زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

الوجه الثاني : ان الضرر هو النقص في المال أو النفس أو ما يتعلق به مع عدم حصول نفع في مقابله ، واما ما يحصل في مقابله نفع ، فلا يكون ضررا ، ومعلوم ان الأمر بالشيء في حال الضرر ، الثابت بعموم الدليل أو اطلاقه ، يدل على العوض ، فلا يكون ضررا.

واجيب عنه (١) : بان الأمر متعلق بنفس تلك الماهية كالصلاة ولازمه تحقق الأجر في مقابل تلك الماهية ، واما حصول عوض في مقابل الضرر واجر له فلا دليل عليه.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٢) بأنه لو سلم وجود النفع في ماهية الفعل أو في مقدماته ، كان الأمر بذلك الفعل امرا بالتضرر والاجر بازائه.

والحق في الجواب ان الضرر هو النقص الدنيوي غير المتدارك بنفع كذلك ، واما النفع الاخروي فهو الموجب للأمر بالتضرر ولا يكون مخرجا له عن كونه ضررا ، فالاظهر شموله لها.

مع ان المراد بالعوض اما الاجر الاخروي ، أو المصلحة الكامنة في فعل العبادة ، اما الاجر فثبوته تابع للأمر وبعد تقييد إطلاق دليل الأمر بالعبادة بحديث لا ضرر يكون الأمر تابعا ومتوقفا على عدم كون العبادة ضررية ، فلو توقف ذلك على الاجر كان ذلك دورا واضحا ، واما المصلحة فحيث ان الدليل ليس في مقام بيانها بل في مقام بيان الأمر وإنما تستكشف هي من ثبوت

__________________

(١) الفاضل النراقي في عوائد الايام ص ٢١.

(٢) رسائل فقهية ص ١٢٠.

٢٤١

الأمر بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، فثبوت المصلحة إنما يتوقف على ثبوت الأمر ، وهو يتوقف على عدم الضرر ، فلو كان ذلك متوقفا على ثبوت المصلحة لزم الدور ، فالعوض الاخروي ، والمصلحة لا يصلحان لجبر الضرر فتدبر فانه دقيق.

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث

التنبيه الثالث : لا اشكال في شمول الحديث ، لما إذا كان السبب للتضرر ، هو الحكم الشرعي بلا دخل لما هو فعل اختياري للمكلف فيه.

إنما الكلام فيما إذا كان للفعل الاختياري دخل فيه فانه قد اختلفت كلمات القوم في موارده ، ويتوهم التنافي بين فتاوى القوم فيها.

وقد صرح غير واحد في جملة من التكليفيات بان الاقدام على الضرر لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها.

وقالوا انه من اجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل مضرا له ان هذا الاقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر.

وانه إذا صار المكلف باختياره سببا لمرض أو عدو يتضرر به سقط وجوب الصوم والحج.

وانه لو احدث المتوضى مع كون الوضوء ضرريا لا يجب عليه الوضوء.

وايضا صرح غير واحد في الوضعيات وفي غير مورد من التكليفيات بان الاقدام يمنع عن حكومة القاعدة لاحظ :

٢٤٢

مسألة : ما لو اقدم انسان ونصب اللوح المغصوب في سفينته : فانه قالوا انه يجوز لمالك اللوح نزع لوحه وان تضرر مالك السفينة بنزعه بلغ ما بلغ ، وانه يجب على مالك السفينة رد اللوح وان تضرر ، وعللوه بأنه اقدم على الضرر.

ومسألة العلم بالغبن ، فانهم يفتون بثبوت اللزوم ، ويعللون عدم شمول القاعدة له : بأنه اقدم على الضرر.

ومسألة ما لو استأجر شخص أرضا إلى مدة وبنى فيها بناءً أو غرس فيها شجرا ، يبقى بعد انقضاء زمان الاجارة : فانهم قالوا ان لمالك الارض هدم البناء وقلع الشجر وان تضرر به المستاجر.

وكذا لو غرس أو بنى من عليه الخيار في الملك الذي تعلق به حق الخيار ، فانهم أفتوا بأنه لذي الخيار هدمه أو قلعه إذا فسخ العقد الخياري وان تضرر به من عليه الخيار إلى غير ذلك من الفروع.

وكيف كان ففي المقام أقوال (١) :

القول الأول : ما ذهب إليه جمع من متأخري المتأخرين ، وهو ان الاقدام يمنع عن شمول القاعدة مطلقا.

القول الثاني : ما اختاره جماعة ، وهو عدم المانعية كذلك.

القول الثالث : التفصيل بين الاقدام بفعل محرم ، والاقدام بفعل جائز ، وان

__________________

(١) ستأتي الاشارة إلى الاقوال عند مناقشتها.

٢٤٣

الأول مانع عن الشمول دون الثاني.

القول الرابع : التفصيل بين التكليفيات ، والوضعيات ، وهو مانع في خصوص الأولى.

القول الخامس : التفصيل الذي اختاره المحقق النائيني.

وقد استدل للاول : بان الحديث إنما يرفع الحكم الذي يكون سببا للضرر ، وفي الفرض ، السبب هو الاقدام لأنه الجزء الأخير للعلة دون الحكم.

وبان جماعة من الاصحاب افتوا بلزوم الغسل على من اجنب نفسه مع العلم بكون الغسل ضرريا.

وبتسالم الاصحاب على ان خياري العيب ، والغبن ، يسقطان ، في صورة علم المغبون بغبنه ، وما لو علم المشترى بالعيب ، ولاوجه لذلك سوى الإقدام.

وفي كل نظر.

اما الأول : فمضافا إلى كونه أخص من المدعى ، لما سيمر عليك عند بيان ما أفاده المحقق النائيني.

يرد عليه : انه قد عرفت ان المنفي بحديث لا ضرر ، كل ما اوجب الضرر كان هو الحكم أو الموضوع ، فعدم استناد الضرر إلى الحكم مع كون المتعلق أو الموضوع ضرريا ، لا يوجب عدم شمول الحديث.

واما الثاني : فلان من افتى بوجوب الغسل في الفرض إنما استند إلى

٢٤٤

النص الخاص (١) فلا يقاس سائر الموارد به.

واما الثالث : فلأن مدرك ثبوت خياري العيب والغبن ، ليس هو قاعدة لا ضرر ، بل المدرك فيهما ، الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء في معاملاتهم من سلامة المبيع ، وتساوى المالين في المالية مع التبدل في الاشخاص ، والاخبار الخاصة في خيار العيب (٢) واختصاص الوجهين بصورة الجهل واضح.

مع : انه لو سلم كون المدرك هو قاعدة لا ضرر فبما ان القاعدة إنما تنفي الحكم الذي في رفعه منة ، ومع العلم بالغبن ، والعيب لا يكون رفع اللزوم امتنانيا فلا تشمله القاعدة.

واستدل للثالث : وهو ان الاقدام بفعل حرام مانع عن شمول القاعدة.

بخبر عبد العزيز ، عن الإمام الصادق (ع) عمن اخذ أرضا بغير حقها وبنى فيها ، قال : يرفع بنائها وتسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق (٣).

بدعوى ان الجملة الأخيرة كناية عن كل ما وضع بغير حق ، فكل موضوع

__________________

(١) وهو قوله عليه‌السلام (إِنْ أَجْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِنِ احْتَلَمَ تَيَمَّمَ) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٣٧٣ ح ٣٩٠٢ ، الكافي ج ٣ ص ٦٧.

(٢) وهو قوله عليه‌السلام (أَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَرَى شَيْئاً وَبِهِ عَيْبٌ وَعَوَارٌ لَمْ يُتَبَرَّأْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُ فَأَحْدَثَ فِيهِ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ شَيْئاً ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ الْعَوَارِ وَبِذَلِكَ الدَّاءِ إِنَّهُ يُمْضَى عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الدَّاءِ وَالْعَيْبِ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٠ ح ٢٣٠٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٨٨ ، ح ٣٢١٩٤.

٢٤٥

بغير حق وعلى وجه محرم لا احترام له ، فلا تشمله القاعدة لخروج هذا المال عنه تخصصا ، إذ القاعدة تنفي الضرر على المال المحترم.

وبقول الإمام على (ع) في نهج البلاغة : الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها (١).

لكنهما أخصّان من المدَّعى لاختصاصهما بالأموال ، وعدم شمولها لما إذا تضرر الغاصب بغير ما وضع على المغصوب.

واستدل للرابع : بان القاعدة امتنانية ، ولا امتنان في رفع الصحة واللزوم مع العلم بالضرر بخلاف باب التكليفيات ، وقد ظهر ما فيه مما قد مر.

واما القول الخامس : الذي اختاره المحقق النائيني ، فملخصه انه للإقدام صور ثلاث :

الأولى : الإقدام على موضوع يتعقبه حكم ضرري ، كما لو أجنب نفسه مع العلم بان الغسل يضره ، أو شرب دواء يعلم بأنه يصير سببا لمضرية الصوم.

الثانية : ان يكون الإقدام على نفس الضرر ، كالإقدام على البيع الغبني.

الثالثة : ان يكون إقدامه على امر يكون مستلزما لتوجه الحكم الضرري إليه ، سواء كان الحكم قبل الإقدام فعليا ، كما لو غصب لوحا ونصبه في سفينته ، أو لم يكن كذلك ، ولكنه يعلم بتحققه بعد ذلك ، كما لو بنى في الأرض المستأجرة سنة مثلا ، أو غرس فيها شجرا يبقى فيها بعد انقضاء مدة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٧٢.

٢٤٦

الإجارة.

واختار عدم مانعية الاقدام في الصورة الأولى ، وكونه مانعا في الاخيرتين.

وذكر في وجه عدم المانعية في الصورة الأولى ، ان السبب للضرر فيها ، هو الحكم الشرعي ، والاقدام إنما هو من قبيل المعد وفي المرتبة السابقة على الحكم ، ولا يكون واسطة بين الحكم والضرر ، مثلا في المثالين لو لا حكم الشارع بوجوب الغسل ، والصوم لم يكن الشخص متضررا بالاجناب ، وشرب الدواء.

وذكر في وجه المانعية في الصورة الثانية : بان منشأ الضرر إذا كان حكم الشارع يكون منفيا بالحديث ، وان كان فعل المكلف لا يكون حكمه مشمولا له ، ومع العلم بالضرر واقدامه عليه يكون منشأ الضرر فعل المكلف ، فلا يشمله الحديث.

ـ وبعبارة أخرى ـ : ان الحكم في هذه الصورة ليس إلا مقدمة اعدادية والمكلف بنفسه اقدم على الضرر سواء كان العقد لازما أم جائزا ، فالضرر لم ينشأ من لزوم العقد ، بل لا يصح نسبة الضرر إليه ، لان الضرر الذي اقدم عليه في رتبة الموضوع للزوم فلا يعقل ان يكون موضوعا له.

وافاد في وجه المانعية في الصورة الثالثة ، بان اختيار المكلف وإقدامه ليس واقعا في طريق امتثال الحكم حتى ينتهي الضرر بالآخرة إلى الحكم ، بل الضرر مستند إلى اختياره وإقدامه ، مثلا في المثالين ، الضرر إنما ينشأ من إقدام المكلف على البناء ، أو الزرع لا من وجوب رد المغصوب إلى مالكه فارغا ووجوب رد الأرض المستأجرة فارغة مع العلم بانقضاء زمان الاستحقاق قبل كمال الزرع والشجر في نفسه ، هذا ملخص ما أفاده بتوضيح منا.

٢٤٧

ويرد عليه أمور :

الأول : ما تقدم من ان المنفي ليس خصوص الحكم الضرري ، بل لو كان موضوع الحكم ضرريا يرفع حكمه بالحديث.

الثاني : انه في الإقدام على المعاملة الغبنية لو تم ما أفاده فإنما هو بالنسبة إلى الصحة ، واما لزومها فهو يكون منشأً لبقاء الضرر ، إذ لو كانت المعاملة جائزة وتمكن المكلف من التخلص عن الضرر بالفسخ لا يكون الضرر باقيا ، فحكم الشارع باللزوم ضرري يكون مشمولا للحديث.

الثالث : انه في الصورة الثالثة يكون المقدم عليه هو الموضوع لوجوب تخليص الأرض ، الذي هو ضرري ، ومن المعلوم ان وجوب التخليص غير وجوب رد المال إلى صاحبه ، وهو إنما يتوجه بعد الإقدام ، فلإقدام من قبيل المعد لا من قبيل الجزء الأخير للعلة ، فلا بد من الالتزام بشمول الحديث له حتى على مسلكه.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه اظهرية القول الثاني وان الإقدام من حيث هو لا يكون مانعا عن شمول الحديث.

ويمكن ان يستدل له مضافا إلى ما مر بان المنفي في الحديث عنوانان ، الضرر ، والضرار ، وقد مر ان الضرار ، هو التعمد إلى الضرر والقصد إليه ، فيمكن ان يقال ان قوله (ص) لا ضرار باطلاقه يدل على نفي الحكم الضرري مع الاقدام ، فتأمل.

٢٤٨

رد المغصوب مع تضرر الغاصب

ثم انه لا بأس بالتعرض لفرع مناسب للمقام ، وهو انه ذهب جماعة من الاصحاب (١) إلى وجوب رد اللوح المغصوب ، إذا نصبه الغاصب في السفينة ، وان تضرر منه الغاصب.

واستدلوا له بوجوه.

الأول : ما أفاده المحقق النائيني (٢) ، وهو ان الهيئة الحاصلة من نصب اللوح ، لا تكون مملوكة للغاصب ، لأنه لا يكون مالكا لتركيب السفينة مع غصبية اللوح ، فرفعه لا يكون ضرريا ، لان الضرر عبارة عن نقص ما كان واجدا له.

وفيه : انه وان لم يصدق الضرر من هذه الجهة ، إلا انه ربما يوجبه من نواح اخر ، كما إذا حصل من رفع الهيئة النقص في سائر اجزائها ، أو الخلل في محمولاتها ، ومقتضى إطلاق كلمات الأصحاب جواز الرفع حتى في تلك الموارد.

الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم (٣) ، وهو انه كما يكون احداث الغصب حراما ، وان تضرر الغاصب بتركه ، ولا يصح ان يقال ان الغاصب يتضرر

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ص ٥٧.

(٢) في رسالة لا ضرر للمحقق الخونساري (تقريرات النائيني) كما نسبه إليه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٦٢٤.

(٣) رسائل فقهية ص ١٢٣.

٢٤٩

بتركه ، فحرمة الغصب منفية بالحديث ، كذلك يكون إبقائه حراما ، لان دليل حرمة الإبقاء هو دليل حرمة الاحداث ، فلا يصح ان يقال بجواز الإبقاء من جهة تضرر الغاصب بتركه ، فيجب الرد لذلك.

الثالث : خبر عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (ع) يَقُولُ مَنْ أَخَذَ أَرْضاً بِغَيْرِ حَقِّهَا أَوْ بَنَى فِيهَا قَالَ يُرْفَعُ بِنَاؤُهُ وَتُسَلَّمُ التُّرْبَةُ إلى صَاحِبِهَا لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) مَنْ أَخَذَ أَرْضاً بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلى الْمَحْشَرِ (١).

وما عن نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (ع) الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها (٢).

هل الضرر مانع عن صحة العبادة ، أو العلم به مانع

التنبيه الرابع : هل المنفي بقاعدة لا ضرر ، هو الضرر الواقعي وان لم يعلم به ، فلو توضأ باعتقاد عدم الضرر ، أو صام كذلك ، وكان مضرا واقعا لم يصح وضوئه ولا صومه ، أم يكون المنفي هو الضرر المعلوم ، فلو اعتقد عدم تضره بالوضوء فتوضأ ثم انكشف انه تضرر به صح وضوئه ، أم يكون المنفي هو الضرر المعلوم بان يكون العلم جزء الموضوع ، كما هو ظاهر الشيخ الأعظم في

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٩ ص ١٥٧ ح ٢٤٣٦٣. تهذيب الاحكام ج ٦ ص ٢٩٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٧٢.

٢٥٠

الرسالة (١) حيث انه قال بعد كلام له متعلق بالمقام فتحصل ان القاعدة لا تنفي إلا الوجوب الفعلي على التضرر العالم بتضرره ، وجوه واقوال.

اقواها الأول : لان المنفي في الحديث هو الضرر ، والظاهر منه هو الضرر الواقعي كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات ، لان الالفاظ موضوعة للمعانى النفس الامرية ، من غير دخل للعلم فيها ، فالعبرة في رفع الحكم ، كونه ، أو موضوعه ضرريا في الواقع ، وان لم يعلم به المكلف.

وقد استدل الشيخ (٢) لدخل العلم بالضرر في النفي ، بأنه مع اعتقاد عدم الضرر الحكم الواقعي لم يوقع المكلف في الضرر ولذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب واقعا على هذا المتضرر ، كما لو توضأ باعتقاد عدم تضرره لوقع في الضرر فلم يستند تضرره إلى جعل هذا الحكم ، والحديث إنما يرفع الحكم الذي يكون سببا وعلة للضرر ، فالحديث لا يشمله.

وفيه : ان الحديث كما يرفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر كذلك ينفي كل حكم كان موضوعه ضرريا ، ومن الواضح ان الوضوء في الفرض ضرري.

مع انه يرد عليه انه لو سلم كون المرفوع هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، يكون العبرة في الرفع بكون الحكم بنفسه ، أو بامتثاله ضرريا ، ولا ينظر إلى ما في الخارج من الضرر ، وانه من أي سبب تحقق ، ومعلوم ان الحكم المزبور ضرري بامتثاله.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) المصدر السابق.

٢٥١

واضف إليه ان هذا الوجه لو تم لدل على مانعية اعتقاد الضرر عن شمول القاعدة ولا يدل على شرطية العلم بالضرر.

ويظهر من كلمات الشيخ ، وجه آخر لذلك ، قال في الرسالة (١) بعد ذكر الوجه المتقدم ، فنفيه ليس امتنانا على المكلف وتخليصا له من الضرر ، بل لا يثمر إلا تكليفا له بالاعادة بعد العمل والتضرر انتهى.

وحاصله ، ان حديث نفي الضرر لوروده في مقام الامتنان يختص بما في رفعه تسهيل وارفاق ومن المعلوم ان رفع الحكم في الفرض يستلزم التكليف بالاعادة بعد العمل والتضرر فلا يشمله الحديث.

ولكن يرد عليه مضافا إلى انه مختص بما يكون له البدل وما يستلزم الاعادة كما في الوضوء ، فانه لو شمله الحديث وانكشف الضرر لا بد من التيمم وإعادة الصلاة التي صلاها مع ذلك الوضوء ، وكما في الصوم فانه لو صام وانكشف الضرر لا بد من قضائه على فرض شمول الحديث ولا يتم في غيرهما ، وفيهما دل الدليل على ان العبرة باعتقاد الضرر ، فان موضوع جواز الافطار المأخوذ في الأخبار (٢) هو خوف الضرر الشامل للاعتقاد بالاولوية ، كما ان الروايات الخاصة الواردة في موارد خاصة كالمجروح ، والمقروح ، ومن يخاف العطش (٣) ، تدل على كون الموضوع للتيمم هو اعتقاد الضرر أو خوفه.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ١٠ من صفحة ٢١٤ إلى ٢٢٢.

(٣) وردت ضمن مجموعة من الروايات ، راجع المصدر السابق.

٢٥٢

ان هذا الوجه ، كالنصوص المشار إليها لا يدل على ان الضرر الواقعي ليس موضوعا ، بل يدل على تخصيص موضوع الحديث ، كما ان الجمع بين الأخبار المشار إليها ، وحديث لا ضرر ، يقتضي البناء على كون كل من الضرر والعلم به موضوعا مستقلا ، وعليه فلو اعتقد عدم الضرر فتيمم ، ثم تبين وجوده ، صح تيممه على المختار وبطل على المسلك الآخر ، كما انه لو اعتقد عدم ضررية الصوم ، ولم يصم فانه على المختار لم يفعل محرما ولم يترك واجبا وان تجري ، بخلافه على المسلك الآخر.

فالمتحصّل ان القاعدة إنما تنفي الحكم الضرري وحكم الفعل الضرري ، غاية الأمر في بعض الموارد يقيد بان لا يكون معتقدا لعدم الضرر.

هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة

التنبيه الخامس : هل الحكم بنفي الضرر من باب العزيمة ، فلا يجوز الاتيان بما هو ضرري ولو كان عبادة لا تصح ، فلو تحمل الضرر وتوضأ بطل وضوؤه ، أم يكون من باب الرخصة ، فيجوز الاتيان به ، فلو توضأ في الفرض يصح ، وجهان : بل وجوه :

وقد استدل لكونه من باب العزيمة ، بوجوه بعضها يدل على حرمة ذلك الفعل ، وبعضها استشهد به لعدم الأمر به فلو كان عبادة لا تصح ولا يكون الفعل الضرري حراما إلا من باب التشريع ، وبعضها يختص بخصوص الوضوء.

الوجه الأول : ما في الجواهر ، وهو ان الإضرار بالنفس حرام ، فالمأمور به إذا

٢٥٣

كان ضرريا يكون محرما فلا محالة يرتفع امره لامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وقد استدل بذلك لبطلان الوضوء في مفروض المثال.

وأورد عليه بان المحرم هو الضرر المترتب على الوضوء ، فالوضوء محرم بالحرمة المقدمية غير الموجبة للبعد ، فلا مانع من التقرب بالوضوء.

وفيه : ان الحرمة لا بد وان تتعلق بما هو داخل تحت الاختيار وفعل المكلف ، وهو الإضرار لا الضرر ، وإلا ضرار منطبق على الوضوء لا مترتب عليه.

فالصحيح ان يورد عليه بما سيأتي من عدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس فانتظر.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (١) ، وهو انه لا ريب في صحة التيمم في الفرض ، ولا ريب أيضاً في ان التيمم في طول الوضوء : فانه علق على عدم وجدان الماء ، والوضوء معلق على الوجدان ، فلو كان الوضوء أيضاً مشروعا ، يلزم كون ما في طول الشيء في عرضه وكون المكلف واجدا وغير واجد ، في زمان واحد ، وهو محال.

وفيه : ان مشروعية التيمم علقت على عدم وجدان الماء ، أو كون الماء مضرا فمع مشروعيتهما معا ، لا يلزم شيء من المحذورين.

الوجه الثالث : ان حديث لا ضرر ، إنما يوجب تقييد متعلقات الأحكام ،

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٣٦٧.

٢٥٤

ويدل على ان كل حكم ضرري منفي في الإسلام ، فلو كان الفعل الضرري أمرا عباديا ، كالوضوء ، لا يكون مأمورا به ومع عدم الأمر لا محالة لا يصح ، فالوضوء الضرري باطل.

وأورد عليه بإيرادات :

الإيراد الأول : ان دليل حكم ذلك الفعل ، كدليل وجوب الوضوء ، إنما يدل بإطلاقه بالدلالة المطابقية على انه واجب حتى في حال الضرر ، وبالدلالة الالتزامية يدل على انه ذو ملاك في تلك الحال ، وحديث لا ضرر إنما يوجب تقييد ذلك الدليل من الناحية الأولى أي من حيث دلالته على الوجوب ، واما دلالته على كونه واجدا للملاك فلا مقيد له ، إذ لو كان للكلام دلالات وظهورات سقط بعضها عن الحجية لا موجب لسقوط غيره ، فلو أتى بالوضوء بداع الملاك صح.

وفيه : ان التمسك بالإطلاق فرع كون الكلام مسوقا للبيان ، وأدلة الأحكام سيقت لبيان الأحكام ، لا الملاكات غاية الأمر بالبرهان العقلي يستكشف من وجود الحكم وجود الملاك ، فإذا قيد الحكم لا كاشف عن وجود الملاك أيضاً.

الإيراد الثاني : ان حديث لا ضرر إنما ينفي اللزوم لا الجواز ـ وان شئت قلت ـ انه بناءً على كون الاختلاف بين الوجوب والاستحباب من ناحية الترخيص في الترك وعدمه ، دليل نفي الضرر يرفع الوجوب ، ويقتضى الترخيص ، كما انه بناءً على كون الوجوب مركبا من طلب الفعل مع المنع من الترك الحديث إنما يرفع القيد الثاني ، فالوضوء حينئذ مطلوب ويصح لذلك.

٢٥٥

وفيه : ان الوجوب كما حقق في محله ليس مركبا بل هو بسيط ، كما انه قد تقدم ان الحديث لا يثبت الحكم فانه ناف لا مثبت ، وأيضا هو ينفي الحكم الشرعي دون الأحكام العقلية ، ـ وعليه ـ فلا معنى لنفي اللزوم وبقاء الجواز بمعنى نفي احد الضدين وبقاء الآخر ، أو نفي الحكم العقلي.

الإيراد الثالث : وهو يختص بالمستحب ، وما هو من قبيل الوضوء ، وهو ان حديث لا ضرر ، بما انه وارد في مقام الامتنان ، فلا يصلح ان يكون رافعا للاستحباب إذ لا كلفة في وضعه كي يرفعه ، وإنما يرفع التكاليف اللزومية.

وعليه فبما ان الوضوء مع قطع النظر عن وجوبه الغيري ، مستحب نفسي على الأظهر ، ومستحب غيري على المسلك المشهور بين الأصحاب ، من ان المطلوب النفسي هو الكون على الطهارة الحاصل من الوضوء ، فالأمر اللزومي المتعلق به وان كان منفيا بالحديث ، إلا ان امره الاستحبابى يكون باقيا ، فيصح الوضوء الذي أتى به بداعي ذلك الأمر النفسي.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، ان حديث نفي الضرر ، بالنسبة إلى الواجبات من قبيل العزيمة ، لا بمعنى الحرمة بل بمعنى عدم الأمر بالفعل الضرري ، وحيث لا يشمل المستحبات ، فالمستحبات الضررية ، وما يكون فيه ملاكان ، للوجوب ، والاستحباب ، كالوضوء ، يكون امر الاستحبابي باقيا ، فيصح الاتيان به بداعي ذلك الأمر لو كان عبادة ، فلو تحمل الضرر وتوضأ يصح وضوؤه.

٢٥٦

هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟

التنبيه السادس : بعد ما لا اشكال في انه يشمل الحديث الأحكام الوجودية وينفيها ، وقع الكلام في انه ، هل يشمل عدم الحكم لو كان ضرريا ، أم لا يشمله؟ ، وفيه وجهان بل قولان.

أظهرهما الثاني : فان ظاهر الحديث هو نفي ما يوجب الضرر ، ومن الواضح ان النفي لا يرد على العدم ، بل لا بد وان يكون مورده وجوديا.

وإلى ذلك نظر المحقق النائيني (١) (ره) حيث قال ان حديث نفي الضرر ناظر إلى الأحكام المجعولة في الشريعة وعدم الحكم بشيء وان كان تحت قدرة الحاكم إلا انه ليس حكما مجعولا فلا يشمله الحديث.

فلا يرد عليه ما أفاده بعض المحققين (٢) من ان عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم لا سيما مع ورود قوله (ع) (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (٣) فانه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف.

فان العدم حتى مع التصريح به ليس شيئا قابلا لورود النفي والعدم عليه ، مع ان المنفي كما مر ، اما هو الحكم الموجب للضرر ، أو الأعم منه ومن الحكم

__________________

(١) حسبما نقله الأستاذ السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٥٢٨.

(٢) الأستاذ الأعظم السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٥٢٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٦٣ ح ٣٣٤٩٦.

٢٥٧

الذي يكون متعلقه ضرريا ، وعلى التقديرين لا يشمل عدم الحكم ، فان العدم لا يكون سببا ومؤثرا ، في امر وجودي وهو الضرر في المقام ، ولا شيء كي يكون له موضوع أو متعلق ، وقد استدل للاول بوجوه.

الأول : ما عن الشيخ الأعظم (١) وتبعه غيره ، وحاصله ان المنفي إنما هو كل ما يكون من الإسلام ، ويعامل عليه في الشريعة وجوديا كان أو عدميا ، فكما انه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضررية ، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر.

ويرد عليه ان هذا الوجه إنما يصلح وجها لبيان إمكان ذلك ، ولا يصلح وجها لبيان شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم ، إذ الظاهر تعلق النفي بما هو مجعول ، ولا يكون العدم شيئا ، قابلا لان يكون متعلقا للنفي إلا بالعناية وان شئت قلت ، ان عدم العدم ونفيه لا يكون مجعولا ، إلا بعناية جعل الوجود.

الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) أيضاً ، وهو ان الأحكام العدمية تستلزم احكاما وجودية ، فان عدم ضمان ما يفوته من المنافع يستلزم حرمة مطالبته ومقاصته والتعرض له ، وجواز دفعه عند التعرض له.

وفيه : ان الحديث إنما يرفع ما هو ضرري ، واما ما هو ملازم لامر يكون ذلك ضرريا ، فالحديث لا يكون متكفلا لنفيه.

الثالث : ان العدم وان لم يستند بحسب بدوه ومفهومه إلى الشارع إلا انه

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) رسائل فقهية ص ١١٩.

٢٥٨

بحسب البقاء مستند إلى الشارع : لأنه بقاء قابل لان يناله يد الجعل بان يرفعه الشارع أو يبقيه ، ولذا تجري الاستصحابات العدمية ـ وعليه ـ فالعدم بقاء مستند إلى الشارع وإذا كان مستندا إليه وكان ضرريا يشمله حديث لا ضرر.

وفيه : ان كون العدم بقاء بيد الشارع ، غير كونه مستندا إليه بالفعل ، والذي لا بد منه في شمول الحديث هو الثاني.

فالاظهر عدم شمول الحديث للعدميات.

فرعان

وقد رتبوا على شمول الحديث للعدميات امورا.

منها : انه لو حبس احد حرا ، حتى فات عمله ، أو حبس حتى ابق عبده : فان حكم الشارع بعدم ضمان الحابس ضرري على المحبوس ، فينتفي ويثبت الضمان.

وفيه : ان ترخيص الحابس ، وان كان ضرريا مرفوعا بالحديث ويثبت به حرمته ، بناءً على ما سيأتي من دلالة الحديث على حرمة الإضرار بالغير إلا انه لو عصى الحابس وحبسه وتضرر المحبوس ، لا يدل الحديث على الضمان : لما مر من انه لا يشمل العدميات ، وعرفت أيضاً ان الإضرار ليس من موجبات الضمان.

نعم لو كان مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك ، كان دالا على الضمان فانه يتدارك به الضرر المتوجه إلى المحبوس ، لكنك عرفت فساد المبنى.

٢٥٩

ومنها : انه لو امتنع الزوج عن نفقة زوجته ـ قالوا ـ انه بناءً على شمول الحديث للعدميات يكون عدم جواز طلاقها بغير اذن الزوج ضرريا يشمله الحديث فيحكم بجواز ان يطلقها الحاكم ، أو غيره بإذنه.

وقد تمسك الفقيه الطباطبائي في ملحقات عروته (١) ، بقاعدة نفي الضرر ، لجواز طلاق الحاكم الشرعي كل امرأة تتضرر ببقائها على الزوجية.

أقول : ان المسألة وردت فيها نصوص خاصة (٢) فلا يبقى مورد للنزاع فيما يقتضيه قاعدة نفي الضرر.

مع انه على فرض شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم ، يمكن ان يقال ان زوال سلطنة الزوج ضرر عليه ، فهو أيضاً مشمول للحديث ، ولا مرجح لأحد الضررين على الآخر.

أضف إلى ذلك ان امتناع الزوج عن الإنفاق ضرري ، واما نفس الزوجية ، وكون امر الطلاق بيد الزوج ، فهما ليسا ضرريين.

نعم الحكم بجواز الطلاق ، يوجب تدارك الضرر الناشئ من عدم الإنفاق ، ولو كان المنفي هو الضرر غير المتدارك دل الحديث على جوازه ، ولكن قد مر ان الحديث لا يختص به ولا يدل على لزوم التدارك.

وبما ذكرناه يظهر ما في سائر ما رتبوا عليه.

__________________

(١) السيد اليزدي في تكملة العروة الوثقى ج ١ ص ٧٥.

(٢) كالمروي عن الباقر (ع) مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فَلَمْ يَكْسُهَا مَا يُوَارِي عَوْرَتَهَا وَيُطْعِمْهَا مَا يُقِيمُ صُلْبَهَا كَانَ حَقّاً عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وسائل الشيعة ج ٢١ ص ٥٠٩.

٢٦٠