زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الاضطرار ، قد يكون إلى أحدهما المعين ، وقد يكون إلى أحدهما لا بعينه فالكلام في مقامين :

المقام الأول : ما لو كان الاضطرار إلى أحدهما المعين ، كما لو علم بنجاسة الماء أو الحليب واضطر إلى شرب الماء.

المقام الثاني : ما لو كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه كما لو علم بنجاسة احد الماءين واضطر إلى شرب أحدهما لا بعينه.

حكم الاضطرار إلى أحدهما المعين

اما المقام الأول : فالصور المتصورة التي بها يختلف الحكم ثلاث.

الأولى : ان يكون الاضطرار حادثا بعد التكليف وبعد العلم به كما لو علم بنجاسة احد المائعين ثم اضطر إلى شرب الماء منهما.

الثانية : ان يكون الاضطرار حادثا قبل التكليف ، وقبل العلم به كما لو اضطر إلى استعمال احد مقطوعي الطهارة والحلية ثم حدث نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها.

الثالثة : ما لو كان الاضطرار حادثا بعد التكليف وقبل العلم به ، كما إذا كان احد الماءين نجسا في الواقع ولكنه لم يكن عالما به فاضطر إلى شرب أحدهما ثم علم بأنه كان نجسا قبل الاضطرار.

٤١

اما في الصورة الأولى : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) والمحقق النائيني (٢) عدم انحلال العلم الإجمالي :

لان التكليف قد تنجز بالعلم الإجمالي قبل عروض الاضطرار ، واقصى ما يقتضيه الاضطرار هو الترخيص فيما اضطر إليه ، ورفع التكليف عنه لو كان متعلقا به ، ولا رافع له في الطرف غير المضطر إليه ، لان الضرورات تتقدر بقدرها.

وذهب المحقق الخراساني في الكفاية (٣) إلى الانحلال وعدم بقاء التنجيز.

واستدل له بأن العلم الإجمالي علة للتنجيز حدوثا وبقاء ، وبعد الاضطرار لا يكون العلم بالتكليف باقيا ، إذ لو كان التكليف في الطرف المضطر إليه ، فقد ارتفع لكون التكليف كان محدودا بعدم الاضطرار إلى متعلقه.

ومع عدم بقاء العلم يرتفع أثره ، وهو التنجيز ، كما هو الحال في العلم التفصيلي فإنه لو زال بالشك الساري لا يبقى تنجيزه.

ثم أورد على نفسه بالانتقاض بما لو فقد بعض الأطراف ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي هنا ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعاية الاحتياط مع الاضطرار.

وأجاب عنه بالفرق بين الاضطرار والفقدان ، فإن الاضطرار من حدود

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤٥.

(٢) أجود التقريرات ج ٣ ص ٢٦٥. وج ٣ ص ٤٥٤ الطبعة الجديدة.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

٤٢

التكليف ، ولا يكون الاشتغال به من الأول ، إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، بخلاف فقدان المكلف به ، فإنه ليس من حدود التكليف وقيوده فالتكليف المتعلق به مطلق ، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك.

ويرد عليه : اولا : انه كما يكون الاضطرار من حدود التكليف وبحدوثه يرتفع التكليف ، كذلك يكون فقدان الموضوع من حدود التكليف وينتفي التكليف بانتفاء موضوعه ، لان فعلية التكليف تدور مدار وجود الموضوع ، بما له من القيود وبانتفائه أو انتفاء قيد من قيوده ينتفي الحكم.

وثانيا : ان العلم الإجمالي بالتكليف لا يكون منتفيا بحدوث الاضطرار نظير انتفاء العلم التفصيلي بالشك الساري بل هو باق بحاله.

غاية الأمر يكون متعلقه مرددا بين ان يكون من الطرف غير المضطر إليه ، فهو باق إلى آخر الازمان ، أو يكون في الطرف المضطر إليه ، فهو محدود بحدوث الاضطرار ، فيكون المعلوم بالإجمالي مرددا بين المحدود والمطلق.

ويصير نظير ما لو علم بحرمة الجلوس في مكان خاص إلى الزوال ، أو في محل آخر إلى الغروب ، فكما لا سبيل إلى القول بارتفاع التنجيز بالزوال كذلك في المقام.

وإلى ذلك نظره الشريف في هامش الكفاية (١) حيث التزم ببقاء التنجيز في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠ الهامش الأول.

٤٣

الطرف غير المضطر إليه ، بتقريب ان العلم الإجمالي تعلق بالتكليف المردد بين المحدود والمطلق ويكون من قبيل تعلق العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين القصير والطويل ، فكما ان العلم الإجمالي ، يكون منجزا هناك ، كذلك في المقام.

واما في الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل حدوث التكليف ، كما لو اضطر إلى شرب ما في احد الإنائين معينا ، ثم علم بنجاسته أو نجاسة ، ما في الاناء الآخر فلا كلام ولا إشكال في عدم منجزية هذا العلم الإجمالي ، إذ النجاسة لو كانت واقعة فيما اضطر إلى شربه ، لم يحدث تكليف ، وهو مقطوع الحلية على كل تقدير ، فلا يجري فيه الأصل ، ويجرى في الطرف الآخر بلا معارض.

وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان الاضطرار ، وحدوث التكليف مقارنين ، فإنه يجري الأصل في غير المضطر إليه بلا معارض.

واما في الصورة الثالثة : وهي ما لو كان الاضطرار إلى المعين بعد حدوث التكليف وقبل العلم ، كما لو اضطر إلى شرب احد المائعين ثم علم بأن أحدهما كان نجسا قبل عروض الاضطرار ، فقد اتفقت كلمات المحققين في هذه الصورة على عدم تنجيز العلم الإجمالي.

وما أفادوه في المقام يكون مبتنيا على ما بنوا عليه ، ونحن تبعناهم من ان عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لأجل التعارض لا لمانعية نفس العلم ، وانه لو كان الأصل النافي للتكليف جاريا في بعض الأطراف ، دون بعض آخر ، فلا مانع من جريانه ، ولا يكون العلم الإجمالي حينئذ منجزا من غير فرق بين سبق التكليف وعدمه ، وعليه.

٤٤

فلو كان عروض الاضطرار قبل العلم وبعد توجه الخطاب ، فاما ان يكون حين الاضطرار غافلا عن نجاسة الماءين أو معتقدا طهارتهما ، أو يكون شاكا في النجاسة ، فعلى الاولين : لا يجري الأصل في شيء منهما لعدم الموضوع ، وعلى الثالث : يجري الأصل في الطرفين ، إذ الترخيص في مخالفة التكليف غير الواصل ، لا يكون ترخيصا في المعصية ولا محذور فيه ، هذا حال الطرفين قبل الاضطرار.

واما بعده فحين ما يعلم بالنجاسة ، فالطرف المضطر إليه لا يجري الأصل فيه للعلم بجواز ارتكابه وحليته حتى لو كانت النجاسة واقعة فيه.

ومع العلم بالجواز لا موضوع للأصل ، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وعلى الجملة في زمان المنكشف والمعلوم كلا الأصلين يجريان على فرض الشك ، وفي زمان العلم والكاشف يجري أحدهما دون الآخر فليس زمان يتعارض الأصلان فيه ، فمثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا.

ودعوى : ان العلم بعد حدوثه يوجب ترتيب آثار المعلوم من حين حدوثه لا من حين العلم. مثلا : لو علمنا بنجاسة الماء الذي توضأنا به قبل التوضؤ ، يجب ترتيب آثار النجاسة حين الوضوء ، وان لم يكن عالما بها حينه ففي المقام لا بد من ترتيب آثار العلم الإجمالي من حين حدوث المعلوم ، لعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي.

مندفعة : بأن ذلك يتم بالنسبة إلى آثار المعلوم ، لا آثار العلم ، وتساقط الأصول من آثار العلم كما لا يخفى.

ويلحق بهذه الصورة ما لو كان الاضطرار مقارنا للعلم وبعد حدوث

٤٥

التكليف.

وغاية ما يمكن ان يورد عليهم : انه إنما لا يجري الأصل في الطرف الآخر من جهة أخرى ، وهي ان مقتضى استصحاب بقاء التكليف المقطوع حدوثه قبل الاضطرار المشكوك بقائه ، لاحتمال كونه في الطرف المضطر إليه المرتفع بالاضطرار ، وكونه في الطرف الآخر الباقي ، بقاء التكليف وهو من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وحيث ان المستصحب بنفسه من الأحكام ، فلا يتوقف جريانه على ترتب أثر شرعي عليه ، وليس المقصود اثبات كون متعلق الحكم الطرف الآخر ، حتى يقال انه مثبت بل العقل يحكم بأنه يجب اجتناب الطرف الآخر في المحرمات ، والإتيان به في الواجبات تحصيلا لليقين بالفراغ.

وفيه : ان هذا الأصل محكوم لأصل آخر ، فإن الشك في بقاء الكلي الذي لا وجود له إلا بوجود أفراده ، يرتفع باجراء أصالة عدم الحدوث في فرد مع العلم بعدم الفرد الآخر في صورة دوران امر الموجود بينهما كما في المقام فإن المضطر إليه لو كان موردا للتكليف ، فقد ارتفع التكليف قطعا فلو اجرينا أصالة عدم حدوث التكليف في الطرف الآخر لا يبقى شك في عدم بقاء الكلي.

لا يقال : ان لازم ذلك عدم بقاء تنجيز العلم في صورة كون الاضطرار بعد التكليف والعلم به فإنه يجري الأصل في الطرف الآخر ، والمضطر إليه حلال قطعا.

فإنه يقال : انه في تلك الصورة لا يجري أصالة عدم حدوث التكليف

٤٦

لفرض تنجيز العلم قبل ذلك وسقوط الأصل في كلا الطرفين ، وهذا بخلاف المقام فإنه قبل الاضطرار لا علم بالتكليف ، فيجري الأصل في الطرفين بلا معارضة بينهما ، وبعده لا علم بالتكليف ولا يجري الأصل في المضطر إليه كي يعارض مع الجاري في الطرف الآخر.

ولو ضم أصالة عدم حدوث التكليف في طرف بالعلم الوجداني بعدم وجوده في الطرف الآخر ، والمفروض ان لا وجود للكلى إلا في ضمن أحدهما ، لا شك في عدم بقاء الكلي ، وان شئت عبر : بأنه شك له مؤمن شرعي.

وهذا نظير دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فإنه وان كان بعد الإتيان بالاقل يشك في بقاء التكليف المعلوم تعلقه بالاقل أو الأكثر ، والمشكوك بقائه لعدم الإتيان بالاكثر ، ولكن لأجل جريان الأصل في الأكثر وعدم معارضته بالأصل في الأقل لا يبقى شك في عدم بقاء الكلي.

فالحق : ما أفاده الاساطين من عدم تنجيز العلم الإجمالي في هاتين الصورتين أيضاً.

حكم الاضطرار إلى غير المعين

واما المقام الثاني : وهو ما لو كان الاضطرار إلى احد الأطراف لا بعينه ففيه مسالك :

٤٧

المسلك الأول : ما اختاره المحقق الخراساني في الكفاية (١) وهو ان الاضطرار إلى غير المعين مانع عن العلم بفعلية التكليف ، فإنه موجب لجواز ارتكاب احد الأطراف أو تركه تخييرا. وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.

أقول : ان مراده من ذلك ، ان كان ان الترخيص الواقعي ينافي العلم بحرمة المعلوم ، فيرد عليه ما ستعرفه عند بيان المختار.

وان كان مراده ان الترخيص الظاهري ينافي معه من جهة ان العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، ولا يجوز الترخيص في تركها ، فقد مر ما فيه مفصلا فراجع.

المسلك الثاني : ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (٢) وهو البناء على التوسط في التكليف والحكم بوجوب الاجتناب عن غير ما يرفع به الاضطرار في المحرمات والإتيان بغيره في الواجبات ، حتى في صورة تقدم الاضطرار على حدوث التكليف.

بدعوى ان الاضطرار إنما تعلق بالجامع بين الحلال والحرام ، ولم يتعلق بخصوص الحرام ، فنفس الاضطرار لا يكون موجبا لرفع الحرمة ، ولاوجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالإجمال.

ألا ترى انه لو اضطر إلى شرب احد الماءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما لا يتوهم احد رفع الحرمة عن الحرام المعلوم بالتفصيل لأجل الاضطرار

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

(٢) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

٤٨

إلى الجامع ، فكذلك في المقام ، غاية الأمر ان الذي يختاره المكلف في مقام رفع الاضطرار حيث انه مصداق للمضطر إليه فبالاختيار يرتفع حرمته ان كان هو الحرام وان كان الحرام غيره فهو باق.

وأورد على نفسه (١) : بأنه على هذا لا يبقى فرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين في ان كلا منهما يوجب التوسط في التكليف ، أي عدم التكليف على فرض مصادفته للمضطر إليه ووجوده إذا كان غيره ، فما الفارق بينهما حيث حكم في الأول بعدم لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذا كان الاضطرار قبل العلم ، والتزم في الثاني بلزومه.

وأجاب عنه (٢) : بأنه في الاضطرار إلى المعين : إذا كان قبل التكليف وقبل العلم به ، فبعد حدوث سبب التكليف والعلم به ، يقطع بحلية المضطر إليه ، وعدم حدوث التكليف ان صادف المضطر إليه ، فيبقي الشك في الطرف الآخر موردا للأصل بالتقريب المتقدم.

واما في الاضطرار إلى غير المعين فحيث ان نفس الاضطرار لم يتعلق بما هو متعلق التكليف فقبل ان يختار أحدهما ، ويحدث سبب التكليف كاصابة النجاسة إلى أحدهما يكون التكليف فعليا على كل حال ومنجزا ، وبعد ذلك إذا اختار أحدهما ، فحيث انه يصير مضطرا إليه فيرتفع التكليف ان كان ثابتا في مورد الاختيار ، وان كان في غيره فهو باق.

__________________

(١) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

(٢) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

٤٩

فيكون حاله حال الاضطرار إلى المعين بعد العلم بحدوث التكليف.

وفيه : اولا : ان ما يختاره ليس مصداقا للمضطر إليه حتى يكون الترخيص الثابت بدليل الاضطرار ترخيصا واقعيا ، فينافي الحرمة ، فالحرمة ثابتة على كل حال ، وإنما يكون الترخيص ظاهريا موجبا للتوسط في التنجيز.

وثانيا : انه لو سلمنا ذلك ، فلازمه عدم وجوب الاجتناب عن الآخر ، إذ ما يختاره اولا لو كان هو الذي اصابه النجاسة لم يحدث فيه التكليف من الأول لا انه حدث وارتفع بالاختيار. وذلك لعدم معقولية مثل هذا التكليف وكونه لغوا ، إذ التحريم إنما يكون لأجل ان يكون زاجرا عن الاختيار ، فجعل الحرمة وتعلقها بفعل ، ترتفع عند اختيار الفعل وصيرورته مباحا لغو.

وبعبارة أخرى : الحرمة إنما تكون لأجل ان تصير زاجرة عن الاختيار ، فصيرورته الفعل مباحا حينه يوجب لغوية جعل تلك الحرمة.

فلو كان في الطرف المختار لم يحدث التكليف من الأول فيكون التكليف في الطرف الآخر ، مشكوك الحدوث ، فيجري فيه الأصل فيكون كلام المستشكل متينا.

الثالث : ما هو الحق ، وهو التوسط في التنجيز ، فالمدعى ثبوت التكليف على كل تقدير ، وتنجيزه على تقدير دون آخر ، وهو يبتنى على بيان مقدمات.

المقدمة الأولى : ان الترخيص أعم من الظاهرى والواقعي ، كالحكم الالزامي ، قد يتعلق بصرف وجود الطبيعة ، المنطبق على أول الوجودات ، وقد يتعلق بجميع الوجودات ، والاباحة الواقعية المتعلقة بجميع الوجودات ظاهرة ،

٥٠

واما الاباحة المتعلقة بصرف الوجود ، فهي إنما تكون ، فيما لو اباح المالك الدخول في داره مرة مثلا ويتصور ذلك في الاباحة الظاهرية أيضاً.

المقدمة الثانية : ان المضطر إلى استعمال احد الماءين المعلوم نجاسة أحدهما إنما يكون مضطرا إلى استعمال الجامع لا خصوص الحرام ، وحيث ان احد فردي الجامع حرام والآخر مباح فلا بد وان يرفع اضطراره بما لا يكون حراما.

وبعبارة أخرى : الحكم المترتب على الفعل المضطر إليه إنما يترتب على ما لا مانع فيه ، وهو المباح ، ولذا ترى انه لو كان الحرام متميزا عن الحرام في الخارج لما كان يجوز دفع الاضطرار بالحرام. والسر فيه ما ذكرناه.

وعليه فالحرام يتمكن المكلف من مخالفته ولم يطرأ عليه الاضطرار حتى يرفع حكمه.

المقدمة الثالثة : انه لا يمكن للشارع الترخيص في كليهما لكونه ترخيصا في المخالفة القطعية.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : ان مقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية : عدم جواز ارتكاب أحدهما أيضاً في الفرض ، إلا ان العقل يحكم بأن الاضطرار الموجب لصيرورة الحرام مباحا إذا تعلق به ، لو تعلق باحد الامرين المعلوم حرمة أحدهما ، ولم يكن الحرام متميزا عما عداه يوجب عدم العقاب على ارتكاب أحدهما.

ولازم ذلك ترخيص الشارع في ارتكاب أحدهما ، وبمقتضى المقدمة الأولى : يكون المرخص فيه صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، والجمع بين

٥١

هذا الحكم وبقاء الحرمة الواقعية ، يقتضي الالتزام بالترخيص الظاهرى ، وبعبارة أخرى : الضرورات تتقدر بقدرها.

فلا وجه لرفع اليد عن الحرام الواقعي ، لان المضطر إليه هو ترك الموافقة القطعية فالمرتفع هو وجوبها.

وبمقتضى المقدمة الثالثة يحرم المخالفة القطعية ، وليس للشارع الترخيص فيها ، فنتيجة ذلك هو التوسط في التنجيز.

ومما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحققين وإليك طائفة منها :

الاول : ما أفاده المحقق الاصفهاني (١) ، من ان المعذورية في ارتكاب احد الأطراف ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ، ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية.

فإنه يرد عليه : انه بعد تسليم وجود التكليف الواقعي على حاله ، غاية ما يمكن للشارع الترخيص في المخالفة الاحتمالية.

واما الترخيص في المخالفة القطعية وعدم العقاب على ارتكابهما فليس له ذلك ثبوتا ، من غير فرق بين ان يكون الترخيصان بدليل واحد ، أو بدليلين.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (٢) من ان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ص ٥٩٦.

(٢) فوائد الأصول الكاظمي الخراساني ج ٤ ص ١٠٧.

٥٢

فإنه يرد عليه ان متعلق الاضطرار وما يترتب عليه الضرر هو الموافقة القطعية والجمع في الترك ، وحيث ان وجوب الموافقة القطعية إنما يكون بحكم العقل ، ومن باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا يرتفع حكم العقل إلا بارتفاع منشإ انتزاعه ، فلا بد من كون العقاب مرفوعا عن احد الفعلين في المحرمات وترك أحدهما في الواجبات ، ولا يكون ذلك إلا بجعل الترخيص.

وحيث ان الترخيص الظاهرى يكفي في ذلك ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فلا محالة يكون هو المجعول لا الترخيص الواقعي كي ينافي مع إطلاق دليل الحرمة.

أضف إلى ذلك ان الترخيص إنما جيء من ناحية الجهل بمتعلق التكليف.

ومثل هذا الحكم لا محالة يكون ظاهريا ، ومتعلقه إنما هو أحدهما بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، إذ به يرفع الاضطرار فيكون هو المرخص فيه دون الثاني ، ولا يلزم الترجيح بلا مرجح.

الثالث : ما أفاده المحقق الخراساني المتقدم ذكره.

فإنه يرد عليه ان الترخيص ليس واقعيا فلا ينافي مع الالزام المعلوم.

ثم لا يخفى انه فرق بين الواجبات والمحرمات من جهة انه في الثانية يكون أول الوجودات مرخصا فيه لما مر ، وفي الأولى يكون المرخص فيه ترك آخر الوجودات ، إذ الضرر في الواجبات إنما يترتب على الجمع في الفعل ، وفي باب المحرمات على الجمع في الترك ، وإلا فهما مشتركان في جميع ما تقدم كما لا يخفى.

ثم ان ما ذكرناه إنما هو في الاضطرار الموجب لاباحة الحرام.

٥٣

واما الاضطرار الموجب لوجوب ارتكاب الحرام ، فلو حدث فبما ان احد الفعلين حرام والآخر مباح ، فالوجوب يتعلق بالمباح لأنه في الآخر مانع عن تعلقه وهو الحرمة فيصير احد الفعلين حراما والآخر واجبا وقد اشتبه أحدهما بالآخر ، فكل فعل من أطراف العلم يدور امره بين الوجوب والحرمة ، فيدخل في المسألة المتقدمة ، وهي دوران الأمر بين الوجوب

والحرمة ، وقد مر ان مقتضى القاعدة ، هو فعل أحدهما وترك الآخر كي لا يخالف احد التكليفين قطعا.

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

الأمر الثامن : قد طفحت كلمات المحققين (١) تبعا للشيخ الأعظم بأنه يعتبر في تأثير العلم الإجمالي كون جميع الأطراف داخلة في محل الابتلاء فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء وان كان مقدورا للمكلف.

ولكن صريح كلام الشيخ (٢) الاختصاص بالشبهة التحريمية وتبعه جمع ، وذهب آخرون (٣) إلى انه لا فرق في ذلك بين الشبهات التحريمية والوجوبية.

وكيف كان فتنقيح القول في المقام يقتضي ان يقال ، انه حيث لا ريب ولا كلام في انه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي ان يكون جميع أطرافه مقدورة

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٥٠.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٢٥.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١١٩. منتهى الدراية ج ٦ ص ١٣٠.

٥٤

للمكلف ، لأنه يعتبر القدرة في التكليف ، فلو كان بعض الأطراف خارجا عن تحت القدرة ، كان التكليف بالنسبة إليه ساقطا يقينا فيكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث فيجري فيه الأصل النافي للتكليف بلا معارض.

فيعلم من ذلك ان عمدة الكلام في المقام في ، انه هل يعتبر في فعلية التكليف وتنجزه دخول المكلف به في محل الابتلاء ، أم لا يعتبر ذلك؟

وإلا فمع فرض الاعتبار ، يكون حكم ما لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، حكم الاضطرار إلى احد الأطراف معينا ، أو خروجه عن تحت القدرة عقلا ، كما انه على فرض عدم الاعتبار يكون العلم الإجمالي منجزا قطعا ، فالمهم البحث في ذلك.

وقد استدل الشيخ الأعظم لدخل الدخول في محل الابتلاء في التكليف التحريمي ، بقوله : (والحاصل ان النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة بحكم العقل والعرف بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها ولذا يعد خطاب غيره بالترك مستهجنا إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء ، ولعل السر فى ذلك ان غير المبتلى تارك للمنهى عنه بنفس عدم ابتلائه فلا حاجة إلى نهيه) (١) انتهى.

وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين : أحدهما : استهجان الخطاب بترك ما هو خارج عن محل الابتلاء ، ثانيهما : كون الخطاب مع عدم الابتلاء من قبيل طلب الحاصل ، إذ الترك حاصل بنفسه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٣٤.

٥٥

وأورد عليه بايرادين :

الايراد الأول : النقض بالموارد التي لا ينقدح الداعي للمكلف إلى فعلها دائما أو غالبا ، كنكاح الامهات واكل العذرة ، وما شاكل.

وأجاب : عنه المحقق النائيني (ره) (١) بما حاصله : ان المعتبر في صحة الخطاب إمكان انتساب الفعل ، أو الترك إلى الاختيار ، والارادة ، فإن الخطاب لتحريك الارادة وبعثها نحو الفعل أو الترك ، وعليه ففي الموارد المذكورة في النقض ، حيث يكون بقاء الترك مستندا إلى الاختيار والارادة ، فلا مانع من الخطاب ، واما في مورد الخروج عن محل الابتلاء ، فبقاء الترك ليس مستندا إلى الاختيار والارادة ، بل إلى جهات اخر ، فلا يصح التكليف.

وان شئت فقل ، انه يعتبر في صحة التكليف ، إمكان الداعوية ، وهذا لا ينافي ضرورة الفعل ، أو الترك الناشئة من ارادته كما في موارد النقض ، بخلاف الضرورة الناشئة من غير جهة الارادة ، كما في المقام ، فإنها توجب لغوية الحكم ، وجعل الداعي إلى الفعل ، أو الترك.

وفيه : ان المستشكل يدعى ان الضرورة في موارد النقض ، ناشئة عن تنفر الطبع ، لا عن الارادة ، فكما انه في المقام يدعى ان التكليف لغو ، كذلك في موارد النقض بلا تفاوت.

__________________

(١) نسب هذه الخلاصة إليه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٨٩.

٥٦

الإيراد الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو انه إذا كانت القدرة العادية على الفعل معتبرة في فعلية التكليف التحريمي كانت القدرة على الترك معتبرة في الواجبات لوحدة الملاك ، فإذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين ما لا يتمكن المكلف من تركه وبين غيره لم يكن هذا العلم الإجمالي منجزا.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (٢) بأنه في باب المحرمات لا كلام في استهجان الخطاب بالترك وكونه طلبا للحاصل ، لان الغرض من النهي ليس الا عدم تحقق المنهي عنه ، وهذا حاصل مع عدم الابتلاء ، بخلاف الواجبات إذ الأمر إنما هو لأجل اشتمال الفعل على المصلحة الملزمة ، وليس التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه امكن ولو بتحصيل الاسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي مستهجنا ، ولا ، طلبا للحاصل.

وفيه : ان المحقق الخراساني (ره) (٣) يدعى انه لو كان يعتبر في صحة النهي التمكن العادي من الفعل لكان يعتبر في الأمر ، التمكن العادي من الترك ، لا التمكن العادي من الفعل ، فلو تم ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (٤) تم ما أفاده لجريان الوجهين المذكورين في الواجبات أيضاً.

__________________

(١) ذكره المحقق النائيني في مناقشته للآخوند ضمن سياق (إن قلت .. قلت) في أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥١. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٣١.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٣٢.

(٣) كفاية الأصول ص ١٢٠.

(٤) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٣٤

٥٧

ولكن الحق عدم اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، في شيء من الموارد ويظهر ذلك ببيان أمور.

الأمر الأول : ان الحكم الذي هو أمر اعتباري ، لا يعتبر في صحة جعله سوى ما يخرجه عن اللغوية ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في هذا الكتاب.

الأمر الثاني : ان الغرض الأقصى من التكاليف أعم من التوصلية والتعبدية ، إنما هو تكميل النفوس البشرية ، ونيلها الكمالات بجعل التكليف داعيا إلى الفعل والترك ، ويحصل له بذلك القرب من الله تعالى ، وليست هي كالتكاليف العرفية التي ينحصر الغرض فيها بحصول متعلقاتها في الخارج فعلا أو تركا.

ومن أقوى الشواهد على ذلك الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله أبدا كأكل العذرة.

الأمر الثالث : ان الداعي القربى إذا انضم إلى الداعي النفساني يتصور على وجوه :

احدها : ان يكون الداعي القربى مستقلا في الداعوية ويكون الداعي النفساني تبعيا ومندكا فيه ، لا إشكال في صحة العبادة في هذا القسم.

ثانيها : عكس ذلك. لا كلام في بطلان العبادة فيه.

ثالثها : ان يكونا معا داعيا إليه. وهذا يتصور على وجهين :

الوجه الأول : ان لا يكون كل منهما داعيا مستقلا في نفسه بل يكون جزء السبب ، الأظهر البطلان في هذه الصورة.

٥٨

الوجه الثاني : ان يكون كل منهما داعيا مستقلا ، ولكن لعدم قابلية المحل يسقط كل واحد منهما عن الاستقلال ، ولا يبعد البناء على الصحة كما ذهب إليها جماعة في هذه الصورة.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : انه في مورد الخروج عن محل الابتلاء مع فرض القدرة العقلية على الفعل والترك ، إذا نهى المولى عن الفعل في المحرمات ، أو أمر به في الواجبات للمكلف ان يجعل ذلك التكليف داعيا إلى الفعل أو الترك ، ويحصل له بذلك الغاية القصوى من التكليف ، ولتمام الكلام محل آخر.

وعلى ذلك فالعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين ما هو خارج عن محل الابتلاء وما هو داخل فيه علم بتكليف فعلى ويكون منجزا.

الشك في الخروج عن محل الابتلاء

ثم ان تمام الكلام في المقام بالبحث في موارد :

المورد الأول : ما لو شك في اعتبار الدخول في محل الابتلاء.

المورد الثاني : لو شك في الابتلاء ، وعدمه على فرض اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، من جهة عدم تعيين مفهوم الابتلاء والترديد في حده.

المورد الثالث : لو شك في القدرة العقلية من جهة الشبهة المصداقية.

أما المورد الأول : فالشك في ذلك وان كان يلازم الشك في صحة التكليف

٥٩

وعدمها ، وبالتبع يشك في ان إطلاق الدليل هل يكون شاملا لهذا الفرد أم لا؟

ولو كان ذلك احد أطراف العلم الإجمالي ، لا علم بتكليف فعلي ، إلا ان إطلاق دليل ذلك التكليف يشمل هذا المورد ويتمسك به ، ومجرد احتمال الاستحالة أو القبح في شمول الإطلاق لمورد لا يوجب عدم العمل بالإطلاق ، ورفع اليد عنه ، لأنه لا بد من اتباع ظاهر كلام المولى ما لم يقطع بالاستحالة أو القبح ، ألا ترى انه بعد ورود آية النبأ وغيرها من أدلة حجية خبر الواحد ، لو احتمل احد ان تكون شبهة ابن قبة (١) تامة ، أو لم يطمئن بعدم ترتب محال عليه ، هل يمكن له ان لا يعمل بخبر الواحد ، ويترك ما دل الخبر على وجوبه ويفعل ما دل على حرمته ، وهل يكون مثل هذا العبد معذورا؟

وبالجملة : دعوى ان الإطلاق إنما يرجع إليه بعد الفراغ عن مقام الثبوت ، وانه يصح شموله لمورد ثبوتا ، ولو شك في ذلك لا يتمسك بالإطلاق كما في الكفاية (قدِّس سره) (٢) قال : ضرورة انه لا مجال للتشبث به ، إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته. انتهى.

__________________

(١) ابن قبة هو : محمد بن عبد الرحمن بن قبة ـ بالقاف المكسورة ، والباء المنقطة تحتها نقطة ، المفتوحة ـ الرازي أبو جعفر. متكلم عظيم القدر ، حسن العقيدة قوي في الكلام ، كان قديما من المعتزلة ، وتبصّر وانتقل ، له كتاب الإنصاف في الإمامة. (رجال النجاشي : ٣٧٥ رقم ١٠٢٣ / خلاصة العلّامة : ١٤٣ ، القسم الأول ، رقم ٣١. وشبهته ترتكز على القول بقبح العمل بالظنون ، حيث يقول بامتناع التعبد بالظنون.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦١.

٦٠