زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

حدث الفرد الطويل ، أولا يكون الكلي باقيا.

ولكن يرده ان عدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الإجمالي إنما يكون فيما إذا لزم من جريانهما مخالفة عملية ، وفي المقام حيث لا يلزم ذلك كما لا يخفى فيجريان معا.

الثاني : ان ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلي إنما هو في الموضوعات.

واما في الأحكام كما لو علم باستحباب الدعاء عند رؤية الهلال أو وجوبه ، ثم وقعت المزاحمة بينه وبين مطلوب آخر ، لو كان الدعاء واجبا يقدم عليه ، ولو كان مستحبا يكون هو مقدما : فانه بعد المزاحمة يشك في ان الحادث هو الفرد الزائل أو الباقي ، وبالتبع يشك في بقاء الطلب الجامع بينهما ، فالظاهر عدم جريانه : فانه في الموضوعات قلنا ان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يصلح رافعا للشك في بقاء الكلي كما مر.

واما في الأحكام فحيث ان جعل الجامع إنما يكون بجعل فرده وهو الوجوب أو الاستحباب ، فلو علم بعدم وجود الاستحباب واستصحب عدم وجود الوجوب لا شك في عدم بقاء الطلب الجامع ، وهو واضح ، نعم إذا تعارض الأصل الجاري فيه مع الجاري في الآخر وتساقطا يجري استصحاب الجامع ، ولكن الظاهر عدم جريان الأصل في الطرف الآخر في شيء من الموارد لعدم الاثر كما لا يخفى.

الثالث : ان استصحاب الكلي إنما يجري إذا لم يثبت بالاصل ان الحادث هو القصير كما لو علم بخروج رطوبة مرددة بين البول والمني بعد الاستبراء ،

٤٤١

وكان خروجها قبل ان يتوضأ : فانه في هذه الصورة يجري استصحاب بقاء الحدث الاصغر ، وعدم حدوث الحدث الاكبر ، ويترتب عليهما ارتفاع الحدث بالوضوء ، واستصحاب الحدث الجامع بينهما ، لا يجري لما تقدم في التنبيه الثاني من ان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل في الأحكام. ومنها : الحدث ، يترتب عليه ارتفاع الكلي.

وبعبارة أخرى : ان كل مكلف ، بمقتضى الآية الشريفة (إذا قمتم إلى الصلاة الخ) يجب عليه الوضوء للصلاة ، خرج عنها المحدث بالحدث الاكبر ، فإذا جرى استصحاب عدم كونه محدثا بالحدث الاكبر ، يدخل تحت العام المزبور.

القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم السادس : وهو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

وصورته : ما لو علم بحدوث فرد وارتفاعه ، إلا انه يحتمل ان يكون فرد آخر حادثا مقارنا لحدوث هذا الفرد أو مقارنا لارتفاعه ، فيكون الكلي باقيا ، وهذا يتصور على وجوه : إذ الفرد المحتمل ثبوته وبقائه :

تارة يكون من مراتب ما علم تحققه كالسواد الضعيف المحتمل قيامه مقام السواد الشديد.

وأخرى يكون مبائنا معه ، والثاني على وجهين : إذ الفرد المحتمل المباين :

١ ـ قد يحتمل وجوده مع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه.

٤٤٢

٢ ـ وقد يحتمل وجوده مقارنا لارتفاعه.

اما الوجه الأول : كما لو علم بالسواد الشديد وارتفاعه واحتمال بقاء السواد الضعيف ، فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيه ، لان الشدة ، والضعف من مراتب وجود شيء واحد ، بل يستصحب بقاء ذلك الوجود الشخصي ويقال انه كان موجودا قطعا يشك في بقائه فيستصحب.

وقد يتوهم انه من هذا القبيل الوجوب والاستحباب بتخيل ان الاستحباب من مراتب وجود الطلب الموجود ، مع الوجوب ، وعليه فلو علم بوجوب شيء وارتفاعه واحتمل استحبابه يجري استصحاب بقاء الطلب.

وأجاب المحقق الخراساني (١) عن ذلك ، بان الوجوب والاستحباب بحسب الدقة ، وان كانا كذلك أي هما مرتبتان من وجود واحد ، إلا انهما عند العرف متباينان فلا يجري فيهما الاستصحاب.

ويتوجه عليه : ان الارادة والحب وان كانا كذلك ، فإن من كان يحب شيئا شديدا مثلا ثم نقصت محبته وصارت ضعيفة ، لا يقال انه قد زالت المحبة ، وحدث فرد آخر بل يقال انه نقصت محبته ، إلا انه لا يجري الاستصحاب فيهما لعدم كونهما من الأحكام ، ولا من قبيل الموضوع ذي الحكم.

واما الحكم أي إنشاء الوجوب والاستحباب ، فهما متغايران عرفا وبالدقة العقلية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٧ (فإنه يقال).

٤٤٣

فتحصل ان ما يكون واحدا بالدقة واحد عرفا ، إلا انه لا يجري فيه الأصل لعدم الاثر ، وما لا يكون واحدا عرفا لا يكون كذلك بالدقة.

واما الوجه الثاني : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) جريان الاستصحاب فيه نظرا إلى ان العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج واسطة في ثبوت العلم بوجود الكلي خارجا ، وملازم معه ، وبديهي ان نسبة وجود الكلي إلى أفراده على حد سواء ، فبارتفاع الفرد الخاص ، حيث انه يحتمل مقارنته مع فرد آخر ، يشك في بقاء الكلي فيجري فيه الاستصحاب لعدم اختلال شيء من ركني الاستصحاب ، من اليقين السابق والشك اللاحق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بان نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الابناء لا نسبة أب واحد إلى الابناء فالموجود في ضمن الأفراد هو الحصص دون الكلي الطبيعي ، وعليه ، فما علم وجوده بوجود الفرد هو حصة خاصة ، وهي متيقنة الارتفاع ، والمشكوك بقائه حصة أخرى وهي مشكوكة الحدوث.

وفيه : ان الحق وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، وان نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الاب الواحد إلى الابناء كما اعترف هو (قدِّس سره) (٣) في غير موضع

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٠ ـ ٦٤١.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٢٥ بتصرف.

(٣) اعتبر المحقق النائيني ان الكلي الطبيعي له وجود خارجي عند العرف وهذا ما يستفاد من كلامه في عدّة موارد منها قوله : «ثم ان استصحاب الكلي على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج كما هو المختار عندنا على ما بيناه في بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الافراد في غاية الوضوح» إلى ان قال في رد اشكال : «إذ معروض التشخيصات

٤٤٤

بذلك.

ولكن مع ذلك لا يجري الاستصحاب في هذا القسم ، وذلك لان متعلق الشك ليس ، هو الطبيعي من حيث هو بل من حيث وجوده ، ولا اشكال في ان وجودات الطبيعة متباينة ، فإن وجود زيد مثلا غير وجود عمرو حتى من الجهة المضافة إلى الإنسان ، وليس مجموع الوجودات وجودا واحدا شخصيا ، فما هو المتيقن من الوجودات ، مرتفع قطعا ، وما هو مشكوك البقاء ، مشكوك الحدوث.

مع ان الالتزام بجريان الاستصحاب في هذا القسم مستلزم لتأسيس فقه جديد ، فان من علم بنجاسة يده اليمنى واحتمل اصابة النجاسة أيضاً بيده اليسرى ثم غسل يده اليمنى ، لا بدَّ من البناء على استصحاب بقاء نجاسة بدنه فلا يجوز له الدخول في الصلاة ، وكذا في باب الدين لو علم بانه مديون لزيد

__________________

الخارجية والوجود هو نفس الطبيعة الكلية وهي ما لم تتشخص لم توجد كما انها ما لم توجد لم تتشخص وعنوان الحصة انما ينتزع بعد التشخص والتقيد الّذي هو في مرتبة الوجود والفرق بين الطبيعة والحصة انما هو لحاظ الشيء بما هو موجود أو بما هو معروض الوجود وإلا فلا معنى لكون الموجود هي الحصة دون الطبيعة فظهر ان جريان الاستصحاب في الكلي في الجملة مما لا ينبغي الارتياب فيه» ثم قال : «والنزاع في وجود الكلي الطبيعي وعدمه عقلي فلو فرضنا عدم وجود الكلي الطبيعي في الخارج بالنظر الدّقيق العقلي لكنه موجود فيه بالنظر المسامحي العرفي المصحح لصدق نقض اليقين بالشك عرفا وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب قطعا» راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩١ من (التنبيه الثالث) وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٨٨ ـ ٨٩.

٤٤٥

دينارين ولكن يحتمل ان يكون دينه اكثر فإذا ادى دينارين يجري استصحاب بقاء الدَّين.

وكذا في باب الارث فلو كان لشخص ولد ومات قبل ابيه ثم مات ابوه ويحتمل ان يكون له ابن آخر في بلد آخر فانه على هذا يجري استصحاب بقاء الابن له ولا ترثه الطبقة الثانية وهكذا في سائر الأبواب.

وقد استدل صاحب الدرر (ره) (١) على جريانه في القسم الثالث مطلقا ، بأنه لو جعلت الطبيعة بنحو صرف الوجود موضوعا للحكم لا يرتفع هذا المعنى إلا بانعدام تمام الأفراد في زمان من الأزمنة ، لأنه في مقابل العدم المطلق ، ولا يصدق هذا العدم إلا بعد انعدام جميع الوجودات ، وعليه فلو شك في حدوث فرد آخر اما مقارنا لحدوث الفرد المعلوم ، أو مقارنا لارتفاعه ، فيجري استصحاب الجامع بلحاظ صرف الوجود ، إذ على فرض تحقق ذلك الفرد ، يكون الكلي بهذه الملاحظة باقيا لا حادثا فالشك فيه شك في البقاء.

وفيه : ان صرف الوجود من حيث هو بلا اضافة إلى ماهية من الماهيات ينحصر مصداقه في واجب الوجود ، وصرف وجود طبيعي من الطبيعيات ، ان كان لوجوده تحقق سوى تحقق أفراده وكان معلولا له كان ما ذكره تاما ، ولكن بما ان وجوده بعين وجودها ، فيعود المحذور الذي ذكرناه.

وللفاضل التوني (٢) في المقام كلام ، وحاصله : ان بناء المشهور على إجراء

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١٧٥.

(٢) الوافية في الأصول ص ٢١٠.

٤٤٦

أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ، ويثبتون بها نجاسة الحيوان ، وحرمة لحمه ، مع ان هذا الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الكلي : وذلك لأنه لا ريب في ان موضوع الحكم ليس مطلق عدم التذكية ، إذ هو مقارن للحياة ، ولا يترتب عليه الحكمان ، بل الموضوع ، عدم التذكية في حال خروج الروح ، وعدم التذكية في تلك الحالة ليس له حالة سابقة : لان خروج الروح ، اما ان يكون عن تذكية ، واما ان لا يكون فلم يتحقق في الخارج زمان كان فيه زهوق الروح ، ولم يكن معه التذكية ، وما له حالة سابقة إنما هو عدم التذكية في حال الحياة المرتفع بزهوق الروح قطعا ، لتقومه بحياة الحيوان ، واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلي ، إنما يكون من قبيل استصحاب بقاء الضاحك الذي في ضمن زيد بعد القطع بخروجه ، لاحتمال دخول عمرو في الدار بعد خروج زيد ، وعليه فلا يجري هذا الأصل.

وفيه : ان عدم التذكية لا يتبدل ، فان تبدل العدم إنما يكون بالوجود ، وهو غير ثابت ، والمتبدل إنما هو مقارناته ، غاية الأمر هو بنفسه ليس موضوع الحكم ، بل هو مع زهوق الروح ، فانه إذا كان احد القيدين محرزا بالوجدان ، والآخر جرى فيه الأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع ويترتب عليه الحكم ، فهذا ليس من استصحاب الكلي فضلا عن كونه من قبيل القسم الثالث منه.

القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم السابع : وهو الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

وصورته : انه لو علم بوجود فرد تفصيلا ، وعلم بارتفاع ذلك الفرد ، ثم

٤٤٧

علم اجمالا بوجود فرد يحتمل انطباقه على متيقن الحدوث ، والارتفاع ، ويحتمل ان يكون غيره فيكون باقيا ، نظير ما إذا علم بوجود زيد في الدار ثم سمع صوتا من الدار يحتمل ان يكون هو من زيد ، ويحتمل ان يكون من غيره وعلم بخروج زيد ، ومثاله الفقهي ما لو رأى في ثوبه منيا وعلم انه منه ، ولكن لم يعلم انه من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة أخرى لم يغتسل منها.

وفي المثال أقوال : الأول : عدم وجوب الغسل عليه ، الثاني : وجوبه ، الثالث : ما اختاره المحقق الهمداني (ره) (١) ، ولعله الظاهر من كلمات صاحب الجواهر (ره) (٢) ، وهو التفصيل بين ما لو علم بكونه من غير الجنابة التي اغتسل منها لكن شك في حدوثه قبل الغسل أو بعده ، وبين ما لو احتمل كونه من الجنابة التي اغتسل منها فاختار وجوب الغسل في الأول ، دون الثاني.

وقد استدل للاخير : بأنه في الصورة الأولى يعارض استصحاب الطهارة المتيقنة الحاصلة بالغسل ، استصحاب الحدث المتيقن عند خروج المنى الموجود في الثوب فيتساقطان ، ويرجع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بوجوب تحصيل القطع بالطهارة للصلاة ، وفي الصورة الثانية بما ان الرؤية لا توجب العلم بثبوت تكليف وراء ما علم سقوطه ، فلا محالة يكون الشك في التكليف فيها موردا للبراءة.

__________________

(١) فوائد الرضوية للآغا رضا الهمداني ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧ ، الناشر مكتبة جعفري التبريزي ، طهران (١٣٧٧ ه‍. ق)

(٢) راجع جواهر الكلام ج ٣ ص ١٦ ـ ١٧ فقد يظهر لك ذلك.

٤٤٨

وفيه : انه في الصورة الأولى بما انه يحتمل تعاقب الجنابتين وعلى فرضه لا توجب الجنابة الثانية تكليفا آخر ، بل يكون وجودها كعدمها فتكون بعينها الصورة الثانية من هذه الجهة فلا بد من الالتزام بجريان البراءة فيها أيضاً ، ولعله يكون مدرك القول بعدم الوجوب مطلقا وستعرف ضعفه.

وتحقيق القول فيه ان استصحاب الحدث المتيقن وجوده حين خروج المنى الموجود في الثوب الذي هو القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي يجري في نفسه وقد استدل لعدم جريانه بوجوه :

الأول : عدم اتصال زمان الشك باليقين ، إذ لو رجعنا القهقرى من زمان الشك إلى زمان العلم بالطهارة للاغتسال لم نعثر على زمان يعلم بوجود المشكوك فيه ، مع ان المعتبر في جريانه اتصال زمان الشك باليقين لقوله" من كان على يقين فشك".

وفيه : ان هذا المعنى من الاتصال غير معتبر في الاستصحاب ، بل المعتبر فيه اليقين السابق والشك اللاحق وعدم توسط اليقين بالخلاف ، وفي المقام الحدث معلوم سابقا ومشكوك فيه لاحقا ، وليس بينهما العلم بالطهارة وسيجيء في التنبيهات الآتية توضيح ذلك.

الثاني : انه من جهة احتمال كون المنى الموجود في الثوب من الجنابة التي اغتسل منها قطعا ، وبعبارة أخرى قبل الغسل.

يحتمل ان يكون من نقض اليقين باليقين فلا يجري الاستصحاب.

وفيه : ان اليقين والشك من الحالات النفسانية الوجدانية ، فلا يعقل ان لا

٤٤٩

يعلم انه متيقن أو شاك ، فالجنابة المعلومة بما انه يحتمل كون زمانها قبل الغسل ، يكون بقائها مشكوكا فيه ولا يحتمل انتقاض العلم بها باليقين بالاغتسال.

الثالث : ان الشك في بقاء الجنابة مسبب عن الشك في حدوث فرد آخر غير ما ارتفع ، فيجري استصحاب عدم الحدوث ويترتب عليه عدم بقائها.

وفيه : ان استصحاب عدم حدوث فرد آخر لا يثبت كون الحادث ، والثابت هو الفرد الأول حتى يكون مرتفعا ، بل احتمال كون الثابت غير الفرد الأول موجود ، فيكون الشك في الجنابة الفعلية موردا للاستصحاب.

الرابع : انه لاحتمال كون المنى الذي وجده هو المنى الذي اوجب الجنابة يكون تاريخ الجنابة مجهولا فلا يجري فيها الاستصحاب.

وفيه : ما سيأتي من ضعف المبنى ، وانه يجري الاستصحاب في مجهول التاريخ.

فتحصل ان الاظهر جريان القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

ولكن يعارضه استصحاب عدم حدوث فرد آخر غير ما حدث قطعا ففي مثال الجنابة في المثال ، يعارض استصحاب بقاء الجنابة استصحاب عدم حدوث فرد آخر من الجنابة غير ما علم ارتفاعه.

وان شئت فعبر عنه باستصحاب الطهارة المتيقنة الحاصلة بالغسل ، فيتساقطان ، فيرجع إلى قاعدة الاشتغال الموجبة لتجديد الغسل ، والجمع بينه وبين الوضوء لو صار محدثا بالحدث الاصغر.

نعم بالنسبة إلى آثار الجنابة كحرمة المكث في المسجد يرجع إلى أصالة

٤٥٠

البراءة ـ وبعبارة أخرى ـ الرجوع إلى قاعدة اشتغال إنما هو بالنسبة إلى آثار الطهارة وما يترتب على الحدث اعم من الاكبر والاصغر.

الإشارة إلى جملة من الفروع

ثم انه مما بيناه من جريان استصحاب القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي يظهر الحال في جملة من الفروع :

منها : ما لو علم بنجاسة احد الماءين ، فغسل شيئا نجسا بهما بالترتيب ، فانه لا بدَّ وان يبنى على طهارة ذلك الشيء ، فان استصحاب الطهارة الحاصلة بعد الغسل باحدهما يعارض استصحاب النجاسة الثابتة بعد الغسل بالآخر الذي هو من قبيل القسم الرابع ، فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة ، ولا مورد للرجوع إلى استصحاب النجاسة الموجودة قبل الغسل بهما فانها ارتفعت قطعا بالغسل باحدهما الطاهر.

ومنها : ما لو كان جنبا فطهر بدنه بالماءين المشتبهين المعلوم نجاسة أحدهما ، ثم اغتسل بكل من الماءين ، بان غسل بدنه باحدهما ثم اغتسل منه ، ثم غسل تمام بدنه بالماء الثاني ثم اغتسل منه ، فانه يحصل بذلك الطهارة الحدثية والخبثية.

اما الأولى فتحققها ثابت معلوم لفرض طهارة احد الماءين.

واما الثانية فلأنه كما يعلم بنجاسة بدنه حين الملاقاة مع ما في الاناء الثاني ، اما لنجاسة أو لنجاسة الماء الذي اغتسل منه أو لا ، فيستصحب تلك النجاسة ، كذلك يعلم بطهارة بدنه بعد تمامية الغسل باحد الماءين فعلى القول

٤٥١

بجريان القسم الرابع ، يجري استصحاب تلك الطهارة فيتعارضان ويتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

فان قيل لازم ذلك جواز الوضوء بالماءين المعلوم نجاسة أحدهما ، ولم يفت به احد.

اجبنا عنه بان عدم افتاء الفقهاء في ذلك الفرع إنما هو للنص ، المتضمن لقوله (ع) " يهريقهما ويتيمم" (١).

ولذلك في ذلك الفرع بنى جماعة على انه إذا كان الماءان كرين يتعين الوضوء بهما لاختصاص النص بالقليلين.

ومنها : ما لو رأى في ثوبه منيا ، واحتمل ان يكون من جنابة اغتسل منها ، أو من جنابة أخرى ، وقد تقدم الكلام فيه ومنها غير ذلك من الفروع الفقهية ، وتمام الكلام في هذه الفروع موكول إلى محله وإنما الغرض ، هو الإشارة إلى ان الجاري في هذه الفروع القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية

التنبيه الرابع : في انه ، هل يجري الاستصحاب في الأمور التدريجية غير

__________________

(١) راجع الوسائل باب ٨ و ١٢ من أبواب الماء المطلق ، وباب ٤ من أبواب التيمم ، وباب ٦٤ من أبواب النجاسات.

٤٥٢

القارة ، أم لا؟ وتنقيح القول في المقام ان يقال بعد ما لا اشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة ، وقع الكلام في صحة جريانه في الأمور التدريجية ، وهي التي تكون في كل آن في حد ، غير الحد الذي كانت عليه في الآن السابق. وبعبارة أخرى : هي التي يكون وجودها في كل آن في حد مخصوص ، غير حد ثابت له في آن آخر.

وليس منشأ الإشكال ان البقاء عبارة عن وجود ما كان في الزمان السابق في الزمان اللاحق ، والزمان حيث لازمان له ، فلا بقاء له فلا معنى للاستصحاب ، فانه ابقاء ما كان.

إذ يرد عليه أولا ان البقاء ينسب إلى الخارج عن افق الزمان.

وثانيا ان الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين بالشك صدق عنوان البقاء أم لم يصدق.

بل منشأ الإشكال ان الأمور التدريجية حيث لا قرار لها ، فهي توجد وتنصرم ، فما يتعلق به اليقين غير متعلق الشك ، فان المتيقن فيها ينصرم والمشكوك فيه الجزء الآخر ، وهو مشكوك الحدوث.

وتنقيح القول في المقام بالبحث في موردين.

جريان الاستصحاب في الزمان

المورد الأول : في نفس الزمان وما يعرضه من العنوان الطارى كاليوم والليل والشهر ونحوها من العناوين المنتزعة من مجموع الأزمنة المحدودة بين الحدين

٤٥٣

والمحصورة بين الحاصرين.

وقد يقال بأنه لا يجري الاستصحاب فيها : لما مر من ان الأمر التدريجي عبارة عن الآنات المتعاقبة والاكوان المتصرمة شيئا فشيئا فالمقدار المتيقن قد انقضى وانصرم قطعا. والمقدار المشكوك فيه ، يشك في اصل حدوثه فلا تكون اركان الاستصحاب تامة فيه.

ولكنه يندفع بأنه ، اما على القول بان الزمان امر واحد حقيقة حيث انه متصل واحد ، وقوامه بالاخذ والترك ، والخروج من القوة إلى الفعل على نعت الاتصال ، ووجود مثل هذا الأمر لا نقيض له إلا العدم البديل له ، لا العدم المتقوم به نفس ذاته ، فوجود مثل هذا الأمر يكون واحدا ، ولا يابى عن العدم المتقوم به ، فواضح.

واما على القول بأنه مركب من الآنات ، فلان ذلك إنما هو بالنظر الدقي الفلسفي ، وإلا فهو واحد بالنظر المسامحي العرفي بلا كلام ، ومن المعلوم ان العبرة في اتحاد القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها إنما هي بالنظر المسامحي العرفي ، دون الدقى الفلسفي ، مع انه ليس لعنوان البقاء اثر في أدلة الاستصحاب إذ هي متضمنة للنهى عن نقض اليقين بالشك ومعلوم ان دائرة ذلك اوسع من دائرة البقاء ، ولا ريب في ان رفع اليد عن ترتب الاثر على الأمر التدريجي الذي يوجد وينصرم ويوجد على التعاقب ، بالشك في انقطاع سلسلة وجوداته نقض لليقين بالشك.

٤٥٤

واما ما أجاب به المحقق الخراساني (١) من ان الانصرام والتجدد إنما هو في الحركة القطعية دون التوسطية ، وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فانه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا.

فتوضيحه بنحو يندفع ما أورد عليه ، ما أفاده تلميذه المحقق الأصفهاني (٢) من ان الحركة القطعية هي الصورة الممتدة المرتسمة في الخيال ومنشأ انتزاعها تلك الاكوان المتصلة بالاتصال التعاقبى ، فاجزاؤها مجتمعة في الخيال ، ومتفرقة في الخارج فنسبة هذه الحركة إلى الاكوان نسبة الكل إلى اجزائه والحركة التوسطية نسبتها إلى تلك الاكوان نسبة الكلي إلى جزئياته ، لان كل كون من تلك الاكوان الموافية للحدود ، واقع بين المبدأ والمنتهى.

وحيث ان نفس الحركة القطعية باعتبار منشئها متقومة بتلك الاكوان المتصرمة شيئا فشيئا فهي بذاتها تدريجية والتغير ذاتي لها ، فيجري فيها اشكال البقاء ، وحيث ان الكون بين المبدأ والمنتهى لا تعين ما هوى له إلا الوقوع بين المبدأ والمنتهى ، فما دام لم يخرج من الوسط يكون الكون بين المبدأ والمنتهى باقيا فالحركة القطعية تدريجية والتوسطية قارة مستمرة ، ولتمام الكلام محل آخر.

فالمتحصل انه لا اشكال في جريان الاستصحاب في الزمان في الجملة وترتب الحكم عليه.

إنما الإشكال في موردين :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٨.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٨٣.

٤٥٥

أحدهما : فيما إذا كان الاثر مترتبا على الزمان كاليوم مثلا ، بنحو مفاد كان وليس الناقصتين كما إذا شك في ان الزمان الحاضر من الليل أو اليوم ، ومنشأ الإشكال عدم وجود متيقن سابق في البين ، ضرورة ان الزمان الحاضر حين حدوثه ، اما من الليل أو النهار ، فليس كونه من أحدهما متيقنا حتى يستصحب بقاؤه ، واثباته باستصحاب نفس الليل والنهار ، متوقف على القول بحجية الأصول المثبتة.

ثانيهما : فيما إذا كان الزمان مأخوذا قيدا للمتعلق كما في الموقتات من جهة ان استصحاب بقاء اليوم أو شهر رمضان مثلا لا يثبت وقوع صلاة الظهر أو الصوم في اليوم أو شهر رمضان وفي وقته ، إذ غاية ما يثبت به ، بقاء ذات اليوم لاكون هذا الزمان متصفا باليومية ، ولا ان صلاة الظهر الواقعة فيه ، واقعة في اليوم ، فلا يحرز به وقوع الواجب في الزمان الذي اخذ ظرفا له وقيدا للواجب ، فلا يحرز الامتثال ، نعم هو لازم عقلي لبقاء اليوم ، ولكن لا نقول بحجية الأصل المثبت.

وبالجملة غاية ما يثبت بالاستصحاب بضم الوجدان إلى الأصل ، هو وجود الفعل عند وجود وقته ، واما كونه واقعا في وقته فلا يثبت به.

ولذلك عدل الشيخ الأعظم (١) عن استصحاب الزمان إلى استصحاب الحكم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني).

٤٥٦

والمحقق الخراساني (١) عدل إلى استصحاب نفس المقيد ، وسيأتي الكلام فيهما.

ولكن التحقيق انه يمكن دفع الإشكال بوجهين :

أحدهما : ان الزمان إذا كان شرطا للحكم خاصة ، لا محالة يكون مأخوذا بنحو مفاد كان التامة ، إذ اعتبار وقوع الفعل في زمان مخصوص الذي هو مفاد كان الناقصة ، إنما يكون متاخرا عن التكليف وواقعا في مرحلة الامتثال ، فكيف يعقل ان يكون شرطا للتكليف المتقدم عليه رتبة.

واما إذا كان مأخوذا في المتعلق وقيدا له ، فيمكن ان يؤخذ بنحو مفاد كان التامة كما في غيره من الزمانيات التي يعبر عن ذلك فيها باعتبار اجتماعها في الزمان ، من دون اعتبار شيء آخر ، ونعبر عن في المقام باعتبار وجود الفعل والزمان في الخارج ، ويمكن ان يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة بان يعتبر زائدا على ذلك الظرفية وحيثية وقوع الفعل فيه.

لا يقال : ان الوقت ليس عرضا للفعل الواقع فيه ، بل هما موجودان مستقلان ومتقارنان في الوجود ، فما معنى ظرفية الوقت للصلاة زائدا على التقارن.

فانه يقال : انه بالدقة كذلك ولكن بالنظر المسامحي العرفي ، يصح ذلك ، مع انه يمكن اخذ خصوصية فيه ملازمة لتقارنهما ، ويعبر عنها بالظرفية ، وحيث ان الاخذ بالنحو الثاني غير ملازم لاخذ الزمان قيدا في الواجب ، بل هو محتاج

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٤٠٩ (كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ...).

٤٥٧

إلى مئونة أخرى فظاهر الأدلة كونه مأخوذا بالنحو الأول ، فلو استصحب الوقت وأتى بالعمل خارجا تم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

ثانيهما : ان شبهة استصحاب مفاد كان الناقصة قابلة للدفع ، بان ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجية ، ومع ذلك فهي واحدة كذلك وصف النهارية وما شابهه من العناوين الطارئة على الآنات الثابتة لها أيضاً تدريجية تكون حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، فإذا وجد اليوم مثلا واتصف بعض هذه الآنات باليومية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بها ، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان ، كذلك يجري الاستصحاب في وصف اليومية الثابتة للزمان ، ويدفع شبهة ان هذا الزمان لم يحرز اتصافه بها ، بان هذا الزمان ليس غير الزمان المعلوم اتصافه بها فيجري الاستصحاب فيما هو مفاد كان الناقصة ، وبه يندفع كلا الاشكالين فتدبر.

واما ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من إجراء استصحاب نفس الحكم الشرعي.

فاورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بان استصحاب الحكم ان ترتب عليه إحراز وقوع الفعل في الوقت الذي اخذ قيدا في الواجب ، فيكفى في اثباته جريانه في نفس الزمان ، وان لم يترتب عليه ذلك فما الفائدة فيه ، لان المفروض

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني) قوله : «فالاولى التمسك في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتب على الزمان ..».

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

٤٥٨

عدم إحراز تحقق الامتثال على كل تقدير.

ويمكن دفعه بما اشار إليه (قدِّس سره) بأنه لو سلم عدم ترتب إحراز وقوع الفعل في الوقت المضروب له باستصحاب الزمان ، لا نسلم عدم ترتبه باستصحاب الحكم ، إذ الاثر العقلي الواقع في مرحلة الامتثال ، يترتب على استصحاب الحكم ، وليس من المثبت في شيء ، ومعنى التعبد ببقائه فعلا ، هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها ، ومن المفروض ان الحكم السابق إنما كان متعلقا بما إذا أتي به كان واقعا في الوقت المضروب للفعل ، فالآن يستصحب ذلك الحكم على النحو الذي كان سابقا ويترتب عليه وقوع الفعل في الزمان الذي اخذ ظرفا له.

واما ما أفاده المحقق الخراساني (١) من استصحاب بقاء نفس المقيد قال فيقال ان الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب.

فهو وان كان تاما في الجملة ، إلا انه مختص بما إذا كان المكلف قبل زمان الشك متلبسا بالعمل كما في المثال ، وإلا كما لو شك في بقاء الوقت للاتيان بالظهرين فلا يصح ، ضرورة ان الصلاة لم تتحقق قبل زمان الشك كي يستصحب بقائها.

نعم يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي ، بان يقال ان الصلاة لو كانت قبل ذلك متحققة كانت واقعة في النهار ، والان كما كان ، لكنه سيما التعليقي في الموضوعات ليس حجة كما سيمر عليك.

__________________

(١) كفاية الأصول (المصدر السابق) ص ٤٠٩.

٤٥٩

جريان الاستصحاب في الزمانيات

المورد الثاني : في جريان الاستصحاب في الزمانيات وهي على قسمين :

الأول : ما يكون الزمان مقوما له بحيث ينصرم بانصرام الزمان كالحركة والتكلم ، وجريان الماء وسيلان الدم وما شاكل.

الثاني : ما له بقاء وقرار ولا يمضى بمضي الزمان وارتباطه بالزمان من جهة تعلق الحكم الشرعي به مقيدا بزمان خاص كالجلوس الواجب مقيدا بزمان خاص.

اما القسم الأول : ففيه أقوال :

احدها عدم جريان الاستصحاب مطلقا.

الثاني جريانه مطلقا ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) والمحقق الخراساني (٢).

الثالث التفصيل بين ما إذا كان الشك في بقاء الزماني ناشئا عن الشك في وجود ما يوجب ارتفاعه وانعدامه بقاء مع العلم بمقدار المقتضى للبقاء والاستمرار ، كما إذا شك في بقاء الحركة والتكلم من جهة عروض ما يوجب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني) قوله : «واما القسم الثاني أعني الأمور التدريجية الغير القارة كالتكلم  .... فالظاهر جواز اجراء الاستصحاب فيما يمكن ان يفرض فيها أمرا واحدا مستمرا ...».

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨ (التنبيه الرابع).

٤٦٠