تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

يقدر البصائر والعقول النظر إلى أشعة أنوار شيعتهم فضلا عن حقيقتهم وطينتهم.

كما ورد في «البصائر» و «السرائر» عن الصادق عليه‌السلام : «ان الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على الأرض لكفاهم.

ثم قال عليه‌السلام : إن موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام لما سأل ربه ما سأل ، أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكّا ، وذلك لأنّه مرفوع عن علمنا ، متعال عن إدراكنا ، وهو فوق حقيقة ذواتنا ، ونحن لا ندرك إلا ما هو في مرتبتنا ، ولا نصل إلا إلى مقامنا ودرجة ذواتنا ، ولا نقرأ إلا حروف أنفسنا ، وما منّا ـ إلا له مقام معلوم» (١).

والجواب عن الثاني : أنّ تفضيل الولاية على النبوة وإن صرّح به البعض كالشيخ ابن أبي الجمهور ، وغيره إلّا أنّي لم أظفر به في شيء من الأخبار ، ومرادهم على ما صرّحوا به ترجيح الولاية التي هي التصرف والوساطة في الأمور التكوينية والتشريعية على النبوة التي هي مجرد السفارة ، وهذا الترجيح يمكن أن يعتبر بين وصفين من شخص أو شخصين كما هو المشهور عندهم ، والمعروف لديهم ، فإن الولاية المطلقة رياسة عامّة وتصرّف كلي في جميع الأمور التكوينية والتشريعية وهي الوساطة العامّة بين المخلوق والخالق.

ولذا ذكر بعض الأعلام :

«أن الإمامة والولاية والخلافة إذا أخذت على الوجه المطلق كانت شيئا واحدا وألفاظا مترادفة ، وقد تطلق بالمعنى الأخصّ فتكون الإمامة والولاية والخلافة يراد بها التصرف المذكور المأخوذ من النبوة ، بحيث يلاحظ فيها كون

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ / ٢٢٤ ، ح ١٨ عن البصائر : ص ٢١.

١٤١

الكمالية المشتملة عليها ذلك الشخص المجتمع فيه شرائط الخلافة والولاية بسبب قربه من مشكاة النبوة ، وأخذ العلوم الحقيقية والكمالات النفسية منها ، فيكون بينها وبين النبوة عموم وخصوص مطلق ، لصدق الولّي على كل نبيّ وولي وخليفة وإمام ولا عكس ، فإنّ مرتبة النبوة أقوى من مرتبة الولاية الخاصة ، لأنّ هذه الولاية مبدؤها النبوة بخاصيّة كمال متابعته له ، وقوة سلوكه مواطئ أقدام مقاماته ، حتى يصير متكمّلا بجميع كمالاته ، فيقوم مقامه في الخلافة والولاية ، فهو مقتبس لها من مشكاة النبوة ، مستفيد لأنوارها منه بغير واسطة شيء خارج فيوجب له الاستغناء من المرشد والمعلّم ، بل يفيض عليه الكمال الأعلى ، والنور الأسنى ، بسبب مقابلة نفسه لنفسه وشدة اتصالها بها ، فينطبع فيها جميع الصور المنتقشة فيها من عالم الغيب ، لكون نفسه نفسا قدسية كنفسه لشدة اتصالها بالعالم العلوي والمبدء الأعلى ، وجمعها بين القوتين ، إلّا أنّ ذلك الاتصال لها مشروط باتصالها بمشكاة النبوة التي هي الطريق لها إلى الوصول إلى ذلك الاتصال.

فعلم من ذلك أنّ الولاية المطلقة أجلّ وأعلى وأشرف من مرتبة النبوة.

لأن الولاية مبدء لها ، إذ النبي لا يكون نبيا حتى يكون وليا ، فالولاية مبدء النبوة ، وإذا كانت مبدأ لها كانت سابقة عليها ، وعلة في حصولها فتكون ولاية النبي المطلقة أجل وأعلى وأشرف من نبوته.

ولأنّ مقام الولاية هي الوحدة المطلقة التي هي مقام لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وكمال النبوة من جهة الكثرة الحاصلة بسبب الرد إليها بعد مقام الوحدة المشار إليها

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإني أباهي بكم الأمم» (١).

ولا ريب أن مقام الوحدة أجل وأعلى من مقام الكثرة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ / ٢٩٣ ، ح ١٦.

١٤٢

ولأن الولاية تصرّف ، وإحاطه وسلطانه بإذن الله في الأمور التشريعية والتكوينية ، فلسان الولي لسان الله ، ويده يد الله ، وقلبه وعاء لمشية الله ، كما قالوا : «إنّ قلوبنا أوعية لمشية الله ، فإذا شاء الله شئنا» (١).

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢).

واما النبوة فهي سفارة ورسالة ووساطة في التشريعات (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣) ، (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) (٤).

وقد تبيّن مما ذكرناه أنّ لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لغيره من الأنبياء والمرسلين مقامات أعلاها وأسناها مقام ولايتهم المطلقة أو المقيّدة ، كلّ على حسب مرتبته ، وولاية كلّ منهم إذا قيست إلى ولاية وصيّه المقتبس من مشكاة نوره المستضيء بتجلّي ظهوره كانت أعلى وأشرف وأسنى منها ، فلا يلزم من ترجيح الولاية وتفضيلها على النبوة والرسالة تفضيل الوصي على النبي ، بل هو مؤيّد ومؤكّد للعكس ، ولذا أثبت الله الولاية لنفسه أوّلا ، ثم للنبي والوصي على الترتيب فقال :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥).

وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (٦).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (٧).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٣٧ ، ح ١٦ عن غيبة الطوسي : ص ١٦٠.

(٢) سورة الإنسان : ٣٠ وسورة التكوير : ٢٩.

(٣) سورة النور : ٥٤ وسورة العنكبوت : ١٨.

(٤) سورة الكهف : ٤٤.

(٥) المائدة : ٥٥.

(٦) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ١١.

(٧) رواه غير واحد من أعلام الفريقين من غير واحد من الصحابة والتابعين ، راجع عبقات

١٤٣

إلى غير ذلك من فحاوي الآيات والأخبار.

ومن هنا يظهر أنّ من أسخف الآراء وأضعف الأهواء مقالة قوم يزعمون أنّ أفضلية الولاية على النبوة تقتضي أفضلية الوليّ على النبي مطلقا ، ثم فرّعوا على ذلك كون مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام هو ولي الله وحامل الولاية المطلقة أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو حامل النبوة المطلقة لأنه قد ظهر بالنبوة ، وعليّ بالولاية ، والظاهر بالولاية أفضل من الظاهر بالنبوة ، بل ربما أيّده بعضهم بالحديث القدسي خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لولاك لمّا خلقت الأفلاك ، ولولا عليّ لما خلقتك» (١).

فإنه كما يقتضي شرافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من دونه من الأفلاك وغيره كذلك يقتضي شرافة أمير المؤمنين عليه‌السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ الأصل والظاهر جعل النسبتين من نوع واحد في الشرف والكرامة.

وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي! أنت مني بمنزلة الرأس من الجسد» (٢).

ولا شك أن الرأس أشرف من الجسد.

وبقوله : «يا علي! أنت نفسي التي بين جنبي» (٣).

ومن البيّن أنّ النفس أشرف من البدن ، وبما ظهر من أمير المؤمنين عليه‌السلام من المعجزات وخوارق العادات وغرائب الخطب والمراسلات ، وسائر الأطوار والعجائب ممّا لم يظهر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ادّعت جماعة فيه الربوبيّة دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطّأ آخرون جبرئيل في نزوله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم يقولون : إنه

__________________

الأنوار ، والغدير وغيرهما.

(١) جنّة العاصمة.

(٢) مشارق أنوار اليقين للبرسي عن سلمان وأبي ذر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ص ١٦١ وفيه : «أنت مني بمنزلة الروح والجسد» ، وفي البحار : ج ١٩ / ٨٢ : «أنت مني بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد».

(٣) في المشارق : ص ١٦١ «أنت روحي التي بين جنبي».

١٤٤

كان مأمورا بالنزول على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

إلى غير ذلك من الشبهات التي قد غطّت على بصائر معرفتهم ، ومدارك علومهم ، فضلّوا وأضلّوا كثيرا ، وضلّوا عن سواء السبيل.

لكن لا يخفى على المتأمل ضعف هذه الوجوه.

أما الأول : وهو تفضيل الولاية على النبوّة فلما سمعت من أنه كذلك إذا اعتبرنا هما في مرتبة واحدة كما إذا اعتبرت نبوة نبي بالنسبة إلى ولايته ، وأما بالنسبة إلى شخصين فلا يمكن الحكم بترجيح الولاية مطلقا ، إذ لكل منهما عرض عريض يعبّر كلّ مرتبة من إحداهما مع سابقة الأخرى ولاحقتها فكيف يحكم بالترجيح على الإطلاق ، سيما في مثل النبي ووصيه الذي هو بمنزلة حسنة من حسناته ، وهو المستمدّ بفضل نوره المتشعشع بشعاع ظهوره ولذا سمي بالبشر الثاني نظرا إلى أولية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم ، يظهر من بعض الأعلام (١) أنّ الترجيح في المقام إنما هو باعتبار الكميّة لا الكيفية فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له مقامان : مقام النبوة والولاية ، وهو جامع المرتبتين بخلاف الولي فإن له الولاية خاصة دون النبوة ، فالجامع بين الأفضل وغيره أشرف من المتفرد بواحد وإن كان أفضل ، فالنبي باعتبار الجامعية أفضل من الولي.

قال : «وإلى هذا المعنى يشير قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنا أصغر من ربي بسنتين» (٢) ، والمراد من الرب هو المربي ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) هو السيد كاظم بن قاسم الحسيني الجيلاني الرشتي ، كان من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي ، توفي سنة ١٢٥٩ ، ولا يخفى أن نقل هذا الكلام كان قبل ظهور انحراف المنقول عنه للناقل ، لأن مقامه أجل من أن ينقل ممن ظهر انحرافه ويعبر عنه ببعض الأعلام ، وإن كان ضعّف كلامه وردّ عليه كما سيأتي.

(٢) لم أظفر على مصدر له ، قال النراقي في مشكلات العلوم : ص ٢٠ : روي عن عليّ عليه‌السلام أنه

١٤٥

والسنة : المرتبة ، يعني هو جامع المرتبتين ، وأنا عندي مرتبة واحدة ، فهو أكبر بتينك المرتبتين وهاتان المرتبتان صارتا سببا لكونه أصغر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمرتبة فله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجامعية بخلافه عليه‌السلام.

لا كما يزعمون من أنّ الرب هو الله والمرتبتان هي الألوهية والنبوة (١).

فإن هذا الكلام باطل وقول مجتث ذابل ، لأن ذات الله لا تنسب ولا توصف ، ولا بينه وبين غيره نسبة واتصال». انتهى كلامه ملخصا.

وفيه ضعف ظاهر لأن قضيّة ما سمعت من الأخبار وفحاوي كلمات علمائنا الأخيار ، إنما هو أفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرتبة الولاية أيضا من حيث الإحاطة والتصرف وسبق الخلقة وشدة التوجه والاتصال كما مر الخبر في سبق خلقته بثمانين ألف سنة وإنّ مقام النبي مقام القدرة ومقام وصيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقام العظمية.

بل هذا القائل ذكر في موضع آخر : إن جلال القدرة التي هي الولاية الحقيقية إنما هي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنها قد ظهرت في أمير المؤمنين عليه‌السلام كما ظهرت الكواكب المدبرات والبروج والمنازل وساير المبادي في الكرسي دون العرش مع أنه أعظم وأقوى والكرسي حينئذ طائف حول جلال القدرة في عالم الظهور ، ولأن الفيوضات الواردة في العالم المنتشرة في أقطار الكرسي كلها من الكرسي وكان الكرسي لا يستمد إلا من العرش.

فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام نسبتهما في العالم الباطن نسبة العرش والكرسي ،

__________________

قال : «انا أصغر من ربي بسنتين» ثم احتمل له معنيين أولهما بعيد جدا ، وسأنقل كلامه إن شاء الله تعالى.

(١) لعل مراده من الزاعم هو المرحوم المهدي النراقي المتوفى (١٢٠٩) ه ، فإنه بعد ما نقل الحديث في «مشكلات العلوم» : ص ٢٠ ، وفسر السنة بالمرتبة قال : المراد من الرب إما ربه الحقيقي وهو الله سبحانه فالمراد أن جميع مراتب كمالات الوجود المطلق حاصلة لي سوى مرتبتين وهما : مرتبة الالوهيّة ووجوب الوجود ، ومرتبة النبوة ... إلخ.

١٤٦

فالعرش كان طائفا حول جلال القدرة قبل خلق الكرسي ، أي كان حاملا لولاية الله ، فلما خلق الله الكرسي ظهرت له إنيّته النورانية بظهور النفس القدسية المطمئنة ، فكانت سببا لتفاصيل ظهور الولاية الإجمالية التي كانت للعرش.

فالولاية ظهرت في الكرسي وثبتت الكرسي وبقي العرش على محض الرسالة والترجمة المعبر عنه بالنبوة.

وأما ما ذكره في معنى خبر أنا أصغر من ربي بسنتين ، فلعل الأمر بالعكس فإن المعنى الذي ذكره لا ينطبق على العبارة ، بل لا يساق مثل هذه العبارة لمثل ذلك المعنى ، سيما مع اختلافه في نفسه حسب ما سمعت.

نعم ، المنساق كونه فاقدا للمرتبتين : الألوهية والنبوة ، ولذا كانت الشهادة بولايته عليه‌السلام في المرتبة الثالثة من الشهادة ، وكان اسمه الشريف مكتوبا في السطر الثالث من العرش ، وكل ذلك لا يقتضي أنّ بينه وبين خالقه نسبة ولا اتصالا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، بل إنما هو لمجرد التعبير عن حقارة الصغير ، لا لتحديد الكبير كما لا يخفى على الخبير البصير.

واعلم أن هذا الخبر لم أظفر به في شيء من الأصول وكتب الأخبار ، ولا في شيء من مصنفات من تقدم من علمائنا الأخيار ، ولا بأس به بعد موافقة مؤداه لساير الآثار.

وأما الثاني : وهو خبر «لولا علي لما خلقتك» فلأن قصارى ما يدل عليه أنّ وجود أمير المؤمنين عليه‌السلام مما يتوقّف عليه وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأين هذا من الأفضلية ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان في مقام الولاية الكلية المطلقة العامة التشريعية والتكوينية ، ولذا كان حقيقة النعمة ومدينة الحكمة ، فلا يكاد ينتفع به أحد من الناس إلا بوساطة سفيره ووزيره وهو وصيه المتشعشع بشعاع نوره ، المتشخص بتجليات أنوار ظهوره ، ولولاه لم يصلح أحد من الأنام لنيل هذا

١٤٧

المقام ، فلم يكن حينئذ مخلوقا لهذا المقام الشامخ والقدر الباذخ ، ولذا عبّر عن تعيين وصيه بإكمال الدين وإتمام النعمة في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١) ، بل نفي مع عدمه التبليغ رأسا في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢).

وبالجملة مجرد التوقف لا يدل على الأفضلية ضرورة توقف الشيء على جملة من الأجزاء والشروط في التشريعيات والتكوينيات ، ألا ترى أن الصلاة أفضل من الوضوء مع توقفه عليه لقوله : «لا صلاة إلا بطهور».

وكذا القلب أشرف من الكبد من أنه لا ريب في توقف حياته بوجودها بل بوجود غيرها من الأجزاء الشريفة والخسيسة فمجرد التوقف لا يقضي بالأفضلية.

واعلم أن هذا الخبر أيضا لم أظفر به في شيء من الأصول والمصنفات ، وإن كان في بعض الأخبار ما يدل عليه كما في تفسير الإمام عليه‌السلام في حديث «الشجرة» التي انقلعت بأصولها وعروقها حتى دنت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونادت بصوت فصيح : «ها أنا ذا يا رسول الله ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعوتك لتشهدي لي بالنبوة بعد شهادتك لله بالتوحيد ثم تشهدي لعلي بالإمامة وأنه سندي ، وظهري ، وعضدي ، وفخري ، ولولاه لما خلق الله تعالى شيئا مما خلق ...» الخبر (٣).

وقضية العموم كما ترى شموله للنبي وغيره فيوافق ذلك الخبر أيضا.

وفي كتاب «رياض الجنان» في خبر طويل على ما رواه «البحار» وفيه :

«ثم قال سبحانه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعزتي وجلالي وعلو شأني لولاك ولولا علي وعترتكما الهادون المهديون الراشدون ما خلقت الجنة ولا النار ولا المكان

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٧ / ٣١٧ ، ح ١٤ ، عن تفسير المنسوب إلى الإمام عليه‌السلام.

١٤٨

ولا الأرض ولا السماء ولا الملائكة ولا خلقا يعبدني.

نعم ، سئل عنه الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي (المتوفى سنة ١٢٤٣ ه‍) ، فأجاب بقوله :

«اعلم أن صدر هذا الحديث مستفيض بل متواتر معنى لا يختلف في معناه أحد من المسلمين ، وأما عجزه فلم أقف عليه في كتاب ، نعم ، سمعناه من الأفواه بل منقولا عمن يعتمد علي قولهم ونقلهم.

أخبرني شيخي الشيخ محمد بن محسن بن الشيخ على القرني الأحسائي تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته ، وكان صادق الحديث ، قال : سئلت الشيخ الفاخر ، زبدة الأوائل والأواخر الشيخ الآقا محمّد باقر بن الشيخ محمد أكمل أكمله الله رفيع رتبته وقدس طيب تربته عن قول الله تعالى : «لولاك لما خلقت الأفلاك» وعن معناه.

فقال : هذا لا إشكال فيه وإنما الإشكال في تتمة الحديث وهو قوله : «لو لا علي لما خلقتك» وكلامه مع شدة فحصه في تصحيح الأخبار وجودة فكره وعظيم اطلاعه وسابقته في ذلك المضمار كالنص على ثبوته عنده ، وإن احتمل أنه إنما أورده كما سمعه إيرادا وإن لم يثبت عنده إلا من السماع الأفواهي إلا أن الأول هو الظاهر.

ثم ذكر فيه وجوها ذكر أن كلها مرادة لله تعالى :

أحدها : أن الله تعالى خلق محمدا وعليا من نور واحد فقسم ذلك النور قسمين ، فقال للقسم الأول : كن محمدا وللآخر كن عليا فيصدق أنه لو لا أحد القسمين لم يخلق القسم الآخر ، وإلا لم يكن الشيء شيئا وإلى ذلك أشار عليّ عليه‌السلام في جوابه لليهودي لما سئله من نصف الشيء فقال مؤمن مثلي ، فافهم.

ثانيها : أن العلة في خلق النبي من حيث هو نبي الإخبار عن الله والتبليغ

١٤٩

للرسالة فيما يحتاج إليها الخلق ، ولا ريب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك محتاج إلى وجود علي عليه‌السلام لأنه نصف النور الآخر وهذا قول علي عليه‌السلام في خطبته في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فعلّمني علمه وعلّمته علمي» (١).

ثالثها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث إنه بشير نذير يتوقف على هاد ومضل يعني على مورد وذائد وهو علي عليه‌السلام ، قال الله تعالى :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) وبيان هذا الحرف يوجب كشف الستر عن مفتاح من الألف الباب الذي كل باب ينفتح منه ألف باب بل ومن كل باب أيضا الف باب.

رابعها : أنه من حيث هو نبيّ لا بد له من آية تدل على نبوته وهي علي عليه‌السلام ، قال عليّ عليه‌السلام كما رواه الفريقان :

«الست آية نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وقال عليه‌السلام : «ليس لله آية أعظم مني» (٣).

خامسها : أنه قال : «يا علي! أنت مني بمنزلة الروح من الجسد ، وأنت نفسي التي بين جنبي».

وروى الفريقان أنه قال : «أنت مني بمنزلة الرأس من الجسد».

وقال تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (٤).

ولا ريب أن الروح والنفس والرأس يتوقف وجود الجسد عليه.

سادسها : أن النبوة مسبوقة بالولاية وهذا ظاهر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الظاهر

__________________

(١) الخطبة التطنجية نقلها صاحب الزام الناصب وعنه الدكتور عبد العلى گويا في شرحه على الخطبة ص ١٣٦.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) في ينابيع المودة : ج ٣ / ٤٠٢ : ما لله نبأ أعظم مني ولا لله آية أكبر مني.

(٤) آل عمران : ٦١.

١٥٠

بالنبوة وعلي عليه‌السلام هو الظاهر بالولاية ، ولا نبوة إلا بالولاية ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب التنزيل ، وعلي عليه‌السلام صاحب التأويل ، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت لواء الحمد وعليّ حامله» (١).

سابعها : أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث أنه خاتم النبيين يتوقف ختمه للنبوة على كون علي عليه‌السلام خاتم الوصيين ، إذ لو تختم الوصية لم تختم النبوة ، ولا يخفى في الظاهر أن الأمر في هذا الوجه على العكس ولكن في الحقيقة لا منافاة في كون المعلول علة لكون علته علة من باب التضايف إذ الشيء لا يكون علة إلا يكون المعلول معلولا له ، فافهم.

ثامنها : أن الأشياء كلها بحكم شيء واحد ، بل هو شيء واحد في الحقيقة يتوقف بعضها على بعض لكون العالي مجازا ودرجة لما تحته في الصعود ووسيلة له إلى المعبود ، وكون السافل مجازا للعالي ومظهرا في النزول ورابطة بين العلة والمعلول حتى أنه لو تغير البعض تغير الكل.

كما ورد في الخبر : أن نبيا من الأنبياء شكى بعض ما ناله من المكروه إلى الله تعالى ، فأوحى الله تعالى إليه : أتشكوني ولست بأهل ذم لا شكوى ، هكذا بدو شأنك في علم الغيب فلم تسخط قضائي عليك ، أتريد أن أغيّر الدنيا لأجلك أو أغيّر اللوح المحفوظ بسببك ، فأقضى ما تريد دون ما أريد ويكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأسلبنك ثواب النبوة ولأوردتك النار ولا أبالي.

الخبر فإنه صريح في توقف الأشياء بعضها على بعض». انتهى كلامه.

__________________

(١) في البحار ج ٣٩ ص ٢١٩ ح ١٣ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أعطيت في على خمس خصال ... الى أن قال : وأمّا الثانية فلواء الحمد بيده وآدم ومن ولد تحته.

١٥١

لكنه لا يخفى عليك أنّ هذه الوجوه مع ضعف بعضها ورجوع بعضها إلى بعض لا يحسم كلها مادّة الإشكال ، بل ربما يزيد في الإعضال ، نعم ، لا بأس ببعضها حسبما أشرنا إليه ، ومن جميع ما مر قد ظهر الجواب عن الثالث والرابع وهما الخبران.

وأما الخامس : وهو ما ظهر منه عليه‌السلام من المعجزات.

فاعلم أن كل ما صدر منه عليه‌السلام بل ومن غيره من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، فإنما هو تفصيل وبيان وشرح وظهور لشؤون خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه الفاتح الخاتم ، والشاهد على الجميع ، والمهيمن على ذلك كله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام باب مدينة علمه وفوارة ينبوع حكمته ، وهو لسانه الناطق عنه في أمته كما في قوله تعالى :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١).

عن الصادق عليه‌السلام أنّ اللسان هو أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) وهو يده الباسطة على الله تعالى بالنعمة والنقمة ، ولذا كان نعمة الله على الأبرار ونقمته على الفجار ، وهو نفسه في قوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (٣).

وأخوه في عقد المؤاخاة : «أنت أخي ووصيي وقاضي ديني ومنجز وعدي» (٤) وابنه لأنه من أمته وهو قاسم الجنة والنار ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو أمته فهو أبو

__________________

(١) مريم : ٩٧.

(٢) لم أظفر على مصدر لذاك الحديث ، نعم في تفسير القمي في ذيل آية ٥٠ من سورة مريم : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قال : يعني أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، حدثني بذلك أبي عن الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام.

(٣) آل عمران : ٦١.

(٤) بحار الأنوار ج ٣٨ ص ٩٠ ح ١٦٦.

١٥٢

القاسم كما في الخبر المذكور في «العلل» (١) وهو المرتضى منه المشار إليه بقوله :

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٢) ففي الخبر (٣) أنه المرتضى من الرسول.

بل هو النفس المضافة إلى الضمير المتكلم في قوله :

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤).

باعتبار كون الإضافة لامية واللام للتمليك كما سميت النفس الملكوتية بذات الله العليا.

وبالجملة كل ذلك ظهور وبروز لشؤون خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطوراته وتجلياته فهو الأصل القديم وخليفته الفرع الكريم ، ولذا ورد في زيارته : «السّلام على النور الشعشعاني والبشر الثاني».

وذلك لأن الإجمال أصل للتفصيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

«عود إلى المرام وختام للمقام».

قد سمعت أن الباء إشارة إلى مقام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهي الباب ، والحجاب ، والمبدأ والمآب ، وطريق الصواب ، ولب الألباب ، والشمس الساطعة من وراء السحاب ، ولها شؤون ربانية ، وقوى ملكوتية.

فهي للاستعانة لما مر من الخبر الدال (٥) على طوف مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء حول سرادق القدرة التي بها كان ما كان ، ووجد الأكوان والأعيان ،

__________________

(١) علل الشرائع ص ٥٣ ـ ٥٤ ومعاني الأخبار ص ٢٠.

(٢) سورة الجن : ٢٧.

(٣) تفسير فرات بن إبراهيم : ص ٥١١.

(٤) طه : ٤١.

(٥) تقدّم الخبر نقلا عن البحار ج ٢٥ ص ٢٢.

١٥٣

وهو الإنسان علّمه البيان ، فهو السبيل الأعظم ، والمنهج الأقوم ، به يفوز الفائزون ، وينجو الصالحون ، ويصل الواصلون ، وبه تمت الكلمة ، وعظمت النعمة ، وائتلفت الفرقة.

وهي للإلصاق لإيصال الفيوض الإلهية إلى الأرواح الملكوتية والأشباح الناسوتية ، فيعطى بإذن الله كل ذي حق حقه ، ويسوق إلى كل مخلوق رزقه ، ولإيصال الخلق إلى الله بحبل ولايته ، وعروة وثقى محبته ، وجذبة إحاطته وتصرفه ، فهو حبل الله المتين وجنبه المكين.

قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (١).

وقال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٢).

وللمصاحبة مع الله تعالى كما قالوا عليهم‌السلام : «إن قلوبنا أوعية لمشية الله ، فإذا شئنا شاء الله» (٣).

وقال عليه‌السلام : «ظاهري إمامة وباطني غيب لا يدرك».

ولمصاحبته مع الخلق كما قالوا : «إن لنا مع كل ولي لنا أذن سامعة وعين ناظرة».

وفي الخطبة النطنجية : «لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى وما تحت السابعة السفلى وما في السموات العلى وما تحت الثرى ، كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار» (٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) الزمر : ٥٦.

(٣) غيبة الشيخ الطوسي : ص ١٦٠ عن الإمام الحسن العسكري في جواب المفوضة ، وفيه : كذبوا ، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا والله يقول : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

(٤) على عليه‌السلام وخطبة تطنجية للدكتور عبد العلى گويا ص ١٦٧ عن الزام الناصب.

١٥٤

وللتعدية إذ به يصل الواصلون ويفوز الفائزون فإنّ كل ذرة من ذرأت الوجود لا تصل وصولا فعليا إلى حقيقتها الكمالية الإمكانية إلّا بنور الهداية وشرف الولاية ، فتتعدى اللوازم إلى إظهار مستجنات (١) الإمكان في عالم العيان في الأكوان والأعيان.

وللسببية ، فإنهم عليهم‌السلام أسباب كينونات العباد ، ووجوداتهم ، وهدايتهم إلى مصالح المعاش والمعاد ، ونزول البركات الدينية والدنيوية عليهم ، كما يستفاد ذلك كله من تضاعيف الأخبار المتواترة الدالة على بدو أنوارهم وأرواحهم ، وأنّ كل ما سواهم من الذوات والأنوار والخيرات والسعادات والبركات إنما خلقت من أشعة أنوارهم ، بهم فتح الله وبهم يختم ، وبهم ينزل الغيث وبهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، وبهم ينفس الهم ويكشف الضر ، وبهم علمنا الله معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا.

وفي «التوحيد» عن الصادق عليه‌السلام قال : «إن الله خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على عبادة بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدل عليه ، وخزاّنه في سمائه وأرضه ، بنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ، وجرت الأنهار ، وبنا نزل غيث السماء ، ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله ، ولو لا نحن ما عبد الله» (٢).

والأخبار بهذا المضمون كثيرة لا تحصى مذكورة في «البحار» وغيره.

قال مولانا محمد صالح المازندراني طاب ثراه في شرح قوله عليه‌السلام : «بنا أثمرت الأشجار» : أي بوجودنا وبركتنا أو بأمرنا صارت الأشجار مثمرة.

__________________

(١) مشارق الأنوار : ١٦٧.

(٢) توحيد الصدوق : ص ١٤٠ ـ ١٤١ وعنه بحار الأنوار : ج ٢٤ / ١٩٧.

١٥٥

أما الأول : فلأن وجودهم سبب لبقاء نظام العالم ، فلو لم يكن وجودهم لم يكن عالم ولا نظام ولا أشجار ولا أثمار.

واما الثاني : فلأنهم المدبرون في هذا العالم بإذن ربهم.

أقول : ولعل الأولى ترك التقييد بهذا العالم في كلامه الأخير لما ورد من انهم الحجج لله سبحانه على خلقه في جمع العوالم التي ورد في بعض الأخبار أنها ألف ألف عالم على ما يأتي في تفسير قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ).

وبالجملة فهم المقصود في جميع النشئات والعوالم ، ولذا خوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لولاك لما خلقت الأفلاك» (١).

وبقوله : «خلقتك لأجلي وخلقت الأشياء لأجلك».

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبة المذكورة في «نهج البلاغة» :

نحن «صنائع الله والخلق بعد صنائع لنا أو صنائع الله لنا» (٢).

وإن كانت العبارة أيضا صالحة للإشارة إلى كونهم العلة الفاعلية.

وفي الخبر المذكور في كتاب «الأنوار» على ما حكاه في البحار عن مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء : «إنّ نور نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقي الف عام بين يدي الله عزوجل واقفا يسبّحه ويحمده والحق تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول : يا عبدي أنت المراد والمريد وأنت خيرتي من خلقي ، وعزتي وجلالي لولاك لما خلقت الأفلاك» (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ / ٢٨ وج ٥٧ / ١٩٩ وفيه «لولاك ما خلقت الأفلاك» من غير اللام.

(٢) نهج البلاغة : الكتاب ٢٨ ، وفيه : فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا. وفي البحار ج ٣٥ ص ١٧٨ عن الاحتجاج من توقيع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف : وفخر صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٥ / ٢٨ ، وفيه : «لولاك ما خلقت الأفلاك»

من غير اللام.

١٥٦

وما ذكرناه من معاني حرف الباء أنموذج يظهر لك باقي معانيها وأمير المؤمنين عليه‌السلام هو غيب ذلك كله وحقيقته ومبدؤه وأصله ومنشؤه.

وإليه الإشارة بقوله : «أنا النقطة تحت الباء» أي غيبها وسرها المستتر المقنع بالسر وحقيقتها المحجوبة في ذاتها المتنزلة إلى عالم الناسوت ، إذ ليس المراد هو النقطة الواقعة تحت حرف الباء بالمداد والسواد بحيث نميز الباء عن التاء والثاء والياء ، فإنها حدود عرضية وصفات خارجية وعلامات مميزة لا دخل لها في جوهر الذات ، بل المراد أنّ الوحدة إما وحدة حقية لا تعرّف بكمّ ولا كيف ولا جهة ولا إضافة ولا ذات ولا وصف ولا نعت ولا حقيقة ولا اعتبار ، بل هو الواجب الحق والمجهول المطلق من حيث الذات لا من حيث الآثار ، ولذا ينبغي قطع الطمع عن التكلم فيه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وإمّا وحدة خلقية ولها تجليات ومظاهر في جميع العوالم المرتبة في السلسلة الطولية من الدرّة إلى الذرّة ففي عالم الجبروت هي الوحدة وهي المشية الكلية ، ونور محمد وعلي عليهما‌السلام ، وهذه الوحدة لا تزال تتنزل من عالم إلى عالم حتى تظهر في عالم الحروف الكتبية المنقوشة في الألواح والسطور بالنقطة التي هي أصل كل الحروف.

فإن أوّل ما يقع القلم في اللوح تظهر النقطة ولو قبل الجريان ، فتظهر هي بنفسها وتتجلى ساير الحروف بها فهي آية نقشية ناسوتية المشية الكلية الإلهية ، كما قال عليه‌السلام : «خلق الله المشية بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشية» (١).

ثم اعلم أن الحروف تنقسم إلى حروف كتبية ولفظية ونفسية ، فالباء مثلا لها صورة كتبية منقوشة بالأقلام على الألواح ، وصورة لفظية حاصلة من تقطيع الهواء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٤٥ ، عن توحيد الصدوق عن الصادق عليه‌السلام.

١٥٧

الخارجة بالاستنشاق عند مخرج ذلك الحرف المركب من مادة وصورة فمادته هي الهواء الخارج وصورته اعتماده وتقطيعه عند خصوص مخرجه.

ولا ريب أن الباء المعبّر بها عن الباب الأقدم والحجاب الأعظم مخرجها باب الفم وهو الشفه لأن الله تعالى اخترعها بالخطاب الفوهاني الشفاهي بل لا يمكن التكلم إلا بعد انطباق الفم ، لأنه النور الفاتق لظلمة العدم.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (بولاية أمير المؤمنين) (أَنَّ السَّماواتِ) (سموات العقول والمجردات) (وَالْأَرْضَ) (أرض النفوس والماديات) (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١) بنور المشية الذي هو الفيض الأول ، والنور الذي أشرق من صبح الأزل وهو الماء المطهر النافذ في العمق الأكبر ولذا قال :

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٢).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) (وهي أرض الإمكان) (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٣).

__________________

(١) الأنبياء : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

(٣) السجدة : ٢٧.

١٥٨

الفصل الثاني

في الاسم

اعلم أن الناس اختلفوا في اشتقاق الاسم :

فعن الكوفيين : أنّ أصله (وسم) حذفت الواو وعوّضت عنها همزة الوصل ليقلّ إعلاله ، إذ بزيادة الهمزة ينجبر النقصان إذ الحذف يوجب مع انعدام خصوصية الحرف نقصان كمية ما تركبت منه وبالتعويض ينجبر الثاني.

وردّ بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم المطرد فيه تعويض الهاء في الآخر كما في (وعد) إذ لم يقولوا (أعد) بل قالوا (عدة) ، كما أن المطرد فيما حذف عجزه تعويض الهمزة ، كما في (ابن وأخواتها).

وفيه بعد تسليم اطراد القاعدة في المقامين أنّ قضيتها في المقام (سمة) وقد استعملت أيضا كما في الخبر عن الرضا عليه‌السلام في تفسير بسم الله قال «أسم نفسي بسمة من سمات الله» (١).

غاية الأمر أنه استعمل في المقام على وجه آخر أيضا استعمالا شايعا ، كما أنه استعمل بدون العوض أيضا ، إذ ذكروا أن من لغاته (سم وسم) بالكسر والضم ، كقول رؤبة (٢) :

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ / ١١ ، ح ٣١ عن عيون الأخبار.

(٢) هو رؤبة بن عبد الله بن الحجاج بن رؤبة التميمي من الفصحاء المشهورين ومن مخضرمي الدولتين : الأموية والعباسية ، توفي سنة (١٤٥) ه ـ الأعلام : ج ٣ / ٦٢.

١٥٩

باسم الذي في كل سورة سمه

أرسل فيها باذلا يقرمه

وقيل : إنه لا حذف ولا تعويض وإنما قبلت الواو همزة كإعاء وإشاح ، ثم كره استعماله فجعل همزته همزة وصل فوزنه (فعل) لا (أعل).

وعن البصريين : أنه من (السمو) لأنه رفعة للمسمى وشعار له ، فأصله (سمو) بسكون العين مع كسر الفاء أو ضمه لا فتحه ، لأنه لا يجمع على أفعال.

قالوا : وهي من الأسماء العشرة التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال وهي (اسم واست وابن وابنه وابنم ، واثنان ، واثنتان ، وإمرأ ، وامرأة ، وأيمن) قسما فبنيت أوائلها على السكون ، فتوصلوا إلى الابتداء بها بهمزة الوصل حذرا من الابتداء بالسكن المستحيل عند بعضهم المستنكر عند آخرين ، وربما استشهدوا بشيوع استعماله في جمعه الأسماء والأسامي.

لكن عن «الصحاح» و «القاموس» أن الثاني جمع الجمع وفي تصغيره سمي وفي إسناد الفعل الضمير الحاضر سميت ، ومجيئ سمى كهدى لغة فيه كما أنشدوا :

والله أسماك سما مباركا

آثرك الله به تباركا

وإن قيل إنّه لا حجة في هذا الأخير لاحتمال أنه على لغة من قال (سم) ونصبه لوقوعه مفعولا.

وبالجملة قضية التصاريف المتقدمة كونه مأخوذا من (السمو) إذ لو كان معتّل الأول كما قال الكوفيون لقالوا في جمعه (أوسام) وفي تصغيره (وسيم) وفي الإسناد (وسمت) وتوهم حصول القلب المكاني فيها بأن يقال : أصل (أسماء أوسام).

وهكذا البواقي مع بعده لكونه خلاف الأصل مردود بأنه غير مطرد في ساير صيغ الاشتقاق ومن هنا يتجه أن الأشبه بقواعد الاشتقاق هو الثاني.

١٦٠