تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

سبب اختلاف العباد في أفعالهم هو اختلاف قابليّاتهم ، لكن يعود البحث في القابليّة حينئذ ، فيقال : إنّ سبب افاضة القابليّة ما هو ، ومفيضها من هو؟

والجواب عنه كالجواب عن إفاضة الوجودات على الماهيّات واختلافها فإنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه ، لا أنّه ذوّت الذوات ، ثم أوجدها فإنّ ماهيّة الأربعة من حيث هي أربعة يقتضي الزوجيّة والتركيب من الآحاد الأربعة ، بخلاف الخمسة ، وكذا الجسم ماهيّة بحيث وجد في الخارج فهو قائم بنفسه بخلاف اللون ، فلو خلق الله الأربعة خمسة أو الجسم عرضا فقد خلق الخمسة والعرض لا أنّه جعل الاربعة خمسة أو الجسم عرضا ، وبالجملة فمراتب الأعداد ممّا لا بدّ منها في نفس الأمر ، وكلّ منهما غير الآخر ، وكلّ منها في مرتبته يقتضي وجودا خاصّا لا يتداخل مع الآخر ، وكذلك سائر الماهيات من الحيوانات والنباتات ، فإنّ ماهيّة الإنسان على ما هي عليه غير ماهية الكلب على ما هي عليه ، فلو خلق الكلب إنسانا فقد خلق الإنسان لا أنّه جعل الكلب إنسانا ، فهو من فيض الشامل أفاض على مرتبة ما هو أهل لها ، ومنه يظهر القابليّة ، إذ القابليّة تابعة للموادّ ، وباختلاف الموادّ والماهيّات اختلفت القابليّات وبالجملة لا يمكن جعل ماهيّة الكلب إنسانا كما لا يمكن جعل ماهية الزوج فردا ، والاربعة خمسة ، وكذا قابليّتها لا لعدم شمول قدرة الله ، بل لعدم مقدورية ذلك وامتناعه انتهى.

وفيه : أنّه مبنيّ على القول بالأعيان الثابتة الّتي قلّ من سلم من القول بإثباتها للغفلة عن مفاسدها لا يكاد يمكن الجمع بين التوحيد وبين الالتزام بها ، فإنّه لو كان للأشياء ثبوت وتفرّد في أنفسها بحيث يمتاز بعضها من بعض لم تكن أعداما محضة ، إذ من البيّن أنّه لا تمايز في الأعدام ، فقوله رحمه‌الله : إنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه.

فيه أولا أنّ الهويّة الّتي خلق عليها الأشياء إن كانت حادثة فقبل خلقها

٥٤١

وتعلّق الوجود بها لم تكن شيئا أصلا ، فمن أين اختلاف الذوات في أنفسها بعد القول بحدوث كلّ من الاختلاف والذوات والأنفس ، وبعد الإقرار بأنّه كان الله ولم يكن معه شيء حتى المفاهيم والاعتبارات والتفردات والامتيازات الواقعيّة.

وان كانت قديمة غير متعلقة للخلق ، كما هو ظاهر كلامه بل لعلّه صريحه لزم تعدّد القدماء.

فان قلت : إنّها من الأمور الاعتبارية الّتي لا تحصّل ولا تحقّق لها في الخارج ، وأما الأمور الحقيقية الّتي هي الموجودات العينيّة فكلّها حادثة ولا كلام لنا فيها.

قلت : إن أردت بكونها من الأمور الاعتباريّة أن ليس لها تحصّل ووجود إلّا بفرض الفارض واعتبار المعتبر فممنوع كونها كذلك ، كيف وهي أمور واقعيّة متقرّرة يتحقق بالنسبة إليها الصدق والكذب ، كما نبّه عليه بقوله : وبالجملة مراتب الأعداد ممّا لا بدّ منها في نفس الأمر وكلّ منها غير الآخر .... الى قوله : وكذلك سائر الماهيّات من الحيوانات والنباتات ... إلخ.

على أنّها حينئذ ليست صالحة لأن تكون منشأ لاختلاف الماهيات والاستعدادات وساير الذاتيات والعوارض مع أنّ سياق الجواب استناد الجميع إليها.

وإن أردت بها أنّها ليست من الموجودات العينيّة الخارجيّة ولكنّ الموجودات الإمكانية غير منحصرة فيها ، فإنّ المفاهيم والمعاني والنفوس وقواها ليست من الموجودات العينيّة الزمانيّة.

وما أشبه القول بعدم وجودها بعد الالتزام بثبوتها وتقرّرها وتمايزها في أنفسها بقول الأشاعرة المثبتين للحال ، وهي الواسطة بين الوجود والعدم.

وثانيا أنّ جعل علمه سبحانه ظرفا لها ليس على ما ينبغي ، فإنّ علمه سبحانه ليس بحصول الصورة ، ولا الصورة الحاصلة ، ولا غيرها من الإضافات

٥٤٢

والأعراض والتعلّقات ، وذلك لأنّ علمه الذاتي عين ذاته سبحانه بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة ، فكما يمتنع تعلّق ذاته سبحانه بغيره فكذا علمه لأنّه هو ، بل ليس لشيء من الممكنات ذكر في حضرة الذات ، وإن كان سبحانه عالما بها في إمكاناتها وحدودها ، حيث لا يخفى عليه شيء منها في رتبة الأحدية والواحديّة.

ثم إنّه حكى عن العارف الرومي أبياتا يخالف ما ذكره ، قوله بالفارسيّة :

آنچنان دلها كه بدشان ما ومن

نعتشان شد بل أشدّ قسوة

جاده آن دل عطاى بى دلى است

داد أو را قابليّت شرط نيست

بلكه شرط قابليّت داد أو است

داد لبّ وقابليت هست پوست

نيست از أسباب تصريف خدا است

نيستها را قابليّت از كجا است

قابلى گر شرط فعل حق بدى

            هيچ معدومى بهستى نامدى

إلى آخر ما حكاه ، ثمّ اعترض عليه .... إلى أن قال :

وأمّا ثانيا فتمسّكه بقبول المعدومات الوجود لا يلائم مقصوده ، فإنّ المراد بقابليّة المعدوم للوجود هو كونه ممكنا فإنّ بعض المعدومات ممتنع وجوده كاجتماع النقيضين.

وأمّا قبوله للنّوع الخاصّ من الوجود فلا غائلة فيه أيضا ، إذ المعدوم إذا كان قابلا للوجود بسبب الإمكان المطلق ، فيمكن أن يكون قابلا لنوع خاصّ من الوجود بسبب الإمكان المخصوص.

وأمّا ما توهّمه بعض المحشين في هذا المقام في توجيه كلامه من أنّ ذلك لأجل أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، والقابليّة أمر وجودى فلا بدّ أن لا يثبت للمعدوم.

ففيه منع كون القابليّة من الموجودات العينيّة ، ومنع لزوم كون المثبت له من

٥٤٣

جملتها ، بل الوجود العلمى كاف في إثبات شيء له.

أقول : وفيه مضافا الى ما مرّ ، أنّ الأظهر كما حقّق في محلّه كون الإمكان مجعولا ، والقول بكونه من الأمور الاعتباريّة مدفوع بما سمعت من الترديد فيه بين المعنيين ، فأوّل ما خلق الله سبحانه هو المشيّة الإمكانيّة ، خلقها الله بنفسها ، وخلق إمكانات الأشياء بها. فلكلّ شيء إمكانات غير متناهية باعتبار المشخّصات الوجوديّة من الذاتيّة والعرضيّة ، بعد أن لم يكن شيئا أصلا ، حتى الإمكان الذي ذهب الجمهور الى عدم كونه مجعولا ، بل أمرا اعتباريا غير متأصّل في الوجود.

وبالجملة لا ريب في امتياز الإمكان من كلّ من الوجوب والامتناع بحسب المفهوم ، وبحسب نفس الأمر ، والامتياز دليل الوجود ، إذ لا تمايز في الأعدام فلو لم يكن مجعولا لكان متقرّرا في ذاته ، ثابتا في نفسه.

ثمّ انّ المفاهيم المعدومة الّتي أشار إليها ، إن أراد كونها معدومة من حيث المفهوم فمن أين التحصّل والتعدّد كى يستقيم التعبير عنها بصيغة الجمع ، أو من حيث المصداق فمسلّم ، لكنّ المفاهيم أيضا من جملة الموجودات الحادثة ، ولها وجودات واقعيّة في نفس الأمر ، وظرف وجودها الدهر لا الزمان ، ولذا لا يصحّ أن يقال : إنّها منذ كم سنة حدثت ، فإنّ الحوادث الكائنة في صقع الدهر وأفق السرمد لا نسبة لها الى الزمان والزمانيات المتجددة المتصرّمة أصلا ، وكذلك مراتب الأعداد ، فإنّها مترتبة متمايزة والعدم المحض كيف يكون كذلك ، بل كيف يكون قابلا لشيء دون شيء ، بل كيف يصحّ أن يشار اليه ، أو يحكم عليه أو يخبر عنه بالإثبات والنفي.

ومن هنا يظهر المناقشة في قوله : يمكن أن يكون قابلا لنوع خاصّ من الوجود.

وأمّا ما أورد بعض المحشين ففيه أوّلا أنّ منع كون القابليّة من الموجودات

٥٤٤

العينيّة مسلّم بناء على تفسير الوجود العيني بالخارجى الذي يكون منشأ للآثار ولكنّ الكلام في نفى الوجود الإمكانى ، على أنّه يمكن المناقشة في ذلك أيضا ، فإنّ الوجود العيني في كلّ عالم من العوالم إنّما هو بحسبه ، وكذلك يختلف الآثار باختلاف العوالم الّتي هي ظرف للتأثير وترتّب الأحكام ، فانتفاء بعض الآثار في بعض العوالم لا يدلّ على انتفاء المنشئيّة مطلقا ، سيّما مع تبدّل الآثار.

وثانيا أنّ المراد بالوجود العلمى الّذى أضافها الى الماهيّات والقابليات إن كان هو العلم الذاتي فلا ذكر للأشياء فيه أصلا ، أو العلم الفعلي عند من يقول بثبوته فهو بجميع متعلقاته عندهم حادث سرمدي أو دهري أو زماني بحسب اختلاف المتعلّق من حيث القرب والبعد.

وكأنّ القول بالصور العلميّة مبني على مذهب أفلاطون في إثبات الصور المفارقة والمثل العقلية الّتي يقال لها ربّ النوع على ما أشرنا اليه آنفا ، أو على مذهب المعتزلة القائلين بثبوت المعدومات الممكنة قبل وجودها ، بناء على أنّ علم الباري عندهم بثبوت صور هذه الممكنات في الأزل ، أو على مذهب الصوفية ، بل لعلّه المتعيّن ، لأنهم القائلون بالصور العلميّة في مقابل المعتزلة القائلين بالصور العينيّة ، لكنّ المذاهب الثلاثة مع فساد بعضها مطلقا ، وكلّها على بعض الوجوه ، مشتركة في عدم افادة مطلوبه بأنّ هذه الصور إن كانت قديمة غير مسبوقة بالجعل والحدوث لزم تعدّد القدماء ، وإن كانت حادثة في الإمكان وان لم يدخل في صقع الأكوان لزم الجعل والحدوث وإفاضة القابليّة وحدوث العلم على زعمهم.

نعم ذكرت الصوفيّة أنّ أسمائه الّتي هي عين ذاته هي المتجلّية بصور العالم فالعالم مظهر ذاته وأسمائه وصفاته ، وعلمه بها نفس علمه بالعالم.

ولذا أجابوا عمّا ربّما يورد من أنّه كيف يكون ذاته تعالى وعلمه الذي هو عين ذاته محلّا للأمور المتكثّرة مع عدم انثلام الوحدة الحقّة الحقيقيّة الّتي لا أبسط

٥٤٥

منها في الوجود ، بأنّه إنّما يلزم ذلك إذا كانت تلك الأمور المتكثّرة غيره تعالى كما هو عند المحجوبين عن الحقّ ، أمّا إذا كانت عينه من حيث الوجود والحقيقة ، وغيره باعتبار التعيّن والتقيّد فلا يلزم ذلك ، بل قالوا : إنّه ليس حالّا ولا محلا ، بل شيء واحد ظهر بالمحليّة تارة وبالحاليّة اخرى.

ولا أظنّ الفاضل المتقدّم يوافقهم في مقالتهم الّتي هي كفر صريح ، وهي القول بوحدة الوجود المبتنى على إثبات الأعيان الثابتة والصور العلميّة.

وبالجملة فالقول بكلّ منها مخالف لضرورة مذهب الإماميّة ، ولعلّه رحمه‌الله أطلق القول بإثبات الصور العلميّة سيّما على وجه التمايز وترتب بعض اللوازم والآثار غفلة عن حقيقة الحال وعمّا يرد عليه من الإشكال.

اشارة إلى مراتب الهداية

اعلم أنّ اسم الهادي من جملة أسماء الله الحسنى الّتي أمرنا بدعائه سبحانه بها ، بل من الأسماء التسع والتسعين الّتي من أحصاها وتحقّق بمراتب مباديها وجبت له الجنّة فهو فيها في الدنيا ولا يخرج منها في الآخرة الّتي تنكشف فيها الضمائر ، وتبلى السرائر.

والهادي يطلق على الله سبحانه (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) اى آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو آمنوا بالولاية وذلك نفس الهداية.

وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ

__________________

(١) الحج : ٥٤.

٥٤٦

مُسْتَقِيمٍ) (١).

وفي الخطبة العلوية التطنجية : ابتعثه هاديا مهديا حلاحلا (٢) طلسميّا (٣). (٤)

وعلى مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام كما في قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٥). فقد ورد مستفيضا : أنّه نزل : وعلي لكل قوم هاد ، (٦) وما أحسن من قال :

إنّما أنت منذر لعباد

وعليّ لكلّ قوم هاد

وفي الإحتجاج عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر الزنديق ان الهداية هي الولاية كما قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٧) ، وقال عليه‌السلام : والذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر (٨).

فان الله تعالى هو الهادي بمحمّد وإليه ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الهادي بعليّ وإليه ، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٩) وهو مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام كما في الخبر (١٠).

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) الحلاحل (بضم الحاء الاولى وكسر الثانية) هو الرئيس في القوم.

(٣) قيل : انه مركب من الظل بمعنى الأثر ، والاسم اى اثر الاسم ، وقيل : هو يوناني ومعناه عقد لا ينحلّ ، وقيل : هو مقلوب مسلّط.

(٤) شرح الخطبة للسيّد محمد كاظم الرشتي ج ١ ص ٤٧٣.

(٥) الرعد : ٧.

(٦) لم أظفر على حديث واحد دالّ على نزوله هكذا : (وعلي لكلّ قوم هاد) نعم توجد روايات في كتب التفاسير والأحاديث بأنّ المراد بالهادي في الآية الكريمة أمير المؤمنين والائمّة المعصومين من ولده عليهم‌السلام راجع بحار الأنوار ج ٣٥ / ٤٠٠ الى ص ٤٠٧.

(٧) المائدة : ٥٦.

(٨) الاحتجاج ص ٢٤٨ ط بيروت والأعلمى.

(٩) الشورى : ٥٢ ـ ٥٣.

(١٠) في البحار ج ٣٥ ص ٣٧٠ عن بصائر الدرجات ص ٢١ ـ ٢٢ عن ابى جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه

٥٤٧

وعليّ هو الهادي الى الله والى رسوله ، (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١).

ولقد قلت :

فالأمر متّحد والاسم مختلف

والنكر مفترق والعرف مؤتلف

لوحدة الحقّ أهل الحقّ متّحد

لكثرة الغيّ أهل الغيّ مختلف

فمستقيم الحدود واحد أبدا

ولا تكثّر إلّا حين ينحرف

بأنّ هذا صراطي مفردا وكذا

بالنهي عن سبل التفريق ينكشف

وهذا إشارة الى قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢) ، فإنّه أمر باتّباع الصراط الذي هو السبيل كما أشار إليه أخيرا بصورة الإفراد ، ونهى عن متابعة السبل الّتي يستلزم تكثّرها البطلان وعدم الإصابة.

ولذا ورد أنّه لمّا نزلت نكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده خطّا مستقيما ثم نكت من طرفيه خطوطا كثيرة يلزمها من الاتصال بالأوّل الاعوجاج المستلزم للانحراف وعدم الإصابة وبعد المسافة ، ولذا قيل : أقصر الخطوط الخطّ المستقيم ، وعرفوه بأنه أقصر الخطوط الواصلة بين الطرفين.

ثم انّ الهداية لها اعتبارات وأقدار في عالم الأنوار والاكدار بحسب الأطوار والأدوار والأكوار :

__________________

قال : وأمّا قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إنّك لتأمر بولاية على وتدعو إليها وهو على صراط مستقيم.

وفي المصدر : وهو الصراط المستقيم.

(١) يوسف : ١٠٨.

(٢) الأنعام : ١٥٣.

٥٤٨

فمنها الهداية التكوينيّة السارية في جميع ذرأت العالم على الوجه الأتم لا يشذّ عن حكمه شيء من العمق الأكبر وهو سرّ الحقيقة ومفتاح الطريقة ، وبحر القدر الذي من غرق فيه فقد كفر ، وإليه الاشارة بقول أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث سئل عنه : بحر عميق فلا تلجوه ، طريق مظلم فلا تسلكوه ، سرّ الله فلا تتكلّفوه (١).

وهو المشار اليه بقوله تعالى : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) وبقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٣).

وهذه الهداية كانت في أرض الإمكان قبل خلق الأكوان والأزمان ، وهي الأرض الجرز الّتي ساق الله اليه ماء الوجود الذي أخرج الله به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ، (بضم الفاء أو بفتحها) ، فإنّ البدن مركب الروح ، وهو أنفس من البدن ، والقلب أنفس من القالب ، ورسول الله أنفس من ساير الخلق ، ولذا قرأ الإمام عليه‌السلام بفتح الفاء في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٤).

وهي الهداية المكتوبة على جميع ذرّات الكائنات من المجردات والماديّات ، السعداء والأشقياء في الذرّ الأوّل ، فاهتدوا أوّلا الى قبول الوجود وهو الإيجاد بالاختيار والشعور ، ثمّ إلى قبول الاستعدادات والقابليّات والشؤون الصلوحيّة الاختياريّة.

وإنّما كان هذا بعد عرض جميع مراتب الكون على كلّ شيء فاختار كل شيء شيئا ، فخلقهم كما كانوا لعلمهم بما كانوا أى تكونوا واختاروا في رتبة الانوجاد والقبول لأنفسهم ، فلا جبر في الإيجاد والتكوين ، ولا إكراه في الدين ،

__________________

(١) نهج البلاغة باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام رقم ٢٨٧.

(٢) الأعلى : ٣.

(٣) طه : ٥٠.

(٤) التوبة : ١٢٨.

٥٤٩

وعند ذلك تميزت الماهيّات واختلفت الاستعدادات.

ومنها الهداية التشريعيّة الأوليّة في عالم الأرواح والأظلّة والأعيان قبل خلق الأبدان والأكوان في أفق الأزمان ، والمتحمّل لأعباء هذه الهداية والرسالة هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرون عليهم‌السلام في عالم الانبساط والتجرّد والوحدة ، واليه الاشارة بقوله : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين (١).

وفي أخبار كثيرة : أنّ أنوارهم سبّحت فسبّحت بتعليمهم وإرشادهم جميع الأشياء حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين (٢).

وفي رياض الجنان في خبر طويل عن الباقر عليه‌السلام الى أن قال : فنحن أوّل خلق الله وأوّل خلق عبد الله وسبّحه ، ونحن سبب الخلق وسبب تسبيحهم وعبادتهم من الملائكة والآدميّين ... الخبر (٣).

وفي العلل في خبر طويل عن الصادق عليه‌السلام يذكر فيه : أنّ مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام قسيم الجنّة والنار ... إلى أن قال : يا مفضّل أما علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث رسول الله وهو روح الى الأنبياء عليهم‌السلام وهم أرواح قبل خلق الخلق بألفى عام ، قلت : بلى ، قال : أما علمت أنّه دعاهم الى توحيد الله وطاعته ، واتّباع أمره ، ووعدهم الجنّة على ذلك ، وأوعد من خالف ما أجابوا إليه ... الخبر (٤).

وإنّما عبّرنا عنه بالتشريعى الأوّلي ، بالنظر إلى الثانوى في هذا العالم الناسوتي ، وإلّا فهي ثانوية في عالم الرقائق والذرّات فهدى الله الذين آمنوا (بولاية

__________________

(١) سنن الترمذي ج ٥ ص ٥٨٥ ـ بحار الأنوار ج ١٦ ص ٤٠٢.

(٢) كنز الفوائد ص ٤٦١ وعنه البحار ج ٢٤ ص ٨٨ ح ٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٢٠ ح ٣١.

(٤) بحار الأنوار ج ١٥ ص ١٤ ح ١٧ عن علل الشرائع ص ٦٥.

٥٥٠

أمير المؤمنين عليه‌السلام) (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (١).

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٢).

وهذه القلوب المكتوب عليها الايمان من الناس هي المعبّر عنها في كلام أهل البيت عليهم‌السلام بورق الآس ، على ما في الأخبار كما في ثواب الأعمال بالإسناد عن سهل بن سعد الأنصارى قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله عزوجل : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) (٣) قال : كتب الله عزوجل كتابا قبل ان يخلق الخلق بألفى عام في ورق آس أنبتها ثمّ وضعها على العرش ، ثمّ نادى يا أمّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبى أعطيتكم قبل أن تسألونى ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروا فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا أنا ، ومحمّد عبدي ورسولي أدخلته الجنّة برحمتي (٤).

وفي تأويل الآيات عن الشيخ أبى جعفر الطوسي بالإسناد عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) (٥) قال : كتاب كتبه الله عزوجل قبل أن يخلق الخلق بألفى عام في ورقة آس فوضعها على العرش ، قلت : يا سيّدى وما في ذلك الكتاب؟ قال : في الكتاب مكتوب : يا شيعة آل محمّد أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تعصوني ، وعفوت عنكم قبل أن تذنبوا ، من جائني بالولاية أسكنته جنّتى برحمتي (٦).

اعلم أنّ الآس شجر معروف كثير بأرض فارس في الجانب الغربي منه ،

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) المجادلة : ٢٢.

(٣) القصص : ٤٦.

(٤) بحار الأنوار ج ٣ / ١٢ ح ٢٤.

(٥) القصص : ٤٦.

(٦) كنز الفوائد ص ٢١٥ والبحار ج ٢٤ / ٢٦٦ عن تفسير فرات بتفاوت يسير.

٥٥١

وخضرته دائمة ينمو حتى يكون شجرا عظيما ، ويسمّى بالفارسيّة «مورد» له زهر بيضاء طيبة الرائحة ، وثمره سوداء ، طعمها مركّب من حلاوة وعفوصة وقليل مرارة كذا ذكره سديد الكاذرونى في شرح الموجز.

وذلك أنّ هذه الهداية في عالم الأرواح ، بل في صقع الأظّلة والأشباح خضرة نضرة ، دائمة بالديمومة الدهريّة الّتي هي نقطة محدودة في عالم السرمد ، ومنبت هذه الشجرة أرض فارس الّتي هي مادّة المواد ومجمع التضادّ لكمال الاستعداد والتهيّؤ لنيل المراد ، ولذا لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس (١) كما ورد عنهم عليهم‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) (٢).

ومنها : نصب الدلائل واقامة الحجج وإراءة الطريق الموصل الى الحقّ في هذا العالم الجسماني الظلماني الذي امتزج فيه الحقّ بالباطل ، والصدق بالكذب لأنّه ملتقى الأبخرة الصاعدة من سجّين ، والرشحات النافلة من عليّين ، فهو مجمع البحرين وملتقى التطنجين ، والمنزلة بين المنزلتين ، والبرزخ بين العين والغين.

ولذا خلق الإنسان فيه من نطفة أمشاج ، وانحرفت طبيعته عن الاعتدال الحقيقي في المزاج ، وإن كان هو أقرب الى الاعتدال من ساير الأزواج ، ولذا خصّ بمزايا بين البرايا ، ومن هنا قالوا : إنّ عطاياهم لا تحملها إلّا قطاياهم.

وتلك الدلائل المنصوبة المعبّر عنها بإراءة الطريق منصوبة أوّلا في عالم

__________________

(١) في مسند ابن حنبل ج ١٥ ص ٢١٨ ح ٦٧ ـ ٨٠ : لو كان الدين عند الثريّا لذهب من فارس أو أبناء فارس حتى يتناوله وفي ص ٩٦ من نفس المصدر ح ٧٩٣٧ : لو كان العلم بالثريّاء لتناولته أناس من أبناء فارس. وفي سنن الترمذي ج ٥ ص ٣٨٤ ما يقرب منه.

وفي مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٤ : روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية فقيل له : من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الايمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء.

(٢) سورة الجمعة : ٤.

٥٥٢

الأفئدة الّتي هي من رؤوس المشيّة ، ثمّ في عالم العقول ، ثمّ النفوس ، ثم الطبائع ، ثمّ الرقائق ، ثمّ المثال ، ثمّ في العالم الجسماني الظلماني الهيولاني ، فظهرت تلك الدلائل في الأنفس ، وفي جميع الآفاق من العلويّة والسفليّة والمجرّدة ، والماديّة ، والبسيطة والمركبة من جميع جهاتها وأحوالها وأطوارها وشئونها ومباديها ونهاياتها ، وعللها ، وأسبابها ، ولوازمها ، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلّا أنت.

وفي الدعاء : أسألك بأسمائك الّتي ملأت أركان كلّ شيء (١) فإنّ هذه الأسماء أسماء فعليّة ، قامت بها الأشياء قيام صدور وظهور وتحقّق ، والفعل أول شيء دلالة على الفاعل ، بل أدلّ عليه من غيره (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٢).

وقال الامام عليه‌السلام : بصنع الله يستدلّ عليه (٣).

بل لكل حقيقة من الحقائق آيات بيّنات في الكتاب التدوينى ، وبيانات واضحات مطابقات في الكتاب التكويني أنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالفه فذروه.

وتلك الآيات ظاهرة لأهلها ، واضحة الدلالات للمتأمل فيها ، ولا يتدكّر بها إلّا أرباب الألباب والعقول الذين هديهم الله لمتابعة عترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤).

وفي سورة البقرة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ

__________________

(١) دعاء كميل.

(٢) لقمان : ١١.

(٣) تحف العقول ص ٤٣ ـ روضة الواعظين ج ١ ص ٢٠.

(٤) آل عمران : ١٩٠.

٥٥٣

وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ...) الى قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١) وقال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢).

وذلك للإعراض والإغفال ولذا قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (٣).

وبالجملة من تأمّل في جزئيّات الحوادث الكائنة في الآفاق وفي الأنفس يعلم أنّ كل حقيقة من الحقائق لها ظهورات وتجليّات وبيانات وتحقّقات في كلّ عالم من العوالم المترتبة النازلة ، سواء كانت تلك الحقيقة من علوم التوحيد والمبدأ والمعاد ، أو مقامات النفس ومنازل السائرين.

وقد جعل الله تعالى عقل الإنسان كمرآة مجلوّة منصوبة شطر الحقّ بحيث ينطبع فيه لو خلّي وطبعه إذا لم يكن مشوبا بشوب الاكدار ، والتعلّق بالأغيار جميع الحقائق على ما هي عليها في مراتبها.

وبعد ذلك كلّه فقد بعث الله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلّا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل ، والرسل شاملة للأنبياء والأوصياء وخلفائهم ونوابهم الخاصّة والعامّة.

وبالجملة يندرج فيها القرى المباركة والقرى الظاهرة الّتي يسير الناس فيها ليالي وأيّاما آمنين الى تلك القرى المباركة ، فإنّ الجميع رسل من قبله ، ينطقون عنه ، ويبلّغون معارفه وأحكامه ، ويبثّون في الناس حلاله وحرامه ، حتى أنّه ورد أنّ

__________________

(١) البقرة : ١٦٤.

(٢) طه : ١٢٤ ـ ١٢٦.

(٣) يوسف : ١٠٥.

٥٥٤

المسكين رسول الله إليكم فانظروا كيف تعاملون مع رسوله (١).

فكلّ من تلك الإشارات والدلائل هداية ورشاد لقوم ، وغيّ وضلالة لآخرين ، يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا.

ولذا ورد في شأن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكذا في الحجّة الخلف عجّل الله فرجه نعمة الله للأبرار ، ونقمته على الفجّار (٢).

اعلم أنّ الأصل في الهداية بهذا المعنى هو الدلالة على الخيرات والمصالح الّتي يتوصّل بها الى النعيم المقيم ويحصل بها الفوز العظيم والثواب الجسيم ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٣).

ويطلق على سبيل التهكم أو الانسلاخ عن خصوص المتعلّق ، أو لعلاقة المضادّة ، أو لأنّ المعنى مطلق الدلالة والإرائة ، أو لخصوص ما يطلبه طالبه ويرومه قاصده ، أو التغليب في بعض ما تسمع على الدلالة على المعاطب والمهالك ، كقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٤) و (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٥) (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٦).

والسبيل (٧) وان كان مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام لكنّه هو الهادي أيضا ، فهو الذي

__________________

(١) في نهج البلاغة تحت الرقم ٣٠٤ من قسم الحكم : إنّ المسكين رسول الله فمن منعه فقد منع الله ، ومن أعطاه فقد أعطى الله.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٠٠ / ٣٠٥.

(٣) الإسراء : ٩.

(٤) الصافّات : ٢٣.

(٥) البلد : ١٠.

(٦) الإنسان : ٣.

(٧) في البحار : ج ٢٤ / ١٧ مسندا عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) الفرقان (٢٧) قال : يعنى على بن أبى طالب عليهم‌السلام.

٥٥٥

هدى الناس بهدايته وأرشدهم الى ولايته في جميع العوالم والمواقف والمراتب ، فدلّ على ذاته بذاته ، ولم يرشدهم إلّا على رضوان الله وكرامته ، إلّا أنّ من قبل ذلك فقد اهتدى بصفة القبول والاجابة ، ومن خالفه ضلّ وخاب بإرشاده لصفة الردّ والمخالفة.

فالهداية قد ظهرت في هذا العالم بصفة التكليف الذي هو نور إلهى سار في كينونات جميع الخلايق سريان الروح في الجسد ، وبه يصل المسافرون والسالكون الى منازلهم الحقيقيّة وأوطانهم الأصليّة ، الّتي حبّها من الإيمان ، وبغضها من الكفر ، بتيسير الأعمال والأقوال ، وتسهيل الإرادات والأفعال ، والوصول الى المسبّبات واللوازم.

ومنها : التوفيق للوصول إلى سواء الطريق المعبّر عنه في بعض العبارات بالايصال الى المطلوب. كما قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١).

وهذا المعنى وإن كان عامّا شاملا للمعاني الآتية إلّا أنّ المقصود به في المقام هو المعنى العامّ الشامل لجميع مراتب الايمان ودرجاته ، وبالجملة المراد مطلق الهداية لا الهداية المطلقة.

ومنها : الزيادة في كل مرتبة من مراتب الايمان واليقين في كل حال من الأحوال ، وفي ولاية الائمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنّ السالك لا يزال كلّما يتدرّج الى مرتبة من المراتب يلوح له بعض الأنوار ، ويكشف له عن بعض الأسرار ، وكلّ نور يلوح له في درجة من الدرجات يكون أشدّ إشراقا من السابق ، فإن لله تعالى سبعين الف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لا حرقت

__________________

(١) القصص : ٥٦.

٥٥٦

سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره (١)

فلعل السالك المتغرق يزعم أنّه قد حصّل المنية وليس وراء عبّادان قرية مع أنه ليس لهذه المنازل غاية ولا نهاية.

كما ورد في الخبر القدسي : كلّما رفعت لهم عليا وضعت لهم حلما وليس لمحبتي غاية ولا نهاية (٢).

ولعلّ الى ما ذكرناه الاشارة بما حكى الله سبحانه عن خليله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) (٣) الآيات ، إذ وقع نظره أوّلا الى الكوكب ، ثم انجلى له القمر ، ثم انكشفت له الشمس ، ثم انتقل عليه‌السلام من ملاحظة زوال كل منها وتغيّرها إلى التنزيه المطلق والتوجه الى المعبود الحقّ بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٤) فلا يزال المؤمنون يتردّدون وينتقلون في هذه الدرجات الّتي هي منازل القدس ومراحل الانس ، وقد أشير في الكتاب العزيز إلى زيادة الايمان والهداية بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٥) ، (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (٦) وقوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٧).

وقوله تعالى في أصحاب الكهف : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ / ٣٩.

(٢) في الجواهر السنية ص ١٥١ عن إرشاد القلوب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله سبحانه أنه قال : يا محمد ليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، كل ما رفعت لهم عملا وضعت لهم علما.

(٣) الانعام : ٧٦.

(٤) الانعام : ٧٩.

(٥) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٧.

(٦) مريم : ٧٦.

(٧) الأنفال : ٢.

٥٥٧

هُدىً) (١).

في الكافي عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : للايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه ... الخبر (٢).

ومنها : الهداية في طريق الوصول الى مقامات القدس وحظاير الانس بالانخلاع عن العلايق الجسمانيّة والعوائق الناسوتيّة الهيولانيّة ثمّ الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال ، ومطالعة أنوار الجمال ، باضمحلال الإنيّة ، واستيلاء حكم الوجود على مقتضيات الماهيّة ، فيصير السالك حينئذ في طريق المحبّة والوداد ، فتقرّ عينه بنيل المقصود والمراد ، فاذا أحبّه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يسمع به ويده الّتي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وان ناداه لبّاه (٣).

وكيف لا يجيبه ولم يبق له إرادة ولا اختيار ، ومن دون أن يصل الى حدّ الاضطرار ، بل صار قلبه وعاء لمشيّته ومحلا لإرادته ومخزنا لمحبّته.

وهذه الهداية هي الجذبة الربانيّة ، والعناية الإلهيّة ، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ، وممّن شاء لهم ذلك الأنبياء ، ولذا وصفهم بعد ذكرهم بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٤).

__________________

(١) الكهف : ١٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤٢ وعنه بحار الأنوار : ج ٦٩ / ٢٣ ح ٦.

(٣) نقل بالمعنى من حديث قدسيّ رواه الشيخ الحرّ العاملي في الجواهر السنيّة ص ١٠١ نصّه : ما يتقرّب إلىّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إلي ممّا افترضته عليه ، وإنّه يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسان الذي ينطق به ... إلخ.

(٤) الأنعام : ٤٠.

٥٥٨

وقال خليل الرحمن : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (١).

وقال تعالى في نبيّه الأفضل الأكمل : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٢) ، أى هدى العالم حتّى الأنبياء إلى ولايتك وولاية وصيّك ، أو هداك الى ما تحققت عليه في كينونتك.

ولذا ورد في النبوي :

والله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا (٣)

وفي العبارة بشارة لأهل الإشارة.

وبالجملة فالهداية بهذا المعنى هي قصوى الدرجة الايمانيّة والمرتبة الإحسانيّة الحاصلة بعد العبادة التامّة العامّة الجهاديّة المشار إليها بالمعيّة الإحسانيّة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٤).

وهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، المعبر عنهم عند القوم بالمجذوب السالك.

ولذا قيل : جذبة من جذبات الربّ توازى عبادة الثقلين.

وستسمع إن شاء الله تعالى بيانا وافيا في أنّ هذه الهداية لم تحصل لأحد من الأنبياء إلّا بالاعتصام بحبل ولاية محمّد وآله الطاهرين الذين هم الصراط

__________________

(١) الصافّات : ٩٩.

(٢) الضحى : ٧.

(٣) في البحار ج ٢٠ / ١٩٩ : عن البراء بن عازب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول :

لا همّ لو لا أنت لما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

وفي صحيح البخاري ج ٥ ص ١٣٩ وص ١٤٠ : اللهمّ لو لا أنت ما اهتدينا وفي رواية : والله لو لا الله ما أهدينا.

(٤) العنكبوت : ٦٩.

٥٥٩

المستقيم ، وفقنا الله وايّاكم الاعتصام بحبلهم بلطفه العميم وفضله الجسيم ، إنّه هو البرّ الرحيم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

كلام في المقام لبعض الاعلام

قال في المجلى : في الهداية أقوال : أحدها قول أهل الظاهر ، فإنّهم قالوا : هداية الله للإنسان على اربعة أوجه :

الأول : الهداية العامّة لكل مكلّف ، وهي العقل ، والفطنة ، وإزاحة العلّة ، ونصب الأدلّة.

الثاني : الهداية الحاصلة للإنسان بدعائه إيّاه على ألسنة الأنبياء والأولياء وإنزال الكتب والشرائع والإنذار والترهيبات والترغيبات.

الثالث : اللطف الخاصّ الذي يختصّ به من سلك طريق السعادة الاخروية المشار اليه بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (١).

الرابع : الهداية في الآخرة الى طريق الجنّة للثواب : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) (٢).

وفي هذا الوجه نسبوا الهداية الى الجنة والثواب الى الآخرة ، وهو خارج من الأصول ، لأنّ دخول الجنّة عند بعض ليس إلّا بالايمان ، وعند الآخرين بالايمان مع الأعمال الصالحة ، وعلى التقديرين إذا حصلا وجب دخول الجنّة بلا خلاف ، فلا يحتاج صاحبها الى إرشاد وهداية إليها ، وإن لم يحصلا فلا هداية له ولا جنة ولا ثواب ، فلا تصلح نسبة الهداية إلى الآخرة لأنّها دار الجزاء لا دار العمل فيكون

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٧.

(٢) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٥.

٥٦٠