زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

جامع بين العناوين الثلاثة.

توضيح ذلك : لا ريب في ان اليقين والشك متضادان لا يجتمعان في محل واحد ، فان حصلا معا :

فتارة : يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر كما إذا علم بعدالة زيد وشك في اجتهاد عمرو مثلا ، لا كلام في عدم ارتباطه بالمقام.

وأخرى : يكون بينهما ارتباط بان كان متعلق اليقين جزء العلة لمتعلق الشك ، كما لو علم بوجود النار وشك في الاحتراق لاحتمال الرطوبة ، وهذا هو مورد قاعدة المقتضى والمانع.

وثالثة : يكون المتعلقان متحدين ذاتا ومتغايرين زمانا كما إذا علم بحدوث شيء وشك في بقائه ، فان كان متعلق اليقين مقدما كما في المثال فهو مورد للاستصحاب المعروف ، وان كان متعلق الشك مقدما كما لو علم بظهور لفظ فعلا في معنى وشك في انه كان ظاهرا فيه في زمان الشارع أم لا؟ فهو مورد للاستصحاب القهقرى وسيأتي الكلام فيه.

ورابعة : يكون المتعلقان متحدين زمانا وذاتا والتغاير إنما يكون في زمان الوصفين ، فان كان زمان الشك مقدما كما لو شك في يوم الأربعاء في موت زيد وتيقن يوم الجمعة بموته في يوم الأربعاء فهو مما لا كلام فيه ويجب العمل باليقين ، وان انعكس كما لو علم يوم الأربعاء بموت زيد وشك في يوم الجمعة في موته في ذلك اليوم لاحتمال كون العلم السابق جهلا مركبا ، فهو مورد لقاعدة اليقين.

٣٢١

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور فاعلم ، انه يقع البحث ، أولا : في انه هل يكون الاستصحاب حجة ويدل على ذلك دليل أم لا؟ وثانيا : في مقدار دلالة الدليل على فرض وجوده ، وفي ذيل ما استدل به لحجية الاستصحاب ، نتعرض لقاعدتي اليقين ، والمقتضي والمانع ، وكيف كان فقد استدل لحجية الاستصحاب بأدلة :

أدلة حجية الاستصحاب

الدليل الأول : استقرار بناء العقلاء من الإنسان ، بل ذوى الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

وقد وقع الكلام في كل من الصغرى أي ثبوت بناء العقلاء ، والكبرى وهي إمضاء الشارع إياه ، فتنقيح القول بالبحث في مقامين.

اما المقام الأول : فقد أنكر المحقق الخراساني (١) ، ثبوته قال وفيه أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل اما رجاءً واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا انتهى.

وأورد عليه المحقق النائيني (٢) ، وحاصل ما أفاده انه لا ريب في استقرار سيرة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٩ ـ ٣٠.

٣٢٢

العقلاء في محاوراتهم ومعاملاتهم ومراسلاتهم على البناء على بقاء الحالة السابقة ، ولو لا ذلك لاختل النظام ، ومن الواضح ان هذا البناء ليس من باب التعبد بالشك لعدم معقولية التعبد من العقلاء ، ولا ، من باب الأمارية والكاشفية لعدم الكاشفية للشك ، ولا ، لأجل حصول الاطمئنان لفرض الشك ، ولا لمحض الرجاء إذ ربما يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة ، ولا ، للغفلة لفرض الشك والالتفات ، بل ، يكون ذلك بالهام من الله تعالى حتى لا يختل أمور معاشهم ومعادهم.

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى عدم ثبوت بناء العقلاء ، على العمل على طبق الحالة السابقة بهذا العنوان ، وان بنائهم عليه في جملة من الموارد لجهات مختلفة ، فقد يكون ، هو الرجاء والاحتياط ، كمن يمشي إلى دار مديونه لمطالبة الدين ، مع احتمال خروجه عن الدار ، وقد يكون لأجل حصول الاطمئنان أو الظن ، كمن يرسل مال تجارته إلى طرفه الحي السوي القوى ، وقد يكون للغفلة ، وفي غير هذه الموارد ، لم يثبت بناء من العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا يدعى انه في جميع الموارد يكون العمل على طبقها لأحد هذه الأمور ، وعليه ، فما أفاده تام لا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني (ره).

واما المقام الثاني : ففي الكفاية إنكار إمضاء الشارع إياه على فرض ثبوته ، مستندا إلى انه يكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دل على البراءة والاحتياط في الشبهات.

٣٢٣

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بان جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل بما وراء العلم بالتخصص فإنها لكونها حجة عقلائية تكون من أفراد العلم فتكون خارجة عن موضوع الآيات والروايات الناهية عن العمل بما وراء العلم.

أقول : يرد على المحقق الخراساني ان كلامه في المقام يهافت ما أفاده في مبحث الخبر الواحد (٢) من ان الأدلة الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تشمل ما قامت السيرة العقلائية على العمل به ، إلا على نحو دائر ، ولذلك حكم بان السيرة على العمل بخبر الواحد مخصصة لتلك الأدلة.

نعم ، ما أفاده في الهامش (٣) هناك بان الردع عن العمل بالخبر لم يكن في أول البعثة قطعا ، ويشك بعد ذلك في الردع يستصحب عدم الردع ، لا يجري في المقام لان الكلام في حجية الاستصحاب.

ويرد على ما أفاده المحقق النائيني (ره) ، انه لا بدَّ من التفصيل بين موارد السيرة العقلائية الثابتة من جهة الطريقية والكاشفية ، وبين الموارد الثابتة لجهة أخرى كما أفاد في المقام أنها ثابتة لحفظ النظام بالهام من الله تعالى.

وفي المورد الأول كما في خبر الواحد لا تصلح الآيات للردع عنها لما

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٠٣.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٠٤ حاشية رقم ٢.

٣٢٤

ذكرناه في مبحث خبر الواحد.

وفي المورد الثاني كما في المقام على فرض ثبوتها حيث أنها تكون لمصلحة حفظ النظام ، لا للطريقية تصلح الآيات والروايات للردع عنها ، لفرض عدم كونها من أفراد العلم لا حقيقة ولا تعبدا ، وتخصيص الآيات والروايات بها يتوقف على ان تكون السيرة ممضاة عند الشارع ، المتوقف ذلك على عدم الردع مع إمكانه ، واما عدمه مع عدم إمكان الردع ، فلا يكشف عن الإمضاء ، وحيث يحتمل ان يكون زمان نزول الآيات أول أزمنة إمكان الردع فلا كاشف عن إمضائها ، شرعا فلا محالة لا تكون حجة لوجود ما يصلح للردع.

وبما ذكرناه يندفع ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) (١) من ان السيرة لتقدمها وامضائها شرعا قبل نزول الآيات تصلح لان تكون مخصصة لها ، كما انه في نظر العقلاء بما هم منقادون للشرع ، لا فرق في الردع بين العموم والخصوص فالآيات أيضاً تصلح للرادعية والناسخية لها.

فيدور الأمر بين ناسخية الآيات ومخصصية السيرة ، وشيوع التخصيص وندرة النسخ ، يقوى جانب التخصيص.

وجه الاندفاع ان عدم الردع قبل نزول الآيات لا يكشف عن الإمضاء ، ولو سلم كونه كاشفا عنه تكون السيرة خارجة عن موضوع الآيات ، فلا يدور الأمر بين التخصيص والنسخ ، فتأمل فان الثاني قابل للمناقشة.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٣٤.

٣٢٥

هل الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق

الدليل الثاني : ان الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

أقول : منشأ هذا الظن أحد أمرين :

اما ان ارتكاز الثبوت في الذهن يرجح جانب الوجود.

أو ان تصفح الموجودات ، يوجب ذلك فان الغالب فيما ثبت يدوم.

والأول : لا يوجب الظن بعد فرض احتياج الممكن في بقائه إلى العلة.

والثاني : يرد عليه ان الموجودات مختلفة من حيث الدوام ، مثلا الإنسان بحسب النوع في هذه الأزمنة يعيش إلى سبعين أو ثمانين سنة ، والحية تعيش على ما يقال إلى ألف سنة إلا ان تقتل ، وبعض الحيوانات يعيش إلى ثلاثة أيام ، وهكذا.

نعم لا ننكر حصول الظن بالبقاء من جهة الغلبة بعد رعاية الصنف مثلا الغالب في المتطهر في أول الصبح مع كونه سالما دوام طهارته بعد مدة ساعتين مثلا ، والالتزام بحجية الاستصحاب في خصوص هذا المورد مما لم يفت به أحد.

وما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) في وجه منع حصول الظن من الغلبة بأنه لا جامع رابط بين الموجودات فان بقاء كل منها ببقاء علته الخاصة المفقودة

__________________

(١) نسبه إليه المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٣٧ ، وهو ظاهر كلامه في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٨.

٣٢٦

في غيره.

يرد عليه : ان الاحتياج إلى الجامع الرابط إنما هو في مورد الاستقراء التام ، أو الناقص ، واما في مورد الغلبة فهي لا توجب الظن من جهة الحكم على الكلي كي يحتاج إلى الجامع الرابط بل من جهة تردد امر المشكوك فيه ، بين ان يكون من الأفراد الغالبة أو النادرة فيظن بالأول لتقويه بالغالب.

ثم انه على فرض حصول الظن لا دليل على حجيته بل قد مر في أوائل مبحث الظن ان الأصل في الظن عدم الحجية فراجع.

الدليل الثالث : الإجماع عليه كما عن المبادئ وغيرها.

وفيه : أولا ، ان الإجماع غير متحقق فانه من الأقوال القول بعدم حجيته مطلقا ومنها حجيته في الموضوعات ، دون الأحكام ، ومنها عكس ذلك ، ومنها حجيته في الأحكام الجزئية ، دون الكلية ، ومنها عكس ذلك ، إلى غير ذلك من الاختلافات.

وثانيا : ان مدرك المجمعين معلوم ومثل هذا الإجماع الذي يكون معلوم المدرك ، أو محتمله ، ليس تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

الاستدلال لحجية الاستصحاب بمضمرة زرارة

الدليل الرابع : وهو العمدة في الباب ، الأخبار الكثيرة البالغة حد الاستفاضة :

فمنها صحيح زرارة ، قال قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب

٣٢٧

الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال (ع) : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فان حرك على جنبه وهو لم يعلم به قال : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك وإنما ينقضه بيقين آخر (١).

والكلام في هذا الخبر يقع في جهات :

الجهة الأولى : في سنده وقد أشكل عليه بأنه مضمر ، ولكن الظاهر انه لا يضر بحجيته وذلك لوجوه :

١ ـ ان الإضمار في الأخبار إنما نشأ من تقطيع الأخبار وتبويبها ولو لم يكن المروى عنه هو الإمام لما كان الأصحاب يذكرونه في كتبهم على وجه الاستناد مع شدة مواظبتهم واحتياطهم ، كانت الرواية من قبيل الفتوى أو النقل.

٢ ـ ان المضمر في المقام هو زرارة وهو مع جلالة قدره وعلو شأنه ومقامه لا يروى إلا عن الإمام (ع).

٣ ـ ان جماعة منهم السيد الطباطبائي (قدِّس سره) (٢) والأمين الاسترآبادي (٣) ذكروا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٨ باب الأحداث الموجبة للطهارة ح ١١ / الوسائل ج ١ ص ٢٤٥ ح ٦٣١ وذكره أيضا في ج ٢ ص ٣٥ ح ٢٣٥٢.

(٢) مفتاح الأصول ص ٦٤٥.

(٣) حكاه غير واحد عن الفوائد المدنية منهم أوثق الرسائل ص ٤٤٩.

٣٢٨

الخبر ورووه عن الإمام الباقر (ع).

الجهة الثانية : في فقه الحديث وشرح جملات الصحيح غير ما يتوقف عليه الاستدلال ، منها قوله : (ينام وهو على وضوء) فقد أشكل عليه : بان : (وهو على وضوء) حال للنائم مع انه لا يمكن اجتماع النوم والوضوء في زمان واحد.

وبعبارة أخرى : يعتبر في الحال ان يكون مقارنا مع ذي الحال وبديهي ان النوم والوضوء لا يمكن تقارنهما.

واجيب عنه بأجوبة :

منها ما أفاده المحقق الخراساني في تعليقته (١) ، وهو انه لا يعتبر تقارنهما ، بل يكفي مجرد اتصالهما اما مطلقا أو في خصوص أمثال المقام مما كان أحدهما سببا لارتفاع الآخر ، حيث ان آخر زمان الوضوء متصل بالنوم.

وفيه : أولا ، ان الاتصال الزماني في الأضداد لا يكفي ، والشاهد عليه استهجان استعمال قعد زيد هو قائم ، أو نام وهو مستيقظ.

وثانيا ، انه لو كان السائل عالما بصدق النوم واتصافه بكونه نائما كان مرجعه إطلاق أدلة ناقضية النوم ، ولم يكن وجه للسؤال عن الإمام (ع).

ومنها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) وهو انه لا يعتبر في الحال الاجتماع مع ذيها في زمان واحد ، بل يكفي الاجتماع في متن الواقع ، ولذا يصح ان يقال ،

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٠٢.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٣٨ ـ ٣٩ بتصرف.

٣٢٩

أتهينني وقد أكرمتك قبل ذلك بسنة.

وفيه : ان المقصود من هذه الجملة هو إثبات ان من يكون متصفا بأنه أكرمك ، ولو في الزمان السابق غير مستحق للإهانة ، فالحال هو الاتصاف بهذه الصفة ، ومعلوم انه مقارن مع ذي الحال ، وليس المراد عدم استحقاق المتلبس بالإكرام فعلا للإهانة ، حتى لا يكون مقارنا مع ذي الحال.

وبالجملة ، لا شبهة في اعتبار مقارنتهما وان ما ذكر من المثال لا ينافي ذلك.

والحق ان يقال : ان النوم في هذه الجملة غير مستعمل في معناه الحقيقي ، بل المراد منه هو مقدمات النوم والاستعداد له واستعمل النوم فيه بعلاقة المشارفة ، فالمعنى انه من كان مشرفا على النوم وهو على وضوء ، ولا يرد عليه محذور عدم مقارنتهما.

هذا ملخص الكلام في هذه الجملة من الجهة الأدبية.

واما مقصود السائل منها ومن جملة التي بعدها ، أي قوله : (أيوجب الخفقة ... الخ) فيمكن ان يكون هو السؤال عن حكم الشبهة المفهومية بمعنى انه كان شاكا في سعة مفهوم النوم وضيقه وانه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا؟ ويمكن ان يكون السؤال عن حكم الشبهة الحكمية بمعنى انه كان عالما بصدق النوم على تلك الحالة وكان شاكاً في ناقضيته بما له من المراتب.

وعلى أي حال يكون المسئول عنه هو الحكم الكلي ، فأجابه بان الخفقة والخفقتين لا توجب الوضوء وإنما الناقض نوم القلب والإذن من دون ان يتعرض لبيان مفهوم النوم.

٣٣٠

ثم ان زرارة بعد ما صار عالما بحكم المسألة سأل عن حكم الشبهة الموضوعية فقال وان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم.

وبعبارة أخرى : بعد ما عرف ان الناقض هو نوم القلب والإذن سأل عن انه ان حرك في جنبه شيء وهو لم يتوجه.

فيحتمل ان يكون النوم كان غالبا على جميع حواسه حتى القلب والإذن.

ويحتمل كونه غالبا على خصوص الإذن.

فأجابه بأنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن انه قد نام.

تعيين جزاء الشرط في الخبر

الجهة الثالثة : في تعيين الجزاء في قوله (ع) (وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) ونخبة القول في المقام ان محتملات ذلك خمسة.

١ ـ كون قوله (ع) فانه على يقين من وضوئه بنفسه جزاءً ، ولكن بعد تأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية ، فيكون مفاده حينئذ الأمر بكونه بانيا عملا على طبق اليقين السابق بالوضوء ، اختاره المحقق النائيني (ره) (١) ، وجعله المحقق

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٦ ، وقريب منه ما في أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٢.

٣٣١

الخراساني (١) بعيدا إلى الغاية وحكم الشيخ الأعظم (ره) (٢) بأنه تكلف.

٢ ـ كونه بنفسه جزاءً من دون تأويل ، وهذا الوجه هو الذي أفاده المحقق الخراساني في حاشيته (٣) انه لا يصح لإباء لفظه ومعناه ، وجعله المحقق الأصفهاني (ره) (٤) اوجه الوجوه.

٣ ـ ان يكون هو الجزاء مع كونه في مقام جعل اليقين.

٤ ـ كونه توطئة للجزاء ، ويكون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وجعله الشيخ (ره) (٥) محتملا في المقام.

٥ ـ ما اختاره المحقق الخراساني (٦) وظاهر كلمات الشيخ (ره) (٧) انه اظهر ، وهو كونه علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه.

اما الاحتمال الأول ، فهو وان كان لا تكلف فيه ولا بعد ، لأنه كسائر الموارد التي تستعمل الجملة الخبرية الفعلية أو الاسمية ، في الإنشاء كقوله يعيد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٩.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٣.

(٣) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٤) نهاية الدراية ج ٣ ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٥) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٤.

(٦) كفاية الأصول ص ٣٨٩.

(٧) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٤.

٣٣٢

وقوله تعالى ، (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، وغيرهما مما هو كثير ، بل قيل أنها أصرح في إفادة اللزوم بلحاظ ان المولى لشدة طلبه للفعل جعل وقوعه من العبد مفروغا عنه ، فاظهر شدة طلبه بإظهار وجود مطلوبه في الخارج.

إلا انه : يدفعه أمران : الأول حمل الجملة الخبرية على الإنشاء في نفسه خلاف الظاهر. الثاني ، ان لازمه كون قوله (ع) (ولا ينقض الخ) تأكيدا للأمر بالكون على يقينه السابق.

واما الاحتمال الثاني فلا يمكن مساعدته بوجه لأنه لو كان في مقام الأخبار في ظرف الشك يلزم الكذب ، لأنه على الفرض شاك ، ولو كان في مقام الأخبار عن اليقين السابق لا يناسب مع جعله جزاءً لعدم ترتبه على الشرط ، وهو الشك في النوم.

وما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) بان حديث ترتب الجزاء على الشرط شيء ، توهمه النحاة خلافا للمحققين منهم ولأهل الميزان ، فانهم مطبقون على ان الجزاء لا يجب ان يكون مسببا عن الشرط ومترتبا عليه في الوجود ، بل ربما يعكس الأمر ـ كقولهم ـ ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة.

يرد عليه انه وان لم يعتبر الترتب لكن لا شبهة في اعتبار التلازم بينهما ، وعدم تخلف الجزاء عن الشرط ، وفي الفرض بما ان اليقين بالوضوء سابقا

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة آل عمران.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٤٥.

٣٣٣

متخلف عن عدم اليقين بالنوم فلا يصح جعله جزاءً.

واما الاحتمال الثالث : فيرد عليه :

أولا ان الاستصحاب ليس من الأمارات حتى يكون المجعول فيه هو اليقين والطريقية.

وثانيا ، انه بعد إطلاق اليقين عليه ، لا يناسب إطلاق الشك بقوله ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، لأنه فرضه غير شاك.

واما الاحتمال الرابع : وهو كونه توطئة للجزاء وهو (لا ينقض الخ) فهو حسن ، ويكون الكلام حينئذ في غاية الحسن واللطافة كما يقال إذا جاء زيد فحيث انه عالم فأكرمه ويتحفظ على ظهور (ان) في العلية ، ولكن الذي يبعده وجود حرف (و) حيث ان الجزاء لا بد وان يكون غير مصدر بشيء أو يصدر بحرف (فا) لتفيد الترتيب ، واستعمال الجزاء مصدرا بالواو غير صحيح ـ ودعوى ـ ان زيادة حرف (واو) سهل ، كما ترى.

فيتعين الاحتمال الخامس : وهو كونه علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه وكم له من نظير ، ولا محذور فيه ، سوى ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من لزوم التكرار في كلام الإمام (ع) وهو مما لا يمكن الالتزام به : وذلك لان الحكم وهو عدم وجوب الوضوء عند الشك في النوم صار معلوما من قوله (ع) (لا) في جواب السائل (فان حرك الخ) ، فتكرار ذلك بقوله (وإلا فلا يجب عليه الوضوء) يكون لغوا.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٦.

٣٣٤

ولكنه يندفع بان التكرار إنما يكون لغوا إذا لم يكن لفائدة ، وإلا فلا محذور فيه ، وفي المقام إنما ذكر ثانيا لأجل ان يذكر علته ويكون قانونا عاما في باب الوضوء خاصة ، أو في جميع الأبواب كما ستعرف إنشاء الله تعالى.

مع ان هذا الإشكال يرد عليه (قدِّس سره) الملتزم بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية ، فان معنى الجملة حينئذ فليمض على يقينه السابق ولا يتوضأ.

وبالجملة احسن الاحتمالات هو ذلك.

وقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) (١) له نظائر من القرآن الكريم ، مثل : (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(٢) ، (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ)(٣)(وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٤) ، (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)(٥) إلى غير ذلك.

فتكون معنى الجملة حينئذ انه : ان لم يتيقن انه قد نام فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه في السابق ولا ينقض اليقين بالشك.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٣.

(٢) الآية ٧ من سورة طه.

(٣) الآية ٧ من سورة الزمر.

(٤) الآية ٤٠ من سورة النمل.

(٥) الآية ٨٩ من سورة الأنعام.

٣٣٥

تقريب الاستدلال بالمضمر على حجية الاستصحاب

الجهة الرابعة : في انه ، هل يدل على حجية الاستصحاب مطلقا ، أو في خصوص باب الوضوء ، أم لا يدل عليها.

أقول : ان منشأ الخلاف ، الخلاف في أمرين.

أحدهما : ان المحمول في الصغرى أي قوله ، فانه على يقين من وضوئه هل هو اليقين بالوضوء خاصة ، أو مطلق اليقين؟

ثانيهما : ان الألف واللام في الكبرى ، وهي لا ينقض اليقين بالشك أبدا ، هل هي للجنس ، أو للعهد؟ ولو قيل بان المحمول في الصغرى اليقين بالوضوء والألف واللام تكون للعهد ، لا محالة يكون الخبر مختصا بباب الوضوء ، ولو منع من أحد الأمرين يفيد حجية الاستصحاب في جميع الأبواب ، واما احتمال عدم الدلالة فهو مندفع بما تقدم.

والمحقق الخراساني (١) ذكر وجهين لكون المحمول مطلق اليقين.

الأول : ان الظاهر من التعليل كونه تعليلا بأمر ارتكازي لا تعبدي وهذا يلائم مع العموم.

وفيه : ان حجية الاستصحاب لو كانت أمرا معلوما عند العرف كان هذا تاما ، وحيث أنها لم تكن ثابتة ، وإلا لما سأل زرارة عنها ، فلا محالة تكون هذه

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

٣٣٦

الجملة في مقام التعبد فكما يصح إرادة العموم منها يصح إرادة قانون عام في باب الوضوء منها.

الثاني : ان قوله (ع) من وضوئه في (فانه على يقين من وضوئه) ، لا يكون متعلقا باليقين ، بل متعلق بالظرف وهو الكون المقدر المعبر عنه عند أهل العربية بالظرف المستقر.

وأورد عليه المحقق العراقي (ره) (١) بان الظاهر بقرينة اتصاله باليقين تعلقه به.

وفيه : ان الظاهر صحة ما ذكره المحقق الخراساني إذ اليقين لا يتعدى إلا ب" الباء" ، ولا يتعدى ب" من" ، لاحظ موارد استعمال مشتقاته ، فلا محالة يكون متعلقا بالظرف ، وعليه فبما ان اليقين في فرض الكلام لم يتعلق بالوضوء حتى يختص به وان كان في الواقع واللب متعلقا به كما هو الشأن في جميع الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، فكون الألف واللام للعهد لا يضر بالاستدلال به للعموم.

والظاهر كما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٢) كون الألف واللام للجنس لا للعهد :

لأنه ان قلنا بأنها دائما للجنس كما مر تحقيقه في محله فواضح ، وما يرى من إرادة المعهود منها ، إنما هي لأجل القرائن الخارجية ، وفي المقام قوله (فانه على يقين من وضوئه) لا يكون قرينة له لأنه من قبيل المورد وهو لا يكون

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ج ٤ ص ٤٣.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

٣٣٧

مقيدا ، فان العرف يفهمون من الكبرى الكلية المذكورة بعد الصغرى ، الإطلاق ، ويرون إرادة المقيد منها إخلالا بالغرض ، وان قلنا ، بان لها معان لا شبهة في انصرافها عند الإطلاق إلى الجنس ، والمورد كما ، لا يصلح ان يكون مقيدا للإطلاق ، لا يصلح ان يصرف الانصراف الذي هو أقوى من الإطلاق.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان المحمول في الصغرى مطلق اليقين لا اليقين بالوضوء ، وان الألف واللام للجنس لا للعهد فيدل على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب ثم انه ينبغي التنبيه على أمور.

١ ـ ان المحقق الخراساني ذكر طريقين لاستفادة حجية الاستصحاب مطلقا من الصحيح.

أحدهما : كون المحمول في الصغرى مطلق اليقين وقد مر انه الصحيح.

ثانيهما : ان الألف واللام تكون للجنس ، لا للعهد.

وهو وان كان متينا في نفسه إلا انه لا يلائم مع ما أفاده في مبحث المطلق والمقيد من انه من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ومع وجوده لا يتمسك بالإطلاق ، فانه على هذا في المقام القدر المتيقن في مقام التخاطب موجود وهو اليقين والشك في خصوص باب الوضوء فانه المذكور في الصدر ، ولكن نحن منعنا من ذلك ففي فسحة منه.

٢ ـ ان المحقق النائيني (ره) (١) ذكر وجوها أخر لاستفادة العموم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٣ ـ ٣٤.

٣٣٨

منها : ان ذكر ما يكون من مقتضيات ذات الشيء ولوازمه وهو لا يوجد بدونه ، لا يوجب التقييد والمقام كذلك ، فان اليقين من الصفات التي لا تتحقق إلا مضافة إلى شيء ، لأنه أمر إضافي قائم بالطرفين فلا بد وان يتعلق بشيء فذكر من وضوئه إنما هو لذلك لا لخصوصية فيه ، فان قيل لم ذكر الوضوء خاصة ولم يذكر غيره ، قيل ان ذكره بالخصوص من جهة كونه مورد السؤال.

ويرد عليه ان ذكر الوضوء يحتمل ان يكون ما ذكر ، ويحتمل ان يكون لدخله في الحكم ، ومجرد احتمال ذلك لا يكفي في استكشاف الإطلاق.

وبالجملة ان ما أفاده يكفي لاحتمال الإطلاق ، لا لاثباته.

ومنها : مادة النقض فان المعتبر فيه الدوام والاستحكام الموجود في مطلق اليقين ، ومن الواضح انه لا يختلف من هذه الجهة بين تعلقه بالوضوء أو بأمر آخر. ويرده ما في سابقه.

٣ ـ ان المحقق اليزدي (١) ذكر طريقا آخر لاستفادة العموم ، وهو ان قوله من وضوئه لمجرد كونه متعلقا لليقين في المورد لا لمدخليته في الحكم ، لان المناسبات المقترنة بالكلام كما قد توجب التقييد ، وان لم يكن القيد مذكورا في الكلام كما في قوله ، (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء)

الظاهر من جهة فهم العرف المستند إلى المناسبة المقامية ، انه لم ينجسه شيء بالملاقاة كذلك قد توجب إلغاء القيد المذكور في الكلام ، كما في ما نحن فيه ، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في قبال الشك.

__________________

(١) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ج ٢ ص ١٦٠.

٣٣٩

وفيه : ان زيادة قيد ، أو إلغائه ، لمناسبة الحكم والموضوع ، تتوقف على استكشاف ملاك الحكم ، وحيث انه في المقام لم يستكشف ويحتمل اختصاصه بباب الوضوء ، فلا وجه لإلغاء ما اخذ في لسان الدليل ، ومجرد مناسبة مطلق اليقين مع النقض ، لا يوجب الإلغاء بعد كونه ملائما ، مع خصوص اليقين بالوضوء.

الاستدلال لحجية الاستصحاب بثاني صحاح زرارة

ومنها : صحيحة أخرى لزرارة ، قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من المني فعلمت أثره إلى ان اصب عليه الماء ، فحضرت الصلاة ، ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟

قال (ع) : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه أصابه فطلبته فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟.

قال (ع) : تغسله وتعيد. قلت : فان ظننت انه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فيه فرأيت فيه؟.

قال (ع) تغسله ولا تعيد الصلاة قلت لم ذلك قال (ع) لانك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا.

قلت : فاني قد علمت انه أصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال (ع) : تغسل

٣٤٠