تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

قوّة نظريّة علميّة ، وقوة عمليّة ، فإنّ له قوّة الإدراك وقوّة التحريك ، ولكل منهما شعبتان : العقل النظري ، والعقل العملي ، والشهوة ، والغضب.

الأوّل مبدء التأثر عن المبادى العالية لقبول الصور العلميّة.

والثانية مبدء تحريك البدن في الأفعال الجزئية بالرويّة.

والثالثة مبدء جلب الملائم ، والرابعة مبدء رفع غير الملائم على وجه الغلبة.

فإن كانت الاولى قاهرة غالبة على غيرها يحصل انتظام الأمور الانسانية في الحال والمآل ، ويحصل الوفاق والتسالم بين القوى الأربعة ، ويدخلن في السلم كافة ، ولا يتبعن خطوات الشيطان ، فينزل الله السكينة ، وتكون المدينة حصينة فيحصل من تهذيب العاقلة الحكمة ، ومن تهذيب الغضبيّة الحكم والشجاعة ، ومن تهذيب الشهوية العفّة ، ومن رعاية الاعتدال في جميع القوى العدالة.

وليعلم أيضا أنّ هذه الأربعة بمنزلة الأوساط ولكلّ وسط طرفا إفراط وتفريط.

اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادّة كما أثر عن أمير المؤمنين عليه صلوات الله (١).

ولمّا كان أجناس الفضائل أربعة كانت أجناس الرذائل ثمانية. فضدّ الحكمة في طرف الإفراط الجربزة مأخوذة من جربز اى ذهب أو انقبض أو سقط ، أو إنّها معرّبة كربزة اى الخداع الخبيث كما في القاموس (٢) ، وعلى كل حال يحصل من هذا الإفراط أخلاق رديّة كالمكر والخداع والشيطنة والوسوسة ، وسوء الظّن ، والتهمة ، والغدر.

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة (١٦).

(٢) باب الزاى فصل الجيم.

٥٨١

وفي طرف التفريط البلادة والبلاهة الّتي لا ينتقل معها إلى شيء لفرط الخمود والجمود ، وقلّة فطانته لدقائق الأمور فينشأ منها الحماقة والغفلة والانخداع والحيرة والسفاهة.

وضدّ العفّة في طرف الإفراط الفجور الذي لا يبالي معه صاحبه من السرقة وأكل الحرام والزنا ، وساير الفواحش.

وفي طرف التفريط الخمول من خمل إذا سقط فإنّ الخامل الساقط الذي لا نباهة له.

وضدّ الجرأة في طرف الإفراط التهور الذي لا يبالي معه صاحبه من الوقوع في المهالك ، فيقدم على ما ينبغي الحذر منه.

وفي طرف التفريط الجبن الذي تسكن معه النفس عن دفاع الضارّ ، وجلب الضروري ، ويكون معه الكسالة والبطالة.

ومن عدّ العدالة فضيلة رابعة خارجة عن مجموع الثلاثة قال : إنّ ضدّها في طرف الإفراط الظلم بالتصرّف في حقوق الناس وأموالهم بغير حقّ.

وفي طرف التفريط الانظلام اى قبول الظلم وتمكين الظالم من الظلم عليه وانقياده له فيما يريده من التعدّى فيما يتعلّق به.

لكن ربما يقال : إنّ للعدالة مع ملاحظة ما لا ينفكّ عنه من لازمه طرفا واحدا وهو الجور والظلم ، ويشمل جميع ذمائم الصفات ولا يختصّ بالتصرّف في حقوق الناس وأموالهم بدون جهة شرعيّة ، لأنّ العدالة بهذا المعنى عبارة عن ضبط العقل العملي تحت إشارة العقل النظري ، فهو جامع للكمالات بأسرها ، والظلم الذي هو مقابلها جامع للنقائص بأسرها ، إذ حقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهو يتناول جميع الذمائم ومنها الانظلام فإنّه تمكين الظالم في ظلمه وهو أيضا ظلم.

وفيه أنّ الغرض ضبط المعاني وأطراف الأوساط والتعبير فيها بالألفاظ الدالّة

٥٨٢

عليها ، ولا ريب أنّ للعدالة طرفين يعبّر عنهما بلفظين ، وتكلّف التعبير عنهما بلفظ واحد أو إرجاعهما الى جامع واحد ولو بالتلازم قليل الجدوى ، والكلام في العدالة بالمعنى الخاصّ الذي يقابله الظلم بالمعنى الخاصّ ، وأمّا العدالة بالمعنى العامّ الشامل لجميع الأوساط كما هو الحقّ فهو امتزاج القوى وتسالمها وانقيادها تحت العاقلة بحيث يرتفع بينها التنازع.

ثالثها : أنّ الحقيقة الواحدة ربما تظهر في العوالم المتعدّدة على صور متكثرة مختلفة غاية الاختلاف حتى في الجوهريّة والعرضية ، فإنّ الجواهر القائمة بنفسها في الخارج المستغنية عن غيرها فيه باعتبار وجودها في الذهن أعراض قائمة به حسب ما ذكره الحكماء المشاوون. وان كان لا يخلو من شيء ، لكنّه لا يقدح في أصل القاعدة.

فالعلم مثلا يظهر في الدنيا على المشاعر بصورة عرضيّة قائمة بها ، وفي النوم الذي هو المثال المنفصل يظهر بصورة اللّبن كما في الخبر : وفي الآخرة بصورة النور والحياة.

والظلم الذي هو من عوارض الأفعال والأقوال في هذه النشأة ظلمات يوم القيامة.

ومن يتفكّه بغيبة أخيه المسلم فإنّما يأكل لحم أخيه ميتا.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١).

ومن يشرب من آنية الذهب والفضّة فإنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم ، والجرجرة (٢) : الصبّ.

__________________

(١) النساء : ١٠.

(٢) اشارة الى ما في المجازات النبوية ص ٩٠ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للشارب في آنية الذهب والفضّة : «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم».

وعنه البحار : ج ٦٦ / ٥٣١.

٥٨٣

وذلك أنّ كل حقيقة محفوظة بنفسها في جميع العوالم ، لكنّها تختلف ظهورا وخفاء ، وحقيقة ومثالا باعتبار العوالم ، ففي الدنيا بصورة الجواهر والأعراض الكائنة فيها ، وفي الآخرة ، وهي اليوم الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر ، يظهر كل شيء بحقيقته الّتي هو عليها من دون مثال وحكاية ، فيظهر نور الإيمان والولاية بحقيقته النورانيّة ولذا قال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١).

وهو النور المشار اليه بقوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢).

ولذا (يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

في الدنيا (انْظُرُونا) اى انظروا إلينا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ، على سبيل الاستضائة والاستشراق ، (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) يعنى الى الدنيا (فَالْتَمِسُوا نُوراً) (٣).

فإنّ هناك يكتسب النور ، وهذا يوم الظهور ، فالدنيا عمل ولا جزاء والآخرة جزاء ولا عمل ، بل الدنيا هي أرض المحشر والطبقة الاولى من جهنّم وهي سجن المؤمن وناره ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٤) ، ولذا يقول المؤمنون يوم القيامة : جزناها ، وهي نار خامدة ، والحمّى حظّ المؤمن من قيح جهنّم ، والتكاليف الدنيويّة هي النار المؤججة في عالم الذرّات فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما.

وسوء الخلق هو الذي يوجب ضغطة القبر ، بل هو هي بعينها ، بل البدن الدنيوي قبر متصل لصاحبه قبل القبر المنفصل ، ولذا جعلت من بيانيّة في قوله

__________________

(١) الحديد : ١٢.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

(٣) الحديد : ١٣.

(٤) سورة مريم : ٧١.

٥٨٤

تعالى : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١) وقال : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢) ، واليه الاشارة بقول مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله

وأبدانهم قبل القبور قبور

وكلّ امرء لم يحيي بالعلم ميّت

وليس له حتى النشور نشور (٣)

وبالجملة صاحب الخلق السّيّئ ترى صدره ضيّقا حرجا وهو لا يزال في ضيق وضنك من العيش ، وهو ضمّة القبر له في الدنيا وفي البرزخ أيضا.

ولذا لمّا مات سعد بن معاذ (٤) وشيّعه سبعون الف ملك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشييعه بلا حذاء ولا رداء تأسيا بالملائكة ، ولحدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسوّى عليه اللبن بيده الشريفة ، فقالت امّ سعد يا سعد هنيئا لك الجنّة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا امّ سعد مه لا تجزمي على ربّك ، إنّ سعدا قد أصابته ضمّة ، إنّه كان في خلقه مع أهله سوء (٥).

وبعد ذلك كلّه ينكشف سرّ قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٦) وقوله : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨).

__________________

(١) الممتحنة : ١٣.

(٢) فاطر : ٢٢.

(٣) الديوان المنسوب الى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤) سعد بن معاذ الصحابي الأنصارى كان سيّد الأوس توفّي سنة (٥) ه بعد غزوة الأحزاب بسهم أصابه في تلك الغزوة ـ العبر ج ١ ص ٧.

(٥) بحار الأنوار : ج ٧٣ / ٢٩٧.

(٦) العنكبوت : ٥٤.

(٧) الصافات : ٣٩.

(٨) الزلزال : ٦ ـ ٧ ـ ٨.

٥٨٥

فتح للباب وكشف الحجاب

إن تقصد والرشد لدين قويم

فالتزموا صراطه المستقيم

من جاء بالحبّ له في الورى

فقد أتى الله بقلب سليم

اعلم أنّ مقتضى الالوهيّة أن يعرّف الله تعالى نفسه لعباده حتى يعرفوه وإذا عرفوه عبدوه ، كما ورد في اخبار مستفيضة ، ومقتضى الربوبيّة أن يسوق إليهم ما يمدّ وجودهم وبقائهم وتنقلهم وتحولهم في كل عالم من العوالم ، الأرواح ، والأشباح ، والأصلاب ، والأرحام إلى البرزخ والحشر ثم الى الجنة أو النار.

وقضيّة الإمكان أنّ الإنسان في كل العوالم يحتاج إلى جملة من الإمدادات والفيوضات بحسب أجزائه وأعضائه ومشاعره وقواه ، ولا تصل تلك الفيوضات إلا من الله سبحانه ، وحيث إنّه تعالى أبى أن يجرى الأمور إلا أسبابها ، ومنها الطريق الموصل للإفاضات الى العبد وهذا الطريق هو صراط الله الى عبده ، فكلّ من كان واسطة لإيصال شيء من الفيوض هو صراط منه سبحانه ، لكن الصراط الأتمّ الأقوم هو النبيّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمير المؤمنين ، وذريّته الطيّبون صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنهم (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) على أحد الوجهين من كون الوصف والضمير للصراط على وجه التحمّل والوساطة لا الشركة والاستقلال.

ولذا عقّبه بقوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٢) ولا ينافيه قوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أى إياب هذا الخلق (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٣) بعد حفظ الحدود ، وأفاض عليهم من رحمته ، وقامت بهم غيرهم قياما إفاضيا اشراقيا كالإشراقات

__________________

(١) الشورى : ٥٣.

(٢) الشورى : ٥٣.

(٣) الغاشية : ٢٦.

٥٨٦

الساطعة من المراة المجلوّة الموضوعة شطر الشمس ، بل كالشعاع الذي هو أثر فعل الشمس في انبساطه ، وتجلّيه وفيضانه على الأشياء.

نعم إنّهم عليهم‌السلام الصراط المستقيم من الحقّ الى الخلق في جميع الشؤون الفائضة منه سبحانه الى الخزائن الغيبيّة النازلة الى الخلق أجمعين ومن هنا يقال : إنّهم العلّة في خلق الأشياء فإنّ المستفاد من الأخبار المأثورة أنّ الله تعالى خلق من نور محمد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنوار جميع الأنبياء والملائكة والجنّة والعرش والكرسي ، والحجب والسماوات ، والأرضين.

قال شيخنا المجلسي في رسالة اعتقاداته : اعلموا أنّ الله تعالى كرّم نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته سلام الله عليهم أجمعين وفضّلهم على جميع خلقه ، وجعلهم معادن رحمته وعلمه وحكمته ، فهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود ، المخصوصون بالشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ومعنى الشفاعة وسائط فيوض الله تعالى في هذه النشأة والنشأة الآخرة ، إذ هم القابلون للفيوض الإلهيّة ، وبتطفّلهم تفيض الرحمة على سائر الموجودات.

وهذه هي الحكمة في لزوم الصلوات عليهم ، والتوسل بهم في كلّ حاجة ، لأنّه إذا صلّى عليهم لا يردّ ، لأنّ المبدأ فيّاض ، والمحلّ قابل ، ببركتهم تفيض على الداعي بل على جميع الخلق. إلى أن قال : فكذلك سائر الفيوض والكمالات هم وسائط بين ربّهم وبين سائر الموجودات ، فكلّ وجود يبتدأ بهم ، ثم ينقسم على سائر الخلق ، ففي الصلاة عليهم استجلاب الرحمة الى معدنها.

فقد صرّح في أوائل البحار بمثل ذلك ، وأنه قد ثبت في الاخبار كونهم علة غائيّة لجميع المخلوقات ، وأنه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها ... الى أن قال : فالحاصل انّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم‌السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في افاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات ....

٥٨٧

إيراد كلام لدفع أوهام

وكانّي بصائل يصول ويقول هذه كلّها من مقالات الغالين المنحرفين عن الدين المبين ، الهالكين في مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام كما قال عليه‌السلام : قد هلك فيّ رجلان محبّ غال ومبغض قال (١).

وذلك لأن هذه كلها شؤون الربوبيّة وخواصّ الألوهيّة ، وكيف ينسب تدبير نظام العالم إلى المستحدث من النّسم ، والموجود بعد العدم ، الذي ليس له حظّ من القدم ، وهل هذا إلّا الشرك في خلّاق العالم ، أول القول بالتفويض الّذي اطبق على عناده كافّة الأمم.

والاخبار الدالّة على إثبات بعض هذه الشؤون لهم يجب إطراحها أو تأويلها لشذوذها في نفسها ، وضعف أسانيد أكثرها ، ومخالفتها للأخبار الصحيحة الصّريحة المعتبرة ، بل للآيات المحكمة القرآنية.

كقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٢).

وقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٣).

وقوله : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) (٤).

وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

__________________

(١) في بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٢٨٥ عن المناقب ج ١ ص ٢٢٧ : يهلك في اثنان : محب غال ، ومبغض قال.

(٢) فاطر : ٣.

(٣) لقمان : ١١.

(٤) العنكبوت : ٦٠.

٥٨٨

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

وقوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) ، وقوله : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٤).

وما يدّعونه هؤلاء من أنّ هذه الشؤون منهم لمّا كانت باذنه سبحانه فكأنّها وقعت منه فلا تنافيه الآيات.

مدفوع بصريح قول مولينا الصادق عليه‌السلام : إنّ من زعم أنّا خالقون بأمر الله فقد كفر (٥).

بل ذكر الصدوق وفاقا لشيخه ابن الوليد (٦) : أنّ أوّل مرتبة الغلوّ نفي السهو عن النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام.

وذهب الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والعلّامة وغيرهم من أجلّة الإماميّة إلى بطلان القول بسبق خلق الأرواح على الأبدان.

مع أنّ القول باستناد تلك الشؤون إليهم ووساطتهم لها من بدو العالم لا يتمّ الّا على القول بالسبق ضرورة حدوث أبدانهم الشريفة في آخر الزمان ، فكيف تكون أرواحهم الشريفة مخلوقة قبل ذلك ، مدبّرة متصرّفة بإذن الله ولذا أنكروا عالم الذرّ ،

__________________

(١) الروم : ٤٠.

(٢) الرعد : ١٦.

(٣) الروم : ٨.

(٤) الذاريات : ٥٨.

(٥) لم أظفر على مصدره ولكن في البحار ج ٢٥ / ٣٤٣ ، عن اعتقادات الصدوق أنّا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه.

(٦) هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، ثقة ، ثقة ، عين ، عارف بالرجال له كتب ، روى ٧١ رواية. وكان من شيوخ الصدوق المتوفى (٣٨١) ه.

٥٨٩

حتّى قال المفيد في شرح اعتقادات الصدوق : إنّ القول به من مذاهب أصحاب التناسخ ، ومنهم من دخلت الشبهة على حشوية الشيعة فتوهّموا أنّ الذوات الفعّالة المأمورة المتهيّة كانت مخلوقة في الذرّة وتتعارف وتتعقل وتفهم وتنطق ثمّ خلق الله لها أجسادا بعد ذلك فركبها فيها ، ولو كانت ذلك كذلك لكنّا نعرف نحن ما كنّا عليه وإذا ذكرناه به ذكرناه.

إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله حسبما تسمع حكايته عند قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١).

والجواب عن ذلك وعن القدح فيما ينسب إليهم من علم الغيب وغيره من غرائب الأحوال وعجائب الأفعال أنّ هاهنا مقامين لتقرير الإشكال :

أحدهما أنّ هذه المراتب والشؤون بجميع معانيها أو على الوجوه المرادة منها ليست من المراتب الإمكانية الّتي أمكن اتّصاف أحد من المخلوقين بها بل كلّها من الشؤون الإلهية الّتي تفرد بها خالق الملك والملكوت ومشاركة غيره تعالى له فيها شرك صريح مردود بحكم المعقول والأثر المنقول.

وثانيهما أنّها مراتب إمكانية ممكنة في حقّ الممكنات إلّا انّه لا دليل على ثبوتها للائمّة عليهم‌السلام ، والأخبار الدالة عليه أحاد ليست بحجّة مطلقا سلّمنا لكن حجّيتها مقصورة على الفروع لا مثل هذه المسائل الّتي من الأصول أو من فروع الأصول دون الفروع ، سلّمنا لكنها فاقدة لشرائط الحجّية من صحّة السند وقوّة الدلالة والاستناد بالعمل وغيرها أو واجدة لموانعها كمخالفة الكتاب ووجود المعارض الأقوى ، وإعراض الاصحاب عن العمل بها.

امّا المقام الأوّل فالكلام فيه طويل عريض وحاصله أن هذه الشؤون

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢.

٥٩٠

والأحوال بل كلّ فعل من الأفعال إذا نسب إليهم أو غيرهم على وجه الاستقلال بان يكون الفعل منهم بحولهم وقوّتهم من دون إفاضة وتأثير من الله تعالى أصلا ، أو مع ابتدائيّة إنشائيّة لا مستمرّة متجدّدة سيّالة أو من الله وعبده على سبيل اشتراك كلّ منهما للآخر على وجه الثابت له ، فهذه الوجوه الثلاثة كلّها كفر صريح مخالفة للعقل الصحيح ، ونحن برآء من الذين يدينون الله بها ويعتقدونها في حقّ أحد من المخلوق.

وعليه يحمل الاخبار الدالّة على شرك القائل بالتفويض كالمرويّ في الإحتجاج عن ابى الحسن الرضا عليه‌السلام من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله فوّض أمر الخلايق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك (١).

بل الحقّ أنّ القول باستغناء الباقي في بقائه عن المؤثّر وأنّ الموجد للشيء مبق له بنفس الإيجاد من دون إفاضة متجدّدة مستمرّة راجع إلى الوجوه المتقدمة الموجبة للشرك وانثلام التوحيد ، وإن ذهب إليه بعض علماء الإسلام ، بل ربما مال إليه بعض مشايخنا العظام ، غفلة عن حقيقة الحال ، ونحن لا نقول بثبوت شيء من تلك الشؤون على شيء من هذه الوجوه ، بل المراد أنّهم عبيد مربوبون محتاجون مفتقرون ، بحيث قد فاق فقرهم على فقر العالمين لأنّ الخلق كلّهم عيال لهم ولذا قال مولينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الفقر فخرى وبه أفتخر على الأنبياء قبلي (٢).

لكن الله تعالى قد اصطفاهم وفضّلهم على جميع الخلق أجمعين واختارهم على علم على العالمين ، فجعلهم أبوابه وسبله وحملة فيضه ، وترجمان وحيه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ص ٧٠.

(٢) عوالي اللآلى ج ١ / ٣٩ ح ٣٨.

٥٩١

وبالجملة التوسط في الفيوض التكوينية والتشريعية غير مستنكر في الشريعة بل ربّما توجبه الحكمة الربانية ، وعليه جرت السنّة الالهيّة في التشريع ، فأرسل أنبياء وجعل لهم أوصياء وخلفاء ، وجعل بين الناس وبين القرى المباركة قرى ظاهرة في كينونات الأشياء أيضا فخلق لكلّ شيء شيئا فأضاء بالشمس ، وأنار بالقمر ، وسخّن بالنار ، وبرد بالماء ، ووكل بكلّ شيء ملائكة يحفظونه بأمر الله ، بل وكل بالشئون الأربعة الّتي هي أركان عرش التكوين الملئكة الاربعة المقربين ، كما ورد في كثير من الأخبار والأدعية ، ووكل بخلق المولود وتصويره ملكين خلّاقين يقتحمان رحم المرئة ، فيقولان يا ربّ نخلقه ذكرا أم أنثى ، سعيدا أم شقيا ، مليحا أم قبيحا ، ووكل بالامانة وقبض الأرواح ملئكة هم أعوان للملك الجليل عزرائيل بإذن الرب الجليل ، ولذا نسب القبض والتوفّى في صريح القرآن إليه وإلى كلّ منهما ، وقد أجاب مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الزنديق المدعى للتناقض في آي من القرآن كقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢) ، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٣) ، حيث إنّه تعالى يجعل الفعل مرّة لنفسه ، ومرّة لملك الموت ، ومرّة للملائكة بقوله عليه‌السلام : ان الله أجل وأعظم من ان يتولى ذلك بنفسه وفعل رسله وملئكة فعله لأنهم بامره يعملون فاصطفى جلّ ذكره من الملئكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه وهم الذين قال الله فيهم : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٤) فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملئكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولّى قبض روحه ملائكة النعمة.

__________________

(١) السجدة : ١٤.

(٢) الزمر : ٤٢.

(٣) النحل : ٢٨.

(٤) الحجّ : ٧٥.

٥٩٢

ولملك الموت أعوان من ملئكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكلّ ما يأتونه منسوب اليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء ويعطى ويمنع ويثيب ، ويعاقب على يد من يشاء وإنّ فعل امنائه فعله كما قال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١). (٢) إلى أن قال عليه‌السلام.

وامّا ما أراك من الخطاب بالانفراد مرّة وبالجمع اخرى ، من صفة الباري جلّ ذكره فان الله على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانية هو النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شيء لا يتغير ، ويحكم ما يشاء ويختار ولا معقب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزّه ولا نقص منه عالم يخلقه ، وانّما أراد بالخلق إظهار قدرته وإبداء سلطانه ، وتبين براهين حكمته ، فخلق ما شاء كما شاء ، وأجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من امنائه ، وكان فعلهم فعله ، وأمرهم امره كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣).

وجعل السماء والأرض ووعاء لمن شاء من خلقه ليميّز الخبيث من الطّيب ، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها ، وليجعل ذلك مثالا لأوليائه وامنائه ، وعرّف الخليقة فضل منزلة أوليائه ، وفرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منها لنفسه ، وألزمهم الحجّة بأن خاطبهم خطابا يدلّ على انفراده وتوحده وبأنّ له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله ، فهم العباد المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، وهم الذين ايّدهم بروح منه ، وعرّف الخلق اقتدارهم على علم الغيب ، بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ

__________________

(١) الإنسان : ٣٠ ـ التكوير : ٢٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩ عن الإحتجاج.

(٣) النساء : ٨٠.

٥٩٣

رَسُولٍ) (١) وهم النعيم الذي يسئل العباد عنه ، لان الله أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم.

قال السائل : من هؤلاء الحجج؟ قال علىّ عليه‌السلام : هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن حلّ محلّه من أصفيائه الله الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله ، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه وهم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) ، وقال فيهم : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٣).

قال السائل ما ذاك الأمر؟ قال علىّ عليه‌السلام : الّذى به تنزّل الملئكة في الليلة الّتي يفرق فيها كلّ امر حكيم من خلق ورزق ، وأجل وعمل وحيوة وموت ، وعلم غيب السموات والأرض ، والمعجزات الّتي لا ينبغي إلّا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه ، وهم وجه الله الذي قال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٤).

هم بقيّة الله يعنى المهدي الذي يأتى عند انقضاء هذه النظرة ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

ومن آياته الغيبة والاكتتام عند عموم الطغيان وحلول الانتقام ، ولو كان هذا الأمر الذي عرفتك نبأه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره لكان الخطاب يدلّ على فعل ماض غير دائم لا مستقبل ، ولقال نزّلت الملئكة وفرّق كلّ أمر حكيم ، ولم يقل : تنزّل الملئكة ويفرق كلّ أمر حكيم ، الخبر بطوله (٥).

__________________

(١) الجنّ : ٢٦.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) النساء : ٨٣.

(٤) البقرة : ١١٥.

(٥) بحار الأنوار : ج ٩٣ باب ردّ التناقض في القرآن ص ٩٨ ـ ١١٩.

٥٩٤

وانما زيّنا المقام بنقل كثير منه لاشتماله على فوائد مهمّة في المقام وغيره كالبيّنة على أنّ ضمائر الجمع في كثير من ايات القرآن لاقتران أوليائه بنفسه في تلك الشؤون مع كونه سبحانه على توحده وانفراده.

ولذا قال مولينا المجلسي رحمه‌الله بعد ذكر ما ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (١) ، من الأخبار الدالّة على أنّ المراد بضمير الجمع هو النبي والائمّة عليهم‌السلام : هذا تأويل ظاهر شايع في كلام العرب جار في كثير من الآيات إذ عادة السلاطين والأمراء جارية بأن ينسبوا ما يقع من خدمهم بأمرهم إلى أنفسهم مجازا ، بل أكثر الآيات الّتي وردت بصيغة الجمع وضميره كذلك كما لا يخفى على المتتبع. انتهى كلامه زيد مقامه (٢).

وكالتصريح بأنّهم عليهم‌السلام ولاة الأمر حسب ما فسّر به الآيتين (٣) بل صرّح بانّ ذلك الأمر الذي هم ولاته هو من جملة الأمور التكوينية من خلق ورزق وأجل وعمل إلى آخر ما ذكره.

بل فسر بهما الأمر في قوله : (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) (٤) والعمل في قوله : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٥) كما اليه الإشارة في الخطبة الاميرية الغديرية.

وبالجملة المتوسط في مثل تلك الشؤون على الوجه الذي سمعت ليس غلوّا فيهم ، ولا اثباتا للصفات الربوبيّة المطلقة الالهية لهم ، وقد قال مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما يحكى عن بعض الأصول : نحن اسرار الله المودعة في الهيا

__________________

(١) الغاشية : ٢٥.

(٢) ج ٢٤ / ٢٦٨ ومن الأخبار الدالّة ما رواه الكليني في الكافي ج ٨ / ١٦٢ ح ١٦٧ عن الكاظم عليه‌السلام : إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم ...

(٣) المراد بهما آية (٥٩) وآية (٨٣) من النساء.

(٤) الدخان : ٤ ـ ٥.

(٥) الأنبياء : ٢٧.

٥٩٥

كل البشرية ، يا سلمان نزّلونا عن الربوبيّة وادفعوا عنا حظوظ البشريّة ، فانا عنها مبعدون ، وممّا يجوز عليكم منزّهون ، ثمّ قولوا فينا ما استطعتم فإنّ البحر لا ينزف ، وسرّ الغيب لا يعرف ، وكلمة الله لا توصف ، ومن قال هناك لم وبم وممّ فقد كفر (١).

وقال مولينا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في البصائر وغيره : اجعلوا لنا ربّا نؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا فقال له السائل نقول ما شئنا قال عليه‌السلام وعسى أن نقول : والله ما خرج إليكم من علمنا إلّا الف غير معطوفة.

قال المجلسي رحمه‌الله : ألف غير معطوفة أى نصف حرف كناية عن نهاية القلّة فان الالف بالخطّ الكوفي نصفه مستقيم ونصفه معطوف هكذا «ل» وقيل : أى الف ليس بعده شيء ، وقيل : ألف ليس قبله صفراى باب واحد ثمّ قال : والاول هو الصّواب والمسموع من اولى الألباب (٢).

قلت : وقد ذكر السيّد السند رحمه‌الله في شرح الخطبة قال : وقد روى الكليني في الكافي ما معناه انّه قيل للصادق عليه‌السلام : إنّ ما علّمه النبي عليّا من الأبواب الّتي ينفتح من كلّ باب ألف باب هل ظهرت لشيعتكم كلّها؟ قال عليه‌السلام : ما ظهر منها باب أو بابان ، قال فما ظهر من فضلكم لشيعتك إلّا باب أو بابان؟ قال : وما عسى أن يظهر لكم ، والله ما ظهر لكم من فضلنا إلّا ألف غير معطوفة (٣).

__________________

(١) مشارق الأنوار ص ٦٩ ـ ٧٠ مثله بتفاوت.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٢٨٣ مع تفاوت يسير عن بصائر الدرجات ص ١٤٩.

(٣) ذكر المصنف هذا الحديث بالمعنى ونحن نذكره هنا بالنص تيمنا وتبركا ، ففي الكافي ١ / ٢٩٧ عن يونس بن رباط قال : «دخلت أنا وكامل التمار على ابى عبد الله عليه‌السلام فقال له كامل : جعلت فداك حديث رواه فلان فقال : أذكره ، فقال : حدثني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حدّث عليا عليه‌السلام بألف باب يوم توفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل باب يفتح الف باب فذاك ألف ألف باب ، فقال : لقد كان ذلك ، قلت : جعلت فداك ، فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم؟ فقال : يا كامل باب

٥٩٦

ثمّ قال رحمه‌الله : إن المعاني والدلالات كلّها انما تحصل بالحروف وتأليفها وترتيبها على نظم معيّن ، والحروف تحصل من انعطاف الالف اللّينية إلى الأطوار والأحوال الثمانية والعشرين فقبل انعطاف الالف لم تظهر الحروف ، فضلا عن ظهور المعاني المختلفة المتعدّدة الغير المتناهية فالالف الغير المعطوفة من حيث هي ليس فيها شيء أصلا من المعاني الّتي تظهر بالحروف.

أقول : ولعلّ التّعبير حينئذ بالألف الغير المعطوفة إشارة إلى عدم ظهور شيء من حقائقهم ومعاني ذواتهم ، ومعرفة كينوناتهم ، ومراتبهم عند الله تعالى لأحد من شيعتهم ، فضلا عن غيرهم.

وفي حديث معرفتهم بالنورانية : إنّ المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا اليه شيء إلّا شرح صدره ولم يشكّ ولم يرتدد (١) ، اعلم يا أبا ذر انا عبد الله عزوجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابا وقولوا ما شئتم في فضلنا فإنّكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته فانّ الله عزوجل قد أعطانا أكبر وأعظم عمّا يصفه وأصفكم أو يخطر على قلب أحدكم فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون (٢).

وفي الاحتجاج وتفسير الامام عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا وإياكم والغلوّ كغلو النصارى فانى برىء من الغالين (٣).

وفيه اشارة إلى معنى الغلوّ المنهي عنه فيهم ، وانه ما قيل فيهم من الصفات

__________________

أو بابان؟ فقلت : جعلت فداك ، فما يروى من فضلكم من الف الف باب الّا باب أو بابان؟ قال :

فقال : وما عسيتم أن ترووا من فضلنا ما تروون من فضلنا الّا ألفا غير معطوفة».

(١) وفي البحار : ولم يرتب.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٦ / ٢ عن والده.

(٣) البحار : ج ٢٥ / ٢٧٤ ح ٢٠ عن تفسير الامام عليه‌السلام ص ١٨ والاحتجاج للطبرسي ص ٢٤٢.

٥٩٧

الإمكانية الّتي تساوق العبوديّة فليس غلوّا في شيء ، ولذا بيّن الغلو بتشبيهه بغلوّ النصارى القائلين بالحلول والاتّحاد والتثليث وإضافة النبوّة إلى النبوّة ، وذلك لقصور أنظارهم وضيق صدورهم عن ملاحظة ما منّ الله تعالى على أوليائه من التّصرف في الملك والملكوت مع أنّ الأمر كله بيده سبحانه وحده لا شريك له حسب ما سمعت.

ومن هنا يعلم أنّ الأخبار الناهية عن الغلوّ محمولة على المعاني الثلاثة المتقدّمة كما هو معلوم من حال عبد الله بن سبا (١) اوّل الغلاة المذكور حاله في الرجال.

وفي بصائر الدرجات وكتاب الدلائل للحميري عن إسماعيل بن عبد العزيز قال : قال لي ابو عبد الله عليه‌السلام : يا إسماعيل ضع لي للمتوضّا ماء قال : فقمت فوضعت له فدخل فقلت في نفسي : أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوّضا ويتوضّأ.

قال فلم يلبث أن خرج ، فقال : يا اسمعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا ، فقال إسمعيل وكنت أقول إنّه هو وأقول وأقول (٢).

أقول : قيل : المراد انّه الربّ تعالى الله عن ذلك ، وأقول أي لم أرجع بعد عن هذا القول ، أو المعنى كنت مصرّا على هذا القول.

وفي حديث الأربعمائة عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إيّاكم والغلوّ فينا فإنّا

__________________

(١) قال المحدّث القمى قدس‌سره في سفينة البحار ج ٦ ص ٦٨ : عبد الله بن سبأ غال ملعون استهواه الشيطان وكان يأتيه ويلقى في روعه ما اعتقده من الباطل فكان يدّعى النبوة وأنّ أمير المؤمنين هو الله تعالى فحبسه أمير المؤمنين عليه‌السلام واستتابه فلم يتب فأحرقه بالنار.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٢٧٩ ح ٢٢ عن بصائر الدرجات ص ٦٤.

٥٩٨

عباد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم (١).

بل يستفاد من تتبع مذاهب الغلاة حسب ما نشير إليها في تفسير غير المغضوب عليهم : أنّ مساق الأخبار الرادّة عليهم ما سمعت من الحلول والاتحاد والالوهية والنبوة وغيرها ممّا يأتى اليه الاشارة ولذا

شبّه مولينا أبو محمد العسكري عليه‌السلام على ما في تفسيره وفي الإحتجاج بما يحكى عن قصورهم حيث قال راويا عن جدّه الرضا عليه‌السلام انّهم كانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله ، ويأملون نائله ، ويرجون التفيّؤ بظله ، والانتعاش بمعروفه ، والانقلاب إلى أهلهم بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا ، وينقذهم من التعرّض لدني المكاسب وجنس المطالب ، فبيناهم يسئلون عن طريق الملك ليترصّدوه وقد وجّهوا الرغبة نحوه وتعلقت قلوبهم برؤيته ، إذ قيل سيطلع عليكم في جيوشه ومراكبه وخيله ورجله ، فاذا رأيتموه فأعطوا من التعظيم حقّه ، ومن الإقرار بالمملكة واجبه ، وإياكم أن تسمّوا باسمه غيره ، أو تعظّموا سواه كتعظيمه فتكونوا قد بخستم الملك حقه وأزريتم عليه ، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمّها إليه سيّده ورجل قد جعلهم في جملته ، وأحوال قد حباه بها ، فنظر هؤلاء وهم للملك طالبون واستكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيّده ، ورفعوه عن أن يكون من هو المنعم عليه بما وجدوا معه عبدا ، فأقبلوا يحيّونه تحيّة الملك ، ويسمّونه باسمه ، ويجحدون أن يكون فوقه ملك ، أوله مالك.

فأقبل عليهم العبد المنعم عليه وسائر جنوده بالزجر والنهى عن ذلك والبرائة مما يسمّونه به ، ويخبرونهم بأن الملك هو الذي أنعم عليه بهذا واختصّه به.

__________________

(١) الخصال : ج ٢ / ٣٧ وعنه البحار : ج ٢٥ / ٢٧٠.

٥٩٩

وان قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه ويفوتكم كلّ ما أملتموه من جهته واقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويزدري عليهم قولهم فما ذاك كذلك حتى غضب عليهم الملك لما وجد هؤلاء قد ساووا به عبده وأزروا عليه في مملكته وبخسوه حقّ تعظيمه فحشرهم أجمعين إلى حبسه ، ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب ، فكذلك هؤلاء وجدوا أمير المؤمنين عليه‌السلام عبدا أكرمه الله ليبيّن فضله ويقيم حجته فصغّروا عندهم خالقهم ان يكون جعل عليّا له عبدا وكبّروا عليّا من أن يكون الله تعالى له ربا فسمّوا بغير اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته وقالوا لهم يا هؤلاء إنّ عليّا وولده عباد مكرمون مخلوقون مدبّرون لا يقدرون إلّا ما أقدرهم عليه الله ربّ العالمين ، ولا يملكون إلّا ما ملّكهم الله ، ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا ولا قبضا ولا بسطا ولا حركة ولا سكونا إلّا ما أقدرهم عليه وطوّقهم وأنّ ربهم وخالقهم يجلّ عن صفات المحدثين ويتعالى عن نعوت المخلوقين ، وأنّ من اتّخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون الله فهو من الكافرين ، وقد ضلّوا سواء السبيل ، فأبى القوم إلّا جماها ، وامتدّوا في طغيانهم يعمهون ، فبطلت أمانيّهم وخابت مطالبهم ، وبقوا في العذاب الأليم (١).

وبالجملة ان كون الشؤون المذكورة على الوجه المتقدم من المراتب الإمكانية الّتي يجب تنزيه الواجب عنها ويمكن اتّصاف بعض الممكنات بها ممّا لا ريب فيه ولا شبهة يعتريه ولعلّ تطويل الكلام فيه من الاشتغال بالواضحات.

وما أحسن ما ذكره شيخ فلاسفة الإسلام من انّه كلّ ما لم يقم على امتناعه صحيح البرهان فذروه في بقعة الإمكان.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ عن احتجاج الطبرسي ص ٢٤٢ وتفسير الامام عليه‌السلام ص ١٨ ـ ٢١.

٦٠٠