زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

الناحية الثالثة.

ثم انه لا فرق في جريان الاستصحاب وعدمه على كلا الشقين بين كون النبوة من الصفات الواقعية أم كانت من الأمور الاعتبارية : إذ بناءً على ان يكون المعتبر هو القطع بها ، فاستصحابها على القول بكونها من الأمور الاعتبارية وان كان استصحاب حكم شرعي ، ولا يحتاج في جريانه إلى ترتب اثر آخر لكن لا يجري ، لعدم ترتب اثر عملي عليه.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحقق الخراساني في المقام (١) فانه قال ان النبوة ان كانت من الأمور الواقعية لم يجر الأصل فيها لعدم الشك فيها أولا ، ولعدم ترتب الاثر عليه ثانيا ، ولو كان من الأمور الجعلية جرى فيها الأصل.

فانه يرد عليه أولا ان الاثر المترتب عليه ، وان لم يكن هو وجوب التصديق بما جاء به ، ولا بقاء أحكامه ولكن اثره وجوب الاعتقاد.

وثانيا ان التفصيل في غير محله : فانه ان كفى الأصل في لزوم الاعتقاد لما كان فرق بين المسلكين ، وان لم يكف فكما انه على فرض كونها من الأمور الواقعية لم يجر الاستصحاب لعدم الاثر كذلك على فرض كونها مجعولة لا يجري ، لعدم الاثر العملي الذي قد عرفت اعتبار وجوده في جريان الاستصحاب.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٣ بتصرف.

٥٤١

حول تمسك الكتابي بالاستصحاب

الجهة الثالثة : ان المنقول عن الشيخ الأعظم (١) انه حكى المناظرة الواقعة بين السيد العلامة السيد باقر القزويني وبين عالم يهودى في قرية تسمى بذى الكفل ، وقد تمسك الكتابى بالاستصحاب قائلا ان موسى بن عمران شخص واحد ادعى النبوة واعترف المسلمون واهل الكتاب بنبوته فعلى المسلمين الاعتراف بنبوته ما لم يثبت نسخ نبوته.

وذكر الأصحاب في الجواب عنه وجوها :

الأول : ما نقله الشيخ (٢) عن بعض الفضلاء والظاهر انه السيد القزويني ، وهو انا نؤمن ونعترف بنبوة كل موسى وعيسى اقر بنبوة نبينا (ص) وكافر بنبوة كل من لم يقر بذلك وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا (ع) في جواب الجاثليق (٣).

ثم ان الشيخ قال (٤) : وهذا الجواب بظاهره مخدوش ، بما عن الكتابي من ان موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٣.

(٣) راجع عيون اخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٥٤ باب ذكر مجلس الامام الرضا مع أهل الاديان وأصحاب المقالات في التوحيد عند المأمون / الاحتجاج ج ٢ ص ٤١٥ ... الخ.

(٤) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٣.

٥٤٢

المسلمون واهل الكتاب بنبوته فعلى المسلمين اثبات نسخها.

ولكن الظاهر ان هذا الجواب امتن ما في الباب ، وذلك فانه بعد ما لا ريب في ان منشأ اعتراف المسلمين بنبوة عيسى مثلا ليس هو النظر إلى معجزاته ، لعدم وجود المعجزة الخالدة ، له ، ولا الخبر المتواتر : فان الحواريين على ما قيل محصورون غير بالغين حد التواتر ، فينحصر الطريق باخبار نبينا (ص) : وهو كما اخبر بنبوته اخبر بأنه اخبر بمجيء نبينا (ص) ، فهذا وصف عنواني مشير إلى ذلك الشخص الخارجي ، فكما يقال انه ولد بغير أب ، وابرأ الاكمه والابرص ، واحيا الموتى ، يقال انه اخبر بمجيء نبينا (ص) فالمتيقن ثبوته هو نبوة عيسى أو موسى الذي له اوصاف منها هذا الوصف ، واما غيره ممن لم يخبر فلا نعرفه نبيا ، وهذا واضح.

ثم ان الإمام (ع) علم طريق هذه المناظرة بمناظرته مع جاثليق ، ولكنه اعترض عليه بان طريق معرفة غيرك هو ذلك واما انت فتدّعي العلم من غير الطرق العاديَّة ، بما تقدم فانت معترف بنبوة عيسى من غير هذا الطريق ، وتدَّعي انه اخبر بمجيء نبيكم فعليك اثبات ذلك ، فأجابه الإمام (ع) (١) بقوله الآن جئت بالنصفة ثم اخذ في مقام اثبات ذلك.

الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) : وهو مأخوذ من كلمات الشيخ الأعظم (ره) ، وحاصله : ان جواب الكتابي ـ اما الزامي ـ أو اقناعي :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٥٦ من المصدر السابق / الاحتجاج ج ٢ ص ٤١٧.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٢٣.

٥٤٣

والاول غير صحيح لأنه لا يلزم به الخصم إلا مع الاعتراف بالشك والمسلم قاطع بنسخ نبوة موسى وعيسى ، لا شاك فيه ، فلا يمكن الزامه.

والثاني باطل لوجهين : أحدهما لزوم الفحص وعدم إجراء الأصل قبله ، ثانيهما : انه لا دليل عقلي ولا نقلي على حجيته وثبوت حجيته في الشريعة اللاحقة لا يجدي للزوم العمل به المحال.

وفيه : ان الكتابي يدَّعي الفحص ويقول اني الآن في حال الفحص فلم يثبت لي ، وثبوته في الشريعتين يكفي في التمسك به كما مر فلا اشكال عليه ، وبما ذكرناه ظهر ما في بقية الاجوبة.

حول استصحاب الحكم المخصص

التنبيه الثالث عشر : إذا ورد عام افرادي متضمن للعموم الازماني ، وخصص ذلك بخروج بعض أفراد العام عن الحكم في قطعة من الزمان ، ثم شك في ان خروجه عنه مختص بتلك القطعة ، أو انه يعم جميع الأزمنة ، فهل يرجع في زمان الشك إلى عموم العام ، أو إلى استصحاب حكم المخصص.

مثال ذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(١) حيث انه خرج عنه البيع الغبني بعد ظهور الغبن ، ويشك في ان خيار الغبن للفور أو للتراخي ، فانه بعد الزمان الأول الثابت فيه الخيار قطعا يشك في بقائه ، فهل المرجع استصحاب الخيار ، أو عموم الآية الكريمة.

__________________

(١) الآية ١ من سورة المائدة.

٥٤٤

وتنقيح القول يقتضي تقديم أمور :

الأول : انه ليس البحث في المقام في تقديم العموم ، أو الاستصحاب عند التعارض ، فانه لا كلام في تقديم اضعف الامارات على أقوى الأصول كما سيأتي وجهه ، بل النزاع في المقام إنما هو في ان المورد مورد للتمسك بالعام فلا مورد للاستصحاب ، أم يكون من موارد الرجوع إلى حكم المخصص وليس من موارد الرجوع إلى عموم الدليل ، أم لا يكون مورداً لشيء منهما ، فالنزاع صغروي.

الثاني : ان الأصل في الزمان كونه ظرفا للزماني ، ما لم يقم دليل على كونه قيدا للتكليف أو المتعلق ، وذلك لان كل موجود له إضافة إلى الزمان ، وإلى المكان ، لاحتياج غير المجردات اليهما ، وإضافته إلى الزمان يسمى بمتى ، وإضافته إلى المكان يسمى باين ، وهاتان الإضافتان ، لا تفردان الموجودات ولا تكثِّراها إلا بحسب العوارض ، إذ ذات الجوهر مثلا لا يختلف بهما ، فزيد على السطح ، عين الزيد تحت السقف.

وبالجملة تفرد الشيء بهما يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلا فبحسب الطبع لا تكونان متكثرتين.

الثالث : ان الزمان في دليل العام ، ربما يكون قيدا للحكم ، أو المتعلق ، وربما يكون ظرفا لاحدهما.

وعلى الأول قد يكون مجموع الآنات ملحوظة على وجه الارتباطية ، ويجعل المجموع قيدا واحدا كالعام المجموعي ، بحيث لو خلا آن واحد عن وجود المتعلق ، أو الحكم انتفى رأسا ، ومن هذا القبيل باب الصوم ، حيث ان الإمساك في

٥٤٥

مجموع آنات النهار واجب واحد والمجموع قيد واحد بحيث لو افطر في آن من النهار لم يمتثل أصلاً.

وقد يكون كل آن مأخوذا قيدا مستقلا بنحو يتكرر المقيد بتكرر آنات الزمان ، ويصير الموضوع الوحداني الخارجي باعتبار تعدد الآنات موضوعات متعددة يتبعها أحكام عديدة كما في العام الاستغراقي كما لو قال اكرم العلماء في كل يوم ، واستفيد منه ان لكل يوم حكم مستقل في مقابل اليوم الآخر ولو اكرم عالما في يوم ، ولم يكرم في اليوم الثاني ، فقد اطاع وعصى.

وبالجملة كما ان العام الذي له عموم افرادي ، ينقسم إلى العام المجموعي ، والاستغراقي كذلك العام الذي له عموم ازماني ينقسم اليهما.

الرابع : ان الشقوق الثلاثة التي ذكرناها في دليل العام تجري في دليل المخصص ، إذ فيه أيضاً ، ربما يكون الزمان ظرفا ، وربما يكون قيدا ، وعلى الثاني ربما تؤخذ الأزمنة قيدا على وجه الارتباطية ، وربما تؤخذ قيدا على وجه الاستقلالية وكل زمان قيدا مستقلا.

الخامس : ان اعتبار العموم الزماني بنحو القيدية أو الظرفية ، لنفس الحكم ، أو لمتعلقه لا بدَّ وان يكون لقيام الدليل عليه كما مر ، وهذا لا كلام فيه.

كما لا كلام في انه ربما يكون الدليل الدال عليه ، هو الدليل الخارجي ، كقوله (ع) (حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم

٥٤٦

القيامة) (١).

ولا كلام أيضاً في انه إذا كان مصب العموم متعلق الحكم ، يمكن ان يكون نفس دليل الحكم متكفلا لبيانه اما بالنصوصية ، كما لو قال : اكرم زيدا في كل يوم ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وذلك إنما يكون فيما إذا لزم من عدم العموم الزماني ، لغوية الحكم وخلو تشريعه عن الفائدة كما في قوله تعالى (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(٢) إذ لا فائدة في وجوب الوفاء بكل عقد في الجملة.

إنما الكلام في انه إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فهل يمكن ان يكون الدليل المتكفل لبيانه هو نفس دليل الحكم أم لا؟

ذهب المحقق النائيني (ره) (٣) إلى الثاني وملخص ما أفاده في وجه ذلك ، ان استمرار الحكم ودوامه فرع وجوده ، فنسبة الحكم إليه نسبة الموضوع إلى الحكم ، والمعروض إلى العرض ، وما كان كذلك يستحيل ان يكون الدليل المتكفل لجعل الحكم متكفلا للأمر المتأخر عن جعله ، وبالجملة العموم الزماني الذي مصبه المتعلق ، يكون تحت دائرة الحكم ، فيمكن تكفل دليل الحكم لبيانه ، ويكون مطلقا بالإضافة إليه ، واما العموم الزماني الذي يكون مصبه الحكم ، فهو يكون فوق دائرة الحكم ، ولا يكون الدليل المتكفل لبيان الحكم متكفلا لبيانه ، فلا

__________________

(١) اصول الكافي ج ١ باب البدع والرأى والمقاييس ح ١٩.

(٢) الآية ١ من سورة المائدة.

(٣) راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦٩ ـ ١٧٠ (التنبيه الثاني عشر) بتصرف / فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٣٤ ـ ٥٣٦ بتصرف ايضا.

٥٤٧

إطلاق له بالإضافة إليه ، فإطلاقه بالنسبة إليه يحتاج إلى قيام دليل آخر.

ثم انه رتب على ذلك انه عند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة يصح التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم ، بخلاف ما إذا كان مصبه نفس الحكم فانه لا يجوز التمسك بدليل الحكم لفرض عدم الإطلاق له ، وعدم تكفله لبيان استمراره ، ولا بما دل عليه عموم أزمنة وجوده ، إذ الدليل المتكفل لجعل الاستمرار ، إنما يكون بنحو القضية الحقيقية التي موضوعها الحكم ، ومحمولها الاستمرار ، ومن الواضح ترتب المحمول على الموضوع ، فمع الشك في ثبوت الموضوع ، لا مجال للتمسك بعموم دليل المحمول ، وعليه فلا مورد حينئذ للرجوع إلى العموم المزبور ، وعلى ذلك حَمل كلام الشيخ الأعظم (ره) (١).

ويرد عليه أمران :

الأول : يرد على ما أفاده من عدم إمكان تكفل دليل الحكم لبيان العموم الزماني الذي مصبه الحكم : ان استمرار الشيء وبقائه ليس عبارة عن عروض عارض على وجوده ، بل هو عبارة عن سعة دائرة وجوده بعد حدوثه ، فهما واحد ، بل التعدد مستلزم لعدم البقاء : إذ لا تعدد إلا مع فرض تخلل العدم ، ومعه يكون الثاني حادثا آخر لا بقاءً للحادث الأول.

وعلى الجملة عنوان البقاء كعنوان الحدوث عنوان لموجود واحد باعتبار عدم عروض العدم عليه ، كما ان الحدوث عنوان له باعتبار سبقه بالعدم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٧١.

٥٤٨

ولا فرق في ذلك بين الموجودات الخارجية التكوينية ، والاعتبارية الشرعية ، والشارع الأقدس ، كما يجعل الزوجية الموقتة ، كذلك يجعل الزوجية الدائمة بجعل واحد ، بل لا يعقل جعله بجعل آخر ، فان تعدد الجعل يستدعى تعدد المجعول وقد عرفت ان التعدد ينافي البقاء ، وعليه فيمكن تكفل نفس ذلك الدليل لبيانه.

نعم ، ما ذكره (ره) يتم في استمرار الجعل ، فان الجعل بالنسبة إليه من قبيل الموضوع ، ولا يمكن تكفل الدليل الدال عليه متكفلا لاستمراره ، ولكن محل الكلام استمرار المجعول ، وتكفل الدليل لبيان استمراره ، ممكن كما عرفت.

الثاني : ما أفاده (ره) من عدم إمكان التمسك بالدليل المتكفل لبيان الاستمرار :

فانه يرد عليه ان الاستمرار وان كان فرع الثبوت إلا انه فرع الثبوت في الجملة ، لا فرع ثبوته في الأزمنة المتأخرة : إذ ثبوته فيها عين استمراره وبقائه ، لا انه مما يتفرع عليه الاستمرار والبقاء ، وعليه فحيث ان المفروض وجود العموم الافرادي ، فإذا شك في استمرار الحكم الثابت لفرد لا مانع من هذه الجهة من التمسك بعموم الدليل المتكفل لبيان العموم الزماني.

اللهم إلا ان يقال بعد انقطاع حكم هذا الفرد وخروجه عن تحت العام ، البناء على شمول العام له معناه ثبوت الحكم ثانيا وحدوثه لا استمرار ما ثبت أولا ، فدليل الاستمرار لا يصلح لاثبات ذلك فتدبر فانه دقيق.

إذا عرفت هذه الأمور وعرفت عدم تمامية ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) ،

٥٤٩

فاعلم ان الشيخ الأعظم (ره) (١) اختار ان المرجع هو العام فيما إذا كان له عموم ازماني ، وكان كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام عديدة بتعدد الزمان ، بل لو لم يكن هناك عموم لما كان وجه للرجوع إلى الاستصحاب ، والمرجع هو الاستصحاب فيما إذا كان الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار فانه لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لان مورد التخصيص الأفراد دون الازمان ، بل لو لم يكن هناك استصحاب كان المرجع غيره من الأصول العملية دون العام.

وأورد عليه المحقق الخراساني (٢) ، بأنه في المورد الثاني ، ان كان المأخوذ في المخصص ، الزمان مفردا ، لا ظرفا لاستمرار الحكم ، لا يجري الاستصحاب ، لأنه من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، كما انه في ذلك المورد إذا كان المخصص يخرج الفرد عن تحت العام من الأول ، كما في خيار المجلس الثابت من أول العقد ، الموجب لخروجه عن تحت عموم أوفوا بالعقود ، يتمسك بعموم العام بعد زمان اليقين بالخروج ، فلو شك في بقاء خيار المجلس ، يتمسك بعموم أوفوا بالعقود ، وإلا لزم إخراج احد أفراد العام عن تحت عمومه بلا وجه ، نعم يتم ما ذكره فيما إذا كان المخصص من الوسط كما في خيار الغبن الثابت بعد ظهور الغبن.

فالمتحصّل مما أفاده المحقق الخراساني ان الزمان قد يكون قيدا للعام ،

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٨٠ (الأمر العاشر).

(٢) كفاية الأصول ص ٤٢٥.

٥٥٠

وظرفا للخاص ، وقد يكون قيدا لهما ، وقد يكون ظرفا لهما ، وقد يكون ظرفا للعام وقيدا للخاص.

ففي المورد الأول : المرجع هو عموم العام ، وان لم يكن فالاستصحاب.

وفي المورد الثاني المرجع عموم العام ، وان لم يكن فلا مورد للاستصحاب.

وفي المورد الثالث ، لا مجال للتمسك بالعام إلا إذا كان المخصص من الأول ، ويكون المرجع هو الاستصحاب.

وفي المورد الرابع ، لا يكون المرجع عموم العام ، ولا الاستصحاب.

نعم ، إذا كان المخصص من الأول يتمسك بعموم العام.

وهذا في بادئ النظر وان كان متينا ، إلا ان دقيق النظر يقتضي خلافه : فان الحق عدم جريان الاستصحاب في شيء من الموارد ، وكون جميعها من موارد التمسك بالعام ، إلا إذا كان دليل العام المتكفل لاثبات الحكم لكل فرد ناظرا إلى حيث وحدة الحكم وتشخصه بنحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا ، مع كون التقطيع من الوسط ، فلنا دعا وثلاث.

اما الأولى : أي عدم جريان الاستصحاب فقد مر تحقيقه في أول هذا المبحث وعرفت ان استصحاب الحكم الكلي محكوم لاستصحاب عدم الجعل.

واما الثانية : وهي كون المرجع عموم العام ، ففيما كان الزمان قيدا واضح ، واما إذا كان ظرفا ، فيبتنى على بيان مقدمات.

الأولى : ان الإطلاق هو رفض القيود لا الجمع بينها.

٥٥١

الثانية : ان العام الذي اخذ الزمان ظرفا لاستمرار حكمه كقوله تعالى : أوفوا بالعقود ، له حيثيتان ، احداهما : عمومه وشموله لكل فرد من الأفراد ، ثانيتهما : اطلاقه الازماني بمعنى ان مقتضى اطلاقه استمرار الحكم الثابت لكل فرد في الزمان المستمر.

الثالثة : ان المطلق إذا خرج منه فرد بقى الباقي تحته بنفس الظهور الذي استقر فيه أولا.

إذا عرفت هذه المقدمات تعرف انه بعد مضى زمان التخصيص يتمسك بعموم العام لا بحيثية عمومه بل بحيثية اطلاقه بلا فرق بينه وبين سائر المطلقات.

وما ذكره صاحب الدرر (ره) (١) في مقام الفرق ، بان سائر المطلقات لها جهات عرضية ، ككون الرقبة مؤمنة أو كافرة ، والحكم إنما تعلق به بلحاظها ، فإذا خرج شيء بقى الباقي بنفس ذلك الظهور ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ الزمان الواحد المستمر ليس له أفراد متكثرة متباينة ، إلا ان يقطع بالملاحظة ، وجعل كل من قطعاته ملحوظا في القضية ، وملاحظته كذلك خلف ، فلا معنى لاطلاقه من تلك الجهات حتى يكون خروج جهة ، غير مناف لبقاء الجهات الأخر ، بل معنى اطلاقه عدم تقييد الحكم بزمان خاص ولازمه الاستمرار من أول وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في زمان فليس لهذا العام المفروض ، دلالة على دخول ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، إذ لو كان داخلا لم يكن ذلك استمرارا للحكم السابق ، وليس هو فردا آخر حتى يشمله

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٢٠٥ مطبعة مهر ، قم ، وفي طبعة جامعة المدرسين ص ٥٧١.

٥٥٢

العموم بعمومه الافرادي.

يندفع : بما ذكرناه في المقدمة الأولى ، من ان معنى الإطلاق مطلقا ، رفض القيود ، لا الجمع بينها ، فإطلاق الدليل بالنسبة إلى الأزمنة الذي معناه عدم دخل خصوصياته في الحكم ، لا يكون خلفا ، وعليه فيتمسك بالعام ، لا بحيثية عمومه كي يقال انه ليس فردا آخر بل بحيثية اطلاقه.

كما ان دعوى ان المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر فإذا انقطع لا ظهور يتمسك به.

مندفعة بان التقييد إنما يكون بالنسبة إلى المراد الجدِّي لقيام حجة أقوى من الحجة المزبورة ، فلا ينثلم به ذلك الظهور الواحد.

فان قيل ان ثبوت الحكم بعد ذلك الزمان ليس استمرارا للحكم الأول ، بل هو حكم آخر فيلزم تعدد الواحد.

اجبنا عنه بان معنى استمراره الثابت بالإطلاق المزبور ليس استمراره خارجا ، بل جعل ظرف واحد لهذا الحكم الوحداني لاجعل حصتين من طبيعي الظرف فتدبر فانه دقيق.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الأظهر هو التمسك باطلاق العام في جميع الموارد الأربعة.

واما الدعوى الثالثة : فوجهها واضح لان الشيء لا يبقى على وحدته الشخصية بعد تخلل العدم في البين ، فلو تمسك بالعام لزم ثبوت حكم آخر بعد زمان التخصيص وهذا خلف الفرض.

٥٥٣

جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف

التنبيه الرابع عشر : الظاهر ان الشك الذي اخذ في موضوع الاستصحاب ، في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين ، فيجري الاستصحاب مع الظن غير المعتبر بالخلاف.

واستدل له بوجوه :

الأول : الإجماع.

وفيه أولا : ان جماعة من الأصحاب لا يرون الاستصحاب حجة ، وجماعة يرونه حجة من باب الظن لا الأخبار ، وهم لا يرونه حجة مع الظن بالخلاف ، فالإجماع لا يكون ثابتا ، اللهم إلا ان يقال عليه الإجماع التعليقي أي على فرض اعتباره من الأخبار يقولون بأنه حجة مع الظن بالخلاف أيضاً ، وهو كما ترى.

وثانيا ، انه يمكن ان يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الأخر فلا يكون إجماع تعبدي كاشف عن رأى المعصوم (ع).

الثاني : ان الظن غير المعتبر ان علم بعدم اعتباره فمعناه ان وجوده كعدمه وان كلما يترتب على عدمه يترتب على وجوده ، وإذا شك في اعتباره وعدمه يكون رفع اليد عن الحالة السابقة لأجله نقضا لليقين بالشك.

وفيه : ان معنى عدم اعتبار الظن ان المظنون لا يثبت به لا ترتيب آثار الشك عليه ، واما ما ذكر في المشكوك اعتباره ، فيرد عليه ان صدق نقض اليقين

٥٥٤

بالشك يتوقف على وحدة متعلقهما ، وفي صورة التعدد كما في المقام ، حيث ان متعلق اليقين هو الحكم ، ومتعلق الشك حجية الظن ، لا يصدق.

الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان المراد باليقين في نصوص الباب هو الإحراز ، والشك الذي في مقابله أريد به التحير ، فمفاد الروايات ان من كان محرزا لشيء يبنى عليه ما لم يحرز خلافه.

وفيه : أولا ان هذا خلاف ظاهر لفظي اليقين والشك ، وثانيا : ان لازم ذلك الالتزام بالورود في المسألة الآتية ، وهي تعارض الأمارات والاستصحاب كما هو واضح مع انه (قدِّس سره) ملتزم بالحكومة.

فالصحيح ان يقال ان المراد من الشك في النصوص خلاف اليقين لوجوه :

١ ـ ان جماعة من اللغويين كأصحاب الصحاح ، والقاموس ، والمجمع (٢) ، وغيرها ، صرحوا بان ذلك معناه لغة ، والظاهر انه في لسان الشارع الأقدس استعمل في معناه اللغوي ، وتخصيص الشك بالاحتمال المتساوي الطرفين اصطلاح حادث بين العلماء ، وليست الاستعمالات الشرعية جارية على طبقه ، والشاهد لذلك ان الوهم في اصطلاحهم هو الاحتمال المرجوح ، مع انه أطلق الوهم في صحيح الحلبي الوارد فيمن شك في انه صلى ثلاثا أو أربعا في الظن ، قال وان ذهب وهمك إلى الثلاث ، فقم فصل الرابعة (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٧٩ (التنبيه الرابع عشر).

(٢) مجمع البحرين ج ٥ ص ٢٧٦ (شكك).

(٣) الكافي ج ٣ ص ٣٥٥ باب السهو في الثلاث و .... ح ٨ / الوسائل ج ٨ ص ٢١٧ ح ١٠٤٦٤.

٥٥٥

٢ ـ قوله (ع) في الصحيح الأول لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجيء من ذلك امر بين وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ولكن ينقضه بيقين آخر (١) ، فان المستفاد منه انحصار جواز نقض اليقين في اليقين ، وانه لا يجوز رفع اليد عن اليقين بغير اليقين من مراتب الاحتمال.

٣ ـ عدم استفصاله (ع) في الصحيح بين ما إذا أفاد تحريك شيء في جنبه وهو لا يعلم ، بين كون الاحتمال وعدم العلم متساوي الطرفين أم لا فقد أجاب عما سأله الراوي عما إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، بقوله لا حتى يستيقن انه قد نام (٢).

ويؤيده استعماله فيه في غير واحد من الروايات في باب شكوك الصلاة ، بلا قرينة.

فالمتحصّل مما ذكرناه جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف.

* * *

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٨ باب الاحداث الموجبة للطهارة ح ١١ / الوسائل ج ١ ص ٢٤٥ ح ٦٣١ وأيضا ج ٢ ص ٣٥٦ ح ٢٣٥٢.

(٢) المصدر المتقدم

٥٥٦

فهرس الموضوعات

الفصل الثالث.................................................................. ٧

في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف إجمالا.................................. ٧

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين......................................... ٧

شمول أدلة الأصول والأمارات لأطراف العلم وعدمه............................... ١٠

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه...................................... ١٣

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا........................................ ١٤

عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة.............................. ٢٢

حدوث المانع بعد العلم....................................................... ٢٤

لو كان المعلوم الإجمالي واجبا تعبديا............................................. ٣٠

لو كان متعلق العلم عنوانا مردد بين عنوانين...................................... ٣١

إذا كان أثر احد الأطراف اكثر................................................ ٣٢

تنجيرز العلم الإجمالي في التدريجيات............................................ ٣٥

مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي........................................ ٤٠

حكم الاضطرار إلى أحدهما المعين.............................................. ٤١

حكم الاضطرار إلى غير المعين................................................. ٤٧

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.......................................... ٥٤

الشك في الخروج عن محل الابتلاء.............................................. ٥٩

لو شك في القدرة العقلية...................................................... ٦٤

لو كان احد أطراف العلم غير مقدور شرعا...................................... ٦٧

العلم الإجمالي في الطوليين..................................................... ٦٨

٥٥٧

الشبهة غير المحصورة.......................................................... ٦٩

أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة............................... ٧٢

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة...................................... ٧٧

حكم العلم الإجمالي بجزء الموضوع............................................... ٧٧

بيان وجه نجاسة الملاقي....................................................... ٨٢

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة...................................... ٨٥

حصول الملاقاة بعد العلم بالنجاسة............................................. ٨٥

لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي.......................................... ٨٧

حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة......................................... ٨٩

حدث العلم الإجمالي مع كون الملاقي خارجا عن محل الابتلاء...................... ٩٢

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين....................................... ٩٤

جريان البراءة العقلية في الأكثر................................................. ٩٧

جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر........................................ ١٠٧

حول التمسك بالاستصحاب لكل من القولين................................. ١١٠

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية.............................. ١١٢

دوران الأمر بين التعيين والتخيير.............................................. ١١٧

الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة........................................... ١٢٦

في إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي..................................... ١٢٧

الكلام حول إطلاق دليل الجزء المنسي........................................ ١٣٠

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة.......................... ١٣٤

الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا....................................... ١٣٦

الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به............................... ١٤٤

٥٥٨

فيما تقتضيه القاعدة الأولية.................................................. ١٤٤

ما يقتضيه الأصل الثانوي.................................................... ١٤٦

تقريب التمسك بالاستصحاب............................................... ١٤٨

بيان مدرك قاعدة الميسور.................................................... ١٥٠

الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالعسور................................. ١٥٤

الكلام حول حديث ما لا يدرك.............................................. ١٥٨

دوران الأمر بين الجزئية والمانعية............................................... ١٦٢

خاتمة....................................................................... ١٦٥

فيما يعتبر في العمل بالاحتياط............................................... ١٦٥

فيما يعتبر في جريان البراءة................................................... ١٦٨

في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه..................................... ١٧٤

حكم العمل المأتي به قبل الفحص............................................ ١٧٦

حكم ما لو احتمل الابتلاء.................................................. ١٧٧

معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات..................................... ١٧٩

الكلام حولل ما أفاده الفاضل التوني.......................................... ١٨٥

بيان مدرك القاعدة......................................................... ١٩٢

سند الحديث.............................................................. ١٩٧

متن الحديث............................................................... ١٩٧

موقع صدور الحديث........................................................ ٢٠٠

مفاد الحديث ومعنى مفرداته.................................................. ٢٠٦

مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا......................................... ٢١٢

تطبيق حديث لا ضرر على قضية سمرة........................................ ٢٣١

٥٥٩

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيص......................................... ٢٣٤

الميزان هو الضرر الشخصي.................................................. ٢٣٨

العبادات الضررية مشمولة للحديث........................................... ٢٤٠

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث............................................. ٢٤٢

رد المغصوب مع تضرر الغاصب.............................................. ٢٤٩

هل الضرر مانع عن صحة العبادة ، أو العلم به مانع............................ ٢٥٠

هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة.............................. ٢٥٣

هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟.................................. ٢٥٧

فرعان..................................................................... ٢٥٩

حكم الشك في الضرر...................................................... ٢٦١

بيان وجه تقديم دليل القاعدة على أدلة الأحكام................................ ٢٦٤

تعارض قاعدة لا ضرر ، مع قاعدة نفي الحرج.................................. ٢٧٠

حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به...................... ٢٧٥

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد...................... ٢٧٧

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين......................... ٢٧٩

لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره....................................... ٢٨٢

إذا كان الضرر متوجها إلى نفسه.............................................. ٢٨٢

لو كان الضرر متوجها إلى الغير............................................... ٢٨٣

حكم ما لو توجه الضرر من غير ناحية الحكم.................................. ٢٨٦

لو كان الضرر متوجها إلى احد شخصين نفسه أو غيره من ناحة الحكم............ ٢٨٩

حكم الإضرار بالغير........................................................ ٢٩٥

حكم الإضرار بالنفس....................................................... ٢٩٩

٥٦٠