زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

فمما لا نتعقله ، فإنه مع عدم وجود الموضوع كيف يكون الملاك تاما ، وبعد وجود المنفعة يكون الموضوع لحرمة التصرف مشكوك الوجود ، فلا محالة يكون الملاك أيضاً مشكوكا فيه.

والحق انه تارة : يكون الشيئان الذين علم غصبية أحدهما ، مسبوقين بملكية الغير لهما فدخل أحدهما في ملكه دون الآخر.

ففي هذه الصورة يحكم بضمان المنافع ، وحرمة التصرف فيها لاستصحاب بقاء اصل الشجرة على ملك الغير وعدم انتقالها إليه.

ويترتب عليه ، كونه مالكا لمنافعها ، فلا بد من ترتيب آثار ذلك.

ولا يعارضه استصحاب بقاء الأخرى على ملك مالكها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.

وأخرى : لا يكونان مسبوقين بذلك ، كما لو حاز شخصان للشجرتين اللتين هما من المباحات الأصلية ، فغصب أحدهما مال الآخر واشتبهتا فحصل لاحدهما نماء.

فالظاهر انه لا يحكم في هذه الصورة بالضمان ، فإن استصحاب عدم دخول الشجرة ونمائها في ملكه لا يجدي لاثبات ما لم يحرز كونها مملوكة للغير ، لان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير غير المحرز في المقام فيرجع إلى أصالة البراءة ويحكم بعدم الضمان.

واما جواز التصرف وعدمه ، فيبتنيان على انه ، هل الأصل في الأموال هو الاحتياط؟ وان لم يكن هناك اصل موضوعي ، مثبت لعدم الجواز ، أو البراءة وحيث ان المختار هو الثاني كما حقق في محله. فالأظهر جواز التصرف أيضاً.

٨١

ومن صغريات هذه الكبرى الكلية ملاقي بعض أطراف الشبهة في العلم الإجمالي وستعرف ما هو الحق فيه.

بيان وجه نجاسة الملاقي

الأمر الرابع : بعد أن ذكرنا أنه لا شبهة ولا كلام في نجاسة ملاقي النجس ، نشير إلى أنه وقع الكلام في وجه نجاسته ، والمحتملات ثلاثة.

الاحتمال الأول : ان تكون نجاسته لأجل السراية الحقيقية ، بمعنى الانبساط ، بأن تكون الملاقاة سببا لاتساع دائرة نجاسة الملاقَى ، كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس بغيره ، وامتزاجه به ، فيكون حال الملاقاة ، حال الاتصال والامتزاج.

الاحتمال الثاني : ان تكون نجاسته بالسراية بمعنى الاكتساب بأن تكون نجاسة الملاقِي ناشئة ومسببة عن نجاسة الملاقَى ، وفي طولها.

الاحتمال الثالث : ان تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي ، ويكون نجاسة الملاقِي فردا من النجاسة ، في قبال نجاسة الملاقَى وفي عرضها ، ويكون كل منهما موضوعا مستقلا ، نظير نجاسة الكلب ، والخمر ، غاية الأمر كان هذا الحكم في ظرف ملاقاته للنجس.

وقد استدل للأول بوجوه :

الوجه الأول : ما عن الغنية (١) ، وهو قوله تعالى" والرجز فاهجر (٢) "

__________________

(١) استدل ابن زهرة الحلبي على النجاسة بالآية الكريمة في غنية النزوع ص ٤٢.

(٢) الآية ٥ من سورة المدثر.

٨٢

بدعوى ان هجر الشيء لا يتحقق إلا مع الاجتناب عن الملاقي.

وفيه : انه لا يدل الكريمة على نجاسة الملاقى ، فضلا عن كونها بالنحو الأول.

الوجه الثاني : ان اهل العرف يفهمون من حكم الشارع بالنجاسة ذلك ، وهو كما ترى وستعرف ما فيه.

الوجه الثالث : خبر جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ : أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي خَابِيَةٍ فِيهَا سَمْنٌ أَوْ زَيْتٌ فَمَا تَرَى فِي أَكْلِهِ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع لَا تَأْكُلْهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الفأرة أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتْرُكَ طَعَامِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع إِنَّكَ لَمْ تَسْتَخِفَّ بِالفأرة وَإِنَّمَا اسْتَخْفَفْتَ بِدِينِكَ إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (١).

بتقريب انه (ع) جعل عدم الاجتناب عن الطعام الملاقِى للفأرة استخفافا بتحريم الميتة ، فلو لم يكن حرمة الملاقِى ووجوب الاجتناب عنه من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقَى ، لما صح جعله استخفافا بالميتة.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (٢) بأن الظاهر من الحرمة فيه النجاسة : لان مجرد التحريم لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس الملاقى ، فالملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

وفيه : ان اساس الاستدلال إنما يكون مبتنيا على ملازمة الحرمة الملزومة

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٢٠٦ ح ٥٢٨.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤١.

٨٣

للنجاسة ، لحرمة ملاقيه. وتقريبه ـ ما عرفت من ـ ان وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لو لم يكن من شئونه لما صح جعله استخفافا بحرمة الملاقَى من جهة نجاسته.

فهذا الذي أفاده لا يجدي في دفع الاستدلال.

فالحق في الجواب : مضافا إلى ضعف سنده لعمرو بن شمر الذي ضعفه علماء الرجال (١) ورموه بالوضع والكذب : انه يحتمل ان يكون وجه السؤال ، الجهل بنجاسة الفأرة لا تنجيسها فسأل عن نجاستها.

ولكن حيث انه كان نجاسة الملاقِي للنجس مغروسة في ذهنه سأل عن نجاسة الطعام الذي وقعت النجاسة فيه ، فأجابه (ع) بنجاسة الفأرة على طبق ما كان مغروسا في ذهنه ، فالرواية مسوقة لبيان نجاسة الفأرة لا ملاقيها.

أضف إلى ذلك : انه يحتمل ان يكون مورد السؤال تلاشى أجزاء الفأرة وامتزاجها بما في الخابية ، وعلى هذا أيضاً تكون الرواية اجنبية عن المقام. فإذاً لا دليل على السراية بالمعنى الأول ، ولا شاهد له من العرف والشرع.

بل الذي يساعده فهم العرف قياسا بالقذارات العرفية ، وهو الظاهر من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المتضمنة لقولهم عليهم‌السلام (لا تنجسه ، ونجسه) وما شابههما. والمستفاد من كلمات علمائنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم هو السراية بالمعنى الثاني.

__________________

(١) رجال النجاشي ص ١٢٩ / وفي نقد الرجال ج ٣ ص ٣٣٦.

٨٤

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم ان الأقوال في المسألة اربعة :

القول الاول : عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى مطلقا.

القول الثاني : لزومه كذلك.

القول الثالث : انه في بعض الموارد يجب الاجتناب عن الملاقِي والملاقَى ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقَى ولا ثالث. وهذا اختاره السيد الأستاذ (١).

القول الرابع : انه في بعض الموارد يجب الاجتناب عنهما ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقَى ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقِي ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقَى. وهذا قد اختاره المحقق الخراساني (٢) ، وتنقيح القول في المقام ، بالبحث في صور :

حصول الملاقاة بعد العلم بالنجاسة

الصورة الأولى : ما إذا علم اجمالا بنجاسة احد الشيئين ثم حصلت الملاقاة.

__________________

(١) آية الله السيد الخوئي وسيأتي في مناقشة رأيه.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٢.

٨٥

فيها قولان : عدم وجوب الاجتناب ، ووجوبه.

القول الاول : ما ذهب إليه اكثر المحققين (١) ، قالوا انه لا يجب الاجتناب عن الملاقِي ، في هذه الصورة ، والوجه فيه انه مشكوك الطهارة والنجاسة وليس طرفا للعلم الإجمالي فيجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

القول الثاني : ما اختاره جماعة وهو الوجوب. وقد استدل له بوجهين :

أحدهما : ان نجاسة الملاقِي عين الملاقَى.

غاية الأمر انها توسعت بالملاقاة ، وثبتت لامرين بعد ما كانت ثابتة لامر واحد. فهو نظير ما لو قسم ما في احد الإنائين قسمين ، فيجب الاجتناب عن الملاقِى ، تحصيلا للقطع بالاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال.

ويرد عليه : ما حققناه في المقدمة الثالثة من ان نجاسة الملاقي ليست بسراية النجاسة سراية حقيقية ، بل هي حكم آخر مستقل مترتب على الملاقاة.

ثانيها : انه بالملاقاة يحدث علم اجمالي آخر بنجاسة الملاقي ، أو الطرف الآخر ومقتضاه الاجتناب عن الملاقي أيضاً.

واجيب : عن ذلك بأن العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزا فإن احد طرفيه لا يجري فيه الأصل لمنجز آخر ، وهو العلم الإجمالي الأول ، فيجري في هذا الطرف بلا معارض.

ولكن الحق هو التفصيل في المقام ، وهو يبتنى على بيان مقدمة ـ وهي مع

__________________

(١) نسب الأستاذ الخوئي ذلك إلى المشهور في الهداية في الأصول ج ٣ ص ٤١٧.

٨٦

اهميتها وترتب فروع عليها لم تنقح في كلماتهم ـ وحاصلها.

لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي

انه إذا اختص بعض الأطراف باصل طولى ، فهل يكون هو أيضاً ساقطا ، أم لا؟ أم هناك تفصيل وجوه وأقوال :

وتنقيح القول في المقام : انه ان كان الأصل في ما يجري فيه اصل واحد مسانخا مع الأصل الحاكم في ذلك الطرف ، كما لو علم بوقوع النجاسة في الماء أو على الثوب ، إذ الأصل الحاكم في الماء هو أصالة الطهارة ، وهي مسانخة مع أصالة الطهارة في الثوب وفي الماء يجري اصل طولي غير مسانخ لهما وهو أصالة الحل فإنه يشك في الحلية والحرمة من جهة النجاسة.

وفي هذه الصورة لاوجه لسقوط الأصل الطولي ، فإن الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، فقاعدة الطهارة على سعة دائرة مصاديقها مجعولة بجعل واحد ، وعليه : فحيث ان جعلها بنحو يشمل كلا طرفي العلم الإجمالي في امثال المثال ، غير ممكن ، وبنحو يشمل أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

فلا محالة لا تكون مجعولة في شيء من الطرفين ، فالشك في الحلية والحرمة شك واحد مورد لاصالة الحل بلا معارض.

وبتقريب آخر : ان دليل أصالة الطهارة نعلم بتخصيصه ، وعدم شموله للمقام ، واما دليل أصالة الحل فهو باطلاقه يشمل الطرف المعين ، فلا موجب

٨٧

لرفع اليد عنه.

وقد التزم الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية التي هي نظائر للمقام بذلك.

منها : ما لو علم بطهارة شيء في زمان ونجاسته في زمان آخر ، وشك في المتقدم منهما ، والمتأخر فبعد تعارض الاستصحابين يرجعون إلى قاعدة الطهارة.

ومنها : ما إذا علم حلية شيء وحرمته في زمانين ، ولم يعلم المتقدم منهما فإنهم يرجعون إلى أصالة الحل بعد تساقط الاستصحابين ، وهكذا في سائر الموارد.

وان كان الأصل الجاري في احد الطرفين مسانخا مع الأصل المحكوم في الطرف الآخر ـ كما لو علم بغصبية احد الماءين ، أو نجاسة الآخر ، فإن أصالة الحل فيما يحتمل غصبيته مسانخة مع أصالة الحل في الآخر التي هي محكومة لاصالة الطهارة ـ أو كان غير مسانخ لشيء منهما.

ففي هاتين الصورتين فإن العلم الإجمالي يوجب تنجز الواقع على كل تقدير وسقوط جميع الأصول حتى الطولية.

وإنما لا يجري شيء من الأصول ، لان كل واحد منها طرف للعلم الإجمالي.

ولا يصح ان يقال : ان أصالة الطهارة فيما يحتمل نجاسته ، تعارض مع أصالة الحل في الطرف الآخر ، وتتساقطان ، فيرجع إلى أصالة الحل فيه.

فإن الترخيص فيه بأي لسان كان لا يصح لمخالفته للمعلوم بالإجمال.

هذا كله إذا كان الأصل الطولى موافقا في المؤدى مع الأصل الجاري في

٨٨

المرتبة السابقة.

واما ان كان مخالفا له. فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية مطلقا ، فلو علم نقصان ركعة من المغرب ، أو عدم الإتيان بصلاة العصر ، تعارض قاعدة الفراغ في المغرب ، مع قاعدة الحيلولة في العصر ، فيرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوك فيها ، أو إلى قاعدة الشك في الركعات المقتضية للبطلان ، وبالنسبة إلى صلاة العصر ، يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء بناءً على ان موضوعه الفوت لا مجرد عدم الإتيان.

وتمام الكلام في شقوق هذه المسألة موكول إلى محله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : انه يتم ما افادوه في مقام الجواب إذا لم يكن في الطرف الآخر الذي لا ملاقي له اصل طولى غير ساقط ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين الأصل الجاري في الملاقِى للعلم الإجمالي بنجاسته ، أو حرمة استعمال ذلك الطرف مثلا ، وهذا العلم يمنع عن جريان كلا الأصلين.

حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة

الصورة الثانية : ما إذا حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، وفي هذه الصورة اقوال :

الاول : ما عن المحقق الخراساني (١) وهو لزوم الاجتناب عن الملاقى أيضاً.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٣.

٨٩

الثاني : ما اختاره المحقق النائيني (١) تبعا للشيخ الأعظم (٢) وهو عدم لزوم الاجتناب مطلقا.

الثالث : ما عن الأستاذ (٣) وهو التفصيل بين ما إذا كان زمان المعلوم مقارنا لزمان الملاقاة ، وبين ما إذا كان سابقا عليه فاختار لزوم الاجتناب عنه في الأول دون الثاني.

وقد استدل المحقق النائيني (ره) (٤) لما ذهب إليه ، بأن الأصل الجاري في الملاقي مقدم رتبة على الأصل الجاري فيما لاقاه ، لان الشك في نجاسته ناش عن الشك في نجاسته. وفي المرتبة المتقدمة ، يعارض الأصل الجاري في الملاقى مع الأصل الجاري في الطرف الآخر فيتساقطان. وفي المرتبة اللاحقة ، يجري الأصل في الملاقِى بلا معارض.

وفيه اولا : ان هذه الأحكام ليست احكاما للرتبة ، وإنما هي أحكام للزمان ، وحيث ان الأصل في الملاقي والملاقَى متحدان زمانا ، فكلاهما طرف للمعارضة.

وثانيا : ان الأصل في الملاقِي وان كان متاخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقَى ، لكنه ليس متاخرا عن الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل هما في رتبة واحدة. ولاوجه لتوهم التاخر سوى ، توهم ان المتأخر عن شيء رتبة متاخر عما في رتبته ، وهو فاسد ، فإن وجود العلة متحد رتبة مع عدمها ووجود المعلول متأخر عن وجود العلة ، وهل يتوهم ان يكون وجود المعلول

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٦٠ وج ٣ ص ٤٤٦ (الطبعة الجديدة).

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤٠.

(٣) مصباح الأصول ج ٢ ص ٤١٩.

(٤) نسب إليه ذلك تلميذه السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤١٤.

٩٠

متاخرا عن عدم علته. وبالجملة : التاخر الرتبى يحتاج إلى ملاك وجهة وهو مفقود في المقام.

واستدل للثالث (١) : بأنه إذا كان زمان المعلوم متقدما كما لو لاقى الثوب احد الإنائين يوم الجمعة ، ثم علم يوم السبت ، بنجاسة احد الإنائين يوم الخميس ، فالشك في طهارة كل من الإنائين شك في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يجري فيه الأصل ، واما الشك في نجاسة الثوب فهو شك في حدوث نجاسة أخرى ، ولا مانع من شمول دليل الأصل له بعد فرض تنجز النجاسة السابقة بالعلم المتأخر.

واما إذا كان زمان الملاقاة متحدا مع زمان المعلوم ، فالعلم الإجمالي كما تعلق بنجاسة احد الإنائين تعلق بنجاسة الثوب ، أو الاناء الآخر ، فيسقط الأصل في الثوب أيضاً.

وفيه : ان المدار وان كان على المنكشَف لا الكاشف ، لكن ذلك بالنسبة إلى الآثار المترتبة على المعلوم المنجزة بالعلم.

واما بالنسبة إلى آثار العلم كالتنجيز ، فالمدار على الكاشف لا المنكشف.

ففي المقام نقول : قبل العلم بالنجاسة اما لا شك في الطهارة في شيء من الملاقَى والملاقِي والطرف ، أو يجري الأصل في الجميع لعدم العلم بالنجاسة.

والتعارض إنما يكون في زمان حدوث العلم ، وفي ذلك الزمان كما يعارض الأصل الجاري في الملاقَى ، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، كذلك

__________________

(١) أي للقول الثالث وهو التفصيل الذي اختاره السيد الخوئي ، صباح الأصول ج ٢ ص ٤١٩.

٩١

يعارض الأصل الجاري في الملاقِى معه ، فيتساقط الجميع ، فحكم الفرض الأول حكم الثاني.

فالمتحصّل ان الاقوى هو القول الأول (١).

حدث العلم الإجمالي مع كون الملاقي خارجا عن محل الابتلاء

الصورة الثالثة : قال المحقق الخراساني في الكفاية (٢) " واخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو علم اجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقِى أو ذاك الشيء أيضاً ، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي وانه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلاً لا اجمالا ، ولا تفصيلا.

وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلا به بعده" انتهى.

فهو ذكر موردين لصورة وجوب الاجتناب عن الملاقِي دون الملاقَى.

اما في المورد الأول : فقد أورد عليه المحقق النائيني (٣) والاستاذ (٤) وغيرهما

__________________

(١) وهو ما قاله المحقق الخراساني من لزوم الاجتناب.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٣.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٧٥. وج ٣ ص

(٤) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٨٥.

٩٢

بأن تنجيز العلم الإجمالي بقاء يدور مدار بقاء العلم ، فلو تبدل وانعدم لا معنى لبقاء التنجيز ، وعليه : فالعلم الإجمالي الحادث ثانيا يوجب انحلال العلم الأول ، فإن الشك في نجاسة الملاقى قبل العلم الثاني كان شكا في انطباق المعلوم بالإجمال عليه فلا يجري فيه الأصل ، إلا انه بعد فرض العلم الثاني ، يكون الشك في حدوث نجاسة أخرى غير ما هو معلوم بالإجمال ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه.

ويتوجه عليهم أنه قد عرفت ان العبرة في أثر العلم ، وهو التنجيز بالكاشف لا المنكشف ، فالعلم الأول ترتب عليه التنجيز وسقط الأصل في طرفيه ، والعلم الثاني ، لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقَى ، لفرض سقوط الأصل في الطرف الآخر لمنجز آخر ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، وكون المعلوم الثاني مقدما غير مربوط بما هو مورد الأثر.

فما أفاده المحقق الخراساني في هذا المورد تام لا ايراد عليه.

ولكن ما أفاده في المورد الثاني لا يتم ، لان الأصل إنما لا يجري فيما هو خارج عن محل الابتلاء إذا لم يترتب عليه أثر ، واما مع ترتبه ، كما في المقام فإن نجاسة ما لاقاه من آثار نجاسته ، فيجري.

مثلا : إذا غسل شيئا نجسا بماء حين الغفلة عن نجاسته وطهارته ، ثم انعدم الماء فشك في نجاسته وطهارته ، فهل يتوهم احد انه لا يجري أصالة الطهارة في الماء ويرجع إلى استصحاب النجاسة؟ وبالجملة : لا ريب في جريان الأصل فيه مع ترتب الأثر عليه.

وفي المقام بما انه يترتب عليه عدم نجاسة ملاقيه فيجري فيه الأصل

٩٣

ويعارض مع الطرف الآخر ، فهل يجري الأصل في الملاقِي ، أم لا؟ وجهان تقدما في الصورتين السابقتين ، ومنه تعرف انه لا يجري فيه الأصل ، ففي هذا المورد أيضاً يجب الاجتناب عن الملاقِي والملاقَى.

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وقبل الدخول في البحث واستقصاء الكلام فيه لا بد من تقديم أمور.

الأمر الأول : انه قد ظهر من ابحاثنا السابقة ان الشك ، ان كان في التكليف والجعل الشرعي فهو مورد لاصالة البراءة ، وان كان في انطباق المجعول بعد العلم بالجعل ، وفي الامتثال فهو مورد لقاعدة الاشتغال. وبعبارة أخرى : ان الشك في التكليف مورد للبراءة ، والشك في المكلف به مورد لقاعدة الاشتغال.

والكلام في هذا المقام بعد الفراغ عن هاتين الكبريين يقع في الأقل والأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الشك في وجوب الأكثر من حيث الصغرى وانه ، هل يكون من قبيل الشك في التكليف : نظرا إلى العلم بتعلق التكليف بالاقل والشك في تعلقه بالزائد عليه؟ أو انه من قبيل الشك في المكلف به؟ نظرا إلى وحدة التكليف المعلوم بالإجمال ، وتردده بين ان يكون متعلقا بالاقل أو الأكثر ، فيكون الشك في الانطباق وفي المكلف به.

الأمر الثاني : ان الأقل والأكثر اما استقلاليان ، أو ارتباطيان ، والفرق بينهما إنما هو من جهة انه ، تارة يكون غرض واحد مترتبا على الأقل على كل تقدير ،

٩٤

وبتبعه يكون موردا لتكليف خاص. وعلى فرض وجوب الأكثر فإنما هو من جهة كون الأكثر ذا مصلحتين ، وبتبع ذلك يتعدد التكليف والمثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة ، ويتحقق الاطاعة بإتيان الأقل على كل تقدير ، وان لم يكن في ضمن الأكثر ، وهذا هو الأقل والأكثر الاستقلاليان.

وتارة أخرى يكون الغرض المترتب على الأكثر على فرض وجوبه واحدا وبتبعه يكون التكليف أيضاً واحدا ، فامر المعلوم مردد بين كونه متعلقا بالاقل أو الأكثر ، وهذا هو الأقل والأكثر الارتباطيان ، ومحل الكلام هو الثاني.

واما في الأول فلا إشكال في جريان البراءة عن الأكثر لانحلال العلم الإجمالي فيه حقيقة على جميع المسالك.

الأمر الثالث : ان محل الكلام ما إذا كان الأقل على فرض كونه متعلقا للتكليف ماخوذا بنحو اللابشرط القسمي ، بالنسبة إلى الزائد الذي يكون الأكثر واجدا له ، فلا يضره الإتيان بالاكثر. واما إذا كان مأخوذا بنحو بشرط لا عن الزائد حتى يضره الإتيان بالاكثر ، كما في دوران الأمر بين القصر والتمام ، فهو خارج عن محل الكلام ، ويكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين لكون الأقل المعلوم وجوبه مرددا بين ان يكون هو الأقل بشرط شيء أو بشرط لا.

وبعبارة أخرى : محل الكلام في المقام إنما هو فيما إذا كان الإتيان بالاكثر مما يقتضيه الاحتياط ، ويوجب سقوط التكليف وامتثاله على كل تقدير ، وإذا كان الأقل مأخوذا بشرط لا ، لا يمكن الاحتياط بإتيان الأكثر ، ولا يحرز به الامتثال لاحتمال كون الزائد مبطلا.

ولذلك يكون مقتضى الاحتياط عند العلم الإجمالي بوجوب القصر أو

٩٥

التمام ، هو الجمع بينهما ، لا الإتيان بالتمام فقط. إذا عرفت هذه الأمور فتحقيق القول في المقام يقتضي البحث في موضعين.

الموضع الأول : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية كالشك في وجوب السورة في الصلاة.

الموضع الثاني : في دوران الأمر بينهما في الأجزاء التحليلية ، كدوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو دوران الأمر بين الجنس والنوع ، كما لو علم بوجوب اطعام الحيوان أو خصوص الإنسان.

اما الموضع الأول : فالاقوال فيه ثلاثة.

القول الاول : جريان البراءة العقلية والنقلية في الأكثر ، ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) وجماعة.

القول الثاني : عدم جريان البراءة العقلية والنقلية.

القول الثالث : التفصيل بين البراءة العقلية ، فلا تجري ، وبين البراءة النقلية فتجري ، اختاره ، المحقق الخراساني والمحقق النائيني (٢).

فالكلام في جهتين :

الأولى : في جريان البراءة العقلية وعدمه.

الثانية : في جريان البراءة النقلية وعدمه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٦٤.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٦. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٨٩.

٩٦

جريان البراءة العقلية في الأكثر

اما الجهة الأولى : فقد استدل له الشيخ الأعظم (ره) (١) بانحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ، بالعلم بوجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري ، إذ لو كان الأقل واجبا ، فوجوبه نفسي ، ولو كان الأكثر واجبا ، فوجوب الأقل غيري ، والشك في وجوب الأكثر فيجري فيه البراءة العقلية.

ويرد عليه ما حققناه في بحث وجوب المقدمة من استحالة اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، إذ ليس للمركب وجود غير وجود الأجزاء كي يتوقف عليه توقف وجود الشيء على وجود غيره ، والوجوب الغيري ناش عن توقف وجود على آخر ، وتمام الكلام في محله.

واما الإيراد عليه ـ بعد تسليم كون وجوب الأقل معلوما اما نفسيا أو غيريا ، بأنه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ، لأنه يعتبر في الانحلال كون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال ، والمقام ليس كذلك ، لان المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي ، والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين النفسي والغيري. ـ

فيمكن دفعه لان ذلك وان لم يكن انحلالا حقيقيا ، ولكنه إنما يكون في حكم الانحلال ، فإن الميزان هو جريان الأصل في احد الطرفين دون الآخر ، وفي المقام مع قطع النظر عن ما ذكرناه بما ان الأقل وجوبه معلوم ، لا يجري فيه

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٦٤.

٩٧

الأصل ، فيجري في الأكثر بلا معارض.

والصحيح في تقريب الانحلال ما أفاده جماعة ، ويمكن استفادته من كلمات الشيخ الاعظم (قدِّس سره) (١) وهو ان تعلق الوجوب النفسي الجامع بين الاستقلالي والضمني بالاقل معلوم ، اما لكونه هو الواجب ، أو لكونه جزء الواجب ، والزائد عليه مشكوك الوجوب ، فيجري فيه قبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أخرى : ترك الواجب بترك الأجزاء المعلوم وجوبها ، يوجب العقاب ، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه ، فالعقاب عليه غير معلوم ، والقاعدة مقتضية لقبحه.

وأورد عليه بإيرادات :

الايراد الأول : ما عن المحقق الخراساني (٢) من استلزام الانحلال عدمه ، وهو محال ، فإن وجوب الأقل فعلا على كل تقدير متوقف على تنجز التكليف مطلقا. ولو كان متعلقا بالاكثر ، فلو كان وجوبه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا.

مع انه يلزم من وجوده عدمه : لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم ، لعدم لزوم الأقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال.

وفيه : ان فعلية وجوب الأقل على كل تقدير لا تتوقف على تنجزه حتى على فرض تعلقه بالاكثر ، بل تتوقف على فعليته على ذلك التقدير.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٣٨٩.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٤.

٩٨

واما تنجز وجوبه فهو متوقف على العلم به ، لا على تنجز التكليف حتى على تقدير تعلقه بالاكثر.

وان شئت قلت : ان التنجز عبارة عن استحقاق العقاب على ترك المأمور به ، والمأمور به بما انه مركب من وجودات متعددة ، فلا محالة يكون تركه ، تارة بترك جميع الأجزاء ، واخرى بترك بعضها. وعليه فتركه بترك الجميع ، أو بترك الأجزاء المعلومة موجب لاستحقاق العقاب ، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه ، فلا علم بأنه موجب للعقاب.

فمقتضى قبح العقاب بلا بيان عدمه.

الايراد الثاني : ان التكليف المعلوم في المقام تكليف واحد على التقديرين لكونه ارتباطيا فتعلقه بكل جزء ملازم لتعلقه بالأجزاء الأخر ثبوتا وسقوطا ، ولا معنى لسقوطه بالاضافة إلى بعض الأجزاء ، دون بعض ، فاحتمال تعلقه بالاكثر مستلزم لاحتمال عدم سقوطه بإتيان الأقل ، والشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة.

وفيه : ان الواجب بحكم العقل الإتيان بما ثبت تعلق التكليف به.

وعليه : فإن كان ترك الواجب مستندا إلى ترك الأجزاء المعلومة كان المقصر هو العبد ، وان كان مستندا إلى ما لم يبينه الشارع ، شمله قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الايراد الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٧. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٩١.

٩٩

وحاصله : ان معنى الانحلال تبدل القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضية متيقنة ، وقضية مشكوك فيها ، وهذا مفقود في المقام ، فإن وجوب الأقل لا يكون معلوما إلا بنحو الاهمال الجامع بين كونه بشرط شيء بالاضافة إلى الجزء المشكوك فيه أو لا بشرط ، وهو مقوم للعلم الإجمالي ، ولا يعقل ان يكون موجبا لانحلاله ، وإلا لزم انحلال العلم بنفسه وهو محال ، ثم انه (ره) أيد ذلك بالوجه الثاني (١) المتقدم.

وفيه : ان ما أفاده من عدم انحلال الحقيقي متين. ولكن ذلك لا يمنع من الانحلال الحكمي ، وهو جريان الأصل في احد الطرفين دون الآخر. وفي المقام وان كان كل من خصوصيتي وجوب الأقل ، أي الإطلاق ، والتقييد مشكوكا فيها ، ولكن لا يجري الأصل في الإطلاق ، لعدم الأثر فإنه يجب الإتيان به كان واجبا مطلقا أو مقيدا ، فيجري الأصل في خصوصية التقييد بلا معارض ، ولا نعنى بالانحلال إلا ذلك.

وبعبارة أخرى : ان القضية المهملة في المقام ليست كالقضية المهملة في المتباينين التي لا يترتب عليها الأثر إلا في ضمن احدى الخصوصيتين : فإنه يعلم بترتب العقاب على ترك الأقل ، فلا معارض للأصل الجاري في الخصوصية الزائدة التي يترتب عليها الأثر ، فيجري.

واما ما ذكره من التأييد ، فيرد عليه : ان الشك في سقوط التكليف ليس مطلقا موردا لقاعدة الاشتغال ، بل إنما يكون موردا لها إذا لم يكن منشأ الشك في التكليف كما في المقام.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٨. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٩٢.

١٠٠