩.

(٢) النور : ٩.

(٣)؟؟؟؟

٦٧٥

للانتقام ، وهذه الحركة لما كانت شديدة عنيفة يتبعها شدة سخونة الروح وثوران الحرارة المودعة في بدن الإنسان واشتعالها فيغلي بهادم القلب ، وينتشر في العروق ، ويرتفع إلى أعالى البدن كما ترتفع النار والماء الذي في القدر فيظهر الحمرة والحرارة والالتهاب في أعالى البدن سيّما الوجه والعين اللّذين هما مظهران للنفس الإنسانيّة خصوصا بعد ما لهما من اللطافة والصّفاء ، بل يصعد حينئذ من البدن فضلا عن خصوص القلب الذي هو مستوقد الحرارة الحيوانيّة أبخرة رديّة مظلمة ، شديدة الالتهاب ، فيمتلأ بها الشريانات الدّماغيّة ولذا شبّهوا هيكل الإنسان عند ثوران الغضب بالتّنور المتوقّد باللهيب والحريق فلا يكاد يسمع منه إلّا زفير وشهيق.

وقد ورد في الخبر : الغضب شعلة من النار تلقي صاحبها في النار.

وفيه أيضا : الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار (١).

وفي الكافي : عن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في جوف ابن آدم وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفحت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه ، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك (٢).

وعلى كلّ حال فهو من الانفعالات الرديّة النفسانية الّتي لا يليق بأوليائه فضلا عنه سبحانه.

ولذا قال مولينا الباقر عليه‌السلام لعمرو بن عبيد بعد ما سئله عن الغضب في قوله : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٣) ، إنّه هو العقاب ، يا عمرو إنّه من زعم أنّ

__________________

(١) سنن أبى داود ج ٢ ص ٥٥٠ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) بحار الأنوار ج ٦٣ ص ٢٦٥ عن الكافي ج ٢ ص ٣٠٥.

(٣) طه : ٨٠.

٦٧٦

الله قد زال من شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين (١).

وسئل مولينا الصادق عليه‌السلام عن الله تعالى هل له رضى وسخط؟ فقال : لهم ، وليس على ما يوجد من المخلوقين ، ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه (٢).

وفي المناقب عن أبى جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) قال : إنّ الله أعظم وأعزّ وأجلّ من أن يظلم لكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ، حيث يقول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٤) يعنى الائمّة ثم قال في موضع آخر (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥).

وفيه عن مولينا الصادق عليه‌السلام في قوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (٦) ، فقال : إنّ الله عزوجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون (٧) ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه ، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك ، وليس إنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه لكن هذا معنى ما قال من ذلك ، وقد قال : أيضا من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها ، وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٨) ،

__________________

(١) التوحيد للصدوق ص ١٦٨ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ / ٦٣.

(٣) البقرة : ٥٧.

(٤) المائدة : ٥٥.

(٥) البحار ج ٢٤ ص ٢٢٢ عن المناقب عن أبى الحسن الماضي عليه‌السلام.

(٦) الزخرف : ٥٥.

(٧) في البحار : مدبّرون.

(٨) النساء : ٨٠.

٦٧٧

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) ، فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى الله (٢) الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل ان يقول : إنّ الخالق (٣) يبيد يوما لأنّه إذا دخله الغضب دخله التغيّر وإذا دخله التغيّر لم يؤمن عليه الإبادة ثمّ لم يعرف المكوّن من المكوّن ، ولا القادر من المقدور ، ولا الخالق من المخلوق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة ، فاذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فافهم ذلك إن شاء الله (٤).

وروى الصدوق مثله في التوحيد والمعاني إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أنّ إطلاق هذه الأفعال عليه سبحانه ليس باعتبار المبادي الّتي هي من أفعال أو انفعالات دالّة على التغيّر والنقصان وغيرهما من لوازم الإمكان الدالّة على الإبادة والفناء كما أشار اليه بقوله : إذا دخله الغضب دخله التغيّر وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة ، وذلك لما قيل من أنّ هذه الأمور كيفيّات قابلة للاشتداد ، والاشتداد يلزمه التضاد ، والمتضادان متفاسدان ، ولذا ينقلب الماء هواء ، بل نارا باشتداد السخونة المفسدة لصورته المائيّة والهواء ينقلب ماء باشتداد البرد ، والإنسان يموت فجأة عند اشتداد كلّ من الخوف والغضب والفرح ومن أنّ كل متغيّر لا بدّله من مغيّر خارج من ذاته ، إذا الشيء لا يتحرّك من نفسه وكلّ ما له مغيّر قاهر عليه متصرف فيه قادر على إهلاكه وأنّ كلّ ما دخله التغيّر فهو مركّب من أمرين : أحدهما شيء

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) في البحار : ولو كان يصل إلى المكون الأسف.

(٣) في البحار : إنّ المكوّن يبيد.

(٤) في البحار : ولو كان يصل إلى المكوّن الأسف.

٦٧٨

بالفعل والآخر بالقوّة لاستحالة أن يكون الشيء من جهة ما هو بالفعل بالقوة ومن جهة ما هو موجود معدوما إذ القوّة ضرب من العدم فلا بدّ فيه من تركيب من مادّة وصورة ، وكلّ مركّب مسبوق بالعدم ، قابل للانحلال والزوال ، وأنّ ما كانت له قوّة غير متناهية فلا يؤثّر فيه شيء وهو لا يتأثر ولا ينفعل من شيء ، إذا الضعيف القوة لا يتقاوم قويها فضلا عن أن يغلب على القوي ، فحينئذ كيف الحال إذا كان القوى ذا قوّة غير متناهية فدلّ ذلك بعكس النقيض على أن كلّ متغيّر منفعل فقوته متناهية إلى حدّ وكلّ ما هو كذلك فلا بدّ من أن ينتهى إلى الفناء والدثور إلى غير ذلك من القواطع الدالّة على أنّ إطلاقها كإطلاق ما يضاهيها من المكر والكيد والاستهزاء والأسف والمجيء ونحوها ليست باعتبار مباديها ، بل إنّما هو لأحد الوجهين المشار إليهما في الأخبار المتقدّمة : أحدهما باعتبار الغايات ولذا فسر في كثير منها الغضب بالعقاب ، والرضاء بالثواب المحتملين لارادة المصدر ، واسمه وهو ما يعاقب به وما يرضى به كالنار والجنة ، لا المعنيين المصدريين اللّذين ينبغي تنزيهه سبحانه عنه أيضا الّا أن يكون على وجه التشبيه والتمثيل بناء على أنّه واقع في صقع صفات الأفعال الّتي لا ريب في حدوثها ، وبرائة ساحة كبرياء الذات عنها ، ولذا ورد نسبة جميع الأفعال المتقدّمة إليه ، وإن كانت باعتبار المشاكلة والازدواج لأفعال العباد كقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٢) (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٣) (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (٤).

__________________

(١) آل عمران : ٥٤.

(٢) النساء : ١٤٢.

(٣) البقرة : ١٤ ـ ١٥.

(٤) الطارق : ١٦.

٦٧٩

اى يفعل بهم فعل الماكر ، والمخادع ، والمستهزء على حدّ قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) المنساق لمجرّد المشاكلة على أحد الوجوه ، أو باعتبارات ما يعود جزاء عليهم هو بعينه نفس أعمالهم الملازمة الغير المنفكّة عنهم ، للزومها لهم لزوم الظلّ للشاخص ، ولذا قال سبحانه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٢) و (ما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (٤).

ولذا قيل بتجوهر الأعمال وتجسّم العقائد والإرادات والأحوال يوم القيمة مستشهدا له ببعض الظواهر كقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٥) ، (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٦) ، و (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (٧).

بل روى الشيخ الأمجد عن مولينا الصادق عليه‌السلام ما معناه إنّه سمع رجلا من محبيه يقول : اللهم أدخلنا الجنّة فقال عليه‌السلام إنّكم في الجنّة ولكن اسألوا الله أن لا يخرجكم منها إنّ الجنّة هي ولايتنا وهي تأويل قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) (٨).

وذكر في موضع آخر انّهم عليهم‌السلام صرّحوا بانّ النار موجودة في الدنيا في أهلها ويوم القيمة أهلها فيها إلى غير ذلك من الظواهر والشواهد العقليّة الّتي ستسمع

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

(٢) فاطر : ٤٣.

(٣) آل عمران : ١١٧.

(٤) الفتح : ١٠.

(٥) التوبة : ٤٩.

(٦) الإنفطار : ١٦.

(٧) النساء : ١٠.

(٨) هود : ١٠٨.

٦٨٠