تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ...) بسبب ذلك لأنّ السين فيه للاستعمال لا للاستقبال.

ثانيها : قول أهل الباطن فالهداية عندهم ثلاثة أقسام : هداية العامّ ، وهداية الخاصّ ، وهداية الأخصّ ، فهداية العام بالإسلام والإيمان ، وهداية الخاصّ بالإيقان والإحسان ، وهداية الأخصّ بالكشف والمشاهدة من حيث العيان.

وقالوا : الهداية على قدر التقوى فلمّا كانت ثلاثة أقسام فكانت الهداية أيضا كذلك ، فتقوى العام عن الشرك والكفر ، وتقوى الخاصّ عن الذنب والعصيان ، وتقوى الأخصّ عن ملاحظة غير الرحمن ، وهذا طريق أهل السلف.

ثالثها : قول المتأخرين فالهداية الحقيقيّة هي الهداية من الكثرة إلى الوحدة ، ومن التفرقة الى الجمعيّة ، ومن الشرك الى التوحيد ، ومن الشكّ الى اليقين ، ومن الرياء الى الإخلاص ، ومن الوجودات المقيّدة الى الوجود المطلق ، ومن مشاهدة الخلق الى مشاهدته الحقّ .... وكلّها موقوفة على التقوى الّتي أدناها الاتّقاء عن المحرّمات ، وأعلاها الاتّقاء عن رؤية وجود الغير مطلقا.

قلت : ما حكاه في الهداية الاخروية فلا ريب أنّها بعينها الهداية الدنيوية الّتي توجب الفوز بالجنّة ، بل هي الجنّة الظاهرة في الدنيا بالصورة المثاليّة ، ولذا قال الامام عليه‌السلام : الدنيا في الآخرة ، والآخرة محيطة بالدنيا والدنيا رسم الآخرة ، والآخرة رسم الدنيا ... الخبر (١).

وبالجملة ، فلا وجه لتخصيص الهداية بالهداية الاخروية الى الجنّة ، كما نبّه عليه ، ولا بأس في حمل السين على الاستقبال باعتبار ما بقي من الأعمار ، أو باعتبار مراتب القرب الّتي لا تعدّ ولا تحصى.

وامّا كون السين للاستعمال فلم أفهم له معنى واضحا.

__________________

(١) لم أظفر على مصدر له.

٥٦١

وما حكاه أخيرا عن المتأخرين ، فلعلّه من القائلين الذين ينبغي التبرّى منهم ومن كلماتهم ، وإن كان للكلمات المحكيّة في المقام محامل صحيحة.

إيراد ودفع

ربما يستشكل في حمل الهداية في الآية على بعض المعاني المتقدّمة كالإرشاد والاعلام وإرائة الطريق بأنّ طلبها على المسلمين والمؤمنين تحصيل للحاصل ، وتوصيل للواصل ، سيّما مع تفسير الصراط المستقيم بالإسلام والإيمان كما ورد في بعض الأخبار.

بل ويسرى الاشكال أيضا بناء على تفسيره بالولاية كما في أكثر الأخبار ، فإنّ المؤمنين الذين يدعون الله بهذا الدعاء في الصلوات كلّها كلّهم من أهل الولاية ، ويمكن الجواب بوجوه :

أحدها : أنّ التالي لهذه الآية والداعي بها إن كان من أهل المرتبة الدانية فالمسئول هو المرتبة العالية الّتي بعدها ، أو العالية على الإطلاق ، وإن كان واجدا ، للمرتبة العالية والدرجة القصوى فالمسئول هو الثبات عليها.

ويؤيّده ما في تفسير الإمام عليه‌السلام حيث فسر الآية بقوله : أدم لنا توفيقك الّذى به أطعناك فيما مضى من أيّامنا ، حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا (١).

وفسره مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : ثبّتنا على ما روى عنه.

بل لعلّه الظاهر أيضا من قول مولينا الّصادق عليه‌السلام في تفسير الآية على ما حكاه الإمام عليه‌السلام في تفسير الآية قال : أرشدنا الصراط المستقيم ، أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي الى محبتك ، والمبلغ جنتك ، والمانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب ، أو

__________________

(١) كنز الدقائق ج ١ ص ٧٠.

٥٦٢

تأخذ بآرائنا فنهلك (١).

وروى في البصائر وغيره أنّه وقع شيء من القرآن في عهد الثاني إلى أهل الروم فأرسلوا وفدا من النصارى الى المدينة لإشكالات زعموا ورودها منها ما يتعلّق بهذه الآية وهو أنّ طلب الهداية والرشاد دعاء من ليس على الطريق القويم والنهج المستقيم ، فإن لم تكونوا أنتم على سبيل الرشاد فما لكم وإرشاد العباد؟

وحيث عجز الثاني عن الجواب سأل عنه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فأجاب بأنّ معنى اهدنا ثبتنا ، فقالت النصارى : إذا كان الداعي على الصراط المستقيم فما الحاجة الى طلب الثبات؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ لكل حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا ، ولكل ثابت زائلا ، فإذا لم يحصل الهداية المطلوبة الّتي هي الثبات لم تنفع الاولى الّتي هي مجرّد الرشاد (٢).

قلت : ولعلّه الى هذا يشير أيضا ما قيل في تفسير الثبات : بأنّ الله تعالى قد هدى الخلق كلّهم إلّا أنّ الإنسان قد يزلّ وترد عليه الخواطر الفاسدة ، فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبّته على دينه ويديمه عليه ، ويعطيه زيادات الهدى الّتي هي أحد أسباب الثبات على الدين كما تقول لمن يأكل : كل أى أدم الأكل.

ثانيها : أنّ الهداية هي لقوله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (٣) ، فالمعنى أرشدنا الى طريق الجنة ثوابا لنا ، ولذا قالوا بعد دخولها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٤).

__________________

(١) كنز الدقائق ج ١ ص ٧٢ عن شرح الآيات الباهرة.

(٢) لم أظفر على مصدره.

(٣) يونس : ٩.

(٤) الأعراف : ٤٣.

٥٦٣

وهو كما ترى سيّما بعد ما سمعت عن صاحب المجلى.

ثالثها : أن المسؤل هو الزيادة مطلقا ، إذ ليس لفيوض الحقّ وهداياته نهاية ولا غاية ، ولذا قال : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١).

رابعها : أنه يجوز تعلّق السؤال بالأمر الحاصل إذا كانت فيه فائدة كقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (٢) ، ودعاء إبراهيم خليل الرحمن : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٣) ، وقوله : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٤).

والفائدة في المقام إظهار الذلّة والاستكانة والعبوديّة الّتي هي أفضل أنواع العبادة ، كما

ورد : انّ الدعاء مخّ العبادة وأصلها وأفضلها (٥).

بل في التنزيل : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٦) ، (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٧).

وهذا كما (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٨) ، وقد أمرنا بسؤال الصلوات عليه ، وإنما الفائدة فيه حصول الانتساب وتأكّد الارتباط بيننا وبينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنيل الشفاعة الكليّة والرحمة الالهيّة.

خامسها : ما هو الحقّ في المقام ، وإن لم ينبّه عليه أحد من الأعلام ، ويساعده الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أن يكون الطلب متعلّقا

__________________

(١) الكهف : ١٣.

(٢) الأنبياء : ١١٢.

(٣) الشعراء : ٨٧.

(٤) البقرة : ٢٨٦.

(٥) البحار : ج ٩٣ ص ٣٠٠.

(٦) الفرقان : ٧٧.

(٧) غافر : ٦٠.

(٨) الأحزاب : ٥٦.

٥٦٤

بالهداية ومقتضياتها ولوازمها وآثارها الّتي من جملتها سريانها في القلب والقالب وعلى جميع الأعضاء والجوارح والثبات عليها في جميع الأحوال والأهوال والاستمرار عليها في جميع الخطرات الّتي تخطر بالبال ، وفي جميع الأفعال واستزادتها مع كلّ ذلك من كلّ أحد في كلّ حال ، إذ لا نهاية لها باعتبار الفيوض الإلهيّة اللايزاليّة فإنّها من الأنوار اللامعة الّتي تلوح آثارها على هياكل التوحيد.

فيكون المسئول جميع أنواع الهداية لجميع الناس ، وجميع مراتب الإسلام والإيمان والإحسان الذي فسّره جبرئيل عليه‌السلام بأن تعبد الله كأنّك تراه ، فان لم تكن تراه فإنّه يراك (١).

ولذا فسّرت الهداية في المقام بالإرائة الّتي لا يراد بها مجرّد الاعلام ، بل الرؤية القلبيّة الفؤاديّة ، كما قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢).

وقال مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سأله ذعلب : هل رأيت ربّك؟ أفأعبد مالا أرى؟ وقال عليه‌السلام : لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تراه القلوب بحقايق الإيمان (٣).

ولعلّه المراد بما رواه الكاشفى (٤) في جواهره عن مولينا الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في تفسيره : أنّ اهدنا بمعنى أرنا ، ثم قال عليه‌السلام : إنّ كلّ فرقة يطلبون الهداية على حسب أحوالهم ، فهداية التائبين بالإنابة ، والعارفين بالمعرفة ، والمخلصين بدقائق حقايق الإخلاص ، والمحبّين باستعلام أعلام المحبّة ، والمريدين بطلب طريق السلوك والانقطاع ، والأولياء بالانخلاع عن رؤية الوسائط

__________________

(١) في تفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٥٣ رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) النجم : ١١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ٣٠٤ وج ١٠ ص ١١٨.

(٤)؟؟؟؟

٥٦٥

ومشاهدة الروابط ، كيلا يحجبوا برؤية العبادة عن المعبود ، وبالاشتغال بوظائف الطريق من المقصود ... الخبر.

كشف ايماني بتعليم ربّاني

«اهدنا» دعاء وسؤال للعبد من الله سبحانه على وجه الذلّة والمسكنة بتلقينه وتعليمه سبحانه فضلا منه على عباده ، ولذا ورد في الخبر : «قسمت الصلوة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ... الى ان قال : فاذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الى آخره ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (١). فعلّمنا في هذا التلقين كيفيّة الدعاء المقترن بما يوجب الإجابة من الأمور الّتي ينبغي للداعي مراعاتها ، وهي كثيرة راجعة الى الداعي أو المسألة أو كيفيّة الدعاء ، أو زمانه ومكانه وغير ذلك ممّا تسمع تفصيل الكلام فيه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

لكنّ الذي ينبغي التنبيه عليه في المقام ، استفادة من كلام الملك العلّام ، وجوه :

منها : الابتداء بالاستعانة به سبحانه والتيمّن باسمه الشريف وذكره بأسمائه الحسنى الّتي أمرنا أن ندعوه بها مع تحميده وتمجيده وثنائه قبل دعائه ، والتنبيه على إلهيته الكبرى وربوبيّته المطلقة ، وأنّه المنّان على عباده بالرحمة الرحمانية والرحيمية ، وبيده مقاليد الأمور كلّها.

ولذا قال مولينا الصادق عليه‌السلام : إنّ في كتاب أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أنّ المدحة قبل المسألة ، فإذا دعوت الله عزوجل فمجّده (٢).

__________________

(١) عيون الأخبار ج ١ ص ٣٠١ وعنه كنز الدقائق ج ١ ص ٨٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣١٥.

٥٦٦

وقال الصادق عليه‌السلام : إنّما هي المدحة ، ثمّ الثناء ، ثمّ الإقرار بالذنب ، ثمّ المسألة (١).

وقال لعثمان بن المغيرة : إذا أردت أن تدعو فمجّد الله عزوجل ، واحمده ، وسبّحه ، وهلّله ، وأثن عليه ، وصلّ على محمّد النبي وآله ، ثمّ صل تعط (٢).

وقال عليه‌السلام لعيص : إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربّه ، وليحمده ، وليمجّده ، فإنّ الرّجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيّأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه ، فاذا طلبتم الحاجة فمجّدوا الله العزيز الجبّار ، وامدحوه ، واثنوا عليه ... إلى أن قال عليه‌السلام : إنّ رجلا دخل المسجد ، فصلّى ركعتين ، ثمّ سأل الله عزوجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعجل العبد ربّه ، وجاء آخر فصلّى ركعتين ، ثمّ أثنى على الله عزوجل ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل تعط (٣) الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

ومنها : التعميم في الدعاء فإنّه أقرب له إلى الإجابة كما في النبوي (٤) ، ولذا عدل في الضمير المتصل بالفعل من المفرد الى الجمع تعميما للدعاء وتوسّلا الى الإجابة ، مضافا الى الوجوه المتقدّمة في العدول في «نعبد ونستعين».

مع أنّه قد ورد أنه سبحانه أوحى الى بعض أنبيائه عليهم‌السلام : ادعني بلسان لم تعصني به ، فقال : يا ربّ كيف أدعوك بلسان لم أعصك به ، وما هو إلّا لسان واحد ولم أزل أعصيك به؟ فقال الله سبحانه : ادعني بلسان غيرك فإنّك لم تعصني به (٥).

__________________

(١) البحار : ج ٩٣ / ٣١٨.

(٢) البحار : ج ٩٣ / ٣١٤ عن مكارم الأخلاق.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣١٥ عن مكارم الأخلاق.

(٤) البحار : ج ٩٣ / ٣١٣ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا دعا أحد فليعمّ فإنه أوجب للدعاء.

(٥) البحار : ج ٩٣ / ٣٤٢ : روى أنّ الله سبحانه اوحى الى موسى : ادعني عن لسان غير ...

٥٦٧

فمن فوائد العموم في الدعاء أنّه في حق الغير مقرون بالإجابة فكذا في حق الداعي لقضيّة عدم تبعّض الصفقة ، فلأنّه يأبى عنه كرم الكريم ما هكذا الظّن به ، ولا هو المعروف من فضله.

ومنها : الدعاء لإخوان المؤمنين بظهر الغيب لإرادتهم من ضمير الجمع المتصل بالفعل ، وذلك أنّه وسيلة لإجابة الدعاء في حقّهم وفي حقّه لما مرّ ، وللتفضل عليه بمثل ما يدعو لجميعهم ، أو بأضعافه.

فقد روى عن مولينا الباقر عليه‌السلام : أسرع الدعاء نجحا للإجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب (١).

وعن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات إلّا ردّ الله عزوجل عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة معنى من أول الدهر أو هو آت الى يوم القيامة ، إنّ العبد ليؤمر به الى النار يوم القيامة فيسحب ، فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا ربّ هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه ، فشفّعهم الله عزوجل فيه فينجو (٢).

وعن إبراهيم بن هاشم ، قال : رأيت عبد الله بن جندب في الموقف فلم أر موقفا كان أحسن من موقفه ، فما زال مادّا يديه الى السماء ودموعه تسيل على خدّيه حتى تبلغ الأرض ، فلمّا صدر الناس قلت له : يا أبا محمّد ما رأيت موقفا قط أحسن من موقفك ، قال : والله ما دعوت إلّا لإخوانى ، وذلك أنّ أبا الحسن موسى عليه‌السلام أخبرني : أنّ من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش : ولك مائة ألف ضعف ، فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحدة لا أدرى تستجاب أم لا (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٦ / ٦٠ وج ٩٣ / ٣٨٧.

(٢) البحار : ج ٩٣ / ٣٨٤ عن أمالى الطوسي ج ٢ / ٩٥ بتفاوت يسير.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ عن أمالى الصدوق ص ٢٧٣.

٥٦٨

وفي عدّة الداعي عن معاوية بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : من دعا لأخيه في ظهر الغيب نادى ملك من السماء الدنيا : يا عبد الله لك مائة ألف ضعف ممّا دعوت ، وناداه ملك من السماء الثانية يا عبد الله ولك مائتا ألف ضعف مما دعوت ، وناداه ملك من السماء الثالثة : يا عبد الله ولك ثلاثمائة ألف ضعف ممّا دعوت ، وناداه ملك من السماء الرابعة : يا عبد الله ولك أربعمائة ألف ضعف مما دعوت ، وناداه ملك من السماء الخامسة : يا عبد الله ولك خمسمائة الف ضعف مما دعوت ، وناداه ملك من السماء السادسة : يا عبد الله ولك ستمائة الف ضعف ممّا دعوت ، وناداه ملك من السماء السابعة : يا عبد الله ولك سبعمائة ألف ضعف ممّا دعوت.

ثم يناديه الله تبارك وتعالى : أنا الغني الّذى لا افتقر يا عبد الله لك ألف ألف ضعف ممّا دعوت. الخبر (١).

ومنها : الإلحاح في الدعاء ، فإنّ هذا الدعاء يتكرّر في الصلوات اليوميّة ، مرات مديدة ، والإلحاح من أسباب الإجابة.

عن مولانا أبى جعفر عليه‌السلام أنّه قال : والله لا يلحّ عبد مؤمن على الله عزوجل إلّا استجاب له (٢).

ومنها : الإقبال على الدعاء.

قال الصادق عليه‌السلام : إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فاذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة (٣).

واستفادة هذا من تقديم الخطاب وتكريره المنافي لحالة الغياب ، إذ عند الخطاب يفتح الباب وينكشف الحجاب ، ويتوجّه العبد بكليّته الى ربّ الأرباب ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣٨٧ ح ١٩ عن دعوات الراوندي.

(٢) الكافي ج ٢ / ٤٧٥ ـ بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣٧٤ عن عدّة الداعي.

(٣) البحار : ج ٩٣ / ٣٠٥ عن عدة الداعي ص ١٠٣.

٥٦٩

فيقبل الثناء ويجيب الدعاء.

ومنها : اشتمال الدعاء على الاستشفاء والتوسّل بمحمد وآله الأطهار عليهم‌السلام فإنّه يوجب الإجابة.

ولذا قال مولينا الصادق عليه‌السلام : من كانت له الى الله عزوجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمّد وآله ثم يسئل حاجته ثم يختم بالصلوة على محمد وآل محمّد ، فإنّ الله عزوجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط ، إذ كانت الصلاة على محمّد لا تحجب عنه (١).

وستسمع أنّ المراد بالصراط المستقيم هو ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام فطلب الهداية إليه استشفاع بهم ، وتوسّل الى الله تعالى بولايتهم ، وكما أنّه دعاء لاستفاضة جميع المؤمنين بهم كذلك دعاء لهم بإفاضة ربّ العالمين من فيوضه على المؤمنين أجمعين بسبب ولاية أهل البيت وفجتهم صلوات الله عليهم.

وهو حقيقة الصلوات المأمور بها ، فإنّه من الصلة ، أو الوصل ، واختتام الدعاء ينبغي أن يكون بالصلوات عليهم حتى يكون الختام مسكا وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وممّا مرّ يظهر وجه العدول من الضمير المفرد الى الجمع.

مضافا الى أنّ الأرض لا تخلو أبدا من حجّة ووليّ ممّن يستجاب له ، ولا يردّ دعائه ، فإذا عمّ الدعاء استجيب لغيره أيضا ممّن لا يحقّ له ذلك.

مع أنّه إذا كان الداعي هو العالي فينبغي أن يقترن بالداني اقترانا إفاضية ومعيّة اشراقيّة ، وإذا كان الداعي هو الداني فلا بدّ له من معيّة استفاضيّة استشفاعيّة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣١٦.

٥٧٠

ومن هنا يظهر أيضا معنى ما روى أنّ الله عزوجل حمّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذنوب شيعتنا ، ثم غفرها له بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١). (٢)

إرشاد وهداية في تفسير الصراط

الصراط في الأصل مطلق الطريق ، أو الطريق الواضح ، أو خصوص المتّسع منه ، من سرّطه إذا ابتلعه ، سمّى به لأنّه يسرط المارّة ، أى يبتلعها ، وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث ، إذ قد يذكّر صفة كلّ منهما باعتبار اللفظ ، وقد تؤنّث باعتبار المعنى ، كذا قيل ، لكنّه لا يخلو من تأمّل ، إذ الظاهر من كلام أهل اللغة والاستعمالات العرفية أنّ الصراط لا يؤنّث ، والطريق قد يؤنّث ، والسبيل قد تذكّر.

ويفرّق بحسب المعنى بينها بأنّ الطريق ما يطرقه طارق ، والسبيل ما كان معتاد السلوك والصراط كالسبيل إلّا أنّه يستقيم غالبا.

والخطب سهل بعد وضوح استعمال كل منها موضع الآخر ، إنّما الكلام في المقصود بالصراط المستقيم في المقام.

فقيل : إنّه كتاب الله تعالى ، بل في «المجمع» إنّه المرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) ، ولذا فسّره به ابن مسعود.

وقيل : إنّه الإسلام ، وهو المحكي عن جابر وابن عبّاس ، ولعلّه المراد

__________________

(١) الفتح : ٢.

(٢) كنز الدقائق ج ١٢ ص ٢٦٩ عن تأويل الآيات الباهرة ح ٥٩١ عن محمد بن سعيد المروزي قال : قلت لرجل : أذنب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطّ؟ قال : لا ، قلت : فقول الله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ما معناه؟ قال : إنّ الله سبحانه حمّل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ذنوب شيعة عليّ عليه‌السلام ثم غفر له ما تقدّم منها وما تأخّر.

(٣) مجمع البيان : ج ١ / ٣١.

٥٧١

بالمحكي عن محمد بن الحنفيّة من أنّه دين الله الذي لا يقبل عن العباد غيره.

وقيل : إنّه النبي والأئمّة القائمون مقامه صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو المرويّ في أخبار كثيرة.

روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن المفضّل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصراط فقال : هو الطريق الى معرفة الله عزوجل ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فاما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض (١) الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم (٢).

وفي تفسير مولينا الامام العسكري عليه‌السلام : الصراط المستقيم صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر من الغلو ، وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل الى شيء من الباطل ، وأمّا في الآخرة فهو طريق المؤمن الى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون من الجنّة الى النار ، ولا الى غير النار سوى الجنّة (٣).

وفي الأمالى بالإسناد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : إذا كان يوم القيامة ، ونصب الصراط على جهنّم ، لم يجز عليه إلّا من كان معه جواز فيه ولاية على بن أبى طالب عليه‌السلام ، وذلك قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٤) يعنى عن ولاية على

__________________

(١) في المصدر : المفترض الطاعة.

(٢) كنز الدقائق ج ١ ص ٦٩ عن معاني الأخبار ص ٢٨ ح ١.

(٣) كنز الدقائق ج ١ / ٧٠ ـ نور الثقلين : ج ١ / ٢٢.

(٤) الصافّات : ٢٤.

٥٧٢

ابن أبى طالب عليه‌السلام (١).

وفي الخصال عن الصادق عليه‌السلام عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منه شيعتنا ومحبّونا ، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول : ربّ سلّم شيعتي ومحبّي وأنصاري ومن تولّاني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بطنان العرش : قد أجيبت دعوتك ، وشفّعت في شيعتك ، ويشفّع كلّ رجل من شيعتي ومن تولّاني ، ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلا الله ، ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت (٢).

وفي الأمالى عن الصادق عليه‌السلام قال : الناس يمرّون على الصراط طبقات ، والصراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرّ حبوا ، ومنهم من يمرّ مشيا ، ومنهم من يمرّ متعلقا قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا (٣).

وفي تفسير فرات : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه جبرئيل ، فقال : أبشرك يا محمد بما تجوز على الصراط؟ قال : قلت : بلى ، قال : تجوز بنور الله ، ويجوز عليّ بنورك ، ونورك من نور الله ، وتجوز أمّتك بنور عليّ ، ونور عليّ من نورك ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤). (٥)

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٤ / ٤٠١ عن أمالى شيخ الطائفة.

(٢) الخصال ص ٤٠٨ باب الثمانية ح ٦.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨ / ٦٤ ـ ٦٥ عن أمالى الصدوق ص ١٠٧.

(٤) سورة النور : ٤٠.

(٥) البحار : ج ٨ / ٦٩ عن تفسير فرات ص ١٠٤.

٥٧٣

وفي المعاني وعقائد الصدوق ، وتأويل الآيات وغيرها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط ، فلم يجز أحد إلّا من كان معه كتاب فيه برائة بولايتك (١).

وفي الكنز عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذ كان يوم القيامة أمر الله مالكا أن يسعر النيران السبع ، ويأمر رضوان أن يزخرف الجنان الثمان ، ويقول : يا ميكائيل مدّ الصراط على متن جهنّم ويقول : يا جبرئيل انصب ميزان العدل تحت العرش ، ويقول : يا محمّد قرّب أمّتك للحساب ، ثم يأمر الله أن يعقد على الصراط سبع قناطر طول كلّ قنطرة سبعة عشر ألف فرسخ ، وعلى كلّ قنطرة سبعون الف ملك ، يسألون هذه الأمّة رجالهم ونساءهم في القنطرة الاولى عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وحبّ أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أتى به جاز القنطرة الاولى ، كالبرق الخاطف ، ومن لم يحبّ أهل بيته سقط على أمّ رأسه في قعر جهنّم ولو كان معه من أعمال البرّ عمل سبعين صدّيقا (٢).

وروى في المناقب عن الصادقين عليهما‌السلام في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، قالا : دين الله الذي نزل به جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صراط الذين أنعمت عليهم ، فهديتهم بالإسلام بولاية على بن ابى طالب ، ولم تغضب عليهم ولم يضلّوا ، فالمغضوب عليهم اليهود والنصارى والشكّاك الذين لا يعرفون إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام والضالّين عن إمامة على بن أبى طالب عليه‌السلام.

وفيه عن تفسير وكيع ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، قال : قولوا معاشر العباد : أرشدنا الى حبّ النبي وأهل بيته عليهم‌السلام.

__________________

(١) البحار : ج ٨ / ٦٦ عن المعاني ص ١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ / ٣٤١ ح ١٢ ، عن الكنز.

٥٧٤

وعن تفسير الثعلبي ، وابن شاهين عن بريدة في هذه الآية قال : صراط محمّد وآله (١).

وفي كشف الغمّة ممّا أخرجه المحدّث الحنبلي في هذه الآية ، قال بريدة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو صراط محمد وآله (٢).

وفي المناقب عن التهذيب والمصباح في دعاء الغدير : وأشهد أنّ الامام الهادي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذكرته في كتابك.

فقلت : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٣) : إنّ امّ الكتاب الفاتحة ، يعنى انّ فيها ذكره عليه‌السلام (٤).

وفيه بالإسناد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل شيء جواز ، وجواز الصراط حبّ على بن أبى طالب عليه‌السلام (٥).

وفي المعاني عن السجّاد عليه‌السلام قال : نحن أبواب الله ، ونحن صراطه المستقيم ، ونحن عيبة علمه ، وموضع سرّه وقال : ليس بين الله وبين حجّته حجاب ، ولا لله دون حجته سرّ (٦).

وفي خبر معرفتهم بالنورانيّة : محمّد خاتم النبيّين ، وأنا خاتم الوصيّين ، محمّد صاحب الدعوة ، وأنا صاحب السيف والسطوة ، محمّد النبي الكريم ، وأنا الصراط المستقيم (٧).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٤ / ١٦ عن المناقب ج ٣ / ٧٣.

(٢) البحار : ج ٢٤ / ١٧ عن كشف الغمّة ص ٩١.

(٣) الزخرف : ٤.

(٤) المناقب ج ٣ / ١٠٧.

(٥) بحار الأنوار : ج ٣٩ / ٢٠٢ عن المناقب ج ١ ص ٣٤٦.

(٦) معاني الأخبار : ص ١٤ وعنه البحار : ج ٤ / ١٢ مع تقديم وتأخير في بعض العبارات.

(٧) بحار الأنوار : ج ٢٦ / ٤ و ٥ وفيه : صار محمد خاتم النبيين وصرت أنا خاتم الوصيين. وأنا

٥٧٥

وفي فضائل الشيعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أثبتكم قدما على الصراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي (١).

وفيه : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : يا عليّ ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمن فزلّت به قدم على الصراط إلّا ثبت له قدم حتّى أدخله الله بحبّك الجنّة (٢).

وفي البصائر عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٣) قال : هو والله عليّ ، هو والله عليّ الصراط والميزان (٤).

وفي المناقب عن مولينا الصادق عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام قال : قال يوما الثاني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لا تزال تقول لعليّ : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى ، فقد ذكر الله هارون في امّ القرى ولم يذكر عليّا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا غليظ يا جاهل أما سمعت يقول : (صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٥).

وفيه وفي الطرائف عن قتادة ، قال : سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) ، قلت : ما معناه؟ قال : هذا طريق علي بن أبى طالب ، ودينه طريق دين مستقيم فاتّبعوه وتمسكوا به فإنّه واضح لا عوج فيه (٦).

وفيه عن تفسير مقاتل عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ

__________________

النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، ولا أحد اختلف الا في ولايتي ، وصار محمد صاحب الدعوة ، وصرت أنا صاحب السيف ... إلخ.

(١) بحار الأنوار : ج ٨ / ٦٩ عن فضائل الشيعة للصدوق.

(٢) البحار : ج ٨ / ٦٩ عن الفضائل.

(٣) الحجر : ٤١.

(٤) روى العياشي في ج ٢ ص ٢٤٢ ح ١٥ مثله مع تفاوت يسير.

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ج ٣ / ١٠٧ وفي ذيل الحديث قال المؤلف : وقرئ مثله في روآية جابر.

(٦) المناقب ج ٣ / ١٠٧ عن أبى بكر الشيرازي في كتابه بالإسناد عن شعبة ، عن قتادة.

٥٧٦

النَّبِيَ) (١) : لا يعذّب الله محمّدا والذين آمنوا معه ، لا يعذّب على بن ابى طالب وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وحمزة ، وجعفرا ، نورهم يسعى ، يضيء على الصراط لعلى وفاطمة مثل الدنيا سبعين مرّة ، فيسعى نورهم بين أيديهم ويسعى من أيمانهم وهم يتبعونها ، فيمضى أهل بيت محمّد وآله زمرة على الصراط مثل البرق الخاطف ، ثمّ قوم مثل الريح ، ثم قوم مثل عدو الفرس ، ثمّ يمضى قوم مثل المشي ، ثمّ قوم مثل الحبو ، ثمّ قوم مثل الزحف ، ويجعله الله على المؤمنين عريضا ، وعلى المذنبين دقيقا (٢).

والتعرض للأخبار العاميّة من الصحابة والتابعين في مثل المقام وغيره إنّما هو للتمسّك به على الخصم الّذى هو المخالف المعاند ، فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.

وعلى كلّ حالّ فتمام الكلام في المقام بذكر فوائد :

إحداها اعلم أنّ الأرواح الانسانيّة والنفوس الملكوتيّة لمّا خلقها الله في أحسن تقويم ، وذلك قبل خلق الزمان والزمانيات حيث لا أين ، ولا متى ، لتقدّم عالم الدهر بجملته على عالم الزمان الذي هو وعاء الأجسام والجسمانيّات ، نزعت تلك الأرواح الى دعوى الربوبيّة والاستغناء والقيوميّة المطلقة ، فخوطبت بنداء (اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (٣) اى مجتمعين حال الهبوط ، وذلك لمرورها على جميع العوالم المترتبة المتنزّلة وتعلّقها بشيء من تلك العوالم فلها من كلّ عالم من العوالم قيضة مخالفة في الكينونة والاقتضاء لغيرها ، ولذا قال : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٤) ،

__________________

(١) التحريم : ٨.

(٢) تفسير البرهان ج ٤ / ٣٥٧ عن المناقب لابن شهر آشوب.

(٣) البقرة : ٣٨.

(٤) البقرة : ٣٦.

٥٧٧

لاستدامة التجاذب والتمانع والتدافع بينها ، لكونه في هذا العالم معترك القوى النورانيّة العقليّة ، والشهوات النفسيّة ، والشيطانيّة الوهميّة ، والحيوانيّة البهيميّة ، والظلمانيّة الجسميّة ، وله في أرض عالم الناسوت مستقرّ حال العمر ، ومتاع الى حين الأجل.

واليه الاشارة بقول الشيخ ابن سينا في شعره :

هبطت إليك من المحلّ الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنّع

قيل : إنّه سئل أفلاطون عن سبب هبوط الأرواح ، فقال : إنّها احترقت رياشها لبعض الأوهام الرديّة فسقطت الى هذا العالم ، فلمّا ارتاشت (١) صعدت.

والى الإشارة بقوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

فدعا الناس الى إتّباع هداه ليخرجهم من الظلمات الى النور بإذن ربّهم الى صراط العزيز الحميد.

فللإنسان في هذه النشأة الدنيويّة انتقالات رتبيّة ، وترقيّات نفسيّة ، واستفاضات نوريّة عقليّة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٣).

فلا تزال النفوس الانسانيّة تسير في المراتب النفسانيّة متدرّجة في الأطوار بعد الأطوار ، مستعدّة لإشراق أشعّة الأنوار ، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) (٤) :

ظلمة البلادة البهيميّة ، والجمودة الجسميّة ، والانحرافات النفسانيّة.

__________________

(١) ارتاش : أصاب خيرا وصلحت حاله.

(٢) البقرة : ٣٨.

(٣) فاطر : ١٠.

(٤) سورة الزمر : ٦.

٥٧٨

وهذه الانتقالات ليست بحركات جوهريّة ، وتبدّلات ذاتيّة وانتقالات طبيعيّة اشتداديّة ، كما ذهب اليه بعض الأعلام ، نظرا الى القول بثبوت الحركة في مقولة الجوهر ، بل ربما ينسب اليه القول بتبدّل كلّ من الجواهر الى غيره ، حتى تبدل الهيولى صورة ، والصورة جسما ، والجسم نفسا ، والنفس عقلا.

وظنّى أنّه ينبغي تنزيهه عن هذه النسبة ، بل ربما يأبى عنه كلامه حيث ذكر في بيان هذه الحركة : أنّ أوّل نشأة الإنسان بحسب جسميته وقالبه قوة استعداديّة ، ثم صورة طبيعيّة شأنها حفظ المزاج للتركيب ، ثمّ صورة مغذّية لمادّة بدنيّة ، ثمّ صورة حيوانيّة يدرك المحسوسات ويتحرّك بالإرادة ، وهذا آخر درجات الصور الحسيّة.

وأوّل درجات الصور العقليّة قوّة تسمّى عند الحكماء بالعقل المنفعل ، ثم تنتقل من صورة الى صورة حتّى تتّصل بالعالم العقلي ، ويلحق بالملإ الأعلى إن ساعده التوفيق ، أو يحشر مع الشياطين والحشرات في عالم الظلمات إن ولّاه الطبع والشيطان وقارنه الخذلان.

وربما يقال : إنّه لمّا اثبت التعقّل وإدراك المعقولات ، وأنكر وجود العقل ، فلا بدّ له من أن يحكم على النفس بالوصول الى هذه الرتبة ، فمراده بصيرورتها عقلا أنّها تعقل الأشياء ، لا أنّها تنقلب عقلا عنده ، لأنّه لا يثبت العقل.

وفيه : أنّ النفس مادّتها التأييدات العقليّة ، وهي إشراقات من العقل ، محلّها منه محلّ الإشراق من الشمس ، والنور من المنير ، والضوء من السراج ، فكما لا يكون الإشراق شمسا ، ولا الضوء سراجا ، ولو بالترقّى والاشتداد في جوهره ونوعه كذلك لا تكون النفس بترقّيها عقلا ، وإنّما غاية ما يحصل لها من الترقّى هو الوصول الى أقصى مراتب النفس الّتي هي دون أفق العقل ، كما أنّ مراتب الجسم دون أفق النفس ، فكما لا يكون الجسم نفسا كذلك لا تكون النفس عقلا ، نعم

٥٧٩

يحصل لكلّ منهما الترقي والتنزّل في مراتب عرض رتبته.

وإنكار وجود العقل ضعيف بالأدلّة السمعيّة والعقلية الدالّة على وجوده ، ولعلّنا نشير إليها في موضع أليق إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ حال فللنفس انتقالات وترقيات في عرض المراتب والدرجات ، أو في طولها أيضا ، فينتقل من حال الى حال ، ومن درجة الى درجة ، فجميع الناس سائرون في هذه النشأة الدنيوية بأقدام أعمالهم وعلومهم ، طائرون بجناحي العلم والعمل.

وهم في سيرهم إمّا واصلون الى ربّهم ، أى إلى مرضاته ومحلّ قربه وكرامته ، فيرون ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، لسيرهم في الطريق الّذى أمروا بسلوكه ، لأنّهم تخفّفوا فلحقوا ، وصاروا من عباده الذين هم بالبداء إليه يسارعون ، وهم المتّقون الذين هم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وإمّا واقفون للعطالة ، والبطالة ، أو لتردّدهم في سيرهم بين الصعود والهبوط ، ومثاله ما كان لبني إسرائيل في التيه حيث لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ.

وما ذكرناه ليس مبنيّا على القول بالإحباط والتكفير ، وإن قلنا بهما على بعض الوجوه الصحيحة.

وأمّا غير الفريقين السابقين فهم الراجعون ، ناكسوا رؤوسهم عند ربهم لانتكاس أعمالهم بترك العمل أو فساده ، فهم السائرون على غير الطريق المستقيم لا يزيدهم سيرهم إلّا بعدا (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١).

ثانيها : اعلم أنّ للإنسان قوّتين هما له كجناحين يطير بهما :

__________________

(١) سورة المطفّفين : ١٤ ـ ١٥.

٥٨٠