زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

الخمر حراما.

ودعوى اجمال التعليل ـ لان السجدة التي لا يؤتى بها بقصد الجزئية لا تصدق عليها الزيادة في الصلاة كما عن المحقق الهمداني (ره) وغيره. ـ

مندفعة : بأن لسان هذا الحديث لسان الحكومة ، ويدل على ان مطلق وجود السجدة زيادة وان لم يقصد بها الجزئية.

ويمكن ان يستدل له : بالتعليل في خبر الأعمش عن جعفر (ع) في حديث شرايع الدين (وَمَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي السَّفَرِ لَمْ تُجْزِ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ فِي فَرْضِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) (١). وتمام الكلام في الجزء الخامس من فقه الصادق (٢).

واما الجهة الخامسة : فالمستفاد من الروايات ان زيادة الركوع أو السجود سهوا توجب البطلان وزيادة غيرهما من الأجزاء لا توجبه.

وملخص القول فيها ان النصوص الواردة فيها على طوائف :

الطائفة الأولى : ما دل على بطلانها بالزيادة مطلقا ، كقوله (ع) في صحيح ابى بصير المتقدم (مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) (٣).

الطائفة الثانية : ما دل على مبطلية الزيادة السهوية كقوله (ع) إِذَا اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ زَادَ فِي صَلَاتِهِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا وَاسْتَقْبَلَ صَلَاتَهُ اسْتِقْبَالاً إِذَا كَانَ قَدِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٥٠٨ ح ١١٣٠٤.

(٢) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٩ ، الكافي ج ٣ ص ٣٥٥.

١٤١

اسْتَيْقَنَ يَقِيناً) (١).

الطائفة الثالثة : ما يدل على بطلانها بالاخلال سهوا بالاركان أي الركوع والسجود وعدم بطلانها بالاخلال سهوا بغيرها ، كقوله ع (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) (٢). وتوهم اختصاص الحديث بالنقيصة وعدم شمولها للزيادة ـ كما عن المحقق النائيني (ره) (٣).

مندفع بما حققناه في الجزء الخامس من فقه الصادق (٤). ومقتضى الجمع بين هذه الطوائف ما ذكرناه : لان النسبة بين الثالثة والأولى وان كانت عموما من وجه لاختصاص الأولى بالزيادة وشمول الثالثة للنقيصة ، واختصاص الثالثة بالاركان وعموم الأولى لغيرها. إلا ان الثالثة حاكمة على الأولى كحكومتها على أدلة الأجزاء والشرائط والموانع ، لأن الزيادة من الموانع.

واما الطائفة الثانية ، فقد أورد عليها بايرادين :

الايراد الاول : انه ضعيف السند.

وفيه : انه حسن كالصحيح بابراهيم بن هشام بل هو صحيح.

الايراد الثاني : ان الرواية ، في نسخة الكافي هكذا ، (إذا استيقن انه زاد في

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٨. الكافي ج ٣ ص ٣٥٤.

(٢) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠. وفيها خمسة بدل خمس / وفي مستدرك الوسائل وردت من خمس : مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٤٢٩ و ٤٨١.

(٣) نقل ذلك السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٦٩.

(٤) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

١٤٢

المكتوبة ركعة لم يعتد بها ،) وصاحب الكافي اضبط من صاحب التهذيب ، مع ان الثابت في محله انه لو دار الأمر بين الزيادة ، والنقيصة يبنى على وجود الزيادة ، ومع التنزل لا اقل من الاجمال والمتيقن زيادة الركعة.

وفيه : ان في الكافي روايتين :

احداهما : في باب السهو في الركوع (١) ، وهي ما ذكر في الإيراد.

ثانيتهما : في باب السهو في الاربع والخمس (٢) وهي ما ذكره في التهذيب (٣). والثانية ممتازة عن الأولى بسندها ومتنها فهما روايتان. وحيث انهما مثبتتان فلا تنافي بينهما ، فلا تحمل احداهما على الاخرى. والنسبة بينها وبين الثالثة عموم من وجه لاختصاص الثالثة بغير الاركان واختصاص الثانية بالزيادة. إلا ان حديث (لا تعاد الصلاة) (٤) حاكم على جميع أدلة الأجزاء والشرائط والموانع ، فيقدم عليها.

والمسألة طويلة الذيل وقد اشبعنا الكلام فيها في الجزء الخامس من فقه الصادق فليراجع (٥).

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٤٨.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣٥٤.

(٣) تهذيب الأحكام ج ٢ ص ١٩٤.

(٤) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠.

(٥) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

١٤٣

الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به

الأمر الثالث : إذا تعذر بعض ما له الدخل في المأمور به وجودا ، كالجزء والشرط ، أو عدما كالمانع باضطرار ونحوه ، فهل يسقط التكليف عن المقيد ، أم لا؟ وجهان :

وتنقيح القول فيه يقتضي البحث في مقامين : الأول : فيما تقتضيه القاعدة الاولية. الثاني : فيما يقتضيه الأصل الثانوي.

فيما تقتضيه القاعدة الأولية

اما المقام الأول : فما ذكرناه في التنبيه السابق يجري في المقام.

وحاصله انه ان كان لدليل القيد إطلاق يشمل حال التعذر يؤخذ به ويحكم بسقوط الأمر بالمقيد لتعذر القيد ، سواء كان لدليل المقيد إطلاق ، أو لم يكن ، لتقدم إطلاق المقيد على إطلاق المطلق ، وان لم يكن له إطلاق. فإن كان لدليل المقيد إطلاق كما في الطمأنينة بالاضافة إلى الصلاة ، فيؤخذ باطلاقه ويحكم بسقوط القيد وتعلق الأمر بالفاقد منه. وان لم يكن له أيضاً إطلاق فتصل النوبة إلى الأصل العملي وحينئذٍ :

ان كان التعذر في فرد من الطبيعة المأمور بها ، كما إذا تعذر عليه اتيان ٩ الصلاة في أول الوقت مع ذلك القيد. فلا إشكال في انه ليس موردا لحديث

١٤٤

نفي الاضطرار : لعدم تعلق الاضطرار بما تعلق به التكليف ، فإن التكليف متعلق بالطبيعة ، والاضطرار متعلق بالفرد.

واما ان كان التعذر مستوعبا للوقت ، فيجري حديث الرفع عن وجوب المقيد. ولا مورد لتوهم ان حديث الرفع يرفع الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن ، فيجب الإتيان بالباقي. لان الجزئية أو الشرطية أو المانعية منتزعة عن الأمر الضمني المتعلق بالجزء أو التقيد بالشرط أو عدم المانع ، ولا يعقل رفعها بدون رفع منشإ انتزاعها. والامر الضمنى لا ثبوت له استقلالا ، وإنما هو ثابت بتبع ثبوت الأمر بالكل ، فلا بد من رفع الأمر بالمقيد ، ومعه لا دليل على ثبوت الأمر بالفاقد ، وتمام الكلام محرر في ذيل حديث الرفع ، وفي التنبيه السابق.

واما ما في الكفاية (١) في مقام الجواب عن هذا التوهم بقوله ، بداهة انه ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا اثباته انتهى.

فيرد عليه : انه إذا علم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحال ، فإنه لو كان التكليف بنحو صرف الوجود وكان التعذر في بعض المصاديق : كما لو تعذر الصلاة مع القراءة في مقدار من الوقت ، تكون نتيجة جريان الحديث التوسعة والاكتفاء بما يؤتى به في حال التعذر ، وعدم لزوم الاعادة أو القضاء. ووجوب الباقي إنما يكون للعلم الإجمالي بوجوبه.

ولو كان التكليف انحلاليا ، فبما انه إذا تعذر بعض اجزائه لا علمَ بالتكليف ، فتجري البراءة عن اصل التكليف ولا تجري البراءة عن الجزئية

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

١٤٥

والشرطية. نعم لو لم يعلم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحالة فمقتضى أصالة البراءة عن بقية الأجزاء والشرائط عدم وجوب شيء عليه.

ما يقتضيه الأصل الثانوي

واما المقام الثاني : فقد استدلوا لأن الأصل الثانوي يقتضي لزوم الإتيان ببقية الأجزاء والشرائط غير القيد المتعذر بوجوه :

الوجه الاول : الاستصحاب ، وقبل بيان تقريب الاستصحاب لا بد وان يعلم ، ان المحقق الخراساني (١) خصه بصورة طرو التعذر والشيخ الأعظم (٢) والمحقق النائيني (٣) عمّمَاه.

وافاد المحقق النائيني (ره) في وجه التعميم (٤) : ان جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التي يكون أعمالها وظيفة المجتهد لا يتوقف على تنجز التكليف خارجا ، بل يكفي فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع كما في بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير. وحيث ان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز في اثناء الوقت ، فيجري الاستصحاب في المقام لفرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٢.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣١١.

(٤) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣١١ / ذكره أيضا السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٧٤.

١٤٦

لشرائط التكليف.

وفيه : ان المستصحب إذا لم يكن حكما جزئيا ثابتا لموضوع شخصي ، بل كان من الأحكام الكلية إنما يكون على قسمين :

القسم الأول : هو الحكم في مقام الجعل والتشريع الذي لا رافع له إلا النسخ.

القسم الثاني : الحكم الفعلي ، ولا يشك في بقائه إلا عند الشك في سعته وضيقه لأجل الشك في حده كالمثال المفروض.

والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما في عدم الاحتياج في جريان الاستصحاب ، إلى وجود الموضوع خارجا : ان الشك في القسم الأول إنما يكون شكا في بقائه في عمود الزمان ، على ما للموضوع من الحد. وفي القسم الثاني يكون شكا في مقدار المجعول وحده. ومنشا الشك في الأول احتمال النسخ ، وفي الثاني تبدل خصوصية في الموضوع كزوال التغير في المثال.

وفي المقام لو كان العجز من الأول لا يقين بالحكم حتى يستصحب ، فإن اليقين بثبوت الحكم في مقام الجعل موجود ، إلا انه لا شك في بقائه لعدم احتمال النسخ. والحكم في مقام الفعلية غير متيقن ، حتى لو فرض مكلف تعذر عليه الإتيان بتمام المركب من أول الأمر ، وليس من قبيل الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه ، إذ ذلك الماء قبل التغير تكون نجاسته فعلية ، بخلاف المقام.

١٤٧

تقريب التمسك بالاستصحاب

واما تقريب الاستصحاب فيكون من وجوه :

الأول : ان يستصحب الوجوب الجامع بين الغيري والنفسي الثابت للأجزاء غير المتعذر قبل التعذر. لان الوجوب الغيري كان متعلقا بها ويشك في ارتفاع الوجوب فيستصحب.

وفيه. اولا : ما تقدم من ان الأجزاء لا تكون متصفة بالوجوب الغيري.

وثانيا : انه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي كما لا يخفى ولا نقول بجريانه.

الثاني : ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للمركب فيما إذا لم يكن المتعذر من الأجزاء المقومة. بأن يقال : ان المركب الفاقد للجزء المتعذر الذي هو متحد مع الواجد له عرفا ، كان واجبا قبل التعذر فيستصحب بقاؤه.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن هذا متوقف على احراز كون المتعذر غير مقوم للواجب ، وتشخيص ذلك في العناوين المأخوذة في الموضوع كالعدالة والاجتهاد والتغير ، وان كان واضحا بقرينة مناسبة الحكم والموضوع ، ولكن في المخترعات الشرعية لا سبيل لنا إلى معرفة المقوم ، وتمييزه عن غيره.

وعليه فلا يجري الاستصحاب ، إذ غاية ما هناك الشك في كونه مقوما ، أو

__________________

(١) ذكره في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٧٤.

١٤٨

غير مقوم ، فلا يجري الاستصحاب لعدم احراز اتحاد القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها.

وفيه : انه لم يرد دليل من الشارع على كون جزء أو شرط مقوما للمركب ، فالظاهر ايكال ذلك إلى العرف ، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره كنسبة الواحد إلى العشرة ، مثلا كان الاتحاد متحققا فيجري الاستصحاب.

والأولى في الإيراد عليه : ان يقال ان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، إنما يجري إذا لم يكن الشك في بقائه من جهة الشك في ضيق المجعول الشرعي وسعته ، وإلا فلا يجري كما يأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب ، والمقام من قبيل الثاني. مع انه محكوم لاستصحاب بقاء جزئية المتعذر المستلزم لسقوط الأمر بالمركب فتأمل.

الثالث : ان يستصحب الوجوب النفسي المردد بين تعلقه سابقا بالمركب على ان يكون المفقود جزءا له مطلقا ، فيسقط الوجوب بتعذره. وبين تعلقه بالمركب على ان يكون الجزء جزءا اختياريا يبقي التكليف بعد تعذره ، والأصل بقائه ، فيثبت به تعلقه بالمركب على الوجه الثاني.

وفيه : انه من الأصل المثبت الذي لا نقول به نظير استصحاب وجود الكر لاثبات كرية الباقي.

الرابع : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو : ان يستصحب الوجوب الضمني المتعلق بكل واحد من الأجزاء قبل التعذر ، إذ بتعلق الأمر بالمركب قد انبسط

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٦٠.

١٤٩

الأمر على الأجزاء بالاسر ، وبعد ارتفاع تعلقه وانبساطه عن الجزء المتعذر يشك في ارتفاع انبساطه على سائر الأجزاء ، فيستصحب ، بلا مسامحة في الموضوع ، ولا في المستصحب ولا حاجة إلى اخذ الجامع.

وفيه : مضافا إلى ما اوردناه على الوجه الثاني ، ان ثبوت الوجوب الضمني وسقوطه تابعان لثبوت الأمر بالكل وسقوطه.

وعليه فإذا فرض تعذر الجزء فلا محاله يسقط امره ، ولازمه سقوط الأمر بالكل. فتلك الوجوبات الضمنية الثابتة في حال التمكن قد سقطت قطعا ، فلو كانت ثابتة فهي وجوبات ضمنية أخر بتبع الأمر بما عدى المتعذر. فتلك الأفراد منها زالت قطعا ، والأفراد الأخر مشكوك الحدوث واستصحاب الجامع من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

بيان مدرك قاعدة الميسور

الوجه الثاني : مما استدلوا به على وجوب بقية الأجزاء ، غير القيد المتعذر ، قاعدة الميسور ، وقد استدل بها جماعة في موارد مختلفة.

وعمدة المدرك لها الروايات.

الرواية الاولى : النبوي المعروف ، (إذا امرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ،) (١) الذي روى عن امير المؤمنين (ع) وأبي أمامة الباهلى ، وأبي

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ ص ١٠٢.

١٥٠

هريرة في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن وجوبه في كل عام واعراضه عن الجواب حتى كرر السائل سؤاله مرتين أو ثلاث فقال (ص) ويحك وما يؤمنك ان أقول : نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم إلى أن قال فإذا امرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم) وروى في عوائد النراقي (١) والجواهر (٢) عن عوالي اللئالي (٣) مستقلا ، والخبر وان كان ضعيف السند ، لان ما في المجمع وعوالي اللئالي مرسل ، وما رواه العامة راويه أبو هريرة ، إلا ان اشتهار التمسك به بين الاصحاب يوجب جبر ضعفه. هكذا قيل. وستعرف ما فيه.

وتقريب الاستدلال به ، ان لفظة ، من اما تبعيضية ، أو بيانية ، أو بمعنى الباء ، واما سائر معانيها ، من الابتداء ، والتعليل فلا تحتمل ارادتها في المقام ، وحيث لا يمكن كونها بيانية ، لان مدخولها الضمير ، وهو لا يمكن ان يكون بيانا لشيء لكونه مبهما. وكونها بمعنى الباء ، خلاف الظاهر ، فيتعين ان تكون تبعيضية. كما ان كلمة ، (ما) في قوله (ما استطعتم) ظاهرة في كونها موصولة ، لا مصدرية زمانية فتكون مفعولا لقوله فأتوا. فيكون المراد من الجملة ، إذا امرتكم بمركب ذى أجزاء وابعاض فاتوا ما تستطيعونه منه ، لا فأتوا به مدة استطاعتكم.

وأورد على الاستدلال به المحقق الخراساني (٤) بأن ظهور من في التبعيض لا

__________________

(١) عوائد الايام ص ٨٩.

(٢) جواهر الكلام ج ٢ ص ١٦.

(٣) عوالي اللئالي ج ٢ ص ٢٣٥. وج ٤ ص ٥٨.

(٤) كفاية الأصول ص ٣٧٠.

١٥١

ينكر ، إلا ان كونه بحسب الأجزاء غير واضح لاحتمال ان يكون بحسب الأفراد. بل لورودها في مقام الجواب عن السؤال عن تكرار الحج بعد امره به لا محيص عن كونه بهذا اللحاظ.

وفيه : مضافا إلى ما ستعرف ، انه يمكن ان يكون المراد بالشىء أعم من الكل والكلي ، ومجرد كون المورد من قبيل الثاني لا يوجب تخصيص الجواب به ، إذ الميزان في استفادة عموم الحكم ، إنما هو بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد. فمع عموم الجواب في نفسه لاوجه للتخصيص من جهة المورد.

وما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) ـ في مقام دفع هذا الوجه بعدم الجامع بينهما من جهة ان لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء ، ولا يصح استعمال كلمة من ، في الأعم ، من الأجزاء ، والأفراد ، وان صح استعمال الشيء فيه. ـ

غير تام : فإنه لو كان المراد بالشىء الكلي ، كانت كلمة من تبعيضية أيضاً ، ولا ملزم لحملها على غير ذلك. على هذا فإن كل فرد بعض من الطبيعة من جهة تبعض الحصص الموجودة منها في ضمن أفرادها. وبالجملة : كما ان الجزء بعض المركب ، كذلك الفرد بعض الطبيعة.

وما أفاده المحقق العراقي (ره) (٢) ـ من ان القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهو كون المورد الكلي ذى أفراد ، مانع عن التمسك بالإطلاق. ـ

يدفعه : ما حققناه في محله من انه غير مانع عن التمسك بالإطلاق.

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٥٤.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٥٦.

١٥٢

ولكن يرد على الاستدلال به وجوه :

الايراد الاول : انه مروي في سنن النسائي (١) بنحو آخر ، وهو (فإذا امرتكم بالشىء فخذوا به ما استطعتم).

فيكون مفاد الحديث لزوم الإتيان بالمأمور به عند القدرة والاستطاعة ، فحيث انه مروى بطريقين والخاصة كما تمسكوا به ونقلوه بالطريق الأول تمسكوا به ونقلوه بالطريق الثاني ، فهو مجمل لا يصح الاستدلال به. هذا على فرض تسليم تلقى الاصحاب اياه بالقبول ، وهو أيضاً محل نظر.

الايراد الثاني : انه كما ان حمل كلمة من على التبعيض ، وكون ما موصولة ، وإرادة المركب ذى الأجزاء من لفظ الشيء لا ينطبق على مورد الرواية : فإن السؤال فيه عن تكرار الحج وعدمه ، ولزوم الإتيان بالمقدار الميسور من أجزاء المركب المأمور به ، اجنبي عن ذلك.

كذلك حمل كلمة من على التبعيض ، وإرادة الطبيعي ذى أفراد من ذلك اللفظ لا ينطبق على مورد الرواية ، فإنها واردة في مقام بيان عدم وجوب الحج الا مرة واحدة ، وفي هذا المقام لا يناسب مثل هذه الجملة ، مع انها ظاهرة في اعطاء ضابطة كلية غير مختصة بباب الحج فلا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى.

فعلى هذا تكون كلمة (من) اما زائدة ، أو بمعنى الباء. ويكون الضمير مفعولا ل فاتوا ، ولفظة (ما) زمانية ، فيكون المعنى : إذا امرتكم بشيء فاتوه عند

__________________

(١) ورد إذا أمرتكم بشيء. السنن الكبرى ج ٢ ص ٣١٩. وفي مسند أحمد" إذا أمرتكم بالشيء .. ج ٢ ص ٢٥٨. وفي بقية المصادر باختلاف في العبارة.

١٥٣

القدرة والاستطاعة.

وهذا المعنى وان كان خلاف الظاهر ، إلا انه لا مناص عن الالتزام به ، بعد عدم انطباق غيره على مورد الرواية ، وعلى هذا الوجه تدل الرواية على اشتراط التكليف بالقدرة فتكون اجنبية عن المقام.

الايراد الثالث : انه لو سلم كون كلمة (من) للتبعيض واغمض عما ذكرناه ، إلا ان امر الرواية عليه يدور : بين ان تحمل على موارد تعذر المركب مع التمكن من بعض اجزائه ، فيكون الأمر حينئذ مولويا ويستفاد منه الوجوب بعد تعذر المركب. وبين ان تحمل على موارد تعذر بعض أفراد الواجب ، مع التمكن من الآخر ، فيكون الأمر ارشاديا إلى بقاء وجوب ذلك الفرد.

وحيث لا جامع بين الامرين فلا يمكن ان يكون المراد بالشىء الأعم من الكلي والكل ، ولا قرينة على تعين احد الاحتمالين ، لو لم يكن الصدر قرينة على الثاني ، فلا محالة تكون الرواية مجملة لا يصح الاستدلال بها.

الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالمعسور

الرواية الثانية : ما رواه في كتاب عوالي اللئالي (١) على ما روى عنه صاحب العوائد (٢) عن امير المؤمنين (ع) (الميسور لا يسقط بالمعسور).

__________________

(١) عوالي اللئالي ج ١ ص ٢٠. وج ٤ ص ٥٨.

(٢) عوائد الأيام ص ٨٩.

١٥٤

ومحصل القول في هذا العلوي : انه قد استدل به لوجوب بقية الأجزاء إذا تعذر بعضها ، بتقريب ان (لا يسقط) ليس نهيا ابتداء ، ولا نفيا أريد به الإنشاء ، لان متعلق النهي كان مولويا أو ارشاديا ، لا بد وان يكون مقدورا وفعل المكلف ، ومعلوم ان سقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته يكون راجعا إلى الشارع ، ولا معنى لنهى المكلف عنه ، بل لا مناص عن حمل لا يسقط على كونه جملة خبرية محضة ، أريد بها الأخبار عن عدم سقوط الحكم ، وحيث ان الحكم بعدم السقوط والاخبار عنه ، إنما يصح فيما يكون موردا للسقوط أو لتوهمه وانه لا يكون وجه لسقوط الحكم عن فرد ، ولاموهم له بسبب سقوطه عن فرد آخر كي يحكم بعدم سقوطه ، ومجرد الجمع في العبارة لا يوجب ذلك ، فلا مناص عن ارادة الميسور من الأجزاء ، مع انه لو سلم انه يصح الحكم بعدم السقوط في الميسور من الأفراد لاوجه لتخصيص الكلام به ، بل يكون عاما شاملا له وللميسور من الأجزاء وما يمكن ان يورد على هذا التقريب امران.

الأمر الأول : ان بقية أجزاء المركب قبل تعذر المتعذر كانت واجبة ، بوجوبات ضمنية ، وهي قد سقطت بسقوط الأمر بالمركب فلو ثبت بعده ، وجوب ، فهو ثبوت جديد ، وجعل حادث ، ولا معنى للأخبار عن حدوثه بعدم سقوطه إلا بالعناية والمسامحة.

وهذا بخلاف تعذر بعض الأفراد فإن غير المتعذر يكون وجوبه الثابت له قبل التعذر باقيا على ما كان عليه ، فلفظ السقوط ، قرينة على اختصاص الخبر بموارد تعذر بعض الأفراد ، ولا يشمل تعذر بعض أجزاء المركب : لان شموله له يحتاج إلى مسامحة لا يصار إليها إلا بالقرينة.

١٥٥

وافاد الشيخ الأعظم (ره) (١) في دفع هذا الإيراد وجهين :

أحدهما : ان عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه ، ومعنى عدم سقوطه ، عدم سقوطه التشريعي فإنه المناسب لاخبار الشارع.

فالمراد ان الميسور باق على موضوعيته لما كان له من الحكم ، وفي الميسور من الأجزاء وان كان حكمه السابق قد سقط حقيقة ، ولو كان حكم ثابتا له ، فهو حكم آخر إلا ان موضوعيته للحكم مستمرة غير ساقطة ، فإن سقوط حكمه وقيام حكم آخر مقامه يوجب بقائه على صفة الموضوعية.

وعلى ذلك فحيث ان هذا الكلام إنما يقال في مورد ارتباط وجوب الشيء بالمتمكن من ذلك الشيء الآخر كما في الأمر بالكل ، أو توهم ارتباطيته كما في الأمر بما له عموم أفرادي فيعم الخبر كليهما معا.

وفيه : ان تشخص الحكم إنما هو بتشخص موضوعه ، وحيثية موضوعيته لحكم ، غير حيثية موضوعيته لحكم آخر فمع عدم العناية ، لا يصح إطلاق عدم السقوط ، وهي تتوقف على دليل ، ومع عدم القرينة على هذه العناية لا مورد للالتزام به.

وبالجملة حيث ان ظاهر الخبر هو عدم السقوط الحقيقي لا العنائي ، إذ نظر العرف متبع في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على المصاديق ، ومن المعلوم ان المسامحة في المقام إنما هو في التطبيق فلا محالة يختص الخبر بما له أفراد لا ما له أجزاء.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٩٨.

١٥٦

ثانيهما : ان عدم السقوط ان حمل على عدم سقوط الحكم وفي الميسور من الأجزاء يكون الحكم الثابت غير ما كان ثابتا سابقا ، إلا ان العرف لعدم مداقتهم يعبرون عن وجوب باقى الأجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها وعن عدم وجوبها بارتفاعه ، فيصدق على وجوب بقية الأجزاء عدم سقوط وجوبها فلا مانع عن شمول الخبر لكلا الموردين.

ومما ذكرناه في الوجه السابق يظهر الإيراد على هذا الوجه ،

فالمتحصل تمامية هذا الإيراد.

الأمر الثاني : ان المراد من عدم السقوط وثبوت الأمر ان كان خصوص الاستحباب ، أو مطلق الرجحان ، فهو لا يدل على الوجوب. وان أريد به الوجوب لزم خروج الأحكام الاستحبابية عن عموم القاعدة.

وفيه : ان الوجوب والاستحباب ليسا متباينين بل الوجوب إنما هو بحكم العقل وخارج عن المستعمل فيه والصيغة مستعملة مطلقا في معنى واحد ، والفرق بينهما إنما هو في ورود الترخيص في ترك المأمور به وعدمه. وعليه فالخبر يشمل المستحبات وثبوت الترخيص بترك المقدور من اجزائها ، لا ينافي حكم العقل بلزوم الإتيان بالأجزاء المقدورة من الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص فيه ، فالعمدة هو الإيراد الأول.

أضف إليه ان الخبر لم يثبت انجباره بعمل الاصحاب لأنه لم يوجد في كتب من تقدم على صاحب عوالي اللئالي.

١٥٧

الكلام حول حديث ما لا يدرك

الرواية الثالثة : المرسل المحكي عن عوالي اللئالي عن الامام على امير المؤمنين (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (١).

وتقريب الاستدلال به ان لفظ (كل) في الموردين لا يمكن ان يراد منه العموم الاستغراقي ولا المجموعي لعدم صحة الحكم بوجوب اتيان ما لا يتمكن المكلف من مجموعه أو جميعه ، فلا بد وان يراد منه في الأول المجموعي ، وفي الثاني الاستغراقي ، فيكون المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذر المجموع ، وهذا لو سلم شموله للكلى ذى أفراد ، لا شبهة في شموله للكل ذى أجزاء ، إذ العام إذا لوحظ بنحو العموم المجموعي لا يفرق فيه بين كون اجزائه متفقة الحقيقة ، أو مختلفتها فيدل المرسل على لزوم الإتيان بما هو المقدور من أجزاء وقيود المركب الذي له أجزاء تعذر بعضها ، وما هو الميسور من أفراد الواجب ذى أفراد تعذر بعضها.

وما في الكفاية (٢) قال : لا دلالة له إلا على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به واجبا كان أو مستحبا عند تعذر بعض اجزائه لظهور الموصول فيما يعمهما. وليس ظهور لا يترك في الوجوب لو سلم موجبا لتخصيصه بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعم قرينة على ارادة خصوص الكراهة أو مطلق

__________________

(١) عوالي اللئالي ج ٤ ص ٥٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٧٢.

١٥٨

المرجوحية. وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام" انتهى.

يرد عليه اولا : انه لو ثبت رجحان الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب ثبت وجوبه ، لعدم القول بالفصل.

وثانيا : ما تقدم في محله من ان الوجوب ، والحرمة ليسا داخلين تحت دائرة المستعمل فيه ، والهيئة مطلقا تستعمل في معنى واحد ، ولو دل دليل آخر على الترخيص في الترك أو الفعل ، يحكم بالاستحباب أو الكراهة ، وإلا فالعقل يحكم بلزوم الامتثال.

وعليه فالموصول وان كان شاملا للمستحبات ، إلا ان ثبوت الترخيص في ترك الميسور من أجزاء المستحب ، لا ينافي حكم العقل بلزوم الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب مع عدم ثبوت الترخيص في تركها.

وثالثا : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من ان المراد بالموصول ليس هو العموم قطعا لشموله للافعال المباحة بل المحرمة ، فكما يتعين حمله على الأفعال الراجحة بقرينة ، قوله لا (يترك) كذلك يتعين حمله على الواجبات بنفس هذه القرينة الظاهرة في الوجوب.

والحق في الإيراد على الاستدلال بهذا العلوي ، ان يقال : انه مضافا إلى ضعف سنده لما ذكرناه في سابقه : انه لا يمكن ارادة موارد تعذر بعض أجزاء المركب ، وموارد تعذر بعض الأفراد جميعا منه : لان الحكم في الأول مولوي وفي

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٩٩.

١٥٩

الثاني ارشادي ، وحيث لا جامع بينهما ، فلا تكون الرواية شاملة لكلا الموردين ، وحيث لا قرينة على تعيين أحدهما ، فتكون مجملة لا يصح الاستدلال بها.

وظهور الصيغة في المولوية لا يعين الاحتمال الأول ، لان ظهورها ليس وضعيا ليكون قرينة على تعيين المتعلق ، وإنما هو ظهور مقامي ناش من التصدي للجعل ، فلا يصلح قرينة لتعيين المتعلق.

نعم لو علم المتعلق وشك في كونه مولويا تكون ظاهرة في المولوية ، بخلاف ما لو دار المتعلق بين ما لا يصح تعلق الحكم به إلا ارشاديا ، وبين ما لا يصح تعلقه به إلا مولويا فإنه لا ظهور له في تعيين المتعلق.

فتحصل ان شيئا من الروايات الثلاث لا دلالة له ، على لزوم الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب عند تعذر بعضها هذا في غير الصلاة.

واما فيها : فمقتضى الإجماع المحقق وقوله في مرسل يونس فإنها لا تدع الصلاة بحال (١) لزوم الإتيان بالميسور من الأجزاء والشرائط.

ثم انه قد أورد على الاستدلال بالقاعدة لوجوب ما عدا القيد المتعذر وانه يجب الباقي عند تعذر بعض الأجزاء أو الشرائط بايرادين.

الايراد الاول : ما عن المحقق النائيني (٢) وهو انه قد يقع الإشكال في تشخيص الميسور في الموضوعات الشرعية ، لان تشخيص الركن عن غيره

__________________

(١) ورد في الحديث (ولا تدع الصلاة على حال) وسائل الشيعة ج ٢ ص ٣٧٣ ح ٢٣٩٤.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٥٨.

١٦٠