تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

وعلى كلّ حال فالحقّ جواز اشتقاقه من كل منها ، بل الجميع على فرض التغاير بناء على عموم المجاز ، أو استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد.

ومن هنا ذكر بعض الأجلّة أن التحقيق على ما يظهر من جملة الأخبار هو أن في اشتقاق اللفظة المقدسة لوحظ جميع هذه المعاني ليذهب الذهن منه إلى كل مذهب ، وهذا من خواص ذلك الاسم الشريف.

ذكر في «مجمع البيان» : «أن معنى (الله) و (الإله) الذي تحق له العبادة ، وإنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بما يستحق به العبادة ، وهو تعالى إله للحيوان والجماد ، لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة.

فأما من قال : معنى الإله هو المستحق للعبادة فيلزمه أن لا يكون إلها في الأزل ، لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ (١).

أقول : والظاهر أنّه أراد أنّ إطلاق الألوهية إنما هو باعتبار القدرة التي هي من صفات الذات ، سواء تعلقت بابتداء الخلق أو بالإنعام على المخلوق ، لكنه لا يخفى أنّ الفرق غير (٢) ظاهر بين من تحقّ له العبادة وبين المستحقّ للعبادة ، حيث اثبت الأول ونفى الثاني.

اللهم إلا أن يقال : إنه باعتبار التعبير بالثاني من الصفات الفعلية وهي الربوبية إذ مربوب ، وبالأول من الصفات الذاتية وهي الربوبية إذ لا مربوب.

إلّا أنّ العبارة لا تساعده ، بل لعلّ اقتصاره على ما ذكره متعلقا للقدرة لتوهّم أنّ غيره غير محتاج في بقائه إلى الفيوض الإلهية والإمدادات الغيبية ، وهو غريب

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢١.

(٢) الفرق ظاهر لأنّ الأوّل من له الحق سواء طلب حقّه أم لا وأمّا الثاني فهو من له الحقّ وطلب حقّه فإنّه من باب الاستفعال.

٢٢١

جدّا وكون التعرض له على وجه المثال يردّه التفكيك في العبارة.

وما أشبه هذا الكلام بالكلام المحكي عن السيد المرتضى (١) الدالّ على أنّ المركبّات محتاجة في بقائها إلى المدد ، والجوهر الفرد والأعراض غير محتاجة إليها ، حيث قال ما عبارته المحكية : ويوصف بإله بمعنى أن العبادة تحق له ، وإنما تحق له العبادة لأنه القادر على خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بالنعم التي يستحق بها العبادة عليها ، وهو تعالى كذلك فيما لم يزل.

ولا يجوز أن يكون إلها للأعراض ولا الجواهر الآحاد لاستحالة أن ينعم عليها بما يستحق به العبادة وإنما هو إله للأجسام الحيوان منها والجماد ، لأنه تعالى قادر على أن ينعم على كل جسم بما معه يستحق العبادة إلى آخر ما ذكره.

إيراد مقال لدفع إشكال

استشكل بعض الأجلة (٢) فيما يعزى إلى الأكثر من اشتقاق هذا الاسم من أله بالفتح كعبد وزنا ومعنى الهة كعبادة بأن الظاهر من الأخبار بل صريحها خلافه.

ففي الخطبة الرضوية المذكورة في «توحيد الصدوق» له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، ومعنى الإلهية (٣) إذ لا مألوه ، ومعنى العالم إذ لا معلوم (٤) ، ومعنى الخالق إذ لا مخلوق (٥) ، وتأويل السمع إذ لا مسموع (٦)» (٧).

__________________

(١) الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي نقيب الطالبيين بالعراق ورئيس الإمامية في عصره ، توفي سنة (٤٣٦) وله (٨١) سنة. ـ العبر : ج ٣ / ١٨٦.

(٢) هو على ما حكى عن المصنف القاضي سعيد القمي المتوفى (١١٠٧) ه. ذكر الإشكال في أربعينه.

(٣) في البحار : وحقيقة الإلهية.

(٤) في البحار : ولا معلوم.

(٥) في البحار : ولا مخلوق.

(٦) في البحار : ولا مسموع.

(٧) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢٢٩ ، ح ٣ عن التوحيد والعيون.

٢٢٢

وهو صريح في أنّ المألوه بمعنى العابد لا بمعنى المعبود ، كما في أخواتها.

وفي «الكافي» في خبر هشام : «الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها» (٨).

والإله لما كان بمعنى المعبود ، والعبادة من الأمور النسبية التي لا بد معها من المنتسبين ، فالمعبود يقتضي عابدا ، فيكون المألوه بمعنى العابد ، ويؤيده قوله بعد ذلك : «فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر» (٩).

وأجيب بوجوه : أحدها ما ذكره الصدر الأجل الشيرازي قدس‌سره من أن الإله مصدر بمعنى المفعول أي المألوه وهو الحق.

وقوله : الإله يقتضي مألوها معناه أنّ هذا المفهوم المصدري يقتضي أن يكون في الخارج موجود هو ذات المعبود الحقيقي ، ليدلّ على أنّ مفهوم الاسم غير المسمّى ، ولذا عقّبه بقوله : والاسم غير المسمّى.

وتبعه في ذلك صهره المحدّث الكاشاني واعترض بانّ حاصل المعنى حينئذ هو أنّ المألوه يقتضي مألوها ، ومثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل الإمام عليه‌السلام.

ثمّ على تسليم أنّ المراد بالمألوه في الأوّل الاسم ، وفي الثّاني الذّات ، فللخصم أن يقول : لا نسلّم ذلك الاقتضاء ، فإنّ كثيرا من الأسماء المتداولة بين الجمهور لا ذات لمسمّاها ، ولا تحقّق لمعناها كعنقاء المغرب وأمثاله.

وفيه أنّ التّغاير المشار إليه في الجواب من حيث المفهوم والمصداق كاف في انسياق الكلام له ، بل الظّاهر من مساق الخبر بيان مغايرة اللّفظ للمعنى ، وأنّ الأوّل يدلّ على الثّانى ، حيث قال : «فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم

__________________

(٨) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٥٧ ، عن الاحتجاج.

(٩) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٥٧ ، عن الاحتجاج.

٢٢٣

والمعنى فقد عبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التّوحيد» (١).

ثمّ استدلّ عليه‌السلام بأنّ لله تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها ، ولكنّ لله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ، وكلّها غيره ، ثمّ تمثل لذلك بانّ الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثّوب اسم للملبوس ، والنّار اسم للمحرق.

ومن البيّن أنّ ظاهر صدر الخبر فضلا عمّا ذيّله به من الدليل والتّمثيل بيان مغايرة اللفظ للمعنى ، والاسم للمسمّى ، ردّا على من توهّم الاتّحاد فيهما على ما مرّت الاشارة إلى الكلام في أصل المسألة.

ومن هنا يضعّف ما ذكره شيخنا البهائي في كشكوله من أنّ أصحاب القلوب على أنّ الاسم هو الذّات مع صفة معيّنة وتجلّى خاص ، وهذا الاسم هو الّذى وقع فيه التّشاجر أنّه هل هو عين المسمّى أو غيره وليس التّشاجر في مجرّد اللّفظ كما ظنّه المتكلّمون فسوّدوا قراطيسهم وأفنوا كرابيسهم بما لا يجدي بطائل ولا يفوق العالم به على الجاهل.

إذ فيه أنّه مخالف لظاهر الخبر وغيره على ما مرّ بل قد سمعت حكايته عن القيصري أيضا ولقد أجاد الفاضل المازندراني حيث قال في شرح قوله : وإله يقتضي مألوها اى متحيّرا مدهوشا في أمره أو متعبّدا له أو مطمئنّا بذكره أو معبودا وهو الأنسب بقوله في الاسم غير المسمّى.

ثانيها : ما ذكره صهره المحدّث الفيض رحمه‌الله من احتمال جعله بفتح الالف وسكون اللّام مصدر اله بالفتح إلها بالسّكون بمعنى العبادة ، ثمّ قال : إنّ العبادة يقتضي أن يكون في الموجودات ذات معبود ، ولا يكفى فيه مجرّد الاسم من دون

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ١٥٧.

٢٢٤

أن يكون له مسمّى.

حكاه عنه تلميذه القاضي سعيد القمى قدس‌سره واعترضه أوّلا بانّه لم يجيء في اللّغة اله بفتح الألف وسكون اللّام مصدر اله بمعنى عبد ، وما نقل هو من الصّحاح من قوله اله بالفتح الهة اى عبد عبادة فانّما هي إلهة بكسر الهمزة وفتح اللّام مع الألف كما صرّح به شيخنا البهائي وصاحب مجمل اللّغة وأكثر أئمّة اللّغة نعم إنّما جاء بفتح الألف وإسكان اللّام مصدر اله بمعنى تحيّر.

وثانيا : بانّه لمانع أن يمنع ذلك الاقتضاء إن أراد انّ العبادة أى وقوعها يقتضي معبودا حقيقيّا ، وإن أراد مطلق المعبود فلا مانع من الاقتضاء ولا يجدي نفعا.

قلت : يمكن دفع الثّانى على تكلّف لكن لا وجه لالتزامه ، كما لا وجه لتكلّف جعله بفتح الهمزة وسكون اللّام ، ولو على فرض جوازه لشذوذه ، بل الظّاهر كونه بكسر الهمزة وفتح اللّام بعدها ألف ومنه قراءة مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ويذرك والهتك اى عبادتك حسبما مرّ فحذفت منها التّاء.

ثالثها ما ذكره القاضي الماضي ذكره انّه ممّا ألهمنى الله معتضدا بالعقل الصّريح والوجدان الصّحيح وهو أنّ الإله فعال مشتقّ من أله بالفتح بمعنى عبد على صيغة المجهول ، كولع بمعنى أولع ، وأمثال ذلك كثيرة كما هو غير خاف على من له تدرّب في العلوم الأدبيّة ، ولا ريب أنّ صيغة المفعول للفعل الّذى معلومه بمعنى مجهول فعل آخر يكون ذلك المفعول بمعنى صيغة الفاعل من هذا الفعل الاخر ، لأنّ اسم الفاعل بمنزلة الفعل المعلوم واسم المفعول بمنزلة الفعل المجهول ، وأيضا إذا كان الفعل المعلوم بمعنى فعل مجهول متعدّ معلوم ذلك المجهول إلى مفعول واحد فيجيب بالضّرورة أن يكون الفعل المعلوم الأوّل لازما ، ولا شكّ أنّ اسم الفاعل والمفعول في الأفعال اللازمة يكونان بمعنى واحد ولهذا اكتفوا في تلك الأفعال اللّازمة بواحد من اسمى الفاعل والمفعول حسبما اقتضاه ذلك الفعل ، ففي مثل اليافع

٢٢٥

والمائت اجتزوا باسم الفاعل ، وهو بمعنى المفعول حقيقة وفي نحو المشعوف والمنهوم اكتفوا باسم المفعول أى ذو الشّعف والنّهمة أو الّذي أظهر الشّعف والحرص على الشّيء ، ومن الدّليل على أنّ اله بمعنى عبد على صيغة المجهول أنّ مصادرها مقابلة لمصادر عبد بصيغة المعلوم كالألوهيّة والالوهة والإلهة بضمّ الهمزة في الأوليين وكسرها في الأخيرة وفي قراءة ابن عباس ويذرك وإلهتك ، اى الوهيّتك.

وبالجملة على ما حقّقنا يكون الإله فعالا بمعنى المعبود ، وأمّا المألوه فهو بمعنى الّذى له الأله فيكون بمعنى العابد.

وقال ابن العربي في الفصوص : لولا مألوهيّتنا لم يكن إلها يعنى لولا عابديّتنا لم يكن معبودا بالفعل ، كما انّه لولا مرزوقيّتنا لم يكن رازقا بالفعل ، إذ الألوهيّة معنى نسبّى لا يتحقّق إلّا بالمنتسبين كما مرّ في الخبر المتقدّم في قوله والإله يقتضي مألوها ثمّ قال فاحتفظ بذلك فانّه من الإلهامات ولم ينل إليه أيدى الطّلبات.

أقول لا يخفى أنّ الاشتقاق من الأفعال المجهولة لكونه على خلاف الأصل والقياس مقصور على السّماع المفقود في مثل المقام ، بل الظّاهر اختصاصه بالأفعال الّتي تستعمل مجهولا دائما أو غالبا.

قال في القاموس عنى بالضمّ عناية وكرضى قليل فهو به عن ، إلخ.

على أنّ اشتقاق الوصفين معا من مثل هذا الفعل غير معهود كي يكون المفعول من المجهول بمعنى الفاعل من المعلوم ، سيّما في هذه المادّة الّتي اشتقّوا ما اشتقّوا من معلومها.

وبالجملة لا داعي للالتزام بمثل هذا التكلّف في الجواب بعد وضوح الجواب من الخبرين ، إمّا من قوله له معنى الالوهيّة إذ لا مألوه ، فلأنّ المراد بالمألوه من له

٢٢٦

الأله كما صرّح به المجلسي في البحار (١) بل هذا الفاضل في كلامه المتقدّم.

وامّا من الخبر الثّاني فلما أشرنا إليه في الجواب الأوّل.

كما أنّه لا داعي لما تكلّفه القيصري في توجيه ما ذكره ابن العربي في الفصوص من أنّ الألوهيّة تطلب المألوه والرّبوبيّة تطلب المربوب حيث قال : إن الشيخ يستعمل المألوه في جميع كتبه ويريد به العالم واللّغة يقتضي أن يطلق على الحقّ إلّا في بعض معانيه لاشتقاقه من اله إلهة بمعنى العبادة والفزع والالتجاء والثّبات والسكون والتحيّر ، ولا ريب أنّ المعبود والمفزع والمسكون إليه هو الحقّ والمتحيّر والمثبت هو العالم ، ثمّ قال ويمكن أن يستعمل لغة في معان أخر تليق بالعالم.

أقول وبما ذكرنا في توجيه الخبر المتقدم يظهر وجه كلام شيخة بحيث لا حاجة إلى التزام استعمال اللّفظ في المعاني الشّاذة الّتي لا يكاد ينساق إلى الذّهن إلّا بعد نصب القرينة المفقودة في المقام.

تنبيه

ربما يقال إنّ هذا الاسم العظيم هو الاسم الأعظم لاختصاصه بمزايا خواص لا توجد في غيره ، ولتقدّمه على جميع الأسماء الكريمة الواردة في الكتب الإلهيّة وعلى ألسنة الرّسل ، ولذا يوصف بالجميع ويقدّم عليها ، ولا يوصف شيء منها به.

ولدلالته على الذّات المستجمع لصفات الكمال بحيث لا يخرج من تحت حيطته شيء من الصّفات الجماليّة والجلاليّة ، ولذا يشار بغيره من الأسماء إلى شيء منها.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ١٥٩ في ذيل ح ٢.

٢٢٧

ولاشتهاره بلفظه بين جميع الأمم والطّوائف والملل مع اختلاف ألسنتهم وأديانهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١).

ولتكرّره في كتاب الله المجيد المهيمن على غيره من الكتب أكثر من غيره من الأسماء حتّى قيل : إنّ عدده فيه مع ما في البسملة ألفان وثمان مائة واثنا عشر ، وليس لغيره من الأسماء هذا العدد في كتاب الله.

ولإناطة التوحيد عليه في كلمتي الشّهادة لا اله الّا الله محمّد رسول الله.

ولانتساب أشرف الأنام إليه في أشرف أسمائه وهو عبد الله ولذا قدّمه على الرّسالة في التّشهّد : وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.

ولما يستأنس له من بعض الأدعية الدّالة عليه كقوله عليه‌السلام في دعاء سحر وايّام شهر رمضان اللهم إنّى أسئلك بما تجيبني به حين أسئلك به فأجبني يا الله ، وفي بعضها نعم دعوتك يا الله إلى غير ذلك من التّقريبات الّتي لا تحقيق معها لأصل القصد الّذي هو أنّ الاسم أعظم هل هو من سنخ الألفاظ ومن عالم الحروف والكلمات كما هو ظاهر الأكثر بل صريح غير واحد من المحقّقين أو أنّه من عالم المعاني والمراتب الكونيّة كما يظهر من البعض ، بل لعلّه الظّاهر ممّن ينفى الأعظميّة في الأسماء كالطريحى وغيره ولذا قد ينزّل عليه ما ورد من أنّه تعالى خلق اسما بالحروف غير مصوت (٢) ، وباللّفظ غير منطق ، وبالشّخص غير مجسّد ، وبالتّشبيه غير موصوف ، وباللّون غير مصبوغ منفيّ عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، ومحجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، إلخ (٣).

وذلك لما قد يقال من أنّ كلّ ما خلقه الله تعالى فانّما هو من أسمائه بما توسّم

__________________

(١) الزمر : ٣٨.

(٢) في البحار عن التوحيد : بالحروف غير منعوت.

(٣) بحار الأنوار : ٤ / ١٦٦ ح ٨ عن التوحيد.

٢٢٨

به من اثار الصّنع ودلائل التّربية وكلّها من حيث انتسابها إلى الله العظيم عظيمة كما إليه الاشارة في بعض الآيات والاخبار والأدعية سيّما في جميع فقرات دعاء سحر شهر رمضان وذلك لأنّ الله سبحانه عظيم لا يصدر عن العظيم الّا العظيم فكلّ شيء خلقه الله تعالى وجعله لنفسه اسما ودليلا وآية إنّما خلقه على وجه العظمة لا غير ، فليس معنى الدّعوة بالاسم الأعظم أنّ الاسم على قسمين أعظم وغير أعظم ، بل المراد أنّ دعوة الدّاعى بالاسم تكون على قسمين : قسم يصرف الدّاعى هذا الاسم الّذي يدعو به على ما هو عليه من العظمة والجلالة ورتبته من الوجود بل يتحقّق بحقيقته الّتي خلقه الله تعالى عليها ، وقسم يضلّ وفيه ولا يهتدى اليه ولا يعرفه على ما هو عليه من الجلالة والعظمة.

أقول الظّاهر أنّه لا مجال إلى إنكار الاسم الأعظم من حيث اللّفظ لدلالة ظواهر كثير من الأخبار عليه واشتهاره بين الأصحاب ، بحيث قد يدّعى قيام ضرورة المذهب بل الدّين عليه ، نعم قد سمعت انقسام الأسماء إلى الأقسام الأربعة ، والظّاهر اشتمال كلّ منها على العظيمة وغيرها فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه الطّيبّون عليهم‌السلام هم أعظم الأسماء الالهيّة ، ولذا ورد أنّهم الأسماء الحسنى والأمثال العليا كما في الجامعة الكبيرة وكثير من الأدعية ، ولهذا ينكشف بعض الاستتار عن وجوه بعض الأخبار.

ففي البصائر عن مولينا أبى جعفر عليه‌السلام قال : إنّ اسم الله الأعظم على ثلاثة وتسعين حرفا وانّما عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ، ثمّ تناول السرّير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله استاثر به

٢٢٩

في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّى العظيم (١).

وفيه عن الصّادق عليه‌السلام قال : إنّ الله عزوجل جعل اسمه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا فأعطى آدم منها ستّة وعشرين حرفا ، وأعطى نوحا منها خمسة وعشرين حرفا ، وأعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف ، وأعطى موسى منها أربعة أحرف ، وأعطى عيسى منها حرفين ، وكان يحيى بهما الموتى ، ويبرئ بهما الأكمه والأبرص ، وأعطى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنين وسبعين حرفا واحتجب حرفا لئلّا يعلم ما في نفسه ، ويعلم ما في نفس العباد» (٢).

وظاهر هذه الأخبار هو الاسم اللفظي ، وإن قيل بجواز حمله على الكوني أيضا ، ويدل على ما ذكرناه مضافا إلى ذلك ، والأخبار المختلفة في تعيين الاسم الأعظم.

فعن الصادق عليه‌السلام قال : «بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها» (٣).

وعن الرضا عليه‌السلام : «إنه أقرب إلى الاسم الأعظم من بياض (٤) إلى سوادها» (٥).

وعن مولانا الباقر عليه‌السلام : «حدثني أبي عن جده أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة ، فقلت له : علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء ، فقال : قل : يا هو يا من لا هو إلا هو ، فلما أصبحت قصصت ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا علي علّمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢١٠ عن البصائر.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ / ٢١١ ، ح ٥ ، عن البصائر.

(٣) البحار : ج ٧٨ / ٣٧١ ، ح ٦.

(٤) في البحار : من سواد العين إلى بياضها.

(٥) البحار : ج ٩٣ / ٢٢٣.

٢٣٠

وكان يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد ، فقال له عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال : اسم الله الأعظم» الخبر (١).

وفي «المشارق» أنّه لمّا دخل مولانا الصادق عليه‌السلام على داود قاتل المعلّى بن خنيس فقال :

«يا داود! قتلت مولاي ووكيلي ، وما كفاك القتل حتى صلبته ، والله لأدعونّ عليك فيقتلك الله كما قتلته».

فقال داود : أتهدّدني بدعائك؟ أدع الله فإذا استجاب لك فادعه عليّ ، فخرج أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا ، فلما جنّ الليل اغتسل واستقبل القبلة ثم قال :

«يا ذا يا ذي يا ذوات إرم داود بسهم من سهام قهرك تقلقل به قلبه» ثم قال لغلامه : «أخرج واسمع الصائح» ، فجاء الخبر أنّ داود قد هلك ، فخرّ الإمام عليه‌السلام ساجدا وقال :

«لقد دعوت بثلاث كلمات لو قسمت على أهل الأرض لزلزلت بمن عليها» (٢).

قلت : ولعلّ ذا إشارة إلى الله سبحانه الحاضر القريب الذي لا أقرب منه من حيث حضوره وظهوره وتجلّيه في كل شيء بفعله وصنعه ونوره ، وذي إشارة إليه من طريق النفس التي هي أعظم آية وأقرب لها إليه ، إذ ليس شيء أقرب ولا أدلّ من نفس الشيء عليه.

والذوات إشارة إليه من طريق جميع الذوات التي هو سبحانه مذوتّها (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٢٣٢ ، ح ٣ ، عن التوحيد.

(٢) مشارق الأنوار : ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) البقرة : ١١٥.

٢٣١

وعلى كلّ حال فليكن هذا الإجمال على ذكر منك حتى نفصّل الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق الاسم الأعظم ومعنى أعظميته وأنّ الاستجابة به مشروطة بشرط أم لا في موضع أليق على وجه أتم.

نعم ، مما ينبغي التعرض له في المقام اختصاص هذا الاسم الشريف وهو (الله) بمزايا لا توجد في غيرها وقد أشار إلى بعضها بعض المحققين.

منها : أن جميع أسماء الحق تنسب إليه ، ولا ينسب إلى شيء منها كما نسب سبحانه في قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١) جميع الأسماء إليه ، فكأنه عنوان ولو في الجملة لغير من الأسماء.

ومنها : أنه لم يسمّ به أحد من الخلق لا تسمية ولا توصيفا لقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) وقد مرّ تمام البحث فيه.

ومنها تعويض الألف واللام فيه من الهمزة المحذوفة عند من يرى أن أصله إله كما هو الحق المستفاد من الأخبار المتقدمة ، ولم يعوض في غيره أداة التعريف عن المحذوف.

قال في «المجمع» حكاية عن أحد قولي سيبويه أن أصله إله فحذفت الفاء التي هي الهمزة وجعلت الألف واللام عوضا لازما عنها ، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء نحو قولهم : أفالله لتفعلن ، ويا الله اغفر لي ، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل (٢).

ومنها : أنهم جمعوا فيه بين أداة التعريف وحرف النداء عند كونه مناديا ، ولم يرد ذلك في غيره إلّا شاذا في ضرورة الشعر كقوله :

__________________

(١) الأعراف : ١٨٠.

(٢) مجمع البيان : ج ١ / ١٩ ، في تفسير البسملة.

٢٣٢

فيا الغلامان اللذان فرّا

إيّاكما أن تكسبانا شرا (١)

ولذا قيل : إن من قال : إنّ لفظة الجلالة من الأعلام الواقعة على سبيل الارتجال من غير أن يؤخذ من أصل آخر وأنّ الألف واللام فيه جزء اللفظ لم يرد عليه الاعتراض بنداء ما فيه الألف واللام.

وأما من يقول : بأن الألف واللام فيه للتعريف فقد أجابوا عن الاعتراض بأن اللام فيه بمنزلة الأصل ، للزومها وكونها عوضا عن الهمزة التي هي فاء.

أو لأن النداء فيه أكثر من غيره فخفّفت بحذف الوصلة بدخول كلمة (أل) ولم يخفف بانتزاع اللام لأنه يفضي إلى تغيّر الاسم وزوال ما قصد به التعظيم.

أو لأنهم كرهوا بأن يأتوا باسم مبهم يطلقونه على الله عز اسمه.

أو لأن إطلاق الأسماء عليه توقيفية ولم يرد الإذن بمثل (يا أيها الله) ، كي لا يحصل الفصل بين حرفي التعريف بالاسم المبهم.

ومنها : امتناع دخول كلمة أي والهاء للتنبيه عليه مع حرف النداء بخلاف غيره من الأسماء والأوصاف كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، ولعله يرجع إلى ما مر ، فإن أيّ جعلت وصلة إلى نداء المعرّف باللام نظرا إلى امتناع دخول اللام عليه لتعذر الجمع بين حرفي التعريف ، فإنّ حرف النداء لتعريف المنادي.

ولذا قيل في الضابطة : إنّ مدخول لام التعريف إمّا أن يكون علما أو غير علم ، فإن كان غير علم فلا يخلو إما أن يصحّ نزع اللام منه أو لا ، فإن لم يصح نزع اللام منه كالصعق والثريا لا يصح نداؤه ، إذ لا ينزع منه اللام ، ومعها لا يدخله حرف النداء ، فالطريق في ندائه أن يؤتى بمن فيقال (يا من هو الصعق) وإن كان علما يصح

__________________

(١) لم يسمّ قائله ولكن استشهد النحويّون كالسيوطي والجامي به في باب المنادي. وفي شرح ابن عقيل : إيّاكما أن تعقبانا شرّا.

٢٣٣

نزع اللام منه كالحارث والعباس فقيل : إنه ينادى بنزع اللام ، وقيل : لا يجوز نداؤه لا مع اللام لامتناع الجمع ، ولا بدونها لاستلزامه تغيير صورة العلم.

وفيه : أنه إن كان علما بدونها فلا محذور في حذفها ، أو معها فهي كالجزء ، كما لو سمي بمركب ، بل بجملة فعلية كيا تأبط شرا ، أو اسمية كيا الرجل منطلق.

وأمّا المعرف باللام الذي ليس علما فلا يباشره حرف النداء ولكن يؤتى بأيها أو ذا ، أو أيهذا ، أو هذا ، فيقال : يا أيها الرجل ، أو يا ذا الرجل ، أو يا أيهذا الرجل ، أو يا هذا الرجل.

كأنهم كرهوا أن يجمعوا بين حرفي التعريف وحرف النداء ، كما كرهوا حذف اللام فيه ، لما فيه من الانتقال من التعريف الأقوى إلى التعريف الأضعف ، فأتوا باسم مبهم مجرد عن حرف التعريف جعلوه المنادي في اللفظ وأجروا عليه حكم المعرّف باللام المقصود بالنداء.

ومنها : تعويض الميم المشددة في آخره عن حرف النداء ، ولذا لا يجتمعان إلا شاذا وشدّد لكونها عوضا عن حرفين ، وهذا هو المشهور ، وقيل : أصله يا الله أمنّا بخير ، فخفّف لكثرة الاستعمال بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته.

وهذا أيضا من خواصّ هذا الاسم بل فيه الإشارة إلى كثرة التوسل بهذا الاسم في الدعوات كي استحق مثل هذا التخفيف.

ومنها : ما قد يقال : إنه قد يسقط الألف واللام أيضا مع إلحاق الميم المشددة ويقال لاهم.

قال أبو خراش (١) في الشوط الخامس : لا همّ هذا خامس إن تمّا.

__________________

(١) هو أبو خراش خويلد بن مرة ، شاعر فحل من شعراء هذيل ، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم ومات سنة (١٥) ه في خلافة عمر بن الخطاب ، نهشته أفعى فمات. ـ الأغاني : ج ٢١ / ٢٠٥.

٢٣٤

ومنها اختصاصه بتاء القسم ، فلا تستعمل التاء مع غيره.

ومنها : اختصاصه بلفظ أيمن الموضوع للقسم ، فيقال : أيمن الله ، وكذا سائر لغاته ، وهي ثمان وعشرون لغة ، أشار إليها في «القاموس» قال : «وأيمن الله ، وأيم الله ، وبكسر أولهما ، وأيمن الله بفتح الميم والهمزة وتكسر ، وإيم الله بكسر الهمزة والميم ، وقيل : ألفه ألف الوصل ، وهيم الله بفتح الهاء ، وضمّ الميم ، وأم الله مثلثة الميم ، وإم الله بكسر الهمزة وضم الميم وفتحها ، ومن الله مثلثة الميم والنون ، وم الله مثلثة ، وليم الله ، وليمن الله : اسم وضع للقسم ، والتقدير أيمن الله قسمي» (١). انتهى بعبارته.

ومنها : أنهم كتبوه بلامين في الخط مع حذف الألف ووصل الهاء ، أما كتابته باللامين فلعله الأصل في مثله كما في اللعب واللمم واللحم ونحوها.

إلا أنهم كتبوا (الذي) بلام واحدة مع تساويهما في كثرة الدوران ولزوم التعريف لنقصانه الناشي من بنائه فأدخلوا فيه النقصان في الخط أيضا ، فإذا ثنى ضعفت مشابهته بالحرف حيث إنه لا يثنى فيكتب بلامين.

وعلى هذا فإثبات التشديد في غير الذي على خلاف القياس ، ولعله علامة لفظية لا للنيابة الخطية ، وأما الحذف والإيصال فلكثرة الاستعمال على أنّ الثاني مع فرض الأول على القياس.

ومنها : أنه لا يغيّر بتثنية أو جمع أو تصغير أو تكسير.

ومنها : أنه بعد حذف الجار قد يبقى في القسم مجرورا نحو الله ـ لأفعلن.

بل قيل : قد يحذف مع ذلك أيضا الألف واللام ، فيقال : لاه لأفعلن ، حكاه أبو حاتم.

__________________

(١) القاموس المحيط للفيروزآبادي : ٤ / ٢٧٩.

٢٣٥

ومنها : تفخيم لامه إذا كان ما قبله مفتوحا أو مضموما.

قال في «شرح طيبة النشر» : «وأما اسم الله تبارك وتعالى فكل القراء على تفخيمه إذا وقع بعد فتح نحو : قال الله ، وشهد الله ، وكذا إذا ابتدى به نحو : الله لطيف بعباده (١) ، وكذا إذا وقع بعد ضم ، نحو رسل الله (٢) ، وإذ قالوا اللهم» (٣).

وما حكاه الأهوازى (٤) عن السوسي (٥) من الترقيق فيه فهو شاذّ لا يؤخذ به ولا يصح تلاوته.

نعم ، اختلفوا في ترقيقه وتفخيمه إذا وقع بعد حرف ممال وذلك في موضعين : (نَرَى اللهَ) (٦) و (سَيَرَى اللهُ) (٧) في رواية السوسي ، قالوا : والوجهان صحيحان.

قلت : بل عن أبي البقاء عن بعضهم تفخيم لامه مطلقا ولو بعد الكسر ، إلا أن هذا القول مناف لنقل جمع الاتفاق على أنه لا يفخم عند الكسر.

قال الرازي : «أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله (بِسْمِ اللهِ) وفي قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى للام المفخمة ثقيل». ثم حكى عنهم في ضابط التفخيم ما لا يخلو من نظر واضح فلاحظ.

نعم ، حكي عنهم أن المقصود من هذا التفخيم أمور كالفرق بينه وبين لفظ

__________________

(١) الشورى : ١٩.

(٢) الأنعام : ١٢٤.

(٣) الأنفال : ٣٢.

(٤) الأهوازي : أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأستاذ في القراءة وكان بدمشق ، توفى سنة (٤٤٦) ه. ـ النشر في القراءات العشر : ج ١ / ص ٣٥.

(٥) السوسي : أبو شعيب صالح بن زياد المتوفى (٢٦١) ه. ـ النشر : ج ١ / ١٣٤.

(٦) البقرة : ٥٥.

(٧) التوبة : ٩٤.

٢٣٦

اللات في الذكر ، وأن التفخيم مشعر بالتعظيم ، وهذه اللفظة تستحق المبالغة فيه ، والمرققة تذكر بطرف اللسان ، والمغلظة بكله ، فأوجب لزيادة القصد والعمل فيه كثرة الثواب ، مع أن ذكره بكل اللسان يشعر بذكره بكل القلب ، فيكون امتثالا لما عن «التوراة» : «يا موسى! أجب ربك بكل ذكر».

أقول : ولعل الأولى من كل ذلك الاستناد إلى قراءة العرب الذين هم من أهل اللسان ، وإن كان لا يعلل عندهم أيضا بشيء إليه ، فإن ذلك يرجع إلى الحرف وكيفية أدائه ، لا إلى جوهره ومادته.

ومن هنا يظهر الجواب عما استشكله الرازي من أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، وكنسبة السين إلى الصاد ، وحيث اعتبروا التغاير بين كل من الحرفين فليعتبر أيضا بين هاتين.

ووجه وحدة النسبة على ما صرح به أن الرقيقة كالتاء يؤدى بطرف اللسان والمغلظة كالطاء بكله.

وفيه أن العمدة ما سمعت من أن امتياز الحروف إنما هو بجواهرها وموادها ، لا مجرد الاختلاف في المخارج ، مع تحقق المغايرة ، هذا مع أن الإجماع حاصل على عدّ الرقيقة والمغلظة حرفا واحدا ، وعلى عدّ الدال والطاء وكذا السين والصاد حرفين ، واعتبار المغايرة مبنيّ على فرض التغاير المفقود في المقام.

والحق على ما هو المقرّر في محله أنّ لكل حرف من الحروف مخرجا على حدة ، ولو باعتبار اختلاف كيفية الاعتماد وتحريك العضلات والأعصاب اللسانية وغيرها ، على ما يشهد به الوجدان.

ومنها : ما قيل : من أنه إذا ألقيت من هذا الاسم الألف بقي (لله) ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ

٢٣٧

مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (١) ، وإن تركت اللام الأولى بقيت البقية على صورة (له) ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٢) ، وإن تركت اللام الثانية أيضا بقي الهاء المضمومة من هو ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣) ، والواو زائدة حاصلة من الإشباع ، ولذا يسقط في (هما) و (هم) إلى غير ذلك من الخواص التي يختص بها هذا الاسم.

واعلم أن أصل هذا الاسم وأسه وأساسه هو الهاء التي تدلّ عليه مجردا عن سائر حروف الاسم ولو مشبعا بالواو ، أو مع سائر الأدوات الجارّة ، وهي النقطة الجوّالة ، والدائرة السيّالة ، وعددها خمسة ، وهي قوى الباب ، وفصل الخطاب ومنه المبدأ ، وإليه المآب.

مع أنّ في هذا العدد خصوصية في ظهوره في المظاهر ، وعدم احتجابه بالسواتر ، ولذا سمّاه أرباب الارثماطيقي (٤) بالعدد الدائر ، فإنه إذا ضرب في نفسه كان بعينه محفوظا في الحاصل ، وكذا إذا ضرب في الحاصل ، أو الحاصل في الحاصل ، وهكذا متصاعدا إلى ما لا نهاية له ، فتكون الخمسة محفوظة في المال والكعب ، ومال المال ، ومال الكعب ، وكعب الكعب ، وهكذا ، ولذا كنّوا وأشاروا به إلى الواحد البحت الحقّ الظاهر بصنعه وآثاره في كل شيء كما قال سيد الشهداء عليه‌السلام : «أنت الذي تعرّفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهرا في كل شيء ، فأنت الظاهر لكل شيء» (٥) ، «متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك» (٦).

__________________

(١) الروم : ٤.

(٢) النساء : ١٧١.

(٣) البقرة : ١٦٣.

(٤) الإرثماطيقي (Aritmetic) هو علم الحساب النظري.

(٥) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢٢٨.

(٦) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢٢٦.

٢٣٨

مع ما فيه من الإشارة إلى كليات الجواهر الخمسة ، والعوالم الخمسة الكلية : وهي : الأزل سبحانه وتعالى.

وعالم السرمد ، وهو عالم الرجحان والأمر ، والمشية الكلية ، والفعل ، والإبداع.

وعالم الجبروت ، أي العقول والمعاني المجردة عن المادة والمدّة والصورة وعالم الملكوت ، أي النفوس والصور المجردة البرزخية والجوهرية.

وعالم الملك ، أي الأجسام التي أعلاها محدّد الجهات ، وهو المساوق في الوجود للزمان والمكان ، بحيث لا يسبق شيء من هذه الثلاثة الآخرين في الغيب والشهادة ، بل لا يفضل شيء منها عن أخويه ولا ينقص عنه.

وإلى الخمسة العبائية «الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» (١) وهو أول المخمّسات البسيطة ، وأول أعداد المربعات النارية ، وليس في الأفراد ما يدل على تركيب ما هو أوله سواه.

وهذا الحرف هو الاسم الأعظم والنور المعظم ، والحرف المقدم عند كثير من أرباب التحقيق ، بل هو في الحقيقة اسم الله العظيم جل جلاله ، والألف واللام للتعريف ، واللام والألف لنفي الغير ، فهو إشارة إلى الهوية المجرّدة الغيبية الإلهية.

بل قيل : إنّه الذكر الجاري على الدوام في أنفاس الحيوانات في حركتها وسكونها ، ونومها ويقظتها ، واختيارها واضطرارها.

بل قيل : إنّ الحكماء الإلهيين وضعوا الأرقام التسعة المشهورة التي هي أصول الأعداد الباقية ، وكذا الحروف المفردة التي يحاذي الأعداد التسعة بحساب الجمل بإزاء الأصول التسعة للموجودات وهي (الباري) عزّ شأنه ، و (العقل) ،

__________________

(١) اقتباس من آية التطهير في سورة الأحزاب (٣٣).

٢٣٩

و (النفس) ، و (الطبيعة) و (الهيولى).

والأربعة الأول لمّا كانت من الفواعل فاعتبارها من حيث ذواتها غير مضافة إلى ما بعدها ، ثم من حيث تأثيرها في معلولاتها يحصل ثمانية ومع الهيولى تسعة ، وهي أصول الموجودات.

فقالوا : الألف إنما يدلّ بها على الأحدية الصرفة تعالى شأنه من غير اعتبار الإضافة ، والباء للعقل كذلك ، والجيم للنفس كذلك ، والدال للطبيعة كذلك ، ثم الهاء للباري تعالى باعتبار إضافتها إلى ما تحتها وهي مرتبة الألوهيّة والواو للعقل كذلك ، والزاي للنفس كذلك ، والحاء للطبيعة كذلك.

ثم الطاء للهيولى لأنها في أخيرة المراتب ، وليس لها إلا حيثية واحدة.

وهذه الوجوه وإن كانت في الظاهر مناسبات اعتبارية ، إلا أنها حاكية عن حقايق متأصلة أشرقت عليها بتجلي ظهورها وفاضل نورها ، فكانت مرآة لها ودليلا عليها.

نعم في بعض ما في عباراتهم من الإضافة إلى الباري وعدّه من جملة المراتب وغيرهما بعض المسامحات.

ثم إنه إذا أشبع بعد ضمّه وتوجهه إلى مبدأه ظهر بظاهره وباطنه ، وهو ستة عدد قوي الواو الذي هو أيضا من الأعداد الدائرة الكرية التي تظهر بنفسها وبصورتها في جميع مربعاتها ومكعباتها ومضروباتها ، وذلك أن العدد الدائر ليس بعد الواحد إلا الخمسة والستة ، ويقال له الكري أيضا.

وقد اجتمعا في كلمة (هو) وهو الإشارة إلى الهوية الثانية الأحدية.

ولذا قال مولانا الباقر عليه‌السلام في قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال :

«قل أي أظهر ما أوحينا إليك ونبّأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد ، وهو اسم مشار ومكنّى إلى غائب ، فالهاء

٢٤٠