تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

عبيده عن تبعيض الصفقة.

وأنّه يمكن إرادة التفخيم والتعظيم ، إذا المقام وإن استدعى الذلّه والانكسار تحقيقا للعبوديّة ، إلّا أنّ فيه إشعارا بأنّه لا فخر للعبد إلّا في عبوديته ، ولذا قيل : كفى لي فخرا أن أكون لك عبدا ، فينبغي الافتخار لعبوديّته ، فكأنّ من يعبده ، ويعظّمه ويجلّله يبتدأ أوّلا بتعظيم نفسه بتحقّقه في مقام العبوديّة.

وأنّه لو كان العبد قال : إيّاك أعبد لكان يشمّ منه رائحة الاستقلال الذي ربما يؤدّى الى العجب وتعظيم العبادة فأدرج نفسه في زمرة العابدين من الملائكة والجنّ والإنس إشعارا بأنّه واحد من جملتهم ، كى يكون أقرب الى التواضع والانكسار.

وذكر ابن العربي في الفتوحات : أنّ العارف ينظر الى تفصيل عوالمه ، وانّ الصلاة قد عمّ حكمها جميع حالاته ظاهرا وباطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر ، فإنه يقف بكلّه ، ويركع كذلك ، ويسجد كذلك ، ويجلس كذلك ، فجميع عالمه على عبادة ربّه ، طالبا منه المعونة على عبادته ، فجاء بنون الجمع في الفعلين ، فعلم من الحقّ سبحانه لما قيّده بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكليّته ، ويستعين به بكليّته ، ومتى لم يكن المصلّى بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربّه كان كاذبا في قراءته ، فإن الله ينظر اليه فيراه ملتفتا في صلاته أو مشغولا بخاطره وقلبه في دكّانه وتجارته ، وهو مع هذا يقول : نعبد ، يقول الله له كذبت في كنايتك بجمعيّتك على عبادتي ، ألم تلتفت ببصرك الى غير قبلتك ، ألم تصغ بسمعك الى حديث الحاضرين تسمع ما يقولون. ألم تمش بقلبك وفكرك في سوقك ، فأين صدقك في قولك : نعبد ، فيحضر العارف هذا كلّه في خواطره فيستحقّ أن يقول : إيّاك نعبد لئلّا يقال له كذبت ، فلا بدّ أن يجتمع من هذه تلاوته على عبادة ربّه حتّى يقول الحقّ له : صدقت في جمعيتك على عبادتك وطلب معونتى.

ثمّ قال : روينا في هذا الباب من بعض المعلّمين من الصالحين أنّ شابّا صغيرا

٥٢١

كان عليه القرآن فرآه مصفرّ اللون فسأل عن حاله ، فقيل له : إنّه يقوم الليل بالقرآن كلّه ، فقال له : يا ولدي أخبرت أنّك تقوم الليل بالقرآن كلّه؟ فقال : هو ما قيل لك ، فقال : يا ولدي إذا كان في هذه الليلة فاحضرنى في قبلتك واقرأ القرآن عليّ في صلاتك ولا تغفل عنّى ، فقال الشابّ : نعم ، فلمّا أصبح ، قال له : هل فعلت ما أمرتك به؟ قال : نعم يا أستاذ ، قال : وهل ختمت القرآن البارحة؟ قال : لا ما قدرت على أكثر من نصف القرآن ، قال : يا ولدي هذا أحسن ، إذا كان هذه الليلة فاجعل من الصحابة أمامك الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقرأ عليه واحذر واحذر ، فإنّهم سمعوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا تزل في تلاوتك ، فلمّا أصبح سأله الأستاذ عن ليلته ، فقال : ما قدرت على أكثر من ربع القرآن ، فقال : يا ولدي أتل هذه الليلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذى عليه نزل القران ، واعرف بين يدي من تتلوه ، فقال : نعم ، فلمّا أصبح ، قال : يا أستاذ ما قدرت طول ليلتي على أكثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه ، فقال : يا ولدي إذا كان هذه الليلة فلتكن تقرأ القرآن بين يدي جبرئيل الّذى نزل به على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحذر واعرف من تقرأ عليه فلمّا أصبح قال : يا أستاذ ما قدرت على أكثر من كذا وذكر سورا قليلة من القرآن ، قال : يا ولدي إذا كان هذه الليلة تب الى الله وتأهب ، واعلم أنّ المصلي يناجي ربّه ، وأنّك واقف بين يديه تتلو عليه كلامه فانظر حظّك من القرآن وحظّه وتدبّر ما تقرأ. فليس المراد جمع الحروف ولا تأليفها ، ولا حكاية الأقوال ، وإنّما المراد بالقراءة التدبّر لمعانى ما تتلوه ، فلا تك جاهلا ، فلمّا أصبح انتظر الأستاذ الشاب فلم يجيء إليه ، فبعث من يسئل من شانه ، فقيل له : إنّه أصبح مريضا يعاد ، فجاء إليه الأستاذ فلمّا أبصره الشابّ بكى وقال : يا أستاذ جزاك الله عنى خيرا ، ما عرفت أني كاذب إلّا البارحة ، لمّا قمت الى مصلّاى وأحضرت الحق وانا بين يديه أتلو عليه كتابه ، فلمّا استفتحت الفاتحة ووصلت الى قوله : إيّاك نعبد ، نظرت الى نفسي فلم أرها تصدق في قولها فاستحييت أن أقول

٥٢٢

بين يديه إيّاك نعبد وهو يعلم أنّى أكذب في مقالتي ، فانى رأيت نفسي لاهية بخواطرها عن عبادته ، فبقيت أردّد القراءة من أوّل الفاتحة الى قوله مالك يوم الدين ولا أقدر أن أقول إياك نعبد ، فإنّه ما خلصت لي ، فبقيت أستحيى أن أكذب بين يديه فيمنعني ، فما ركعت حتى طلع الفجر وقد رصّت كبدي ، وما أنا إلّا راحل اليه على حالة لا أرضاها من نفسي. فما انقضت ثالثة حتى مات الشابّ فلمّا دفن أتى الأستاذ الى قبره فسأل عن حاله فسمع صوت الشابّ من قبره وهو يقول : يا أستاذ أنا حيّ عند حيّ لم يحاسبني بشيء ، فرجع الأستاذ الى بيته ، ولزم فراشه مريضا ممّا أثّر فيه حال الفتى فلحق به ، فمن قرأ إيّاك نعبد على قراءة الشابّ فقد قرأ (١).

ثالثها : في تكرير الضمير ، والوجه فيه على ما قيل إمّا التأكيد كما يقال : الدار بين زيد وبين عمرو ، مع جواز الاقتصار بأحدهما ، بأن يقال : الدار بين زيد وعمرو ، ومنه تكرار لا النافية في قوله تعالى : (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢) وما يستوي الأحياء (وَلَا الْأَمْواتُ) (٣) ، وتكرير بين في قول عدى بن زيد (٤) :

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

وردّه في المجمع بأنّ التكرير إنّما يكون إذا لم يكن محمولا على فعل ثان ، وإيّاك الثاني في الآية محمول على نستعين ومفعول به فكيف يكون تأكيدا (٥).

__________________

(١) الفتوحات المكيّة ج ١ ص ٤٢٥ عن أبى بكر المقرّى محمد بن خلف المعدى الإشبيلى المتوفى (٥٨٦) ه.

(٢) فاطر : ٢١.

(٣) فاطر : ٢٢.

(٤) هو عدى بن زيد بن حمّاد التميمي الشاعر الجاهلى من أهل الحيرة مات سنة (٣٥) قبل الهجرة ـ معجم المؤلفين ج ٦ ص ٢٧٤.

(٥) مجمع البيان ج ١ / ٢٦.

٥٢٣

ويمكن الجواب بأنّ المراد معنى التأكيد وهو التنصيص على التخصيص بالاستعانة ، ولو اكتفى بمجرّد العطف من دون تكرير الضمير ربما أوهم أنه قد يستعين بغيره ولا يخصّه بالاستعانة كما يخصّه بالعبادة.

على أنّ نفى الشرك في الاستعانة أبلغ في نفى الشرك في العبادة ، فمع إفادته فائدة جديدة في الثانية يؤكّد الاولى أيضا.

وإمّا التنصيص على حصول التقرّب بكلّ من الفعلين ، فإنّه لو اقتصر على واحد منهما ربما توهّم متوهم أنّه لا يحصل التقرّب إلّا بهما معا ، مضافا إلى ما فيه من الإشعار بمراعاة النكات المتقدّمة لضمير الجمع وغيره في كلّ من الفعلين لا فيهما معا.

ولعلّه أيضا مراد من عبّر عنه بالتأكيد ممثلا له بقوله تعالى : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (١).

وإمّا الاستلذاذ بطول الخطاب مع المحبوب وبسط الكلام عنده كما في قول موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) (٢) الآية.

وإمّا لأن الواو للحال ، والجملة حاليّة ، أى نعبدك مستعينين بك ، فلو ترك التكرار لفات المقصود.

وإمّا لأنّ متعلّق الإشارة في إيّاك نعبد ليس بمتعلّق الإشارة في وإيّاك نستعين ، نظرا الى أنّ الأوّل اشارة الى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة عند العابد ، وصار منتهى مدى مقصده ووجهته بحسب علمه أو شهوده ، أو اعتقاده المتحصّل

__________________

(١) طه : ٣٣.

(٢) طه : ١٨.

٥٢٤

من موادّ الظنون والتخيّلات المنبّه عليها من قبل ، ومتعلّق الإشارة في الثاني ليس من حيث كونه معبودا فقط ، بل من حيث إنّ له صلاحية أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه ، كذا ذكره الشيخ القونوى (١) في تفسير الفاتحة.

وفيه مضافا إلى ابتنائه على تخيّل المعبود وتوهّمه الذي ينبغي تنزيهه عنه بل لا يتمّ التوحيد إلّا بذلك ، إذ من يعبد المتوهّم فهو مشرك أو كافر ، أنّ قيد الإطلاق ، والحيثيّات والقيود مسلوبة هناك.

وما أشار إليه بحيثيّة صلاحيّة الإعانة ليس من الذات في شيء ، بل إنّما هو في صقع الفعل حسب ما أشرنا إليه سابقا. (ختام للمقام)

قال في مجمع البيان : قد أخطأ من استدلّ بهذه الآية على أنّ القدرة مع الفعل ، من حيث إنّ القدرة لو كانت متقدّمة لما كان لطلب المعونة وجه ، لأنّ الرغبة الى الله في طلب المعونة على وجهين :

أحدهما أن يسأل الله تعالى من الطاقة وما يقوى دواعيه ويسهّل الفعل عليه ما ليس بحاصل ، ومتى لطف له بأن يعلّمه أنّ له في فعله الثواب العظيم زاد ذلك في نشاطه ورغبته.

والثاني أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعاته المستقبلة ، بأن يجدّد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها ، وأن لا يفعل ما يضادّها وينفيها عند من قال ببقائها (٢).

أقول : هذا إشارة الى المسألة المعروفة بين المتكلّمين ، ومجمل الاشارة إليها

__________________

(١) هو محمد بن إسحاق صدر الدين الصوفي الرومي القونوي المتوفى سنة (٦٧٢) ه ـ معجم المؤلفين ج ٩ ص ٤٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ / ٢٦.

٥٢٥

في المقام مع تحقيق ما لأصل المرام ، هو أنّهم في أنّ القدرة على الفعل هل هي معه فيمتنع قبله فضلا عن تعلّقها به ، أو أنّها قبله ويتعلّق به حينئذ ، فيستحيل تعلّقها به حال حدوثه ، فالأشاعرة على الأوّل نظرا إلى أنّ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل يمتنع وجوده فيه والّا فلنفرض وجوده فيه فالحالة السابقة ليست كذلك ، بل هي حال الفعل.

ولأنّها عرض لا يبقى زمانين فلو كان قبله لا نعدم حاله ، ولزم وجود المقدور بدون القدرة.

ولأنّه يلزم من فرض وقوع الفعل قبل وقوعه حيث إنّه ممكن ويلزم اجتماع النقيضين : وجود الفعل وعدمه.

وهذه كلّها كغيرها من حججهم بل كأصل المذهب واهية جدّا ، لضعف الأوّل بأنّ الممتنع حصول الفعل في زمان بشرط كونه قبل الفعل ، وأمّا وجوده في زمان عدمه لا بأن يجتمع فيه الوجود والعدم بل بأن يكون مكان العدم الوجود فلا محذور فيه أصلا ، وأمّا النقض بالقدرة القديمة فمع عدم الحاجة إليه غير صحيح عندنا إذ الحقّ كون القدرة عين ذاته بدون مغايرة حقيقيّة ولا اعتبارية فليس فيها تعلّق ولا مطابقة ولا غير ذلك من صفات الإمكان والحدوث.

ولضعف الثاني أيضا بالمنع من عدم بقاء العرض زمانين ، وأدلّتهم على ذلك واهية جدّا كما قرّر في محلّه.

وبعد ذلك فربما يجاب أيضا بعد التسليم بتأثير القدرة المتقدّمة في الفعل المتأخّر ومنع اعتبار المقارنة ، سلّمنا لكن يجوز حدوث مثلها بناء على القول بتجدّد الأمثال على سبيل الاستمرار الى حال الفعل.

وتوهّم أنّ وجود المقدور حينئذ إمّا بالقدرة الزائلة فيعود المحذور ، أو الحاصلة وهو المطلوب ، مدفوع بأنّه بالحاصلة لكنّها حاصلة من الزائلة على سبيل

٥٢٦

الكسر والصوغ فهي هي وهي غيرها.

على أنّه لا نزاع في لزوم القدرة حال الفعل ، وإنّما البحث في جوازها قبله والعدم ، فبطلت الشرطيّة ، فإنّ استناد الفعل الى اللاحقة لا يخرج السابقة من كونها قدرة لكفاية التأهّل والصلوح في ذلك ، وإن لم يكن هناك فعليّة.

وأمّا النقض بالقدرة القديمة فلا يصحّ عندنا كما في السابق ، إذ صفاته ليست بأعراض ، ومن الغريب الاعتذار عن ذلك بأنّ الكلام في المعاني لا في اطلاق الألفاظ.

وأمّا ضعف الدليل الثالث فيظهر ممّا سمعت في ضعف الأوّل.

وأمّا المعتزلة فإنّهم وافقوا الاماميّة في إثبات القدرة قبل الفعل ، واستدلّوا أوّلا بأنّها لو لم تكن قبل الفعل لما كان الكافر مكلّفا بالإيمان حال الكفر.

وأجيب بأنّ الكافر مكلّف في الحال بإيقاع الإيمان في ثانى الحال ، وبالجملة فزمان التكليف غير زمان الفعل ، والحاجة الى القدرة في الثاني.

ويجوز أن لا يكون مقدورا في الزمان الأول الّذى هو زمان التكليف خاصّة ، كالمكلّف في ليالي شهر رمضان بإيقاع الصوم في نهاره ، فإنّ إيقاع الصوم النهارى غير مقدور في الليل ، مع أنّ المحقّقين من الفقهاء قالوا بجواز تعلّق الوجوب قبل زمان الأداء ، ولذا قالوا بوجوب الغسل على الجنب قبل الفجر.

وفيه أنّ من التكاليف ما يكون زمان أدائه مستوعبا لجميع أزمنة التكليف كالإيمان فيلزم من ذلك أن لا يكون مكلّفا بالإيمان في جميع أزمنة كفره ، فحال تعلّق التكليف بالإيمان مع تركه إن كان مكلّفا به ثبت المطلوب وإلّا بطل بالإجماع.

وتوهّم أنّه يكفى في تعلّق التكليف به حصول القدرة عليه حال الفعل ، فالقدر اللازم أن يكون المكلّف به مقدورا في زمان وجوده ، وأمّا كون القدرة مجامعة

٥٢٧

للتكليف فلا.

مدفوع بأنّه على هذا لو مات كافر على كفره ولم يؤمن يلزم منه أن لا يكون الإيمان مقدورا له ، لأنّ القدرة مع وجود الفعل ولم يقع منه ، فيلزم أن يكون ذلك الكافر مكلّفا بشيء لم يكن مقدورا له ، وهو وقوع التكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّك تعلم أنّ الالتزام بهذا ونحوه ليس ببدع من الأشاعرة الذين ينكرون الحسيّات ، ويردّون العقول ويخالفون الشرائع.

ولذا أجاب في المواقف عن أصل الدليل بجواز التكليف بالمحال. بل التزم بجواز التكليف بخلق الجواهر والأعراض ممّا ليس مقدورا له.

وحكى العلّامة الحلّى في أنوار الملكوت عن الرازي الاعتراض عليه بأنّ لزوم تكليف ما لا يطاق وارد على المعتزلة ، لأنّ المكلّف حال حصول القدرة على الايمان أعنى حال الكفر بزعمهم لا يمكنه الفعل أعنى الايمان لاستحالة الجمع بين المتقابلين ، وهما الإيمان والكفر ، وحال حصول الفعل أعنى الإيمان لا قدرة عليه لوجوبه.

ثم أجاب عنه الفاضل بأنّ القدرة على الفعل ليست بأن يوجد الفعل أوّل زمان وجودها بل بأن يوجده ثانى الحال ، وحينئذ لا يكون قول المعترض : إنّه لا يمكنه لا فعل يعنى الايمان حال الكفر صادقا وحال الكفر يتعلّق بمكنته لا بالفعل.

قلت : والأوضح في الجواب أن يقال : ببقاء القدرة في كلّ من الحالين ، أمّا حال الكفر فلا قدرة على تبديل الكفر بالإيمان قبل أن يستمرّ عليه الكفر ، فالتعبير بحال الكفر إنّما هو لعدم الايمان ، ومعه هو حال الايمان فلا يجتمع المتقابلان وأمّا حال الايمان فللقدرة على إزالته وتبديله بالارتداد في كلّ حال من أحوال استمراره.

وثانيا بان المراد من القدرة هي القوّة الّتي هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث

٥٢٨

لو انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين عمل ذلك الضدّ وتحقّق في الوجود ، ولو بمزاولة الآلات ومباشرة الأفعال ، وهذا المعنى وجوده قبل الفعل ضروريّ لكلّ أحد ، ولعلّ إنكاره أشبه بإنكار الضروريات.

ولذا ربما يحمل القدرة الّتي ينكر الأشعري تقدّمها على الفعل على معنى آخر وهو القوة المستجمعة لشرائط التأثير بأجمعها ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدين والّا لزم اجتماعهما في الوجود ، بل هي بالنسبة الى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى المقدور الأخر ، لاختلاف الشرائط المعتبرة في تحقّق المقدورات ، إذ لخصوص كل مقدور شروط خاصّة لا يتعديها بجملتها.

ومن هنا نقل عن الأشعرى استحالة تحقّق القدرة بالضدّين بناء على المعنى الثاني من القدرة ، والمعتزلة أرادوا الأوّل ، نعم اعترض عليه في المواقف بأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الأشعرى فكيف يصحّ أن يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

وفيه أنّ المراد بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير القوّة المستوفية لجميع الشرائط إلّا عدم هذه القدرة القديمة المانعة من فعليّة تأثيرها ووقوعه ، وليس المراد به فعليّة التأثير ، بل الصلاحية المشروطة بشرائط من جملتها عدم تأثير القدرة القديمة ، وهو ليس بمتحقّق ، فلا يتحقّق التأثير لعدم شرطها.

مع إنّ ربما يقال : إنّه في الكلام استثناء ، والقرينة عليه أنّه بصدد توجيه مذهب الأشعرى القائل بعدم تأثير القدرة الحادثة لمانعيّة القدرة القديمة ، بناء على جعل الشرط شاملا لعدم المانع.

ومع كلّ ذلك فلعلّ النزاع مرتفع بأسره ، بل لعلّ الضرورة قاضية على بطلان مقالتهم على فرض مخالفتهم.

وأمّا استدلالهم بالآية فضعيف جدّا ، إذ لا إشعار في طلب المعونة على كون

٥٢٩

القدرة مع الفعل ، بل يمكن أن يقال : إنّ فيها دلالة على تقدّم القدرة على الفعل ، وكونها من العبد ، خلافا للأشعرى في المسئلتين ، نظرا إلى أنّ في طلب المعونة دعوى ضرب من الاستطاعة والاستقلال ، كما في قول ذي القرنين : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (١) فكأنّه يقول : إنّك قد أعطيتنى قوّة أقتدر بها على تحصيل مقاصدي ومآربى في الدنيا والآخرة لكنّي غير مستغن عن لطفك ومعونتك وإمدادك وإبقاء قوّتك.

هذا مضافا الى أنّه نسب طلب المعونة الى نفسه فهو فعل منه ، والمطلوب حصول المعونة قبل المستعان فيه لاقتران الإجابة بالسؤال.

__________________

(١) الكهف : ٩٥.

٥٣٠

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ

(وصل)

وحيث إنّه سبحانه علّمنا بعد تمجيده وثنائه ودعائه بأحسن صفاته وأعظم أسمائه أن نقرّ له بالعبوديّة ، ونطلب منه المعونة اعترافا له بمراتب التوحيد ، وعروجا على معارج التحميد والتمجيد أراد أن يقرن الإجابة بالسؤال والجود بالإفضال والجمال بالجلال ، تحقيقا للتحقق بحقيقة العبوديّة الّتي كنهها الربوبيّة ، وتنبيها على أنّ تمام العناية هو الاستقامة في مرتبة الولاية ، فجمع بين السؤال والإجابة ، إنجازا للوعد وتعليما للعبد ، فاستجاب طلب طالب المعونة ، بأن وفّقه لطلب الهداية ، وعبر بالصراط المستقيم من مقام الولاية ، تنبيها على أنّ النهاية معيار البداية ، فقال في أوّل النصف الذي لعبده ، ولعبدي ما سأل ، اى الولي المطلق ، أو الداعي ، أو الأوّل الأوّل ، والثاني الثاني : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) تفصيلا للتوحيد بعد الإجمال ، وتنبيها على أنّ الوليّ المطلق صلوات الله عليه وآله مظهر أشعّة أنوار الجلال والجمال ، فإنّهم عليهم‌السلام مقاماته ، وعلاماته الّتي لا تعليل لها في كلّ مكان يعرفه بهم من عرفه ، كما في الدعاء المهدويّة الرجبيّة عليه وعلى آبائه آلاف الثناء والتحيّة.

القراءة

اختلفوا في قراءة الصراط كيف وقع في القرآن أعنى معرّفا باللام ، أو غير

٥٣١

معرّف بها منكرا أو مضافا الى الظاهر أو الضمير كما وقع في موضعين في هذه السورة ، وفي قوله : (صِراطٌ عَلَيَ) (١) على الوجهين (٢) ، و (صِراطِ اللهِ) (٣).

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) (٤) ، على أقوال :

أحدها عن قنبل (٥) ، عن ابن كثير (٦) على خلاف ، وعن رويس (٧) عن يعقوب (٨) بلا خلاف بالسين ، على الأصل حسب ما تسمع.

ثانيها ما عن البعض من القراءة بالزاي الخالصة.

ثالثها قراءة الباقين بالصاد كيفما وقع ، إلّا أنّ خلفا (٩) عن حمزة (١٠) يشمّها الزاى.

وأمّا خلّاد (١١) فقد اختلفت عنه ، فروى عنه بعضهم الإشمام في الأول من الفاتحة فقط.

وآخر له الإشمام في الأوّل والثاني منها فحسب.

__________________

(١) الحجر : ٤١.

(٢) المراد بالوجهين : إضافة صراط الى عليّ ، وعدمها.

(٣) الشورى : ٥٣.

(٤) الانعام : ١٥٣.

(٥) هو محمد بن عبد الرحمن المخزومي مولاهم المكيّ المعروف بقنبل قارئ أهل مكّة المكرّمة توفي سنة (٢٩١) ه عن (٩٦) سنة ـ العبر ج ٢ / ٩٥.

(٦) ابن كثير : هو عبد الله بن عمرو بن عبد الله المتوفى (١٢٠) ه ـ العبر ج ١ ص ١٥٢.

(٧) رويس : محمد بن متوكل اللؤلؤي البصري المتوفى سنة (٢٣٨) ه.

(٨) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد البصري المتوفى (٢٠٥).

(٩) هو خلف بن هشام البغدادي المتوفى سنة (٢٢٩).

(١٠) هو حمزة بن حبيب التيمي الكوفي الزيّات أحد القراء السبعة توفّي (١٥٦) ه ـ العبر ج ١ ص ٢٢٦.

(١١) هو خلّاد بن خالد الصيرفي الكوفي قارئ الكوفة ، توفّي سنة (٢٢٠) ه ـ العبر ج ١ ص ٣٧٩.

٥٣٢

وثالث : بالمعرّف باللّام فقط أينما وقع.

ورابع : عدم الإشمام مطلقا.

قالوا : والأصل فيه السين من قولهم : سرط الطعام ، إذا ابتلعه ، ومسرّط الطعام لممرّه ، واليسير طواط للفالوذج ، والسرواط بالكسر للأكول ، وسرطة كهمزة : سريع الابتلاع ، في المثل : الأخذ سرّيطى والقضاء ضرّيطى ، بالضمتين ، ثم المشدّدتين المفتوحتين ، أو بالكسرات ، وفيهما لغات أخر ، أى يأخذ الدين فيبلعه ، فاذا طولب للقضاء أضرط به ، قال في القاموس : السراط بالكسر السبيل أو الطريق الواضح ، لأنّ الذاهب فيه يغيب غيبة الطعام المسرّط.

والصاد أعلى المضارعة والسين الأصل.

وقول من قال بالزاي المخلّصة خطّا خطأ.

قلت : ولعلّ الاقتصار على الأوّل أولى ، ولذا قيل : إنّ الصراط ، والسبيل ، والطريق ، والسرب ، والشعب للمطلق ، والمنهج ، والمنهاج ، والمرصد ، والمرصاد ، والشارع والجادّة ، واللقم ، والحجّة للواضح ، وعلل التسمية مضافا الى ما ذكره بوجه آخر ، وهو أنّ السابلة تسرط الطريق اى تبتلعه بقطعه ، فهم يسترطون السبيل ، أو هي تسترطهم ، كما يقال : أكلته المفازة إذا أضمرته وأهلكته ، وأكل المفازة إذا قطعها ، بل يجرى الوجهان في اللقم والملتقم ، والمراد بالمضارعة الّتي علّل بها علو الصاد مع الأصل السين مطابقتها للطاء في الاستعلاء والاطباق مع مناسبتها للسين الّتي هي الأصل في الهمس واتحاد المخرج.

مضافا الى كراهتهم للجمع بين السين الموصوفة بالسكون والتسفل والرخاوة والهمس والانفتاح والطاء المتصفة بأضداد تلك الصفات من الغلظة والاستعلاء والشدّة والجهر والإطباق ، ولذا ربما اطرد بعضهم ذلك في مثل يبسط وسيطر ، بل في كلّ كلمة اجتمعتا فيها ، ورام بعضهم زيادات المجانسة فضارع الصاد الزاى ،

٥٣٣

ومعنى المضارعة أن تشرب الصاد شيئا من صوت الزاى فتصير بين بين ، اى تصير حرفا مخرجه بين مخرج الصاد ومخرج الزاى كيلا يذهب ما يختصّ بكل منهما بالكليّة.

بل أبدلها بعضهم بالزاي الخالصة ، بل في «عين المعاني» أنّ هذه الحروف الثلاثة يتبدل كلّ منهما من غيرها ، فيقال في سقر : صقر وزقر.

وأنّ الصاد لغة قريش ، والسين لبني قيس ، والزاى لبني عذرة.

ولعلّه لهذا قال في الكشّاف : إنّ فصحاهنّ إخلاص الصاد ، وهي لغة قريش وذلك أنّ قريشا فصحاء العرب ، مع أنّ المكتوب في المصاحف ، بل المأثور في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام إنّما هو الصاد.

ولعلّ في انتقال بداية الصراط من حضيض التسفّل والرخاوة الى أوج قوّة الاستعلاء الّتي للصاد اشارة الى أنّ اتصال الضعيف بالقوى وسلوكه في الصراط المستقيم للتوصّل إليه موجب لقوّته وخروجه من حضيض ضعفه وطبيعته إلى أوج شرف القدس والتشرف.

دراية في معنى الهداية

اعلم أنّ الهدى والهداية ضدّ الضلال والضلالة ، ويستعمل في اللّغة لازما بمعنى الاهتداء والرشد كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) ، ومتعدّيا بمعنى الإراءة أو الإيصال ، فيقابله الإضلال ، ويعدّى بنفسه ، وباللام ، وب إلى ، والفعل كضرب.

قال في القاموس : الهدى بضمّ الهاء وفتح الدال : الرشاد والدلالة ، هداه هدى

__________________

(١) سبأ : ٢٤.

٥٣٤

وهديا وهداية وهدية بكسرهما : أرشده ، فتهدّى ، واهتدى.

والمستفاد منه كغيره اتحاد الهدى والهداية معنى إذا استعملا متعدّيين ، لكن قد يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بإراءة طريق الدين خاصّة دون الثاني فإنه يعمّ إراءة كل طريق ، مضافا الى أنّه لا يستعمل الّا متعدّيا دون الهدى فإنّه قد يستعمل لازما أيضا.

والحقّ أنّه لا اختصاص لشيء منهما بشيء بشهادة اللغة والعرف تصريحا واستعمالا ، ولاتّحاد المادّة ، والغلبة غير معلومة لو لم تكن معلومة العدم ، كما أنّه لا اختصاص لهما بل لا اختصاص لمشتقّاتها أيضا بالدلالة الموصلة أو بالإيصال الى المطلوب ، ولا بالدلالة على ما يوصل ، وإن ذهب الى كلّ فريق ، بل فصّل ثالث أو رابع بأنّها إن تعدّت بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا يسند حينئذ إلّا الى الله كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) ، وإن تعدّت باللام أو إلى كانت بمعنى اراءة الطريق ، فكما يسند حينئذ الى الله تعالى يسند أيضا الى القرآن وإلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٢) ، إنّك لا تهدى من أحببت (٣).

وفيه : أنّه لا يختصّ المعنى باختصاص المورد ، سيّما بعد الاشتراك في المادّة ، ومنع الغلبة الموجبة للنقل ، ولذا قيل : إنّ أصله أن يعدي باللّام ، أو إلى فعومل في تعدّيه بنفسه معاملة لفظة (اختار) في قوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٤).

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) الإسراء : ٩.

(٣) القصص : ٥٦.

(٤) الأعراف : ١٥٥.

٥٣٥

نعم صرّح بعضهم بأنّه مأخوذ في أصله اللّطف في الدلالة ، ولذا اشتقّوا منه الهديّة لدلالتها على الوصلة بين المهدي والمهدي اليه بلطف ، مع ما فيها من الحثّ على الإسعاف بالمطلوب الذي هو زيادة المحبّة والالفة أو غيرها.

بل هكذا هو ادى الوحش لأوّل جماعة يتقدّمها فيتبعها الوحش فتدلها على الكلاء والماء.

وأمّا الدلالة الخالية عن لطف كقوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (١) ، فإنّها على حدّ (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) تنزيلا للتضادّ منزلة التناسب ، وإن احتمل بعض الأجلّة وروده على حقيقته من غير تهكّم ، نظرا إلى أنّهم لمّا قطعوا بأن لا منزل لهم سوى الجحيم ولا بدّ لهم منها ، فاللطف بهم أن يعرفوا طريقها ليسهل عليهم الوصول إليها استخلاصا من تعب الطريق.

لكنه هيّن جدّا فإنّ تعب الطريق راحة لهم بالنسبة الى ما ينزلونه من العذاب والمضيق.

وبالجملة فأصل الباب هو الدلالة بلطف ، وقيل : إنّه الميل ، ولذا يقال : التهادي للمشي المتمايل ، والهديّة تميل القلوب الى المحبّة ، يقال : تهادوا تحابّوا.

ثمّ إنّه بعد ذلك يستعمل في الكتاب العزيز وغيره بمعنى التوفيق كقوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٣).

وقال الشاعر :

فلا تعجلنّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا

__________________

(١) الصافّات : ٢٣.

(٢) لقمان : ٧.

(٣) الحجرات : ١٧.

٥٣٦

والدلالة والإرشاد كقوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١).

والنجاة والفوز كقوله : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) (٢).

والجزاء والثواب كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٣).

والحكم والتسمية (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) (٤) ، يعنى أن تسمّوا مهتديا من سمّاه الله ضالا وحكم عليه بذلك.

والدعوة كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٥) ، أى داع.

والبيان كقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٦) أي بيّنا لهم ، وإن كان الحقّ رجوعهما الى الثاني.

والغلبة بالحجّة كقوله في محاجّة إبراهيم لعدو الله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٧).

والإصلاح كقوله : (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٨).

والإلهام كقوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٩).

والتقديم كقوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (١٠).

__________________

(١) الليل : ١٢.

(٢) إبراهيم : ٢١.

(٣) سورة يونس : ٩.

(٤) النساء : ٨٨.

(٥) الرعد : ٧.

(٦) فصّلت : ١٧.

(٧) البقرة : ٢٥٨.

(٨) يوسف : ٥٢.

(٩) الأعلى : ٣.

(١٠) الصافّات : ٢٣.

٥٣٧

وخلق الهداية في العبد : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١).

والإثبات والدوام على الهداية : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢).

وكثير من هذه المعاني وإن أمكن إرجاعه الى غيره بل هو راجع اليه لكن الخطب فيه سهل ، إنّما الكلام في جواز نسبتها بمعانيها كلّا أو بعضا الى الله سبحانه والعدم ، فالأشاعرة نسبوها اليه سبحانه بناء على أصلهم الباطل من نفى الحسن والقبح العقليّين ، وعدم قبح شيء عليه تعالى وجواز الجبر والتكليف بالمحال سبحانه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وأمّا على مذهب العدليّة وأصولهم فنسبتها بكثير من معانيها إليه جائزة ، بل في الجملة واجبة ، إذ من جملتها اللطف الذي أطبقت العدليّة على وجوبه في الجملة ، وإن لم يقولوا بوجوب جميع الألطاف ، بل القدر الواجب منه ما لا يمكن حصول الغرض من التكليف إلّا به ، فهذا القدر منه يشمل المطيع والعاصي ، والسعيد والشقي ، وأمّا الهداية المختصّة بالصلحاء دون الأشقياء كقوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) فالمراد بها اللطف الخاصّ الّذي لا يوجب وجوده الإلجاء والجبر ولا عدمه نقض الغرض ، وذلك لأنّه لمّا كان العباد مختلفين في إرادتهم وشئونهم ، واختباراتهم بعد ثبوت الاختيار لهم ، فإنّه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٤) ـ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٥) ، (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ

__________________

(١) يونس : ٢٥.

(٢) الفاتحة : ٦.

(٣) فاطر : ٨.

(٤) البقرة : ٢٥٦.

(٥) الأنفال : ٤٢.

٥٣٨

وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١).

فاذا عمّهم اللطف المقرّب الى الطاعة المبعّد عن المعصية فليس للناس على الله حجّة بعده ، لكنّه قد يخصّ من يعلم أنّه يطيع باختياره لمجرّد اللّطف السابق ببعض الألطاف الذي ليس بواجب عليه كى يوجب زيادة تقريبه الى الطاعة لما يعلم من نيّته بامتثال ما يرد عليه من الأوامر وإن لم يتفضل عليه بهذا القسم من اللطف ، كما أنّه يوكل من يعلم منه المعصية باختياره وإرادته إلى ماهيّا له من اللطف الذي معه إتمام الحجّة وإبلاغ المعذرة من دون أن يتفضّل عليه بالقسم الآخر من اللطف.

ولذا ربما يمثّل لذلك بمولى له عبدان ، أحدهما سلس القياد ، طيّب السريرة ، جميل السيرة ، مطيع لمولاه ، والاخر عاص معاند خبيث الباطن كثير المخالفة لمولاه ولكنّهما مشتركان في القدرة على كلّ من الفعل والترك ، من دون أن يكون هناك شيء يوجب شيئا من الطرفين على أحد العبدين على وجه الإلجاء والاضطرار ، ثمّ إنّ المولى أمرهما بأمر من أوامره ، وقدّم إليهما الوعد والوعيد ، ثمّ تلطّف في الخلوة الى الّذى هو أحبّ اليه عن الآخر لحسن سيرته وطيب سريرته بالرفق والرأفة ، والعطية الخاصّة الموجبة لمزيد رغبته في الامتثال ، ولم يفعل ذلك بالنسبة الى الآخر ، فامتثل الأوّل وخالف الآخر ، فأحسن الى المطيع لعمله ، ووفي له بوعده ، وأدّب العاصي وزجره لمخالفته ، فلا ريب أنّ مثل هذا المولى موصوف بالعدل والفضل ، ولا ينسب إليه شيء من الظلم والقبح.

فإن قلت : ما السبب في هذا اللطف الخاصّ بالنسبة الى العبد الأوّل ، وما المرجّح الّذي خصّه به مع أنّ العاصي كان أولى به.

قلت : إنّ هذا تفضّل من الله ، والله يختصّ برحمته من يشاء ، والمفروض أنّ

__________________

(١) هود : ١١٨.

٥٣٩

منع الأوّل منه لا يوجب خروجه الى زمرة العاصين ، والتفضّل على الثاني به لا يوجب دخوله في فرقة المطيعين.

على أنّ هاهنا بابا آخر من العلم ، وهو الأصل في المقام ، وذلك أن الله تعالى أنعم على كلّ فريق من المطيعين والعصاة ما أنعم على الآخر ، إلا أنّه يوجب نجاة الفرقة الأولى بإطاعتهم واختيارهم موافقة المولى وامتثاله كما أنّه بعينه يوجب هلاك العاصين بمخالفتهم ، ولذا قيل :

أرى الإحسان عند الحرّ دينا

وعند النذل منقصة وذمّا

كقطر الماء في الأصداف درّ

وفي جوف الأفاعى صار سمّا

وقال سبحانه : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (١).

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٢).

وورد في زيارة مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) ، بل في زيارة مولينا الحجّة الخلف أيضا عجّل الله فرجه : أنّه نعمة الله على الأبرار ونقمته على الفجّار.

ولهذا الكلام شرح تسمعه فيما يأتى إن شاء الله تعالى.

نعم ذكر الفاضل القمى رحمة الله عليه جوابا من الشبهة المتقدّمة حكاية عن غيره بأنّ وجه استحقاقه ذلك اللطف هو طيب نفس ذلك وحسن نيّته في الطاعة ، ووجه منع الآخر خبث ذاته والتزامه طريقة المخالفة.

ثم أورد سؤالا آخر ، وهو أنّ السبب إذا كان مقتضى الذات ، والذات هي الداعية الى الامتثال وان لم يكن هذا اللطف الخاصّ أيضا ، فيرجع الكلام الى أنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٦.

(٢) الإسراء : ٨٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٠٠ / ٣٠٥ عن الشيخ المفيد قدس‌سره.

٥٤٠