زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

الكلام حول جريان استصحاب مؤدى الأصل العملي

واما الأصول ، فما كان منها موضوعه باقيا في فرض الشك في الحكم ، لا يجري فيه الاستصحاب ، مثلا لو شك في بقاء عدالة زيد الثابتة في الزمان السابق من جهة احتمال فسقه ، لاحتمال الكذب ، وجرى فيها الاستصحاب ، ثم بعد ذلك في الزمان اللاحق ، شك في ذلك لاحتمال شرب الخمر فنفس الاستصحاب يكفي للحكم ببقاء العدالة لأنه ليس شكا آخر وموضوعا غير الموضوع الذي جرى فيه الاستصحاب ، فانه كان مشكوك العدالة عند احتمال الكذب ، ويكون كذلك عند احتمال شرب الخمر ، فالموضوع باق ويجرى فيه الاستصحاب.

وبالجملة الشك في بقاء العدالة الذي هو موضوع للاستصحاب لا يكون متبدلا بل بعد باق فلا حاجة إلى جريان استصحاب آخر ، لان موضوع الاستصحاب الأول باق وجدانا.

ويمكن ان يقال انه في امثال هذه الموارد لا تصل النوبة إلى إجراء استصحاب مؤدى الأصل ، لأنه يجري الاستصحاب في نفس منشأ الشك الثاني ، وهو عدم شرب الخمر في المثال وهو حاكم على استصحاب بقاء العدالة ، وموضوع هذا الأصل مغاير لموضوع الأصل الأول.

وان لم يكن موضوعه باقيا ، ولم يكن الأصل متكفلا لبيان استمرار الحكم في فرض عروض الشك له ، كما في الموارد التي يترتب على جريان الأصل فيها حكم لموضوع آخر ، كما لو غسل ثوب بالماء المحكوم بطهارته للاستصحاب أو

٤٢١

قاعدة الطهارة ، فحكم بطهارة الثوب ، ثم شك في بقاء طهارة الثوب لاحتمال ملاقاته للنجاسة.

فعن المحقق النائيني (١) التفصيل بين الأصل المحرز وغير المحرز ، واختيار جريان الاستصحاب في الأول ، دون الثاني ، من جهة ان الأصل المحرز يقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع بما انه مقتض للجرى العملي ، واليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب كذلك فلو ثبت شيء بالاستصحاب ثم شك في بقائه يستصحب بقاء مؤدى الاستصحاب.

واما الأصل غير المحرز كاصالة الطهارة فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ، لان أصالة الطهارة مغياة بالعلم وتثبت الطهارة على المشكوك فيه بوصف انه مشكوك فيه فما دام بقاء الشك تكون أصالة الطهارة باقية فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

ويرد على ما أفاده في الأصل المحرز ان ظاهر اليقين المأخوذ في الاستصحاب دخله بنفسه فيه لا بما انه مقتض للجرى العملي ولا قرينة على صرف هذا الظهور.

ويرد على ما أفاده في الأصل غير المحرز ما تقدم من ان العلم المأخوذ في أصالة الطهارة قيدا وغاية يكون من قيود الموضوع ، وتدل على طهارة ما لم يعلم نجاسته ، واما لو احتمل عروض نجاسة أخرى عليه ، فقاعدة الطهارة لا تصلح لاثبات بقاء الطهارة.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٨٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٨٢ ... (التنبيه الثاني) بتصرف.

٤٢٢

والحق ان يقال ان الاظهر جريان الاستصحاب في جميع موارد الأصول اعم من المحرز وغيره.

وذلك يظهر بعد بيان أمرين :

أحدهما : ان الاستصحاب الموضوعي مقدم على الاستصحاب الحكمى لحكومته عليه.

ثانيهما : انه لا يلزم ان يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، بل يجري الاستصحاب لو كان المستصحب عدم الحكم الشرعي أو كان اثره ذلك مثلا يستصحب حياة زيد لترتيب عدم الارث عليه.

وبعد هذا نقول ، اما الأصل غير المحرز كقاعدة الطهارة فما ثبت طهارته بقاعدة الطهارة ، وشك في النجاسة فاما ان يكون الشك ، هو الشك الأول فيكفيه أصالة الطهارة ، لانها باقية إلى يوم القيمة ، واما ان يكون من جهة احتمال عروض النجاسة أي نجاسة أخرى عليه فيجري استصحاب عدم عروضها ، ويحكم بعدم تنجسه ولا تصل النوبة إلى استصحاب الطهارة ، وان كان في نفسه جاريا من جهة انه يثبت بها طهارة ظاهرية ، وهي متيقنة وجدانا.

هذا إذا قلنا بان الطهارة امر عدمي والنجاسة امر وجودي.

وان قلنا انهما امران وجوديان ، فقد يتوهم ان هذا الأصل لا يترتب عليه الطهارة لعدم حجية مثبتاته.

لكنه توهم فاسد : فان الدليل المثبت للنجاسة بالملاقاة حجة في مثبتاته لكونه دليلا وامارة فبالملاقاة كما يثبت النجاسة يثبت عدم الطهارة فإذا جرى

٤٢٣

استصحاب عدم الملاقاة ، يحكم بعدم تحقق عدم الطهارة ، ومن الواضح ان عدم عدم الطهارة هو الطهارة.

وكذلك الأصل المحرز كالاستصحاب فلو غسل الثوب بماء مستصحب الطهارة ، فانه لو شك في بقاء الطهارة لاحتمال ملاقاة الثوب مع نجاسة أخرى يجري استصحاب عدم الملاقاة وهو مقدم على استصحاب الطهارة.

أقسام استصحاب الكلي والشخصي

التنبيه الثالث : المستصحب اما ان يكون كليا ، واما ان يكون شخصيا ، ولكل منهما أقسام والكلام في هذا التنبيه إنما هو في البحث عن جريان الاستصحاب في أي قسم من اقسامهما وعدمه في الآخر ، وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم أمور.

١ ـ ان الكلي الطبيعي على ما هو الحق موجود في الخارج في ضمن الأفراد حقيقة ، وعلى فرض التنزل فهو متحقق في ضمن الأفراد بالنظر المسامحي العرفي ، وهذا المقدار يكفي في صحة جريان الاستصحاب.

٢ ـ لا فرق في جريان الاستصحاب في الكلي بين ان يكون من الموجودات المتأصلة في عالم التكوين ، أو من قبيل الموجودات الاعتبارية كالملكية والزوجية وما شاكل ، أو من قبيل الأمور الانتزاعية.

٣ ـ ان العلم بوجود الفرد يساوق العلم بوجود الكلي ، كما ان الشك في

٤٢٤

بقاء الفرد يساوق الشك في بقاء الكلي ، وعليه فإذا كان الاثر مترتبا على بقاء الكلي بلا دخل للخصوصيات الفردية فيه ، يجري الاستصحاب فيه في الجملة وسيمر عليك تفصيل القول فيه.

٤ ـ المستصحب الشخصي على أقسام ، إذ قد يكون معينا ، وقد يكون مرددا.

والترديد ربما يكون بين فردين المشكوك بقائه على كل تقدير ، كما لو شك في ان الداخل في الدار زيد أو عمرو ، مع العلم بدخول أحدهما ثم شك في بقاء الداخل كان هو زيدا أو عمروا.

وربما يكون بين فردين المعلوم ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ، كما لو علم بأنه دخل في الدار زيد أو عمرو ، ثم علم بأنه ان كان زيدا فقد خرج وان كان عمروا فهو باق قطعا.

٥ ـ المستصحب الكلي أيضاً على أقسام :

الأول : ما لو شك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المعين المعلوم تحققه.

الثاني : ما لو شك في بقائه من جهة الشك في ان الفرد الحادث المتحقق هو الفرد الطويل الباقي أو الفرد القصير المرتفع قطعا.

الثالث : ما لو كان منشأ الشك في بقائه الشك في حدوث فرد آخر غير ما علم تحققه وارتفاعه مقارنا لحدوثه أو لارتفاعه.

الرابع : ما لو شك في بقائه من جهة ان الفرد المعلوم تحققه تفصيلا ، قد

٤٢٥

ارتفع ، ولكن بعد العلم بحدوثه ، علم اجمالا بثبوت فرد ، يحتمل ان يكون المعلوم بالاجمال منطبقا على المعلوم بالتفصيل ، فقد ارتفع ، ويحتمل ان يكون غيره فهو باق ، مثل ما لو علم بجنابته واغتساله منها ، ولكن رأى في ثوبه منيا يحتمل ان يكون من تلك الجنابة ، ويحتمل ان يكون من غيرها.

والفرق بينه وبين القسم الثاني واضح حيث ان هناك فرد واحد متحقق مردد بين القصير والطويل ، وفي المقام الفرد المعلوم تحققه تفصيلا ، قد ارتفع قطعا ، والمحتمل بقاء الكلي في ضمن فرد آخر.

والفرق بينه وبين القسم الثالث ، ان هناك لا علم غير العلم بحدوث فرد ، وفي المقام يعلم اجمالا بثبوت فرد غاية الأمر يحتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل ، فاقسام المستصحب الشخصي ثلاثة ، والكلى اربعة ، والمجموع سبعة.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فتنقيح القول فيها يستدعي البحث في كل قسم من الأقسام السبعة :

اما القسم الأول : فلا كلام ولا اشكال في جريان الاستصحاب فيه لأنه متيقن سابقا ومشكوك فيه لاحقا ، فهو المتيقن من مورد الاستصحاب.

وكذا القسم الثاني ، فانه في جريان الاستصحاب لا فرق بين كون المتيقن معلوما تفصيليا أم اجماليا ، وهل يترتب على الاستصحاب في هذا القسمين آثار الكلي ، أم لا وجهان سيأتي الكلام فيه في القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي.

٤٢٦

استصحاب الفرد المردد

واما القسم الثالث : فقد اختار بعض المحققين (١) جريان الأصل فيه ، بدعوى ان الموجود وان كان مرددا عندنا ، ولكن لا يضر ذلك بتيقن وجوده سابقا ، فيستصحب بقاء ذلك المتيقن سابقا ، وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني (٢) ، وحاصله : ان استصحاب بقاء الفرد المردد معناه بقاء الحادث على ما هو عليه من الترديد ، وهو يقتضي بقائه على كل تقدير ، ومن جملة تقاديره ، كونه هو الفرد الزائل ، وهو ينافي العلم بارتفاعه على ذلك التقدير.

وفيه : ان المتيقن هو الوجود الشخصي الخارجي المحتمل لانطباق عنوان كل واحد من الفردين عليه ، ولكن هذا الانطباق خارج عن المتيقن ، وبعد ما

__________________

(١) وهو اختيار السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب ج ١ ص ٧٣ ط. إسماعيليان ، قم حيث قال : «ثم ان التحقيق امكان استصحاب الفرد الواقعي المردد بين الفردي ، فلا حاجة إلى استصحاب القدر المشترك حتى يستشكل عليه بما ذكرنا ، وتردده بحسب علمنا لا يضر بتيقن وجوده سابقا والمفروض أن أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين فيمكن ترتيب ذلك الاثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا .. واعتبر ذلك من قبيل القسم الاول الذي ذكره الشيخ الأعظم في الفرائد (التنبيه الاول) : استصحاب الكلي الذي كان منشأ الشك فيه من جهة الشك في بقاء الفرد حيث حكم بجواز استصحابه راجع الفرائد ج ٢ ص ٦٣٨.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٢٦ وتعرض لذلك أيضا ص ٤١١ في التنبيه الثالث.

٤٢٧

يقطع بارتفاع احد العنوانين على تقدير انطباقه على الموجود الخارجي يشك في بقاء ذلك الموجود فيستصحب بقائه ، وليس معنى ذلك بقائه على ما كان عليه حتى من حيث احتمال انطباق كل واحد من العنوانين عليه إذ ذلك غير مربوط بالمتيقن من حيث انه متيقن فهو من هذه الجهة لا مانع من ابقائه.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) أيضاً ، وهو ان الشك في بقاء الفرد المردد يرجع إلى الشك فيما هو الحادث ، وانه هو الزائل أو الباقي ، ولا يثبت بالاستصحاب ذلك ، فان شأنه اثبات بقاء ما حدث ، لا حدوث الباقي.

وفيه : ان هذا الشك بضميمة العلم بارتفاع أحدهما على تقدير حدوثه يكون منشأً لتحقق شك آخر وهو بقاء ما حدث ، فيجري فيه الاستصحاب فيثبت به بقاء ما حدث.

الثالث : ان الفرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء ، وما هو مقطوع الارتفاع ، فلا شك في بقاء الفرد.

وفيه : ان القطع بالبقاء على تقدير ، والقطع بالارتفاع على تقدير آخر ، بضميمة عدم العلم باحد التقديرين بالخصوص يوجب الشك في البقاء.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني (٢) وهو ان تيقن الوجود ان كان المراد منه ، تيقن ذلك مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة فليس ذلك إلا وجود الطبيعي.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٢٨.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٦٤.

٤٢٨

وان أريد تيقن احدى الخصوصيتين معينا ، فهو بين الفساد.

وان أريد تيقن احداهما المرددة واقعا فهي لعدم كون المردد ثابتا واقعا وعدم الثبوت له لا ماهية ولا وجودا ، يستحيل تعين العلم الجزئي بها.

وان أريد تيقن الوجود المعين في الواقع المردد عندنا ، فهو أيضاً واضح الفساد ، لان ذلك ينافي العلم إذ معنى العلم انكشاف المعلوم ، والتردد ينافي ذلك ، فمتعلق العلم لا يعقل ان يكون مرددا.

وفيه : انا نختار الشق الرابع ، والمراد من كون الشيء معينا واقعا ، مرددا عندنا ليس ترديده من الجهة التي تكون متعلقا لعلمنا ، بل نقول ان ذلك الموجود الشخصي الخارجي الذي هو مطابق احدى الخصوصيتين معلوم ، ولكن من جهة انطباق احداهما عليه مشكوك فيه فضم المشكوك فيه إلى المعلوم وخلطهما اوجب التردد ، وعليه فالمعلوم ليس وجود الكلي فقط بل هو مع احدى الخصوصيتين.

الخامس : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان الاستصحاب لا يجري فيه لعدم الاثر ، فان ما هو موضوع الاثر هو الاشخاص باعيانها ، وهي ما بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، والعنوان الانتزاعي العرضي كعنوان أحدهما ، وما شاكل لا يكون موضوع الاثر كي يجري فيه الأصل.

وفيه : ان العنوان المشار إليه ان لوحظ بما هو مرآة ومشير إلى العنوان التفصيلي المعين الواقعي الذي هو موضوع الاثر ، كما فيما لو علم اجمالا

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ١١٤.

٤٢٩

بثبوت أحدهما يرتفع هذا المحذور كما لا يخفى.

فتحصل ان الاظهر جريان استصحاب الفرد المردد.

القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم الرابع : وهو الأول من أقسام استصحاب الكلي ، ففي الكفاية (١) كان استصحابه كاستصحاب الفرد بلا كلام.

وتنقيح القول فيه يستدعى البحث في موردين :

الأول : في جريان الأصل فيه.

الثاني : في انه هل يكفي استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلي أم لا؟

اما الأول : فملخص القول فيه ان اليقين بوجود الفرد موجب لليقين بوجود الكلي ، كما ان الشك في بقائه ملازم للشك في بقائه ، ولكن جريان الاستصحاب فيه يتوقف على ترتب اثر عليه كما هو الشأن في كل مورد يجري الاستصحاب.

وعليه فإذا كان لكل من الفرد والكلى اثر كما في الجنابة والحدث فان لكل منهما اثرا يجري الاستصحاب فيهما ، ولو كان الاثر لاحدهما يجري فيه خاصة والظاهر انه إلى ذلك نظر صاحب الكفاية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٦.

٤٣٠

واما الثاني : فافاد المحقق الخراساني في التعليقة (١) ان استصحاب الكلي لترتيب آثار الفرد لا يصح لأنه مثبت.

واما استصحاب الفرد ، ففي كفايته لترتيب آثار الكلي ، وجهان :

من ان وجود الكلي عين وجود فرده ، فالتعبد بوجود الفرد تعبد بوجوده.

ومن ان الكلي والفرد بنظر العرف شيئان متغايران ، وان كانا بحسب الدقة متحدا فلا يكون التعبد بالفرد تعبدا بالكلى عندهم.

وفيه : ان وجود الكلي في عالم العين والخارج ، إنما يكون بعين وجود فرده ، واما في عالم التشريع ، وجعل الحكم فلهما وجودان متغايران لا مساس لاحدهما بالآخر ، إذ كل منهما موضوع لاثر غير اثر الآخر ، والاستصحاب ليس مفاده بقاء الفرد في عالم العين والخارج ، بل مفاده بقائه في عالم التشريع.

نعم ، يتم ما أفاده في استصحاب الحكم فان تحقق الطلب إنما يكون بتحقق الوجوب أو الاستحباب.

وبعبارة أخرى : التعبد بالفرد كالوجوب معناه ، جعله حقيقة ، وهو جعل للطلب كذلك.

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٣٧.

٤٣١

القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم الخامس : وهو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، فالكلام فيه تارة يقع في وجود المقتضي ، وأخرى يقع في المانع :

اما الأول : فقد يقال ان اركان الاستصحاب وهي اليقين السابق والشك اللاحق غير متحققة فيه : وذلك لان الموجود هي الحصة من الطبيعي ، واما الكلي فليس موجودا بل هو امر انتزاعي فهو ليس متعلق اليقين والشك ، وإحدى الحصتين معلوم العدم ، والاخرى مشكوك الحدوث.

وفيه : أولا : ان الحق وجود الكلي الطبيعي في الخارج بعين وجود أفراده.

وثانيا : انه لو سلمنا عدم وجوده في الخارج بالدقة الفلسفية لا اشكال في وجوده في الخارج بالنظر العرفي ، والمفروض انه بهذا اللحاظ موضوع للحكم الشرعي وبهذه الجهة يصدق نقض اليقين بالشك عرفا ، وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب.

واما الثاني : فالمانع المتوهم عن جريانه امران :

أحدهما : ان وجود الطبيعي إنما هو بوجود أفراده واحد الفردين متيقن الارتفاع على تقدير الحدوث.

وبعبارة أخرى : متيقن العدم ، والآخر مشكوك الحدوث ، ومحكوم بحكم الشارع بعدم الحدوث ، والمفروض ان الطبيعي مردد بينهما فإذا حكم بعدمهما لا محالة يكون الكلي محكوما بالعدم.

٤٣٢

وأجاب عن ذلك المحققون (١) ، بان العلم بعدم احد الفردين وحكم الشارع بعدم حدوث الفرد الآخر ، لا يوجبان الاخلال باركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي ، فان اليقين السابق به والشك اللاحق فيه موجودان فيجري.

ولكن يمكن ان يقال ان نظر المستشكل ليس إلى انه باستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ، بما هو فرد بضميمة العلم بارتفاع الآخر ينتفى احتمال بقاء الكلي كي يرد عليه ما ذكر.

بل نظره إلى انه باستصحاب عدم حدوث هذا الوجود الذي هو وجود للكلى بما هو وجود له بضميمة العلم بعدم وجودات اخر ، يقطع بعدم بقاء الكلي ، فهذا الجواب لا يكفي.

بل الحق في الجواب ان يقال : ان الوجود الخارجي يضاف إلى الطبيعي من جهة ويقال ان هذا وجود الإنسان مثلا ويضاف إلى الخصوصية الخارجية من جهة أخرى ، ويقال انه وجود زيد لا عمرو.

لا اشكال في تغاير الجهتين وسره واضح ، فانه لو كان جهة اضافة الوجود إلى الخصوصيات عين جهة اضافته إلى الطبيعي لزم صدق ما في الخارج على غيره من الخارجيات ، مع انه لا يصح بالبداهة فإذا كانت الجهتان متغايرتين فما يكون مسبوقا بالعدم هو جهة الإضافة إلى الفرد.

واما الجهة المضافة إلى الكلي فهي مقطوعة الحدوث ، لا يجري فيها الأصل وليس هذا الوجود بخصوصه مورد الاثر كي يجري فيه الأصل ، وجهة اضافته إلى

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ص ٤٠٦ / وظاهر المحقق الآشتياني في بحر الفوائد ج ٣ ص ٩٦.

٤٣٣

الفرد مشكوك فيها فيستصحب عدمها ، فتدبر فانه دقيق.

الأمر الثاني : ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، فإذا جرى فيه الأصل وحكم بعدم حدوثه يحكم بعدم بقاء الكلي وارتفاعه لأنه من آثاره.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) باجوبة ثلاثة :

الأول ان الشك في بقاء الكلي ، ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل لان ارتفاع الكلي لا يكون من آثار عدم حدوث الفرد الطويل بل هو من آثار ولوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو البقاء ، فانه لو كان الحادث هو القصير فقد ارتفع ولو كان هو الطويل فهو باق.

وفيه : ان ارتفاع الكلي وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الارتفاع لم يؤخذ في موضوع دليل ، بل لو كان الشك في احد المستصحبين مسببا عن الشك في حدوث الآخر لا يجري الاستصحاب في المسبب ، وفي المقام لا اشكال في ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل.

وبالجملة الارتفاع وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل والمفيد لعدم جريان الاستصحاب في المسبب هو الثاني.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٦ بتصرف.

٤٣٤

الجواب الثاني : ان بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا انه من لوازمه.

وفيه : ان نظر المستشكل ليس إلى ان بقاء الكلي مسبب عن بقاء الفرد الطويل حتى يجاب بان بقائه عين بقائه ، بل إلى ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، لأنه لو كان هو الحادث لا محالة يكون باقيا ، ومن الواضح ان البقاء غير الحدوث وجودا ، فلا يرد عليه ان السببية والمسببية تتصوران في الوجودين المترتبين ، لا فيما إذا كان موجودين بوجود واحد مع انه لو كان عينه فالاشكال اوضح.

الجواب الثالث : هو متين جدا ، وهو ان الأصل في السبب يقدم على الأصل في المسبب ، إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب النجس بالماء المستصحب طهارته حيث ان طهارة الثوب من آثار طهارة الماء الشرعية ، واما إذا كانت السببية عقلية ، والمسبب من اللوازم العقلية ، للسبب ، فلا حكومة هناك إذ اللوازم العقلية لا تترتب على الاستصحاب كي يرتفع الشك ، والمقام من قبيل الثاني : فان بقاء الكلي من اللوازم العقلية لحدوث الفرد الطويل.

الجواب الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان الأصل كما يجري في عدم حدوث الفرد الطويل يجري في عدم حدوث الفرد القصير فحيث انه يعلم اجمالا بحدوث أحدهما فيتعارضان ويتساقطان فيجري الأصل في المسبب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٩٢ (التنبيه الثالث) عند قوله : «ولو سلمنا كون الترتب شرعيا ايضا ...».

٤٣٥

ودعوى عدم جريان أصالة عدم حدوث الفرد القصير بعد العلم بارتفاعه.

مندفعة بان الميزان في تعارض الاصلين ملاحظة حال الحدوث ولا اشكال في تعارضهما عند حدوث أحدهما ، وقد مر انه عند انعدام احد الطرفين أو خروجه عن محل الابتلاء لا يجري الأصل في الطرف الآخر ، ان كان ذلك بعد التعارض والتساقط.

ولكن هذا الجواب يتم في الموارد التي يجري الأصل في الفرد القصير كما لو علم بالحدث المردد بين البول والمني.

واما في المورد الذي لا يجري الأصل في الفرد القصير لعدم الاثر كما لو علم بان يده تنجست اما بالبول ، أو الدم فغسلها مرة واحدة ، فلا محالة يشك في بقاء النجاسة ، إذ لو كان الملاقى هو البول ، فهي باقية ، ولو كان هو الدم فقد ارتفعت : فان اثر الملاقاة مع الدم لزوم الغسل مرة واحدة ، وهو معلوم ، فلا يجري الأصل في عدمه ، فيجري في الملاقاة مع البول.

الشبهة العبائية المعروفة

وفي المقام اشكال ثالث : أورده بعض الاكابر (١) وهو ان لازم جريان

__________________

(١) المشهور والمتداول في عدّة كتب أن هذا الاشكال الذي عُرف بالشبهة العبائية للسيد اسماعيل الصدر أورده في النجف الاشرف في زمن الآخوند الخراساني ، وبعدها صار موردا للنقاش.

٤٣٦

الاستصحاب في هذا القسم ، اما الالتزام بان الملاقى لأحد اطراف الشبهة نجس ، أو الالتزام بمنجسية الملاقاة مع الطاهر ، وكلاهما كما ترى.

توضيحه : انه لو علم اجمالا بنجاسة احد الطرفين بالعباءة ، اما الأعلى منها ، أو الاسفل ، فغسل منها الجانب المعين يحتمل كونه الجانب المتنجس ، ثم لاقى بدن المصلى مع الرطوبة كلا من جانبيها ، مقتضى استصحاب النجاسة ـ وهو استصحاب الكلي ـ نجاسة ملاقيهما ، وهو بدن المصلي ، مع انه لاقى مع احد طرفي العلم الإجمالي ، وطاهر قطعي ، وشيء منهما لا يكون منجسا.

وقد اجيب عنه باجوبة.

منها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان استصحاب كلي النجاسة في العباء لا يثبت نجاسة ملاقيه لان نجاسة الملاقى تتوقف على أمرين :

أحدهما الملاقاة ، ثانيهما نجاسة الملاقي ، واستصحاب النجاسة لا يثبت ان بدن المصلي لاقى مع النجس. ونظير ذلك استصحاب بقاء الماء في الحوض ، حيث انه لا يثبت طهارة الشيء النجس الموجود في الحوض.

وفيه : أولا النقض بما إذا احتمل غسل احد الجانبين : فانه إذا جرى استصحاب النجاسة لازم ما أفيد عدم الحكم بنجاسة الملاقي للشك في الملاقاة مع النجس ، والاستصحاب ، لا يثبت ذلك.

وثانيا ، بالحل : وهو ان الموضوع مركب من أمرين ، أحدهما الملاقاة وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٩٤ ـ ٩٥.

٤٣٧

محرز بالوجدان ، والآخر نجاسة الملاقي وهو محرز بالتعبد ، والاصل ، فبضم الأصل إلى الوجدان يتم الموضوع.

وما أفاده من النظير غير مربوط بالمقام ، فان هناك احد الجزءين ، وهو الغسل بالماء ، لا يكون محرزا لا بالوجدان ولا بالتعبد.

ونظير المقام ما لو شك في طهارة الماء فغسل به شيء نجس فانه يجري استصحاب الطهارة ويترتب على الغسل به طهارة ما غسل به.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) أيضاً وهو ان محل الكلام في استصحاب الكلي هو ما إذا كان المتيقن السابق بهويته وحقيقته ووجوده ، مرددا بين ما هو مقطوع الزوال وغيره.

واما إذا كان الترديد في محله وموضوعه مع تعينه وتشخصه ومعلوميته ، فلا يكون من استصحاب الكلي ، بل يكون من قبيل استصحاب الفرد المردد ، ومثل لذلك بما إذا علم وجود الحيوان الخاص في الدار ، وتردد محله بين الجانب الشرقي أو الغربي ، ثم انهدم الجانب الغربي ، واحتمل ان يكون الحيوان في ذلك الطرف وتلف بانهدامه ، ثم قال ان مسألتنا من هذا القبيل فانه علم باصابة العباءة نجاسة خاصة وتردد بين كونها في الطرف الاسفل أو الأعلى ثم طهر طرفها الاسفل.

وفيه : ان النجاسة من قبيل الاعراض أي متقومة بالمحل وليست من قبيل الجواهر كي لا تختلف حقيقتها بتعدد المحل ولا يكون محذور في انتقالها إلى محل

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٢١.

٤٣٨

آخر ، بل هي متقومة بالمحل ، وتتعدد بتعدده فالترديد في المحل في المقام ، موجب للترديد في الهوية والوجود ، ولا يكون من قبيل الترديد في الموضوع.

ومنها : ما أفاده بعض (١) بأنه إذا غسل الطرف الأعلى من العباءة فعلم تفصيلا طهارته ، فحيث يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الطرف فيحتمل ان يكون اليقين بالنجاسة ، منتقضا باليقين بالطهارة ، ومعه يكون التمسك بعموم لا تنقض اليقين بالشك تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لاحتمال ان يكون من نقض اليقين باليقين ، ففي المثال المذكور لا يجري استصحاب النجاسة.

وفيه : أولا النقض بسائر موارد استصحاب الكلي فانه في مثال الحدث المردد بين الاصغر والاكبر ، لو توضأ يعلم بان الحدث لو كان هو الاصغر فقد ارتفع يقينا فاستصحاب بقاء الحدث يحتمل ان يكون من قبيل نقض اليقين باليقين ، بل لازمه عدم جريان الاستصحاب في كثير من الموارد ، فانه لو شك في حياة زيد بما انه يعلم اجمالا بموت شخص في البلد اجمالا ويحتمل انطباقه على زيد ، فلا يجري الاستصحاب.

وثانيا بالحل : وهو انه ليس لليقين والشك عالم وراء الوجدان ، ومن

__________________

(١) ذكر غير واحد من الاعلام عدم جريان الاستصحاب في التدريجيات لانه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وفي بحث الشبهة العبائية قد يظهر ذلك من المحقق النائيني حيث اختار عدم جريان الاستصحاب لعدم وجود الاثر الشرعي إذ المفروض أن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ..

٤٣٩

الواضح انه متيقن بنجاسة احد الطرفين ، وشاك ، في انه ارتفعت تلك النجاسة ، أم بعدها باقية ولا يحتمل التيقن بالارتفاع.

وان شئت قلت : ان المعلوم بالاجمال غير المعلوم بالتفصيل فان المعلوم بالاجمال نجاسة احد الطرفين والمعلوم بالتفصيل طهارة الطرف المعين.

ومنها : ما هو الحق ، وهو ان طهارة ملاقي احد اطراف العلم الإجمالي ليست مورد دليل خاص بل إنما يحكم بها لأجل الأصل.

فإذا فرضنا انه في مورد كان اصل حاكم آخر يحكم لاجله بالنجاسة يلتزم به ، ففي المقام إذا لاقى بدن المصلى الطرف الذي لم يغسل لا يحكم بنجاسته لاصالة الطهارة ولكنه بعد الملاقاة مع الطرف الطاهر يحصل له العلم بالملاقاة مع مستصحب النجاسة فيحكم بنجاسته وهذا لا يلزم منه الحكم بمنجسية الطاهر ، بل الملاقاة معه اوجبت العلم بالملاقاة مع مستصحب النجاسة ، فالمتحصّل ان الإشكال استغراب محض.

فتحصل انه يجري الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

الكلام حول جريان القسم الثاني في الأحكام

بقي أمور لا بدَّ من التعرض لها :

الأول : ربما يقال انها على فرض جريان الاستصحاب في الكلي في المقام يقع التعارض بينه وبين استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل : للعلم بأنه اما

٤٤٠