زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

بينهما واقعا لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف وبحسب المتفاهم العرفي يكون التعبد بالعلة تعبدا بالمعلول.

الثاني : ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة ، كالأبوّة ، والبنوة ، وهو الذي ذكره بقوله أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما.

والوجه فيه ان العرف لا يرونهما شيئين ، بل هما عندهم شيء واحد ذو وجهين ، واثر أحدهما اثر الآخر.

ولكن يرد على الأول ، انه بعد التحفظ على ان محل الكلام ، ما إذا كان هناك اثران شرعيان ، أحدهما مترتب على العلة التامة أو الجزء الاخير منها ، والآخر مترتب على المعلول.

كيف يتصور اليقين السابق بوجود العلة التامة ، دون معلولها مع انهما لا ينفكان حدوثا وبقاء ، وعليه فلا محالة هناك يقين سابق وشك لاحق بالنسبة إلى كل منهما فيجري الاستصحاب فيهما.

وبه يظهر ما في الثاني فان المتضائفين متكافئان قوة وفعلا يقينا ، وشكا ، فمع اليقين بالابوة لا محالة يكون يقين بالبنوة ، وكذا الشك ، فيجري في كل منهما الاستصحاب فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.

٥٠١

الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت

بقي الكلام في الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت ، وهي كثيرة نذكر جملة منها ويظهر الحال في البقية.

منها : ما لو اسلم احد الوارثين في أول شعبان مثلا ، والآخر في أول شهر رمضان واختلفا في موت المورث ، فادعى الأول انه مات في شعبان ، وادعى الثاني انه مات في شهر رمضان فقد حكم الأصحاب ، بأنه يكون المال بينهما نصفين لاصالة بقاء حياة المورث ، مع ان موضوع التوارث موت المورث عن وارث مسلم والاصل المزبور بالنسبة إلى هذه الإضافة مثبت.

وفيه : ان الإضافة المزبورة غير دخيلة في الارث ، بل غاية ما دل عليه الدليل من الإجماع والنص ان الكفر مانع.

وبعبارة أخرى : الموضوع مركب من أمرين ، موت المورث ، مع اسلام الوارث ، فإذا كان أحدهما وجدانيا وجرى الأصل في الآخر وضم الأصل إلى الوجدان ترتب الحكم ، وليس هذا من المثبت.

ومنها : انه إذا كان يد شخص على مال الغير ، وشك في اذن صاحبه حكموا بضمانه : لاصالة عدم الرضا من المالك ، مع ان موضوع الضمان اليد العدوانية وهذا العنوان لا يثبت بالاصل المزبور ، إلا على القول بالمثبت.

وفيه : ان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير بضميمة عدم اذنه صدق عنوان العدوان ، أم لم يصدق فيأتي فيه ما ذكرناه في الفرع السابق.

٥٠٢

ومنها : ما لو لاقى جسم طاهر مع المتنجس ، الذي كان رطبا وشك في بقاء رطوبته إلى حين الملاقاة فقد حكم بعضهم بنجاسة الطاهر ، لاستصحاب بقاء الرطوبة مع ان الموضوع هو سراية النجاسة إلى الطاهر.

وعليه ، فان كان المستصحب بقاء الرطوبة كان ذلك مثبتا ، والواسطة جلية وهو واضح ، وان كان هي الرطوبة المسرية كان مثبتا مع خفاء الواسطة.

ولكن الاظهر عدم ترتب الاثر المذكور على ذلك الاستصحاب والتمسك به إنما يكون من بعض الأصحاب لا جميعهم.

ومنها : استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده في محال الغسل أو المسح الذي عليه بناء الأصحاب مع انه بالنسبة إلى تحقق الغسل أو المسح من المثبت.

وفيه : ان الظاهر عدم كون الأصل المزبور من قبيل الاستصحاب ، بل الظاهر كونه من قبيل أصالة عدم القرينة من الأصول العقلائية ومدركها الغلبة ، هذا على فرض تسليمه ، مع ان للمنع عن جريانه مجالا واسعا وإنما بناء العقلاء على عدم الاعتناء إذا كانوا مطمئنين بالعدم.

ومنها : استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك ، فانه مثبت لكون الغد يوم العيد ، وقد مر الكلام في ذلك في التنبيه الرابع.

ومنها : غير ذلك من الفروع وهي ما بين ما لا يكون الأصل فيه مثبتا ، وبين ما لا نسلم جريانه.

٥٠٣

حكم ما إذا كان الاثر مترتبا بواسطة الأمر الانتزاعي

ثم ان صاحب الكفاية (١) ذكر تنبيهات ثلاثة ، أي :

الثامن ، والتاسع ، والعاشر ، وذكر فيها مطالب جميعها من فروع التنبيه السابق ، وكيف كان فما أفاده في التنبيه الثامن مطالب :

المطلب الاول : جريان الأصل المثبت فيما إذا كان الاثر مترتبا على المستصحب بوساطة عنوان كلى منطبق عليه أو بوساطة عنوان عرضي انتزاعي منطبق على المستصحب.

توضيح ذلك ان المستصحب ، اما ان يكون بنفسه موضوع الاثر أو يكون غيره ، وعلى الثاني ، اما ان يكون لذلك الغير وجود منحاز عنه في الخارج ، كاللازم ، والملزوم ، والمقارن ، واما ان لا يكون له وجود منحاز ، بل يكون عنوانا منطبقا عليه ، والثاني ، قد يكون طبيعيا بالاضافة إلى فرده.

وبعبارة أخرى : يكون عنوانا منتزعا عن مرتبة الذات ، كالانسان بالاضافة إلى زيد ، والخمر بالاضافة إلى مصداقها ، وهكذا وقد يكون عنوانا قائما به ، والثاني اما ان يكون قيامه به قياما انتزاعيا كالفوقية بالاضافة إلى السقف ، واما ان يكون قيامه به قياما ، انضماميا كالابيض بالاضافة إلى الجسم.

لا اشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

٥٠٤

كما لا اشكال في عدم جريانه في القسم الثاني لترتيب آثار ذي الواسطة كما مر.

واما الأقسام الثلاثة الأخيرة فظاهر كلام الشيخ الأعظم (ره) (١) عدم الجريان فيها قال ، ومن هنا يعلم انه لا فرق في الأمر العادى بين كونه متحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلا مفهوما ـ إلى ان قال ـ وبين تغايرهما في الوجود انتهى.

والمحقق الخراساني (٢) اختار الجريان في القسمين منها وهما : الأول ، والثاني ، وعدم الجريان في الاخير ، فتنقيح القول بالبحث في موضعين.

الموضع الأول : فيما إذا كان موضوع الاثر طبيعيا منطبقا على المستصحب انطباق الكلي على فرده.

فقد استدل الشيخ (٣) لما اختاره بتغاير المستصحب مع موضوع الحكم حيث ان الأول جزئي ، والثاني كلي.

وردّه صاحب الكفاية (٤) ، بان وجود الكلي عين وجود فرده ، فلا يكون استصحاب الفرد وترتيب اثر الكلي من قبيل الأصل المثبت.

ويرد عليه ما تقدم مفصلا ، من ان وجود الكلي عين وجود الفرد في عالم

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٠ من (الأمر السادس).

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٣) الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٠.

(٤) كفاية الأصول ص ٤١٦.

٥٠٥

التكوين ، لا في عالم الاعتبار والتشريع فان التعدد في ذلك المقام اوضح من ان يبين.

والحق في الإيراد على الشيخ الأعظم ان الفرد إذا كان متيقنا سابقا ، يكون الكلي أيضاً ، متيقنا فيجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه حكمه.

مع انه إذا كان التكليف ، لا بنحو صرف الوجود ، بل بنحو جميع الوجودات ، حيث ان الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا محالة ، وان كان موضوع الاثر في لسان الدليل هو الكلي ، إلا انه ينحل إلى أحكام عديدة ، وكل فرد يكون موضوعا لحكم خاص ، فيجري فيه الأصل ويترتب عليه ذلك الحكم.

نعم : إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود ، يتعين الجواب الأول.

الموضع الثاني : ما إذا كان الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انتزاعيا.

وقد استدل المحقق الخراساني (١) للجريان وترتب الاثر : بان الأمر الانتزاعي في هذا القسم لا وجود له سوى وجود منشأ الانتزاع الذي هو المعروض لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيب اثره ليس بمثبت ومثل له بالملكية والغصبية ، بدعوى انهما من قبيل خارج المحمول لا بالضميمة.

أقول : يرد على مثاله انه ليس الملكية من قبيل الخارج المحمول فان الملكية من الأمور الاعتبارية المستقلة في الجعل كما تقدم ، فالاولى ان يمثل له بالتقدم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

٥٠٦

والتاخر ونحوهما.

ويرد على دليله ان الاثر ان كان لعنوان التقدم ، فلا ريب في انه غير زيد ، إذ هو المتقدم ، نعم ، من لوازم وجوده تحقق التقدم لا انه عينه ، ولو كان للمتقدم فالمستصحب بنفسه موضوع الاثر لا غيره.

وبما ذكرناه ظهر عدم جريان الاستصحاب في القسم الاخير أيضاً ، وهو ما لو كان الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انضماميا نظير الأبيض بالاضافة إلى الجسم.

الاستصحاب في قيود المأمور به

المطلب الثاني : ما أفاده بقوله وكذا لا تفاوت في الاثر المستصحب أو المترتب عليه بين ان يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض انحاء الوضع أو بمنشإ انتزاعه كبعض انحائه كالجزئية والشرطية والمانعية (١) انتهى.

ملخص القول في المقام ، انه قد تقدم الكلام ، في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية المتقدمة على الجعل كشرائط الوجوب ، والمتأخرة عنه كشرائط الواجب في مبحث الأحكام الوضعية.

إنما الكلام في استصحاب الشرط كالطهارة والمانع ، إذ لا كلام في جريانه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

٥٠٧

فيما هو جزء الموضوع ، ومنشأ الإشكال أمور :

الأول : ان المترتب على الشرط هو الشرطية وهي ليست بمجعولة فلا يجري.

وفيه : ان امر وضع الشرطية ورفعها بيد الشارع وهذا المقدار يكفي في جريانه.

الثاني : انه لا يترتب على جريانه اثر شرعي ، بل المترتب إنما هو اثر عقلي وهو حصول الفراغ وتحقق الامتثال ونحو ذلك.

والجواب عن ذلك ، ان هذا الإشكال نشأ من توهم لزوم كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم شرعي ، مع ان هذا مما لم يدل عليه دليل ، بل الدليل دل على لزوم كونه مما يتعبد به شرعا ، وحيث : ان المتعلق أيضاً صالح لان يتعبد به الشارع بالتحقق أو عدمه ، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز فان المتعبد به تحقق المتعلق.

وعليه فإذا جرى استصحاب الطهارة وحكم الشارع الاقدس بتحققها ، وانضم إليها سائر الاجزاء والشرائط تحقق الامتثال والفراغ.

الثالث : ان مرجع القيد المأخوذ شرطا في ظاهر الخطاب إنما هو إلى دخل التقيد به في المأمور به وهذا التقيد والاضافة امر واقعى لا تعبدي ولا شرعي وعليه فاستصحاب ذات الشرط لترتيب اثر التقيد من الأصول المثبتة.

وفيه : ان الإضافة من الأمور التي موضوعها اعم من الظاهر والواقع فإذا استصحب الشرط وأتى بالمأمور به حصل التقيد قهرا.

وبعبارة أخرى : ليس التقيد من لوازم الوجود الواقعي للشرط بل اعم منه ومن الوجود التعبدى وقد مر في استصحاب الزمان تمام الكلام في ذلك ، فإذا

٥٠٨

استصحب الشرط وانضم إليه بقية الاجزاء والشرائط تحقق ذلك الأمر الحقيقي وجدانا.

المطلب الثالث : قال (١) وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين ان يكون ثبوت الاثر ووجوده أو نفيه وعدمه انتهى.

مراده من ذلك الرد على الشيخ الأعظم (٢) حيث انه في مبحث البراءة التزم بعدم جريان استصحاب عدم الحكم من جهة انه لا يترتب عليه القطع بعدم العقاب ، إلا بضميمة قبح العقاب بلا بيان ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب ، وان أريد به ترتب الحكم بعدم العقاب عليه كان ذلك من قبيل الأصل المثبت ، لأنه من الأحكام العقلية.

نعم ، ان ثبت به الاذن والترخيص ترتب عليه عدم العقاب لكن احد الضدين لا يثبت بنفي الضد الآخر.

وقد مر هناك الجواب عن ذلك وعرفت انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب سوى كون المستصحب أو اثره امر وضعه ورفعه بيد الشارع كان ذلك وجوديا أو عدميا وانه يترتب على عدم التكليف عدم العقاب قطعا فراجع.

ثم لا يخفى ان الشيخ (ره) في مطاوى مباحث الاستصحاب يسلم جريان استصحاب عدم التكليف ، ولذا في جواب من قال انه يقع التعارض دائما بين

__________________

(١) المحقق الآخوند في الكفاية ص ٤١٧.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٧ (وقد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة) عند قوله : «واما لو قلنا باعتباره من باب الاخبار .. الخ».

٥٠٩

استصحاب الوجود واستصحاب العدم ، لم يتعرض الشيخ لذلك ، ولم يجب ان استصحاب العدم في نفسه لا يجري.

ومما ذكرناه ظهر ما في التنبيه التاسع والعاشر في الكفاية (١) : فانه قد مر في أول التنبيه السابع ان الآثار العقلية التي يكون موضوعها اعم من الواقع والظاهر يترتب على الاستصحاب ، كما انه قد مر ان المستصحب لا بد وان يكون ذا اثر في حال الشك وان لم يكن له اثر في حال اليقين.

حول أصالة تأخر الحادث

التنبيه الحادى عشر : لا اشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث شيء ، كما لا اشكال في جريانه فيما إذا كان الشك في الارتفاع.

إنما الكلام في جريانه عند الشك في تقدم حدوثه وتاخره ، أو تقدم ارتفاعه وتاخره مع العلم باصل الحدوث أو الارتفاع في الجملة.

وتنقيح القول في هذا التنبيه بالبحث في مقامين :

الأول : فيما إذا لوحظ الحادث المعلوم تحققه المشكوك تقدمه بالاضافة إلى اجزاء الزمان.

الثاني : فيما إذا لوحظ بالاضافة إلى حادث زماني آخر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٧ ـ ٤١٨.

٥١٠

اما المقام الأول : فالاثر المطلوب ترتبه ، اما ان يكون مترتبا على نفس عدمه في الزمان المشكوك وجوده فيه ، أو يكون مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه.

فان كان من قبيل الأول جرى الاستصحاب فيه أي استصحاب عدم تحققه في الزمان الأول : إذ لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون الشيء مشكوكا فيه في الزمان اللاحق رأسا ، وبين كونه كذلك في جزء منه مع العلم بارتفاعه بعده : لإطلاق الدليل ، فلو علم بموت زيد يوم الجمعة وشك في حدوث الموت فيه أو في يوم الخميس يجري استصحاب عدم الموت وبقاء الحياة في يوم الخميس.

وان كان من قبيل الثاني أي كان الاثر مترتبا على تأخره عنه وحدوثه في الزمان الثاني ، فالاستصحاب لا يصلح لاثباته لان تأخره عن الزمان الأول لازم حدوثه فيه لا انه عينه وقد مر عدم حجية الاستصحاب في مثبتاته.

وقد يقال انه قد اشتهر في الالسن أصالة تأخر الحادث ، فما المراد منها ان لم يثبت بالاستصحاب عنوان التاخر.

قال الشيخ الأعظم (١) انه يمكن ان يكون مرادهم ما لو كان موضوع الاثر نفس المستصحب وجودا كان علم عدمه أو عدما علم وجوده وهو الفرض الأول ، ويمكن ان يوجه كلامهم بانهم ملتزمون بحجية الاستصحاب من باب الظن فيكون حجة في مثبتاته ، ويمكن القول به من باب خفاء الواسطة.

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٦ (الأمر السابع).

٥١١

والمحقق الخراساني (١) وجه كلامهم بطريقين أحدهما من طريق خفاء الواسطة بان يقال ان العدم في الزمان الأول ملغى في نظر العرف ويرون التعبد به تعبدا بنفس التاخر الملازم عقلا لذلك العدم ، ثانيهما من طريق عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان وتاخره عنه عرفا كما لا تفكيك بينهما واقعا.

ويرد على الأول مضافا إلى ما تقدم في مسألة الأصل المثبت ، من عدم حجيته حتى مع خفاء الواسطة وانه لا اثر لخفائها : ان التاخر امر وجودي والعدم في الزمان الأول عدمي والثاني مورد للاستصحاب ، والاول موضوع الاثر فكيف يصح ان يدعى خفاء الواسطة وبه يظهر ما في كلام الشيخ.

ويرد على الثاني مضافا إلى ما تقدم في ذلك المبحث ، من ان جلاء الواسطة كخفائها لا اثر له : ان عدم التفكيك في التنزيل : ان كان من جهة التلازم بينهما عقلا فلا بد من البناء على حجيته مطلقا. وان كان من جهة ما في بعض الاستلزامات من الخصوصية ، كالعلية والمعلولية ، والمتضايفين ، كما تقدم فشيء منهما لا ينطبق على المقام.

اما العلية والمعلولية فلان عدم الحادث في الزمان المتقدم ليس علة لوجوده في الزمان المتأخر فضلا عن كونه علة لعنوان التاخر.

واما التضايف فعنوان التاخر مضايف عنوان التقدم لا عدمه في الزمان المشكوك فيه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٩ (الحادي عشر).

٥١٢

فالاظهر ان شيئا من هذين الطريقين لا يفيد.

ومما ذكرناه في هذه الصورة يظهر عدم جريانه في الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان الاثر مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه : إذ استصحاب العدم في الزمان الأول لاثبات آثار الحدوث في الزمان الثاني من الأصل المثبت الذي لا نقول به.

ودعوى ان الحدوث مركب من جزءين ، وهما الوجود المتأخر ، والعدم السابق ، فإذا أحرز الأول بالوجدان والثاني بالاصل يترتب عليه الاثر وليس من الأصل المثبت.

مندفعة : بان الحدوث المقابل للقدم كذلك ، واما الحدوث المقابل للبقاء فليس كذلك كما لا يخفى.

وقد رتب الشيخ الأعظم (١) على عدم ثبوت الحدوث بالاصل ، انه لو كان الحادث بحيث ينعدم بعد حدوثه وليس له بقاء كما لو علم بحدوث الكرية وانعدامها ، لا يترتب على ذلك أحكام الوجود في الزمان المتأخر.

ثم قال : نعم يترتب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان ما من الزمانين ، كما إذا علمنا ان الماء لم يكن كرا قبل الخميس فعلمنا انه صار كرا بعده وارتفع كريته بعد ذلك فنقول الأصل عدم كريته في يوم الخميس ولا يثبت ، بذلك كريته في يوم الجمعة فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في احد اليومين لاصالة بقاء نجاسته ، نعم لو وقع فيه في كل من اليومين حكم بطهارته من باب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٧.

٥١٣

انغسال الثوب بالماءين المشتبهين انتهى.

وفيه : ان مقتضى القاعدة في الفرض نجاسة الماء والثوب المغسول به ، اما نجاسة الماء فلان استصحاب القلة في يوم الخميس يوجب تنجس الماء لأنه من آثار عدم كرية الماء في يوم الخميس تنجسه بملاقاة الثوب النجس والعلم بحدوث الكرية لا يوجب طهارة الماء على القول بنجاسة الماء المتمم كرا بعد الشك في طهارة الكر الذي لاقاه الثوب النجس ، وليس المقام من قبيل غسل الثوب بالماءين المشتبهين ، ومعه نجاسة الثوب واضحة.

حول مجهولي التاريخ

واما المقام الثاني : وهو ما إذا لوحظ الشيء بالاضافة إلى حادث زماني آخر وشك في تقدم ذاك عليه وتاخره عنه ، كما إذا علم بموت متوارثين وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فالكلام فيه يقع في موضعين :

١ ـ ما إذا كانا مجهولي التاريخ.

٢ ـ ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.

اما الموضع الأول : ففيه صور :

الصورة الاولى : ان يكون موضوع الحكم وجود الشيء عند وجود الآخر على نحو مفاد كان التامة ، وبعبارة أخرى : يكون الموضوع امرا وجوديا خاصا بخصوصية التقدم ، أو التاخر ، أو التقارن ، ويكون هذا الخاص بوجوده المحمولي

٥١٤

موضوعا للاثر.

الصورة الثانية : ان يكون الاثر مترتبا على وجود شيء عند وجود شيء آخر بمفاد كان الناقصة ، أي الخاص بوجوده الرابط وان شئت فقل كون الشيء متقدما مثلا ومتصفا بالتقدم.

الصورة الثالثة : ان يكون الاثر مترتبا على عدم شيء عند وجود شيء آخر بمفاد ليس التامة بان يكون موضوع الاثر العدم المحمولي.

الصورة الرابعة : ان يكون الاثر مترتبا على ثبوت شيء متصف بالعدم عند وجود الآخر بمفاد ليس التامة ، بان يكون موضوع الاثر العدم النعتى.

وتنقيح القول في جريان الاستصحاب في هذه الصور وعدمه يستدعى تقديم مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الموضوع أو المتعلق ، ان كان مركبا من أمور متعددة :

فتارة يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين ، أو جوهر وعرض ثابت ولو في غير ذلك الجوهر.

وأخرى يكون مركبا من العرض ومحله.

وثالثة يكون مركبا من المعروض وعدم العرض.

ففي القسم الأول : يكون الدخيل هو ذوات الاجزاء ، أي كل واحد من تلك الأمور المأخوذة ، وبعبارة أخرى : الوجودات التوأمة بلا دخل لعنوان آخر من قبيل عنوان اجتماعهما في الوجود ، وما شاكل في الموضوع أو المتعلق.

٥١٥

وفي القسم الثاني : لا بدَّ من اخذ الموضوع هو المعروض المتصف ، بذلك العرض ، لا مجرد وجود المعروض والعرض ، لان وجود العرض في نفسه ، وجود في الغير ، وعين وجوده لموضوعه.

فان اخذ العرض في نفسه بما هو شيء ولم يلاحظ كونه في غيره ، ووصفا له خرج عن هذا القسم ، ودخل في القسم الأول ، ولزم ترتب الاثر وان كان العرض موجودا في غير هذا الموضوع ، وهو خلف الفرض.

وان اخذ بما هو في الموضوع ، وعرض فلا محالة يعتبر العرض نعتا.

وفي القسم الثالث : يمكن ان يكون الحكم مترتبا على عدم الوصف بنحو النعتية وبنحو الموجبة المعدولة ويكون العدم رابطيا ، بمعنى اخذ خصوصية فيه ملازمة لعدم العرض ، ويمكن ان يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي ، بل الثاني هو الظاهر من القضايا المتضمنة لاخذ العدم في الموضوع ، فان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه إلا ان عدم العرض ليس كذلك.

المقدمة الثانية : انه إذا ورد عام ، ثم ورد خاص ، وكان عنوان الخاص من قبيل الاوصاف ، كما إذا ورد المرأة تحيض إلى خمسين عاما ، ثم ورد ان القرشية تحيض إلى ستين عاما ، يكون ذلك كاشفا عن تقييد المراد الواقعي ، وعدم جعل الحكم للخاص من أول الأمر واقعا ، ولازم ذلك ان ما ثبت له الحكم واقعا ، هو المقيد ، وملحوظا بنحو التقييد إذ مع عدم الإهمال في الواقع ، وعدم الإطلاق يتعين التقييد.

وتفصيل الكلام في المقدمتين في مبحث العام والخاص ، في مسألة استصحاب العدم الازلي.

٥١٦

إذا عرفت هاتين المقدمتين فاعلم ان الاستصحاب :

في الصورة الأولى يجري لو لا المعارضة وهو واضح.

واما الصورة الثانية : فقد حكم المحقق الخراساني (١) بعدم جريانه فيها مستدلا بعدم اليقين السابق فيه ونظره الشريف إلى ان الموضوع وجد ، اما متصفا بالوصف ، أو بعدمه ، وكما لا يقين سابق بوجوده لا يقين بعدمه.

ووافقه في ذلك المحقق النائيني (ره) (٢) وما يظهر من كلماته في وجه هذه الدعوى : ان العرض وجوده ناعتي لمحله وعدمه كذلك واستصحاب العدم النعتي ، لا يجري لعدم الحالة السابقة له واستصحاب العدم المحمولي يجري ، ولكن لا يثبت به العدم النعتى إلا على القول بالاصل المثبت.

وفيه أولا : ما تقدم في المقدمة الأولى ، من ان الموضوع المركب من المعروض والعرض ، وان كان لازمه دخل الاتصاف فيه ، وكونه ناعتيا ، إلا ان المركب من المعروض ، وعدم العرض ليس كذلك فراجع ما بيناه.

وثانيا : ان المفروض في المقام ترتب الاثر على المعروض مع عرضه ، وفي نفى الحكم يكفي نفى موضوع الاثر ، وهو يتحقق بسلب الربط ، ولو بسلب موضوعه ، فاستصحاب عدم الرابط يجري.

وان شئت قلت ان نقيض الوجود الرابط ، عدم الرابط ، لا العدم الرابط

__________________

(١) كفاية الأصول ٤٢١.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٩٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦ في تتميم بحث دوران الواجب بين الاقل والاكثر.

٥١٧

كي لا يكون له حالة سابقة.

واما الصورة الثالثة : وهي ما لو كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، بنحو مفاد ليس التامة فقد وقع الخلاف في جريان الأصل فيها.

اختار المحقق الخراساني (١) عدم الجريان مستندا إلى عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ولا بد أولا من شرح هذه الكبرى الكلية ثم تطبيقها على المقام ثانيا.

اما الاول : فملخص القول فيه انه :

قد يكون زمان الشك متصلا بزمان اليقين كما لو تيقن بالطهارة ثم شك فيها لا اشكال في جريان الاستصحاب في هذه الصورة.

وقد يكون منفصلا عنه كما لو تيقن بالحدث بعد اليقين بالطهارة ثم شك فيها ، فان اليقين بالطهارة منفصل عن الشك فيها باليقين بالحدث ، وفي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب قطعا ، لظهور الأدلة نحو قوله : " من كان على يقين فشك" في اعتبار الاتصال.

وقد لا يحرز شيء منهما فيكون إجراء الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وهو لا يجوز فعند الشك في الاتصال لا يجري الأصل.

واما الثاني : فتقريب ما أفاده المحقق الخراساني إنما يكون باحد وجوه اربعة :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٠.

٥١٨

احدها : انا نفرض ثلاث ساعات ، الساعة الأولى كان عدم كليهما متيقنا ، الساعة الثانية قطع بوجود أحدهما ، والساعة الثالثة تيقن بوجود الآخر ، ولم يعلم المتقدم منهما والمتأخر.

وعليه فإذا كان الاثر لعدم أحدهما إلى الساعة الثالثة يجري ذلك في نفسه. واما إذا كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، لا يمكن إجراء الاستصحاب إذ لو كان الحادث الآخر حادثا في الساعة الثانية ، يكون شكه متصلا بيقينه ، ولو كان حادثا في الثالثة فقد انفصل زمان الشك في العدم عن اليقين به ، لوجوده في الساعة الثانية ، وحيث لم يحرز ذلك ، فالاتصال مشكوك فيه ، مثلا لو علم في الساعة الأولى بعدم موت المورث ، وعدم اسلام الوارث ، وفي الساعة الثانية تحقق الموت أو الاسلام ، وفي الساعة الثالثة تحقق الآخر ، وشك في تقدم الاسلام على الموت ، وحيث ان الاثر لا يكون مترتبا على عدم الموت إلى الساعة الثالثة ، ولا على الاسلام إليها ، بل على اسلام الوارث قبل الموت ، أو الموت قبل الاسلام ، فاستصحاب كل منهما لا يجري لعدم إحراز الاتصال.

وفيه : انه لو كان مفاد لا تنقض اليقين بالشك النهي عن نقض اليقين بالمشكوك فيه تم ما أفيد.

ولكن حيث ان مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك ، فهو لا يتم.

إذ لا يعقل الشك في الاتصال حينئذ لان اليقين والشك من الصفات الوجدانية ، فاما الاتصال متيقن ، أو الانفصال ، والضابط انه ان كان الشك في بقاء ما هو متيقن قبله ، فلا محالة يكون الشك متصلا باليقين ، وإلا فلا ، وفي المثال المذكور حيث ان عدم الاسلام حين الموت وكذا العكس مشكوك فيه

٥١٩

ومتصل شكه فيه باليقين بمعنى انه لا يقين بالخلاف قبله فيجري الأصل في كل منهما في نفسه.

ثانيها : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) في توجيه كلام المحقق الخراساني ، وهو ان زمان اليقين بعدم كل منهما ، إنما هو الساعة الأولى ، وزمان الشك في كل منهما عند حدوث الآخر ، إنما هو الساعة الثالثة إذ لو لا العلم بحدوث كل منهما لما كان يحصل الشك في عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر ، ففي المثال لو لا العلم بالموت لما كان يشك في عدم الاسلام حينه ، وكذلك العكس ، فزمان الشك في عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر إنما يكون بعد العلم بتحققهما ، وهو في الساعة الثالثة ، فقد انفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وهو الساعة الأولى ، بالساعة الثانية ، فاحتمال وجود كل منهما في الساعة الثانية مانع عن إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

وفيه : انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب تقدم زمان اليقين عن زمان الشك مثلا لو شك في عدالة زيد يوم الجمعة ، ثم علم يوم السبت بعدالته يوم الخميس ، لا اشكال في جريان الاستصحاب ، كما انه لو حصلا معا يجري الأصل.

وعليه فلا وجه لتوهم اعتبار الاتصال بهذا المعنى ، فالشك في عدم كل منهما حين حدوث الآخر وان كان في الساعة الثالثة ، إلا ان متعلقة هو بقاء عدم الموت مثلا إلى زمان الاسلام ، فاحتمال حدوث كل منهما في الساعة الثانية

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٥٧.

٥٢٠