تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

أرادت ودالة على وجود صانعها الذي جعلها مختارة مريدة قادرة على الإتيان بما أرادت ، فهي من هذه الجهة أيضا مسبحة لربها ذاكرة له دالة عليه ، منادية بلسان حالها من جهة إمكانها وحدوثها وافتقارها بأن لي ربا جعلني مريدا مختارا لحكمته وكماله وعنايته الأزلية ، كما قال بعض العارفين : «عين إنكار منكر إقرار است».

ثم قال : والكلام في هذا المقام دقيق ، لا يمكن إجراء أكثر من ذلك منه على الأقلام ويصعب دركها على الأفهام ، وقد أومأت إلى شيء منه في شرح كتاب توحيد «الكافي» (١).

قلت : وبعد ثبوت هذه المقدمة لا ريب أنه قد جرت عادته بأن لا يصل الفيض إلى الأدنى إلا بواسطة الأعلى ، ولا إلى الماديات إلا بواسطة المجردات ، حسب ما هو مشروح في موضعه ، وأن لله تعالى ملائكة موكلة بمصالح العالم وأموره ، أشرفهم أربعة موكلة على الأركان الأربعة العرشية ، وهي الخلق والرزق والإحياء والإماتة ، وملائكة أخر موكلة على الأملاك والعناصر والكواكب والسحاب والرياح والأشجار والنباتات والحيوانات وأفراد الإنسان وألحاظهم وألفاظهم وحركتهم وسكونهم وفكرهم ونظرهم وقواهم وعلى القوى الطبيعية من الجاذبة والدافعة والممسكة والهاضمة والمولدة والمصورة وغيرها.

ومنهم الملكان الخلاقان يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ويشكلانه ويصورانه ويكتبان عليه ما يشاء الله من الرزق والحياة والعمر والشكل والسعادة والشقاوة إلى غير ذلك.

ومنهم الملائكة الموكّلة بقطر الأمطار وإنزالها وبلوغها إلى مواقعها ، فإنه ينزل مع كل قطرة من المطر ملك لا يصعد أبدا.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٠ / ١٦٨ ط طهران دار الكتب الاسلاميّة.

٤٠١

ومنهم الملائكة المشار إليها بقوله : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (١) وبقوله في سورة الذاريات : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٢) حيث فسّره مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر ابن الكوا بالملائكة (٣).

وبقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (٤) الآيات ، وبقوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (٥) إلى قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٦) المفسّرة بالملائكة ، تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة ، كما عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (٧) ، أو بالملائكة الأربع الموكّلة الحاملة لعرش التكوين أو بالأفلاك التي يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا ، كما رواه علي بن إبراهيم (٨).

إلى غير ذلك من الملائكة التي لا تحصى ولا تستقصى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٩).

وفي «الصحيفة السجادية» : «والذين على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك ، وخزّان المطر ، وزواجر السحاب ، والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود (١٠) ، وإذا سبّحت به حفيفة (١١) السحاب التمعت (١٢) صواعق البروق ،

__________________

(١) الصفات : ١ ـ ٢ ـ ٣.

(٢) الذاريات : ٤.

(٣) احتجاج الطبرسي : ص ٣٨٦.

(٤) المرسلات : ٤.

(٥) النازعات : ١.

(٦) النازعات : ٥.

(٧) نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٤٩٨ ، ح ١٢ ، عن مجمع البيان.

(٨) نفس المصدر : ج ٥ ، ص ٤٩٨ ، ح ١٣ عن علي بن إبراهيم.

(٩) المدثر : ٣١.

(١٠) الزجل : الصوت العالي.

(١١) حفيفة السحاب : دويّه.

(١٢) التمعت : أضائت.

٤٠٢

ومشيّعي الثلج والبرد ، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، والقوّام على خزائن الرياح ، والموكّلين بالجبال فلا تزول ، والذين عرّفتهم مثاقيل المياه وكيل ما تحويه لواعج الأمطار وعوالجها ورسلك من الملائكة إلى الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ، ومحبوب الرخاء والسفرة الكرام البررة ، والحفظة الكرام الكاتبين» (١) الدعاء.

ثم إن استناد الشؤون الإلهية والفيوض الربانية إلى هذه الملائكة الذين هم مسخّرة بأمر الله تعالى لا يقدح في التوحيد ، بل لعله لا يتم الآية بعد ملاحظة اختلاف المراتب وتفاوت الدرجات ، وبطلان الطفرة ، وعموم الفيض ، كما أنه لا يقدح فيه ما أشرنا إليه مرارا من وساطة نبينا وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين لجميع الخلق في الفيوض التكوينية والتشريعية ، وأنه لا يصل إلى شيء من ذرّات العالم شيء من الفيوض إلا بحجابتهم ووساطتهم وبابيتهم ، مع أن الفيوض كلها منه سبحانه ، بل يصح أن يقال : إنه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

ولذا نسب قبض الأرواح مرة إليه سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢).

ومرّة إلى ملك الموت : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٣).

وأخرى إلى الرسل الذين هم أعوان ملك الموت من الملائكة (حَتَّى إِذا

__________________

(١) الصحيفة السجادية : دعائه عليه‌السلام في الصلاة على حملة العرش وكل ملك مقرب. رقم (١٢).

(٢) الزمر : ٤٢.

(٣) السجدة : ١١.

٤٠٣

جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) (١) الآية و (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٢) ، (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (٣) ، (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (٤).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر الزنديق الذي ادّعي التناقض في القرآن على ما رواه في «الاحتجاج» :

«إن الله تعالى أجل وأعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله ، لأنهم بأمره يعملون ، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الذي قال الله فيهم : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٥).

فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكل ما يؤتونه منسوب إليه ، فإذا فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله ، لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، فإن فعل أمنائه فعله ، كما قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦)» (٧).

فهؤلاء الملائكة المسخرون المدبرون بأمره المتصرفون في صقع التقدير بملكة التسخير هم الذي سماهم هؤلاء الفلاسفة بأرباب الأنواع ، فإن رجع الخلاف إلى مجرد التسمية فالأمر سهل ، وإلا فينبغي إنكار الملائكة نظرا إلى استناد تلك

__________________

(١) الأعراف : ٣٧.

(٢) الأنعام : ٦١.

(٣) النحل : ٣٢.

(٤) النحل : ٢٨.

(٥) الحج : ٧٥.

(٦) الإنسان : ٣٠.

(٧) الاحتجاج : ج ١ ، ص ٣٦٧ ، ط قم.

٤٠٤

الأفاعيل إلى قوى طبيعية غير شاعرة ، كما صدر عن بعض متأخري الفلاسفة المتشبثين بأذيال أو ساخ الدهرية والطباعية.

ولعل من أمعن النظر في كلمات قدماء الفلاسفة يعلم أنه لا خلاف بينهم في ذلك ، بل هم موافقون للشريعة الحقة في إثبات هذه الأنوار المجردة الفلكية والأرضية المسماة بالملائكة ، وستسمع إن شاء الله تمام الكلام في المقام في ذكر قصة نبينا آدم عليه الصلاة والسلام.

ومما يظهر النظر في كثير مما أسلفنا منهم من الكلام والله ولي الفضل والإنعام.

وأما المذهب المحكي عن أفلاطون فقد اختلفوا في تأويل كلامه ، وبيان مرامه على أقوال كثيرة.

فعن الفارابي الملقب عندهم بالمعلم الثاني في مقالته المسماة بالجمع بين الرأيين : أن مراده من المثل هي الصور العلمية القائمة بذاته تعالى علما حصوليا لأنها باقية غير داثرة ولا متغيرة وإن تغيرت وزالت الأشخاص الزمانية والمكانية.

وعن شيخهم الرئيس أن المراد منها وجود الطبائع النوعية في الخارج أي الكلي الطبيعي للأشخاص وهو الماهية لا بشرط شيء ، فحكموا بوجود الماهيات المجردة عن العوارض في الخارج بناء على وجودها بعين وجود أشخاصها ، مع عوارضها ولواحقها المادية وجودا متكثرا في العين ، متوحدا في الحد والنوع.

وعن شيخ الإشراق أنها عبارة عن سلسلة الأنوار العقلية الغير المترتبة في العلية النازلة في آخر مراتب العقول فيصدر منها أنواع الأجسام البسيطة فلكية كانت أو عنصرية والمركبة حيوانية كانت أو نباتية أو جمادية.

وعن بعضهم أنها الأشباح المثالية المقدارية الموجودة في عالم المثال الذي هو المتوسط بين عالم المفارقات وعالم الماديات ، وحمله الصدر الأجل الشيرازي

٤٠٥

على أن لكل نوع من الأنواع الجسمانية فردا كاملا في عالم الإبداع ، وأنه هو الأصل والمبدأ لساير أفراد النوع وهي فروعه ومعاليله وآثاره ، وذلك الفرد لتمامه وكماله لا يفتقر إلى محل ، بخلاف هذه التشخصات التي هي لضعفها ونقصها مفتقرة إلى المادة وعوارضها ، ولذا جاز اختلاف أفراده حقيقة واحدة في القيام بالمادة وعدمه لاختلافها كمالا ونقصا.

إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا داعي للتعرض لها بعد وضوح ضعفها على أن نسبة تلك المطالب السخيفة إلى ذلك القائل رجم بالغيب واتهام بالعيب فإن الصور العلمية منفية عندنا ، بل عند معشر الموحدين ، وترتب العقول غير ثابت وأدلتهم ضعيفة ، كعدم ثبوت الفرد الكامل من النوع بنفسه.

نعم ، قد قررنا في موضعه أن الذوات والماهيات والذاتيات ، بل كل ما كان له نحو من الامتياز كلها مجعولة مخلوقة لله سبحانه في صقع الإمكان أو الأكوان ، غير مفتقرة في تحققها إلى شيء من المشخصات الفردية ، ويترتب عليها في صقع وجودها جملة من الأحكام والآثار والخواص وهي المعبر عنها بالأمور الواقعية والقضايا النفس الأمرية وبحسبها يعتبر الصدق والكذب.

ولعل كلام الشيخ الرئيس لا يأبى عن حمله على هذا ، كما أن كلام أفلاطون يمكن حمله على إرادة عالم المثال الذي هو البرزخ بين المحسوس والمعقول ، ولذا سموه ب «المثل الأفلاطونية».

وكيف كان فالخطب فيه سهل ، إذ المهم إنما هو تحقيق الحقائق لا تعيين المقاصد ، مع أن ما ذكرناه على وجه الاحتمال لا التسجيل (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

٤٠٦

الفصل الرابع

في البحث عن قوله تعالى «العالمين»

وهو جمع عالم بالفتح من العلم بالفتحتين بمعنى العلامة ، ولذا سميت به الراية اسم لما يعلم به كالطابع والقالب والخاتم بفتح العين فيها لما يطبع أو يقلب أو يختم.

ولذا قال الراغب : «فاعل كثيرا ما يجيء اسما للآلة التي يفعل بها الشيء كما سمعت لكنه غلب هنا في الأجناس التي يعلم بها الصانع تعالى ، لا في الأفراد ولا فيما يعلم به غيره ، ولذا لا يقال : عالم زيد وعمرو ، وإنما يقال : عالم الأفلاك وعالم الأرواح ، وعالم الملكوت والجبروت والناسوت ، بل ولا يطلق باعتبار ما يعلم به غيره تعالى ومن العلم بالكسر ، ولعلّه لا يأبى عنه إطلاق كثير عنهم ، لو لم يكن ظاهرا أو صريحا فيه ، بل الأصل فيهما واحد.

نعم ، ربما يقال : إنّه جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط.

وعن أبي البقاء أنّه اسم موضوع للجمع ولا واحد له في اللفظ.

وعن الزجاج (١) أنه لا واحد لعالم من لفظه لأنه لما جمع أشياء مختلفة فإن جعل له مفرد صار جمعا لأشياء متفقة.

وفيه : أنه لا وجه للقول بكونه جمعا بعد جريان حكم المفرد عليه ، وأما

__________________

(١) الزجاج : أبو إسحاق إبراهيم بن السري النحوي ، توفي سنة (٣١٩) ه.

٤٠٧

بحسب المعنى فهو الجميع لا الأفراد المجتمعة.

مع أن الظاهر أن إفادة الكلية مستندة إلى حذف المتعلق الذي هو المضاف إليه على وجه الظهور ، لا الوضع فغلب استعماله مطلقا على ما سوى الله ، ومضافا إلى شيء من كليات العوالم فيما أضيف إليه ، كما أن الغالب كون المضاف إليه جنسا من أجناس ذوي العلم أو من أجناس ما سوى الله ، فيقال : عالم الجبروت ، وعالم العقول وعالم النفوس ، وهكذا.

وأما أفراد الجنس فقيل : إنه لا يجوز إطلاقه عليها ، فلا يقال : عالم زيد وعمرو ، ولذا أورد عليه بأنه إذا لم يطلق على شيء من أفراد الجنس المسمى به ، فإذا عرّف باللام امتنع استغراقه لأفراد جنس واحد ، فإن اللفظ المفرد إنما يستغرق أفرادا يطلق على كل واحد منها وكذا إذا جمع وعرّف لم يتناول إلا الأجناس التي يطلق عليها دون افرادها.

وأجيب بأن العالم لما كان مطلقا على الجنس بأسره نزل منزلة الجمع ، ومن ثم قيل : هو جمع لا واحد له من لفظه ، فكما أن الجمع إذا عرف استغرق آحاد مفرده وإن لم يكن صادقا عليها كقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١) أي كل محسن ، ويقال : لا أشتري العبيد أي كل واحد منهم ، كذلك العالم إذا عرف يشمل أفراد الجنس المسمى به.

وفيه تأمل ، فإن شمول العالم لأفراد الجنس ليس كشمول الجمع لمفرداته ، بل كشمول الكل لأجزائه.

ولذا ربما قيل : بشمول العالمين لكليات العوالم ، لا لأجزائها ، فالفرق بينه وبين العالم دلالته على استغراق الأجناس ، دون العالم الدال على جنس واحد منها ،

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

٤٠٨

متعين بالتعريف أو منتشر بالتنكير ، ويمكن تأييده بما في تفسير الإمام عليه الصلاة والسلام قال عليه‌السلام (رَبِّ الْعالَمِينَ) يعني مالك العالمين وهم الجماعة وفي بعض النسخ الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات (١) إلى آخر ما مر في تفسير الرب.

ولعلّ الخطب فيه سهل فإنّ تربية الكل مشتمل على تربية جميع الأجزاء والجزئيات ، والبحث في صدق العالم من العالمين على كل فرد من الأجناس هيّن جدّا ، نعم لو كان المراد بالعالم مجموع ما سوى الله كان مع العالمين متحدا في المصداق حينئذ.

ولذا قيل : إن العالم والعالمين كعرفة وعرفات ، فإنّ عرفات جمع بحسب الصيغة واللفظ لا بحسب المعنى والحقيقة إذ لم يستعمل إلا علما ، ولم يوجد له واحد ، وعرفة ليس واحد عرفات ، لأن مدلولهما واحد ، إذ ليس ثمّة أماكن متعددة كل منها عرفة حتى يقال : إنها جمعت على عرفات ، فالعالم إذا أريد به المجموع من حيث المجموع فليس هناك غيره شيء من الأفراد حتى يجمع على العالمين ، فهو جمع لفظا لا معنى.

وفي «القاموس» : العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك ولا يجمع فاعل بالواو والنون غيره ، وغير ياسم (٢).

وربما يقال : إن العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع ، ولعله من باب استعمال الفاعل بالفتح في معنى الفاعل بالكسر ، لكنه غير معهود ، بل غير صحيح سيما مع أن المفتوح لم يستعمل إلا في

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ص ١١.

(٢) يقال : الياسمون والياسمين : نبات زهرة طيب الرائحة.

٤٠٩

الآلة ، فالأظهر كونه عند هذا القائل أيضا اسم آلة لما يعلم به الصانع ، لكن لا لمطلقه بل لجنس واحد منه ، وهو ذو العلم.

وربما يقال : على أحد الوجهين المذكورين أن المراد به أفراد الإنسان ، فإن كل واحد منهم عالم من حيث اشتماله على كل ما في العالم الكبير من العقول والنفوس والأرواح والظلال وقوى الأفلاك والعناصر والمعادن والنباتات والحيوان بل روى بعض أهل العلم عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنه قال : «العالم عالمان ، عالم كبير ، وهو الفلك وما فيه ، وعالم صغير وهو الإنسان».

وقال : «سمي كل إنسان عالما لأن فيه جواهر العالم الأكبر من الأخلاط الأربعة لأن لحمه كالأرض وعظامه كالجبال ودمه في العروق كالمياه في الأنهار ، ونفسه كالريح وشعره كالنبات وفيه من الملك العقل ، ومن البهائم الشهوة ، فصار عالما يعلم به وحدانيته كما يعلم بالعالم الكبير» (١).

قلت : والذي ينبغي أن يقال في المقام : أن العالم حسب ما سمعت له إطلاقات عديدة ، فيطلق على مجموع ما سوى الله ، وعلى خصوص ذوي العقول منهم ، وعلى كل ما يعلم به الصانع ، وعلى خصوص جنس من المخلوق ، بلا فرق بين الأجناس العالية المنطقية كعالم الأجسام ، والسافلة كعالم الحيوان ، والإنسان ، وعلى كل فرد من أفراد الإنسان ، لكونه مما يعلم به الصانع ، أو لاشتماله على جميع ما في العالم الكبير وعلى كل جزئي من جزئيات عالم الأكوان بلا فرق بين الأجزاء

__________________

(١) لم أظفر على مصدره ولكن في «الاختصاص» : ص ١٤٢ روي عن العالم عليه‌السلام ما يقرب منه ، قال : «خلق الله عالمين متصلين : فعالم علوي ، وعالم سفلي ، وركب العالمين جميعا في ابن آدم وخلقه كرويا مدورا فخلق الله رأس ابن آدم كقبة الفلك ، وشعره كعدد النجوم ، وعينيه كالشمس والقمر ، ومنخريه كالشمال والجنوب وأذنيه كالمشرق والمغرب ، وجعل لمحه كالبرق ، وكلامه كالرعد ، ومشيه كسير الكواكب ... إلخ» وسيأتي تمامه في المتن إن شاء الله.

٤١٠

الروحانية والجسمانية وهذه الإطلاقات وإن كانت جارية في العالم ، فلا يستوعب جميع المخلوق على بعض الوجوه ، إلا أن العالمين يستوعب جميع الأفراد من جميع الأجناس ، وبالجملة جميع ما سوى الله بالشمول الجمعي أو المجموعي أو الأفرادي ، فيحمل عليه ما لم يقم قرينة على خلافه ، فلا يصغي حينئذ إلى ما ربما يقال : من أن العالمين أيضا له إطلاقات فيطلق على الإنس والجن كقوله (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) وعلى الإنس كقوله : (بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٢) وعلى أهل الكتاب كقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، على خصوص المؤمنين كقوله : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ، وعلى المنافقين : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) ، وعلى أهل كل قرن من القرون : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، وعلى مجموع السموات والأرض وما بينهما كما في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) ، وعلى كل ما سوى الله كما في آية الحمد.

إذ فيه : أن الظاهر إرادة المعنى الأخير منه في سائر الموارد أيضا ، واختصاص المورد لا يقتضي باختصاص المعنى بعد صلاحية الإطلاق في الجميع ، ومساعدة الوضع في توافق العالمين.

قد سمعت التصريح في الخبر المتقدم عن مولانا الصادق عليه‌السلام بانقسام العالم إلى العالم الصغير والكبير ، وقد وقع التلويح به في أخبار أخر أيضا ، كما روى عنه عليه‌السلام أن الصورة الإنسانية هي أكبر حجة لله على خلقه ، وهي الكتاب الذي كتبه بيده ، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين ، وهي المختصر

__________________

(١) الفرقان : ١.

(٢) الأنبياء : ٧١.

٤١١

من العلوم في اللوح المحفوظ ، وهي الشاهد على كل غائب ، وهي الحجة على كل جاحد ، وهي الطريق المستقيم إلى كل خبر ، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار (١).

وفي الأشعار المنسوبة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

دوائك وما تشعر

ودائك منك ولا تبصر

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي

بأحرفه يظهر المضمر

فلا حاجة لك في خارج

تخبّر عنك بما تنظر

وإليه الإشارة في التفسير الباطن بقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٢) ، فإن الإنسان مطرح لأشعة الأنوار القدسية ، وبقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٣) أي جعله مظهرا لجميع الأسماء الإلهية ، والتجلّيات الربانية ولذا اختصّ من بين الموجودات بالخلافة الإلهية في العوالم الكلية ، فإن نسخة وجود آدم موافقة لما في العالم وأنموذج له ، ولذا يقال : إن الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير ، وربما يقال بالعكس على بعض الوجوه ، فقد اندرج في الإنسان على وجه الإجمال والاختصار كليات ما في العوالم كلها ، فإنه قد تنزل منها وانصبغ بصبغها.

ففي الشخص الإنساني نشأة إجمالية قرآنية ، وفي الإنسان الكبير نشأة تفصيلية فرقانية.

كما رواه صاحب كتاب «الاختصاص» قال العالم : خلق الله عالمين : فعالم علوي وعالم سفلي ، وركب العالمين جميعا في ابن آدم وخلقه كرويا مدورا ، فخلق

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى : ج ١ / ١٢.

(٢) الواقعة : ٧٥.

(٣) البقرة : ٣١.

٤١٢

الله رأس ابن آدم كقبة الفلك ، وشعره كعدد النجوم ، وعينيه كالشمس والقمر ، ومنخريه كالشمال والجنوب ، وأذنية كالمشرق والمغرب ، وجعل لمحه كالبرق ، وكلامه كالرعد ، ومشيه كسير الكواكب ، وقعوده كشرفها ، وغفوه (١) كهبوطها ، وموته كاحتراقها ، وخلق في ظهره أربعة وعشرين فقرة كعدد ساعات الليل والنهار ، وخلق له ثلاثين معي كعدد الهلال ثلاثين يوما ، وخلق له اثنى عشر وصلا كعدد السنة اثنى عشر شهرا ، وخلق له ثلاثمائة وستّين عرقا كعدد السنة ثلاثمائة وستين يوما ، وخلق له سبعمائة عصبة واثنى عشر عضوا ، وهو مقدار (٢) ما يقيم الجنين في بطن أمه ، وعجنه من مياه أربعة : فخلق المالح في عينيه ، فهما لا يذوبان في الحر ، ولا يجمدان في البرد ، وخلق المر في أذنيه لكيلا تقربهما الهوام ، وخلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد وخلق العذب في لسانه ليجد طعم الطعام والشراب ، وخلقه بنفس وجسد وروح ، فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا ، ونفسه الّتي يرى بها الأحلام وجسمه هو الذي يبلى ويرجع إلى التراب (٣).

وذكر بعض أرباب التحقيق في بيان هذا التطبيق أنّ نظير الأفلاك طبقات أعضائه التسعة المتناضدة المصلح كل عال لسافله من المخ والعظم والعصب واللحم والدم والأوردة والشرائين والجلد والشعر والظفر.

ونظير الأقسام الاثنى عشر المسماة بالبروج الثقب الاثنى عشر التي نصفها في اليمين الجنوبي ونصفها في الشمال الشمالي ، وهي ثقبتان في كل من العين والأذن والأنف والثدي والفرج مع الفم والسرة.

ونظير السيارات الأعضاء الرئيسية السبعة وهي الدماغ والقلب والكبد

__________________

(١) الغفو : النومة الخفيفة.

(٢) «وهو مقدار ما يقيم» أي الإثنا عشر ، فإن أكثر الحمل إثنا عشر شهرا على الأشهر.

(٣) بحار الأنوار : ج ٦١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، ح ٦ ، عن «الاختصاص» : ص ١٤٢.

٤١٣

والطحال والرئة والكلية والأنثيان ، أو الأعضاء الآلية وهي اليد والرجل والعين والأذن واللسان والبطن والفرج.

ونظائر روحانيات الكواكب السبعة الفعالة القوى السبعة المدركة ، فالحواسّ الظاهرة كالمتحيرة ، والعاقلة كالشمس ، والناطقة كالقمر ، إذ الناطقة مستفيدة للنور من العاقلة ، ولذلك عدد حروف النطق كعدد منازل القمر.

وكما أن لكل من الخمسة المتحيّرة بيتين لكلّ من الحواس الخمس مجريان ، فللذوق الفم والفرج ، وللمس اليدان ، والباقي ظاهر.

وكما أن لكل من الشمس والقمر بيتا واحدا ، فللعاقلة بيت واحد هو وسط الدماغ كوسط الأفلاك للشمس ، وللناطقة اللسان ، ونظير الجوزهرين الصحة والسقم حيث لا يدرك ذاتهما بل أثرهما ولذلك غلب آثارهما في الدماغ والقلب كآثار الجوزهرين في الشمس والقمر بالكسوف والخسوف. ولذلك يسري صحتهما وسقمهما في سائر الأعضاء سريان حال الشمس والقمر في سائر الكواكب ، ونظير الأركان الأخلاط.

ثم البدن كالأرض ، والعظام كالجبال ، والبطن كالبحر ، والعروق كالأنهار ، والمخ كالمعدن ، والشعر كالنبات ، والقدّام كالمشرق ، والخلف كالمغرب ، واليمين كالجنوب ، والشمال كالشمال ، والأنفاس كالرياح ، والصوت كالرعد والبكاء كالمطر ، والفم كظلمة الليل ، والنوم كالموت ، واليقظة كالحياة ، والصبى كالربيع ، والشباب كالصيف ، والكهولة كالخريف ، والشيخوخة كالشتاء ، والحركة كدوران الكواكب ، والحضور كالطلوع ، والغيبة كالغروب ، واستقامة أموره كاستقامة الكواكب ، والتوقف كالوقوف ، والندامة كالرجوع ، والجاه والرفعة كالشرف ، والأوج وعكسه كالهبوط ، والنفس الإنسانية كالملك ، والجسد كالمدينة ، والقوى كالعسكر ، والملائكة والأعضاء كالرعايا والخدم ، والحواس الظاهرة كأصحاب الأخبار

٤١٤

المنصوبة في كل ناحية معينة من المملكة لاتصال خبر مخصوص لا مشارك له.

ثم القوى الخمس الباطنة للنفس الناطقة ثلاثة منها كالندماء والحجاب والخواص المطلعة على أسرار الملك وهي المتخيلة في مقدم الدماغ ، والمفكّرة في وسطه ، والحافظة في آخره.

والرابعة وهي الناطقة كالترجمان المعبّر عما في ضمير الملك.

والخامسة وهي العاقلة كالوزير المدبر لأمر المملكة وسياسة الرعية.

وهذه القوى متفاوتة في إتمام أمر الملك ، فالمتخيلة تأخذ صور المحسوسات من الحواس الظاهرة ويسلّمها للمفكّرة التي يتصرّف فيها ويميّز بين الحق والباطل ويسلّمها إلى الحافظة ليأخذ منها الذاكرة ، ويظهرها الناطقة بعبارة توافق إرادة النفس لتستعلمها العاقلة في أعمالها المذكورة.

إلى غير ذلك من وجوه المطابقة والموافقة ، لكنها مع ابتنائها على بعض المناسبات كما ترى لا يخلو جملة منها من بعض التكلف.

والذي ينبغي أن يقال في المراد بهذا التطبيق مع عدم المنع عما ذكر ، سيما مع ورود بعض النصوص به : أنّ الإنسان وإن كان من حيث حقيقته ونورانيته وملكوته سابقا على الأشياء كلها في رتبة الوجود إلّا أنّه في عالم الناسوت متأخّر عنها جميعا ، إذا الحقائق الملكوتية يتأخر عنها في الناسوت ما كان مقدّما منها في الملكوت كتأخّر ظهور الثمرة عن كينونة الشجرة مع أنها الأصل والمادة للشجرة ، وتأخر خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سائرهم مع أنه كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، بل آدم ومن دونه تحت لوائه ، وكلهم خلقوا من أشعة نوره ، وفاضل ظهوره ، وتأخر إفاضة الأرواح عن خلق الأبدان مع أنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف عام أو سبعين ألف عام ، فلمّا خلق الله سبحانه كليّات العوالم مبتدأ بالأعلى الأصفى الألطف الأشرف إلى أن انتهى الأمر إلى الأسفل الأكثف خلق الإنسان في أنزل

٤١٥

مراتب الوجود وآخرها ، ولذا (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (١) أي سموات العقول والأرواح وغيرها من المجردات التي لا تعلق لها بمادة أو بمدة ، وأرض النفوس والأجسام وغيرها من الماديّات التي هي كالقشور والأكمام الكثافات ، فلمّا تمت الأدوار وعادت الأكوار وكملت الأنوار واستخبت الأسرار بدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من ماء مهين في قرار مكين ، وحيث إنّ أول السنة يوم السبت المتعلق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنه أول ما خلق الله فكان خلق الإنسان في يوم الجمعة لكونه مجمعا للعوالم الكلية ، ولذا سمي به.

وإليه الإشارة بقول مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في «الكافي» قال : «إنّ الله عزوجل لما أراد أن يخلق آدم على نبينا وآله وعليه‌السلام بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا وأخذ من كل سماء تربة ، وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله» (٢) الخبر.

وذلك أن الله تعالى خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم ، ونحن في آخر العوالم وآخر الآدميين ، فأول ساعة من يوم الجمعة إشارة إلى أول آخر مراتب العوالم بأجمعها ، وهو يوم جمع فيه مراتب الوجود الكلية من عالم المشية والعقل والنفس والروح والمثال والطبيعة والعنصر ، فبدأ خلقه من الطين الذي هو مجمع القابليات ، ومحل الاستعدادات ، ومطرح أشعة التجليات والإشراقات ، ثم أفيض عليه من القوى والأنوار مبتدأ من الأخسّ الذي هو القوى النباتية ثم الحيوانية

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٧ / ٨٧ ، ح ١٠ ، عن «الكافي» : ج ٢ / ٥.

٤١٦

وهكذا إلى أن ينتهي إلى الناطقة القدسية والكلية الإلهية ، عكس القوس الأولى هبوطا وصعودا ، فالإنسان قد اجتمعت فيه قوى المعادن والنباتات والحيوانات والملائكة ، بل قوى بسايط العالم من العناصر الأربعة ، والأفلاك السبعة التي لكل منها روحانية خاصّة ، وكوكبها محل القلب منها ، فإن الشمس ينبوع القوة الحيوانية ، والقمر ينبوع القوة الطبيعية ، وزحل ينبوع القوة الماسكة ، والمشتري ينبوع القوة النامية ، وعطارد ينبوع القوة الفكرية والذكرية ، والمرّيخ ينبوع القوّة الغضبية ، والزهرة ينبوع القوة الشهوية ، ولذلك يكون عطارد والمرّيخ والزهرة في المواليد أدلّة على أخلاق صاحبها وصناعته.

كما ذكر معلم الأحكام بطلميوس في كلمة من كلماته ، وربما تساعده التجارب الأحكامية في زائجة المواليد.

نعم ، ذكر بعض مشايخنا عطر الله مرقده أنّ روحانية القوة العلمية في فلك المشتري ، والخيالية في فلك الزهرة ، والفكرية في عطارد ، والوهمية في المريخ ، والتعقلية في زحل ، والحياة في فلك القمر ، والوجود الثاني من الشمس ، فقبض من كل هذه الأفلاك قبضة ، ومن محدّد الجهات قبضة خلق منها قلبه ، ومن الكرسي قبضة خلق منها صدره ، حكاه من بعض العارفين ثم قال : وأنا أكتب هذا فيما كتبت حيث أقرّ به قلبي استنادا إلى اعتبارات منها قطعية ومنها ظنية متآخمة للعلم ، والمستند ما يشير إليه الأخبار.

قلت : ولست بصدد ترجيح أحد القولين على الآخر ، لكن المقصود المشترك بينهما كون الإنسان مجمعا لقواها وروحانيتها مطرحا لأشعة نجومها ، ولذا سماه الله تعالى في باطن قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (١).

__________________

(١) الواقعة : ٧٥.

٤١٧

ومنه انكشف السر عن قول مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء :

«يا من استوى برحمانيته على العرش ، فصار العرش غيبا في رحمانيته كما كانت العوالم غيبا في عرشه ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات الأفلاك الأنوار (١).

فالمراد بالعرش في المقام هو قلب المؤمن الذي صارت العوالم غيبا فيه واستوى عليه الرحمن برحمانيته.

ولذا ورد :

«لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» (٢).

فكما أنّ القلب عرش للعالم الصغير فكذلك العرش العظيم قلب للإنسان الكبير ، وإدراك الإنسان لكل من العوالم والمراتب إنما هو بواسطة ما خمر فيه من اقبضة المأخوذة من ذلك العالم.

فالعوالم متطابقة متوافقة ، وتلك القبضات كالجداول والأنهار المتصلة بالبحر ، وكالكوى والشبابيك التي يدخل منها الضوء في البيت.

فظاهر الإنسان ناسوتي جسماني عنصري ، وفي بدنه العنصري بدن مثالي برزخي ، وله سبيل آخر إلى عالم المثال المسمى بعالم الهور قليا وبالخيال المنفصل والمراد بالسبيل هو الخيال المتصل الذي يحصل به الاطلاع على المقادير المجردة عن المواد العنصرية ، ولذا يسمى بالخيال المقيّد ، كما أن عالم المثال يسمى بالخيال المطلق ، وعند تحقق النوم وانقطاع توجه النفس عن التصرف في هذا البدن ، ينفتح الباب بينها وبين هذا العالم ، فيشاهد ما فيها من الحقائق المتجلية التي يعبر عنها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢٢٧ ، عن «الإقبال» : ص ٣٥٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٥ / ٣٩.

٤١٨

بالرؤيا الصادقة وبالمبشّرات ، أو من التجليات الفاسدة التي يختلقها بواسطة الوهم المعبرة عنها بأضغاث الأحلام.

وله أيضا باب متصل إلى عالم النفوس بأقسامها الأربعة الآتية وإلى العقول بأقسامها ، فإن للعقل رؤوسا بعدد الخلائق ، كما ورد في الخبر : «ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل» (١).

وهذا الباب قد ينسد فيعرض الجنون الذي هو ستر العقل بحجاب الغفلة ، أو المعصية أو الأمور البدنية ، وغلبة الاخلاط الغير طبيعية.

ومع انفتاحه قد يتسع فيكمل العقول ويتمّ الأحلام فيصير القلب مجتمعا والمدينة حصينة ، والصدور أمينة والأحلام وزينة.

وهذا إذا انفتح الباب ونعق الغراب ، وأزيل ريشه لكينونة العقاب ، ووضع الله يده على رؤوس أولي الألباب بظهور ولي الله الذي عليه الحساب وإليه الإياب. ولذا قال مولانا الباقر عليه‌السلام على ما رواه في «الكافي» : «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم» (٢).

وله أيضا باب إلى عالم المشية يسمى بالفؤاد وباب الاستعداد ومادة المواد ، ومجمع الأضداد ، وغاية المراد ، وأقصى البلاد من أرض السواد وفاقد الأنداد ، وهو المشية الجزئية والكلية الإلهية به يشاهد بعين اليقين ، ويصل إلى حق اليقين ، وهو المعبر عنه بالوجود الأول ، والوجود المطلق أي بالنسبة إلى الشخص ، وإلا فهو مقيّد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ / ٩٩ ، عن «علل الشرائع» عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل مما خلق الله عزوجل العقل؟ قال : خلقه ملك له رؤوس بعدد الخلائق من خلق ومن يخلق إلى يوم القيامة ولكل رأس وجه ، ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل واسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب ... إلخ».

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٢ / ٣٢٨.

٤١٩

ينتهي إلى المطلق ، كما أن المشية الجزئية تنتهي إلى الكلية التي هو العقل.

ثم إنّك إذا تتبعت أنحاء الموجودات وتطوّر الكائنات وجدت في كل نوع من أنواعها أو جنس من أجناسها صفة غالبة يختص بها ، بحيث كأنّه صار مظهرا لها من بين سائر الموجودات ، ولذا لا يكاد يفقدها فرد من أفراده.

وأما الإنسان فهو الجامع لجميع هذه الصفات والأطوار بحسب القبول والاستعداد ، ولذا يتصف بها أفراده على وجه الجمعية أو التوارد أو الاختصاص الناشي من الفعل لا الذات لبقاء قبول غيرها ، بل فعلية غيرها في غيره من الإفراد ، ولذا ترى فيه خاصية الملائكة من الطاعة والحياة ، بل التقوى والانتعاش والتغذي بالعبادة ، والخاصية الكلية لجميع الحيوانات من جلب المنفعة ودفع المضرة إمّا قهرا وغلبة كالسباع ، وهم الملوك والجبابرة والفراعنة ، الذي يسعون في الأرض علوا وفسادا ، أو تملّقا كالكلاب والهرّة ، أو حيلة كالعنكبوت والثعلب ، ففيهم الزاهد العابد كالملائكة ، والطاغي المتمرد كالشياطين والخناس في صدور الناس كالوسواس ، والشجاع القوي المتهوّر كالأسد ، والمتكبر المتنمّر كالنمر ، والجبان كالأرنب ، والسخي كالديك ، والبخيل كالكلب ، والمتسلح كالقنفذ ، والهارب كالطير ، والفخور كالطاووس ، والسارق الموذي كالفأرة ، والوحشي كالنمر ، والأنيس كالحمام ، والحقير كالحمار ، والصانع المهندس كالنحل ، والسليم كالغنم ، والحمول كالبقر ، والحقود كالجمل ، والحريص كالخنزير ، والجامع الذخار كالنمل ، والشموس كالبغل ، والمبارك كالطوطي ، والشوم كالبوم ، إلى غير ذلك من الصفات الظاهرة في مظاهر الموجودات المجتمعة في المؤخر الجامع الذي هو الإنسان ، ولذا كان مظهرا في كينونته للمقدم الجامع الذي هو اسم الله ، لاحتوائه على جميع النشآت والتجليات ، وقابليته للتعرض لقاطبة النفحات ، وتوسطه بين العوالم الخمس الكلية التي يعبر عنها بالحضرات ، لا على الوجه الذي فسّرها الصوفية من أن أولها حضرة

٤٢٠