تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الاستعمال فاعتبر الأصل ، وكذا ألفي (اللهِ) وكذا (الرَّحْمنِ) ، فإن القاعدة تقتضي كتبه مثلهما ، وإنما شاع تركهما في خصوصهما ، فإنه اعتبر فيهما أيضا الأصل وكذا اللام والهمزة من (اللهِ) فإن الأصل فيه كما قيل أن يكتب لالله لكنهم نقصوا الهمزة لالتباسه بالنفي فصار لله فاستكرهوا اجتماع ثلاث لامات. فحذفوا إحداها فصار لله ، وإذا اعتبر جميع ما ذكرناه بلغ إلى ما ذكرناه ، لكن اعتبار الحروف المكتوبة بعيد جدا ، والظاهر أن الاعتبار هنا بالحروف الملفوظة ويحتمل أن يكون الشهيد أيضا اعتبر الملفوظة لكن ملفوظة كل كلمة على تقدير التلفظ بها منفردة بالابتداء بها والوقف عليه ، وهو يوافق ما ذكرناه من اعتبار المكتوبة ، فإن القاعدة في كتابه كل كلمة هو كتابة ما يتلفظ به منه على ذلك التقدير إلا أنه خولف ذلك في بعض المواضع لنكتة ، فإذا اعتبر المكتوبة على القاعدة بتوافي المكتوبة على ذلك الوجه ضم التشديدات الخمسة وحرف المد يبلغ ما ذكره ، لكن اعتبار الملفوظة على ذلك الوجه أيضا كأنه بعيد.

أقول : وهذا كلّه كما ترى تكلّف في تكلّف ، ولا يبعد اختلاف الاعتبارات باختلاف المقامات فيعتبر الملفوظة في باب القراءة ، والمكتوبة في نحو الكتابة.

الاستعاذة

الاستعاذة : استفعال من عاذ يعوذ عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة :

إذا التجأ واستجار به وامتنع ، فالمستعيذ طالب العوذ والالتجاء الي رحمته وعصمته ، بخلاف العائذ فانّه الملتجى ، قيل : ويستعمل بمعنى الالتصاق أيضا ، فمعناه حينئذ ألصق نفسي بفضل الله ورحمته.

٤١

حكم الاستعاذة

ولا خلاف بيننا في استحباب الاستعاذة قبل القراءة بلا فرق بين كون المقروء تمام السورة أو بعضها ، مفتتحا بالبسملة أو لا ، حتي بعض الآية ، وبالجملة كل ما يصدق عليه القرآن ، لقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١).

وفي «تفسير العياشي» عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سئلته عن التعوذّ من الشيطان عند كل سورة نفتحها؟ قال : نعم ، فتعوذّ بالله من الشيطان الرجيم (٢).

ويحمل الأمر في الآية عليه ، وإن كان ظاهرا في الوجوب ، بل يمكن أن يقال بعد تسليم ذلك في موضعه : ليس الأمر في الآية ظاهرا فيه لكون المطلوب فيه غيريا ، فلا يتجاوز مطلوبية مطلوبية ذلك الغير ، وهي على وجه الاستحباب من حيث الذات ، وأما العوارض فلا عبرة بها.

ومن جميع ما مر مضافا إلى الأصل والاستصحاب وعدم مزية المقدمة على ذيها ، يظهر ضعف ما حكاه في «الذكرى» عن أبي علي (٣) ابن الشيخ رحمة الله عليه من القول بوجوبها في خصوص الصلاة ، لكونه مردودا بما سمعت ، بل مسبوقا بالإجماع حسب ما ادعاه والده شيخ الطائفة (٤) مضافا إلى ما رواه

__________________

(١) سورة النحل : ٩٨.

(٢) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٠ ح ٦٨ الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته ... إلخ ـ وعنه البحار ١٩ / ٥٤.

(٣) أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي ، أجازه والده في سنة (٤٥٥) ه ، وقرأ على والده أبي جعفر جميع تصانيفه ، وله كتاب الأمالي وشرح النهاية.

(٤) شيخ الطائفة على الإطلاق هو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي تلمذ على الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وغيرهما ، وكان فضلاء تلامذته المجتهدون يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة ومن العامة ما لا تحصى.

٤٢

الصدوق (١) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتم الناس صلاة وأوجزهم ، كان إذا دخل في صلاته قال : الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم (٢).

وما يحكى عن بعض العامة كعطاء (٣) بن أبي رباح ، والرازي ، وداود (٤) وأصحابه وغيرهم من القول بوجوبها ، مطلقا نظرا إلى ظاهر الآية ، بل عن داود وأصحابه بطلان الصلاة بتركها ، وعن ابن سيرين (٥) وجوب التعوذ في العمر مرة واحدة نظرا إلى حصول الامتثال به ، كضعف ما حكاه العلّامة (٦) في «المنتهى» عن

__________________

ولد في شهر رمضان سنة (٣٨٥) ه وقدم العراق سنة (٤٠٨) ه وكان ببغداد ثم هاجر إلى النجف الأشرف وبقي هناك إلى أن توفي سنة (٤٦٠) ه.

(١) هو الشيخ الأجل أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. يقال : ولد بدعاء صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، سنة (٣٠٦) ه كان ثقة حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال له نحو (٣٠٠) مصنف منها «من لا يحضره الفقيه» توفى بالري سنة (٣٨١) ه وقبره مزار معروف في بقعة عالية.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣٠٦ ، ح ٩٢٠.

(٣) عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان ، تابعي ، كان من الفقهاء وكان بنو أمية يعظمونه جدا حتى أمروا المنادي ينادي : لا يفتي الناس إلا عطاء وإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح ، ولد عطاء سنة (٢٧) ه باليمن ومات بمكة المكرمة سنة (١١٤) ه ـ تذكرة الحفاظ : ج ١ / ٩٣ ، ـ سفينة البحار : ج ٦ / ٢٩٥.

(٤) هو داود بن علي بن خلف أبو سليمان الظاهري الاصبهاني ولد بالكوفة سنة (٢٠١) ه وتوفي ببغداد سنة (٢٧٠) ه ـ الأعلام ج ٣ / ٨.

(٥) هو محمد بن سيرين أبو بكر البصري الأنصاري بالولاء ، تابعي ولد سنة (٣٣) بالبصرة وتوفي بها سنة (١١٠) ه ، نشأ بزازا في أذنه صمم ، وتفقه وروى الحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا وقصّته مع التي راودته عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت : هيت لك ، معروفة فلمكان احترازه عن المعصية أعطاه الله سبحانه علم التعبير ، وهذا لا ينافي ما قيل في نصبه كما نقل المحدث القمي عن شيخة الطبرسي النوري قدس‌سرهما : أن ابن سيرين كان مؤدّب ولد الحجاج ، وكان يسمعه يلعن عليا فلا ينكر عليه ، فلما لعن الناس الحجاج خرج من المسجد وقال : لا أطيق أسمع شتمه. ـ سفينة البحار : ج ٤ / ٣٥٥.

(٦) هو جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر العلامة الحلي ، لا نظير له

٤٣

محمد بن سيرين من أنه كان يتعوذ بعد القراءة (١) ، بل ربما يحكى عن النخعي (٢) ، وداود الأصفهاني أيضا ، لكونها شرط المطلوبية في ظاهر الآية وهو متقدم على المشروط.

وفيه أن المراد إرادة القراءة فوضعوا الفعل مقام إرادته والتهيؤ له ، على حد قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٣) وإذا لقيت العدو فخذ سلاحك ، ويعضده تظافر الروايات من الخاصة والعامة على تقديمه ، كالمروي عن أبي سعيد الخدري (٤) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول قبل القراءة : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (٥).

بل في تفسير العسكري عليه‌السلام وغيره ما يدلّ على تفسير الآية بهذا الوجه أيضا ، قال : وأما قوله الذي ندبك الله وأمرك به عند قراءة القرآن : أعوذ بالله ، الخبر بطوله (٦).

__________________

في عصره في المعقول والمنقول والفقه والأصول ، ولد سنة (٦٤٨) ه وتوفي سنة (٧٢٦) ه قدس الله روحه.

(١) منتهى المطلب ج ١ ص ٢٩٦.

(٢) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي الكوفي ، كان فقيه العراق في عصره وله مذهب ، ولد سنة (٤٦) ه ، وتوفي سنة (٩٦) ه. ـ الأعلام ك ج ١ / ٧٦.

(٣) سورة المائدة : ٦.

(٤) هو أبو سعيد الخدري سعيد بن مالك بن سنان الخزرجي ، صحابي كان من ملازمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، له (١١٧٠) حديثا ، ولد سنة (١٠) قبل الهجرة ، وتوفي بالمدينة سنة (٧٤) ه. ـ الأعلام : ج ٣ / ١٣٨.

(٥) قال الشوكاني محمد بن علي اليماني المتوفى سنة (١٢٥٠) ه في «نيل الأوطار» ج ٢ / ٢١٣ : عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه» ، رواه أحمد والترمذي.

(٦) تفسير الإمام عليه‌السلام : ص ١٨.

٤٤

فلا إشكال في ضعف القول بتأخيره بعد استقرار المذهب منا ومن العامة على خلافه (١) ، مضافا إلى ما قيل : من أن المقصود من الاستعاذة نفي وسوسة الشيطان عند القراءة ، قال الله تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) (٢).

ولذا أمر الله تعالى بتقديمها.

بل ولا في ضعف ما حكاه الرازي قولا ثالثا ، وهو قراءتها قبل القراءة للخبر ، وبعدها للقرآن جمعا بين الدليلين حسب الإمكان (٣) ، إذ فيه المنع من التعارض ، والأخبار للبيان ، وحسن الاحتياط ممنوع في مثل المقام بعد وضوح الحكم ، بل قد يؤدّي إلى التشريع لو قصد المشروعية.

محل الاستعاذة في الصلاة

كما أنه لا إشكال في أنه في خصوص الصلاة يتعوذ في أول ركعة منها خاصة ، ثم لا يتعوذ في كل ركعة.

__________________

(١) قال الرازي في «مفاتيح الغيب» ج ٢٠ / ١١٤ ، في تفسير آية الاستعاذة من سورة النحل : الفاء في قوله تعالى : (فَاسْتَعِذْ) للتعقيب ، فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، قالوا : والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثوابا عظيما ، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه وتحبط بها ثواب القراءة ، أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصونا عن الإحباط.

أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة وقالوا : معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ ، ونظيره قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.

(٢) سورة الحج : ٥٢.

(٣) مفاتيح الغيب : ج ١ / ٦٠.

٤٥

قال في «المنتهى» (١) : وهو مذهب علماءنا وهو قول عطاء والحسن (٢) والنخعي والثوري (٣) ، لأن القصد هو التعوذ من الوسوسة ، وهو حاصل في أول الركعة.

ولأن الصلاة كالفعل الواحد ، فيكفي الاستعاذة الواحدة كالتوجه.

هذا مضافا إلى استمرار الطريقة عليه ، وكونه المعهود من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام بعد كون العبادات توقيفية يلزم أخذها من صاحب الشريعة سيما بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٤) ، و «خذوا عنّي

__________________

(١) منتهى المطلب : ج ١ / ٢٧٠ ، وهكذا قال ابن منذر النيسابوري في «الأوسط» ج ٣ / ٨٩ : اختلفوا في الاستعاذة في كل ركعة فقالت طائفة يجزيه أن يستعيذ في أول ركعة كذلك قال النخعي والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري وفيه قول ثان وهو أن يستعيذ في كل ركعة هكذا قال ابن سيرين ، وقال الشافعي وقد قيل : إن قاله يعني الاستعاذة في كل ركعة قبل القراءة فحسن ولا آمر به في شيء من الصلاة أمري به في أول ركعة ، قاله في كتابه «الأم» ج ١ / ١٠٧.

(٢) هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد مولى زيد بن ثابت الأنصاري ، سبيت أمه من ميسان وهي حامل به وولدته بالمدينة سنة (٢١) ه وقيل : كانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي وهو طفل فتسكته أم سلمة بثديها ، وشب في كنف أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واستكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية ، وسكن البصرة إلى أن توفي بها سنة (١١٠) ه وهو عندنا غير مرضي لورود مطاعن شديدة فيه عن أهل البيت عليهم‌السلام ، قال المؤلف في منظومته «نخبة المقال» :

فالحسن البصري مبغض الولي* قد ساءه جهاده فليخذل

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : قيل : وممن كان يبغض عليا عليه‌السلام ويذمه الحسن البصري ـ. بهجة الآمال في شرح زبدة المقال : ج ٣ م ٦٩.

(٣) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ولد بالكوفة سنة (٩٧) ه ، كان محدثا فقيها سكن مكة والمدينة ومات بالبصرة سنة (١٦١) ه.

(٤) صحيح البخاري بشرح ابن حجر وتحقيق عبد الباقي ج ٢ / ١١١ ، ح ٦٣١ ، وصحيح مسلم بتحقيق عبد الباقي ج ١ / ٢٩٣ ، ورواه أحمد في «المسند» ج ٥ / ٥٣ بلفظ آخر قال : عن

٤٦

مناسككم» (١) ، مع دلالة بعض الأخبار عليه ، وقيام الإجماع به نقلا بل تحصيلا ، فلا يلتفت إلى ما يحكى عن الشافعي في أحد قوليه وعن ابن سيرين من استحباب التعوذ في كل ركعة ، نظرا إلى صدق القراءة في كل منها ، وهو على فرضه يجب الخروج عنه لما سمعت ، مضافا إلى ما روي من طريق الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بقراءة الحمد (٢).

ثم إنه قد اختلف أهل العلم في كيفيتها وفي أن المندوب هل هو الجهر بها أو الإخفات.

فالمشهور بين الأصحاب بل بين المخالفين أيضا أن صورتها «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

قال في «التذكرة» : وبه قال أبو حنيفة (٣) ، والشافعي (٤) لأنه لفظ القرآن.

وقال الثوري ، وابن سيرين : يزيد بعد ذلك : إن الله هو السميع العليم.

__________________

مالك بن الحويرث أبي سليمان أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو وصاحب له فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهما : «إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكم أكبركما وصلوا كما تروني أصلي».

(١) السنن الكبرى للبيهقي : ج ٥ / ١٢٥.

(٢) رواه الحاكم في «المستدرك» ج ١ / ٢١٥ قال : عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع ، حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت». هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا.

(٣) هو النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي إمام الحنفية ، قيل : أصله من الفرس ، ولد بالكوفة سنة (٨٠) ه وتوفي ببغداد سنة (١٥٠) ه ، وله «مسند» في الحديث مطبوع. ـ الأعلام : ج ٩ / ٤.

(٤) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي ، إمام الشافعية ، ولد في غزة بفلسطين سنة (١٥٠) ه وتوفي بمصر سنة (٢٠٤) ه ، وقبره معروف بالقاهرة وله مصنفات أشهرها «الأم» في الفقه مطبوع في سبع مجلدات ـ طبقات الشافعية : ج ١ / ١٨٥.

٤٧

وقال أحمد (١) : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

وقال الحسن (٢) بن صالح بن حي : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم.

واحتجوا بقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣).

والأخير ليس بداخل في الأمر بالاستعاذة ، بل خبر بعده ، والأمر قبله (٤).

وفي «التيسير» : أن المستعمل عند الحذّاق من أهل الأداء في لفظها «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» دون غيره لموافقه الآية ولما رواه نافع (٥) بن جبير بن مطعم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه استعاذ بهذا اللفظ بعينه (٦).

بل في «شرح الشاطبية» عن ابن مسعود أنه قرأ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بالله السميع العليم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (٧).

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني إمام المذهب الحنبلي ، ولد ببغداد سنة (١٦٤) ه وتوفي سنة (٢٤١) ه. ـ الأعلام : ج ١ / ١٩٢.

(٢) الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي من زعماء الفرقة البترية من الزيدية ، ولد سنة (١٠٠) ه وتوفي بالكوفة سنة (١٦٨) ه. تهذيب التهذيب : ج ٢ / ٢٨٥.

(٣) سورة فصلت : ٣٦.

(٤) تذكرة الفقهاء : ج ١ / ١١٤.

(٥) نافع بن جبير بن مطعم أبو عبد الله التابعي ، وثقه العجلي وأبو زرعة وابن خراش ، روى عن أبيه ، والزبير بن العوام ، والعباس بن عبد المطلب وعثمان بن أبي العاص ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وآخرين ، توفي سنة (٩٩) ه ، ووالده جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبو محمد المدني أسلم قبل حنين أو يوم الفتح ، وله ستون حديثا وتوفي بالمدينة سنة (٥٩) ه تهذيب التهذيب : ج ١٠ / ٤٠٤ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ج ١ / ١٦١.

(٦) التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد المدني ص ١٧ ، ط إستانبول ، وما رواه عن نافع أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند» : ج ٤ / ٨٠ ، والحاكم في «المستدرك» : ج ١ / ٢٣٥ ، ولكنه ليس بعين اللفظ ، بل لفظه هكذا : «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم».

(٧) عوالي اللئالي : ج ٢ / ٤٧ ، ح ١٢٤.

٤٨

ثم قال : ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن وعند الابتداء برؤوس الأجزاء ، وغيرها في مذهب الجماعة إتباعه للنص واقتداء بالسنة.

ثم حكى عن نافع (١) أنه كان يخفيها في جميع القرآن ، وعن حمزة (٢) أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن خاصة ، ويخفيها بعد ذلك في سائر القرآن.

وفي «التذكرة» يستحب الإسرار بها ولو في الصلاة الجهرية ، ثم حكى عن أحد قولي الشافعية الجهر بها في الجهرية تمسكا بعمل أبي هريرة (٣). (٤).

ثم قال : وعمل الأئمة عليهم‌السلام أولى (٥) ، وظاهره نسبة الإسرار إليهم عليهم‌السلام.

وفي «مجمع البيان» عن ابن كثير (٦) ، وعاصم (٧) ، وأبي عمرو (٨) : «أعوذ بالله

__________________

(١) هو نافع بن عبد الرحيم بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني ، أحد القراء السبعة المشهورين ، أصله من أصبهان ، اشتهر في المدينة وأقرأ الناس نيفا وسبعين سنة وتوفي بها سنة (١٦٩) ه. غاية النهاية : ج ٢ / ٣٢٠.

(٢) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات القاري أحد القراء السبعة ولد سنة (٨٠) ه وتوفي بحلوان سنة (١٥٦) ه ـ الأعلام : ج ٢ / ٣٠٨.

(٣) أبو هريرة : عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي ، ولد سنة (٢١) قبل الهجرة وقد المدينة وأسلم سنة (٧) ه ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥٣٧٤) حديثا نقلها عن أبي هريرة أكثر من (٨٠٠) رجل ، وولي إمرة المدينة مدة واستعمله عمر على البحرين ثم عزله ، مات بالمدينة سنة (٥٩) ه. ـ الأعلام : ج ٤ / ٨٠.

(٤) سنن البيهقي : ج ٢ / ٣٦.

(٥) تذكرة الفقهاء : ج ١ / ١١٤.

(٦) هو عبد الله بن كثير الداري المكي أحد القراء السبعة ، ولد بمكة المكرمة سنة (٤٥) ه وتوفي بها سنة (١٢٠) ه. ـ وفيات الأعيان : ج ١ / ٣٥٠.

(٧) عاصم بن أبي النجود بهدلة الكوفي أحد القراء اسبعة ، توفي بالكوفة سنة (١٢٧) ه. ـ الأعلام : ج ٤ / ١٢.

(٨) أبو عمرو : زبان بن عمار العلاء المازني البصري أحد القراء السبعة ، ولد بمكة المكرمة سنة (٧٠) ه وتوفي بالكوفة سنة (١٥٤) ه. ـ الأعلام : ج ٣ / ٧٢.

٤٩

من الشيطان الرجيم».

وعن نافع ، وابن عامر (١) ، والكسائي (٢) زيادة «إن الله هو السميع العليم».

عن حمزة : «نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم».

وعن أبي حاتم (٣) : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (٤).

وعند العامة أقوال أخر في كيفيتها كقولهم : «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» (٥).

و «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم» (٦).

و «أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم» (٧).

إلى غير ذلك مما لا طائل تحت حكايته ، إذ العبرة بما يستفاد من أخبار أهل البيت عليهم الصلاة والسّلام.

فالمشهور في الأخبار بل عند الأصحاب «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، وهو الأوفق بلفظ الآية.

بل ورد ذلك في خطبة عيد الفطر لأمير المؤمنين (٨) ، وكذا في خطبته لصلاة يوم الجمعة (٩) وعيد الأضحى ، وأرسل الشهيد في «الذكرى» عن أبي سعيد الخدري

__________________

(١) هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران الشامي أحد القراء السبعة ، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وتوفي بها سنة (١١٨) ه.

(٢) الكسائي : علي بن حمزة الكوفي اللغوي النحوي القاري المتوفي (١٨٩) ه.

(٣) هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي المتوفي (٢٧٧) ه.

(٤) مجمع البيان : ج ١ / ١٨.

(٥) تقدم الحديث عن مسند ابن حنبل ج ٤ / ٨٠ ومستدرك الحاكم ج ١ / ٢٣٥.

(٦) خلاف الشيخ : ج ١ / ٣٢٥ عن سفيان الثوري وحلية العلماء : ج ٢ / ٨٣.

(٧) هذا قول أحمد رواه ابن قدامة في المغني : ج ١ / ٥٥٤.

(٨) بحار الأنوار : ج ٩١ / ٣١ ، ح ٥ ، عن المصباح ص ٤٥٨.

(٩) البحار : ج ٨٩ / ٢٣٤ ، ح ٦٧ ، عن مصباح المتهجد ص ٣٤٢.

٥٠

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول قبل القراءة :

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (١).

وفي «العوالي اللآلي» بالإسناد إلى ابن مسعود قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم ، فقال لي :

«يا بن أم عبد! قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبرئيل» (٢).

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم» (٣).

ومثله في معتبرة سماعة (٤) عن الصادق عليه‌السلام بزيادة «إن الله هو السميع العليم» (٥).

وروى العياشي عنه عليه‌السلام قال :

«تقول : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (٦).

ومن هنا يظهر ضعف ما عن بعض العامة من عدم صحة «أستعيذ» نظرا إلى أن المستعيذ طالب العوذ بخلاف العائذ ، وفرق بين الفاعل وطالب الفعل.

__________________

(١) الذكرى : ج ١ / ١٩٠.

(٢) عوالي اللآلي ك ج ٢ / ٤٧ ، ح ١٢٤ تقدم.

(٣) الكافي : ج ٨ / ١٥٣.

(٤) هو سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي ، قال المامقاني في «تنقيح المقال» ج ٢ / ٦٧ : إن في سماعة قولين : أحدهما أنه واقفي كما صرح به الشيخ وجماعة من فقهاء الأواخر ولكن مع اعترافهم بوقفه عملوا برواياته. وثانيهما أنه اثنا عشري كما قال به النجاشي ووثقه مرتين ، ووجد في بعض الكتب أنه مات سنة (١٤٥) ه في حياة الصادق عليه‌السلام.

(٥) تهذيب الشيخ : ج ١ / ١٧٧.

(٦) تفسير العيّاشي : ج ٢ ص ٢٧٠ ح ٦٧.

٥١

وفيه أنه على فرض الطلب يكون المطلوب هو الحاصل بالمصدر وطلب الحاصل نفس مباشرة الفعل ، إذا الطلب فعلي والقول حكاية حسب ما تسمع ، على أن كثيرا من أهل اللغة عدّهما بمعنى.

قال في القاموس : العوذ : الالتجاء كالعياذ ، والمعاذ ، والمعاذة ، والتعوذ ، والاستعاذة.

مضافا إلى ما سمعت عن الصادق وعن جده أمير المؤمنين عليهما الصلاة والسّلام ، وقولهما هو الحجة.

وفي بعض الأخبار : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (١).

وهو المذكور في «الفقيه» (٢) و «المقنع» للصدوق (٣) و «المقنعة» للمفيد (٤).

وروى الشهيد الثاني في «شرح النفلية» عن الصادق عليه‌السلام :

«أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، أعوذ بالله أن يحضرون إن الله هو السميع العليم» (٥).

وفي «قرب الإسناد عن حنان (٦) بن سدير قال : صليت خلف أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) تقدم عن «مجمع البيان» : ج ١ / ١٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣٠٤.

(٣) الموسوعة الفقهية ، المقنع للصدوق : ج ١ / ٥٣.

(٤) الموسوعة الفقهية ، المقنعة للمفيد : ج ١ / ١٠١.

(٥) الحدائق : ج ٨ / ١٦٤ عن النفلية ص ٨١.

(٦) حنان بن سدير الصيرفي ، ثقة ، واقفي روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، كان معمرا ، وروى عنه ابن عمير ، وابن محبوب ، وإسماعيل بن مهران.

قال في «التنقيح» : إن في الرجل أقوالا : أحدها أنه ثقة وهو صريح «الفهرست» ويؤيده رواية الحسن بن محبوب المجمع على تصحيح ما يصح عنه وغيره من الأجلاء عنه ، وكونه

٥٢

المغرب ، فتعوذ بإجهار : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون (١).

وفي «الذكرى» : عن البزنطي (٢) عن الصادق عليه‌السلام :

«أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (٣).

ومثله في رواية الحسن (٤) بن راشد عن الصادق عليه‌السلام وهو المذكور في تفسير الإمام عليه‌السلام قال :

«وهو القول الذي ندبك الله إليه وأمرك به عند قراءة القرآن» (٥).

ورواه في دعائم الإسلام (٦) عن الصادق عليه‌السلام ، ولذا ربما يرجح هذا القول على سائر الأقوال.

لكن المستفاد من اختلاف هذه الأخبار ، بعد ملاحظة إطلاق الآية ، وجملة من المعتبرة ، وعدم دليل من إجماع أو نص تعيين صيغة خاصة ، جواز الإتيان بكل من هذه الصيغ وغيرها حتى في الصلاة.

__________________

كثير الرواية وسديد الراوي ، ومقبول الرواية.

وثانيهما أنه موثق ... وثالثهما أنه ضعيف وهو صريح «التنقيح» حيث قال : حنان ضعيف ... ـ تنقيح المقال : ج ١ / ٣٨١.

(١) قرب الإسناد : ص ٥٨ ـ ٥٩ / / الوسائل : ج ٤ / ٨٠٠ ، ح ٥ ، عن قرب الإسناد.

(٢) هو أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي الكوفي ، كان من أصحاب الرضا والجواد عليهما‌السلام ، عظيم المنزلة عندهما توفي سنة (٢٢١) ه و ـ طرائف المقال : ج ١ / ٢٧٩.

(٣) الوسائل : ج ٤ / ٨٠١ ، ح ٧ عن «الذكرى».

(٤) الحسن بن راشد مول بني العباس كوفي من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، ضعفوه ولكن كتابه معتمد عليه عند العلماء. ـ تنقيح المقال : ج ١ / ٢٧٧.

(٥) تقدم عن تفسير الإمام عليه‌السلام ص ١٨. ولا يخفى أن المصنف نقله بالمعنى ، وإلا فلفظ الحديث هكذا : «أما قوله الذي ندبك الله إليه وأمرك به عند قراءة القرآن : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».

(٦) دعائم الإسلام ج ١ ص ١٥٩ ح ٤٥٨ وعنه البحار ج ٨٥ ص ٤٨ ح ٤٢.

٥٣

وإن كان الأحوط فيها الاقتصار على الصيغة المروية ، بل خصوص المشهور ، إلا أن الأقوى جواز غيرها أيضا ، والنبوي المروي في «العوالي» عامي ، ولذا لا يصلح للتقييد مضافا إلى عدم صراحته في التعيين ، بل يكفي في مثله الأولوية.

نعم في «شرح النفلية» لثاني الشهيدين أن المعنى في أعوذ وأستعيذ واحد قال الجوهري (١) : عذت بفلان ، واستعذت به : أي لجأت إليه ، وفي أستعيذ موافقه للفظ القرآن ، إلا أن أعوذ في هذا المقام أدخل في المعنى ، وأوفق لامتثال الأمر الوارد بقوله : «فاستعذ» لنكتة دقيقة ، وهي أن السين والتاء شأنهما الدلالة على الطلب فوردتا في الأمر ، إيذانا بطلب التعوذ فمعنى «استعذ» إي أطلب منه أن يعيذك فامتثال الأمر أن يقول : أعوذ بالله ، أي التجئ إليه ، لأن قائله متعوذ قد عاذ والتجأ ، وقائل أستعيذ ليس بعائذ ، إنما هو طالب العياذ به ، كما تقول : أستخير بالله ، أي أطلب منه الخيرة وأستغفر أي أطلب مغفرته.

لكنهما (٢) دخلتا هنا في فعل الأمر بخلاف الاستعاذة ، وبذلك يظهر الفرق بين الامتثال بقوله «استغفر الله» ، دون استعذ بالله ، لأن المغفرة إنما تكون من الله فيحسن طلبها ، والالتجاء يكون من العبد فلا يحسن طلبه.

ثم اعترض على كلام الجوهري ، وحكي عن جماعة من المحققين ردّوه واعترضه بعض (٣) المحققين في تلك النكتة بأنّه إذا كان معنى استعذ اطلب منه ما يعيذك

__________________

(١) الجوهري : إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر كان من أئمة اللغة وخطه يذكر مع خط ابن مقلة ، أشهر كتبه «الصحاح» وهو أول من حاول الطيران ومات في سبيله ، صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل وصعد سطح داره ونادى في الناس : لقد صنعت ما لم أسبق عليه وسأطير الساعة ، فازدحم أهل نيسابور ينظرون إليه ، فتأبط الجناحين ونهض بهما ، فخانه اختراعه فسقط إلى الأرض قتيلا. ـ الأعلام : ج ١ / ٣٠٩.

(٢) أي السين والتاء.

(٣) المراد به كما قال في الهامش هو الشيخ سليمان بن عبد الله بن علي بن عمار الماحوزي من

٥٤

فامتثال الأمر بقوله : أستعيذ ظاهر ، إذ معناه اطلب من الله أن يعيذني ، وامّا الامتثال بقوله : أعوذ بالله فغير ظاهر ، الّا أن يجعل هذه الجملة مرادا بها الطلب والدعاء ، وامّا الإخبار بالالتجاء فلا يتحقق الامتثال به وبالجملة فالقائل بكل من اللفظين أراد طلب الإعاذة منه سبحانه ، لكن دلالة اللفظ الثاني عليه ظاهرة لقضية السين والتاء ، وأما الأول فمبني على إرادة الإنشاء لا الإخبار.

وحيث قد عرفت سهولة الخطب في لفظها فلا ينبغي تطويل الكلام فيه ، بل المهم في المقام فهم معناها ومؤديها ليتمكن المستعيذ من التحقق بحقيقتها ، والوصول إلى كبرياء القدس وحريم حرم الأنس ، وذلك ببيان المراد من المستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به ، وكيفية الاستعاذة.

فهنا مباحث :

الأول : في المستعيذ وهو وإن كان القارئ نفسه ، لكن لا بنفسه بل بحول الله وقوته وتوفيقه وعصمته ، فإنه عبد ذليل لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا يستطيع خيرا ولا شرا ولذا قال مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء :

«أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك» (١).

وفي دعاء أبي حمزة (٢) عن السجاد عليه‌السلام :

__________________

أهل الماحوز (من قرى البحرين) كان من فقهاء عصره ، والمحدثين البارعين ومن الخطباء الشعراء ، ولد سنة (١٠٧٥) وتوفي سنة (١١٢١) ه ، له تصانيف منها «الفرائد النجفية» وفيه الاعتراض. ـ أعيان الشيعة : ج ٣٥ / ٣٧٧.

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢٢٥ ، ح ٣.

(٢) هو ثابت بن دينار المعروف بابي حمزة الثمالي الكوفي ، نقل عن الإمام الرّضا عليه‌السلام أنه كان يقول : «أبو حمزة لقمان زمانه».

توفي سنة (١٥٠) ه. ـ الأعلام : ج ٢ / ٨١.

٥٥

«من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك ، ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك» (١).

ولا تتوهم أنه مجبور في أفعاله وأقواله ، أو أنه مسلوب الإختيار في أفعاله وفيما يخطر بباله ، بل التوفيق من الله والفضل من عنده والأمر كله له : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢).

وستسمع الكلام في فساد القول بكلا الطرفين ، وإن الصحيح هو المنزلة بين المنزلتين.

ولكن ينبغي أن تستحضر في نفسك حال الاستعاذة أن الله قد وفقك وألهمك ، وقذف في قلبك إرادة التوجه إليه ، والالتجاء به من عدوه ، وأنت تعلم أن حصن الله حصين ، وكهفه حريز متين وأن عدّوه مترصد لك حتى يختلسك ويختطفك بمكائده ومصائده ، فاشكر الله تعالى على ما ألهمك من التحصن بحصنه قبل أن يكون منك طلب ، وإن كان نفس هذا الطلب منك بتوفيقه ، فيكون الشكر موجبا لمزيد النعمة ودفع النقمة ومستدرا للتوفيقات السيالة الباعثة على التشمر عن ساق الجد للدخول في باب اللجأ إليه والتوكل عليه ، قبل أن يسبق إليك نزغات الشيطان ، أو يحول بينك وبين الرحمن حجاب الغفلة وسواد العصيان.

قال بعض العارفين : إن الشيطان قاسم أباك وأمك أنه «لهما لمن الناصحين» (٣) وقد رأيت ما فعل بهما ، وأما أنت فقد أقسم على غوايتك كما حكى الله سبحانه عنه (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤) فما ذا ترى يصنع بك ، فشمّر عن ساق الخوف والحذر منه ومن كيده وخديعته.

__________________

(١) البحار : ج ٩٨ / ٨٢ ، دعاء أبي حمزة الثمالي.

(٢) النساء : ٧٩.

(٣) إشارة إلى آية ٢١ من سورة الأعراف وهي : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

(٤) سورة ص : ٨٢.

٥٦

المستعاذ منه

الثاني : المستعاذ منه وهو الشيطان ، ووزنه إما فيعال من الشطن وهو البعد ، ومنه بئر شطون أي بعيدة القعر ، سمي لبعده عن الله ، أو عن رحمته ، أو عن صراطه السوي ، أو عن الخير ، وإن كان مرجع الجل أو الكل إلى واحد.

أو أنه علم شخصي أو اسم لكل عات متمّرد من جن أو إنس ، ومنه (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (١).

أو فعلان من الشيط أي الاحتراق ، والهلاك ، والبطلان ، لاحتراقه بشهب السماء ، أو بشهب قلوب المؤمنين ، وهي الأنوار المحرقة للنيران ، أو بنفسه حنقا وغيظا ، إذا راى متقربا يتقرب إلى ربه ، ولأنه هالك في نفسه باطل في ذاته ، مبطل في دعواه ولمصالحه ومصالح من يتبعه.

وكيف كان ، فلا خلاف بين المسلمين ، بل بين كافة المتشرعين ، ولو بالشرايع السالفة في وجود الشياطين ، بل عليه إجماع جميع الأنبياء والأولياء ، كما يكشف عنه اتفاق أممهم في جميع الأعصار والأمصار ، مضافا إلى تواتر أخبارهم بتمثله لهم ، والأمر بالتعوذ منه ، ومكالمته مع غير واحد من الأنبياء وغير ذلك مما يتعلق بوجوده ، بل ينبغي أن يعد التصديق بوجوده من ضروريات المذهب بل الدين المبين ، فيكون منكره خارجا عن زمرة المسلمين.

هذا كله مع الغض عن الآيات القرآنية كآية الاستعاذة (٢) وآيتي النزغ بل آياته (٣) ، كقوله :

__________________

(١) الأنعام : ١١٢.

(٢) سورة النحل : ٩٨.

(٣) يوسف : ١٠٠ ، الإسراء : ٥٣ ، الأعراف : ٢٠٠ ، فصلت : ٣٦.

٥٧

(أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (١).

وقوله :

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (٢).

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (٣) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤).

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٥).

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٦).

(إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧).

(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) (٨).

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (٩).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة بل الأخبار المتواترة التي يقطع المتأمّل فيها بفساد قول من أنكرها رأسا ، وأولها بالنفوس الشريرة الإنسانية كبعض الزنادقة من أتباع الفلاسفة المحجوبين عن كشف الملكوت (١٠) ، كما يقطع المتأمّل في أدلتهم

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) سورة البقرة : ١٠٢.

(٣) سورة ص : ٣٧.

(٤) سورة ص : ٣٨.

(٥) سورة الصافات : ٧.

(٦) سورة النساء : ١٢٠.

(٧) سورة النساء : ٧٦.

(٨) سورة الأعراف : ٣٠.

(٩) سورة البقرة : ١٦٨.

(١٠) قال الرازي : اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت الجن ونفيه ، فالنقل الظاهر من أكثر الفلاسفة إنكاره ، قال أبو علي سينا في «رسالته في حدود الأشياء» : الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة ، ثم قال : وهذا شرح الاسم.

٥٨

بفسادها إذا غاية ما استدلّوا به أنها لو كانت موجودة فإن كانت أجساما غليظة كثيفة لرآها كل سليم الحس ، وتجويز عدم رؤيتها حينئذ سفسطة محضة ، كتجويز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وبحار غامرة لا نراها.

وإن كانت لطيفة لتلاشت وتمزقت بأدنى قوة فضلا من أن تقاوم المصادمات القوية ، أو تقدر على الأعمال الشاقة التي ينسبها إليها مثبتوها.

وأن وجودهم مع ما نسب إليهم يرفع الوثوق بالمعجزات لجواز استناد كل من المعجزات إليهم ، سيّما مع إيحائهم إلى أوليائهم ، وانفتاح باب الكهانة.

وأن كثيرا ممن ادعى علم العزائم ومشاهدة الروحانيّين بعد أن تابوا كذّبوا أنفسهم فيما نسبوا إليهم.

وأن الآثار المنسوبة إلى الجن والشيطان إذا تأمّلتها وجدتها راجعة إلى

__________________

فقوله : هذا شرح الاسم يدل علي أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج ، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن ، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية. ـ مفاتيح الغيب : ج ٣٠ / ١٤٨.

وقال إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة (٤٧٨) ه في كتابه «الشامل» في أصول الدين : إن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا ، ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يثبت بالشريفة ، وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار.

وقال أبو القاسم الأنصاري سليمان بن ناصر الفقيه الشافعي المتوفى سنة (٥١٢) ه في كتابه «شرح الإرشاد» في أصول الدين : قد أنكرهم معظم المعتزلة ، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما في العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته ـ. عن آكام المرجان في إثبات وجود الجان : ص ١٥ ، تأليف : بدر الدين محمد الشبلي الحنفي المتوفى (٧٦٩) ه.

٥٩

مجرّد الدعوى والكذب ، أو إلى تمثل المتخيل وتوهمه موجودا في الخارج ، لاستيلاء الوهم أو لقوّة النفس وضعفها ، أو إلى بعض النفوس الخيّرة أو الشريرة.

وأنهم لو خالطوا البشر لحصل بينهم بسبب طول المدة وكثرة المخالطة صداقة أو عداوة موجبة لبعض الآثار من المسار والمضار ، وليس فليس.

وأنّ الطريق إلى إثباتها إمّا الدليل العقلي والمعلوم انتفاؤه ، أو الحسي والمشاهدة فكذلك.

وأمّا من يدّعي مشاهدتهم فإمّا من الكذّابين المقترحين أو من الممرورين والمجانين وغيرهم من المرضى والضعفة الذي يتخيّلون أشياء لا حقيقة لها بسبب فساد أمزجتهم.

وأما إثباتها من طريق أخبار الأنبياء فلا يتمّ إذ قد عرفت أن في إثباتها إبطال النبوة (١).

فهذه وجوه ستة مشتركة في الضعف ، إذ الجواب عن الأول أنها أجسام لطيفة مادية أو مثالية هورقلياوية (٢) أو أرواح مجردة ، وأمّا وجوب تلاشيها بأدنى قّوة فلا دليل عليه ، وقياسها على بعض الأجسام المخصوصة قاصر عن إثباته ، وحسبك في ذلك ملاحظة كونها أجساما نارية مختارة متمردة ، كما قال :

(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٣).

وقال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٤).

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ١ / ٧٦ ، مع اختلاف في الألفاظ.

(٢) هورقليا (بضم الهاء وفتح القاف) مأخوذة من العبري ويقال اصطلاحا على العالم العلوي.

(٣) سورة الأعراف : ١٢ ، وسورة ص : ٧٦.

(٤) سورة الحجر : ٢٧.

٦٠