زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

التكليف.

٣ ـ ما لا يرتبط به ، كالزوجية ، والملكية ، والولاية ، وما شاكل.

اما القسم الأول : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) ان تلك الأحكام أمور انتزاعية تنتزع من الأمر بالشيء عنده أو عند عدمه ، مثلا تنتزع السببية للدلوك من الأمر بالصلاة عنده.

واستدل له بوجهين :

أحدهما : الوجدان : فانه لو فرض الإنسان نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرناه ، فانه إذا قال لعبده اكرم زيدا ان جاءك فهل يجد المولى من نفسه انه انشأ إنشاءين وجعل أمرين أحدهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه أو ان الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله الأولى ولا إلى بيان مخالف لبيانه ، ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول وطلب تركها عند الثاني ، وعلى الجملة الوجدان شاهد على ان السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان كالمسببية والمشروطية والممنوعية.

ثانيهما : البرهان على عدم كون ذلك مستقلا بالجعل ، بما حاصله : ان السببية للدلوك ليست ذاتية ، وإلا لزم تأثيره في الوجوب وان لم يجعل الشارع لان ذلك مقتضى ذاته كما في بقية الأسباب الخارجية ، مع انه لا يكون مجعولا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٠٢.

٤٠١

شرعيا على فرضه ولا نعقل ان يكون صفة اوجدها الشارع في السبب إذا الذات لا تتغير بالتشريع عما هي عليه من الوجدان أو الفقدان لان مسألة التشريع غير التكوين ومع التكوين يكون مكونا لا مشرعا.

وذهب المحقق الخراساني (١) إلى أنها أمور انتزاعية تنتزع ، من الخصوصيات التكوينية الموجودة في تلك الأشياء وليست مجعولة ولو بجعل منشأ انتزاعها.

واستند في ذلك على ما في الكفاية إلى أمرين :

١ ـ ما ذكرناه لعدم كون تلك الأمور انتزاعية من الأحكام التكليفية ، وهو ان فرض كونها سببا وشرطا تقدمها على تلك الأحكام ومن الواضح استحالة تأخر المتقدم بالذات.

وبالجملة : إنها متقدمة على التكليف فكيف يمكن انتزاعها منه.

٢ ـ ما ذكرناه لعدم كونها مستقلة في الجعل ، وهو ان الشيء إذا لم يكن فيه ربط خاص به يؤثر في المعلول لم يكن علة لاعتبار السنخية بين العلة والمعلول وإلا لزم صدور كل شيء عن كل شيء ، ولا معنى لجعل ما ليس علة علة ، وان كان فيه ذلك الربط فهو علة قبل جعله علة.

وان شئت قلت ، ان كل ما يكون دخيلا في التكليف لا بد وان يكون فيه خصوصية لاجلها يكون مؤثرا فيه لما يعتبر من السنخية بين العلة والمعلول وإلا لزم صدور كل شيء عن كل شيء وتلك الخصوصية أمر تكويني واقعي غير

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٠ ـ ٤٠١ بتصرف.

٤٠٢

مجعول شرعي وهي منشأ انتزاع هذه العناوين فهي عناوين انتزاعية من تلك الخصوصيات.

أقول : ان ما يكون سابقا على التكليف على أقسام :

منها : ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كالاستطاعة التي توجب اتصاف الحج بالمصلحة اللزومية ، ونظيره في العرفيات المرض بالنسبة إلى شرب الدواء ، وهذا القسم لا ريب في انه ليس بمجعول شرعى ، بل إنما هو لخصوصية فيه نظير النار بالنسبة إلى الاحراق.

ومنها : ما يكون من اجزاء علة الجعل نظير تصور الجاعل وتصديقه الفائدة ، وما شاكل ، وهذا القسم أيضاً ليس بمجعول وهو واضح.

ومنها : ما يكون شرطا للمجعول أو مانعا عنه نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، وهذا القسم هو محل النزاع في المقام.

واما الاولان ، فخروجهما عن محل الكلام واضح ، ودخل هذا القسم في التكليف ليس واقعيا وإلا لزم انقلاب المجعول الشرعي إلى المجعول التكويني ، وأيضا لزم تخلف الحكم عن موضوعه ، بل دخله إنما يكون بجعل الشارع ولذا قلنا ان قيود الحكم بأجمعها داخلة في الموضوع ، وجزء له ، مثلا إذا قال يجب الحج ان استطاع ، تكون الاستطاعة جزء الموضوع ولا يعقل فعلية وجوب الحج قبل تحققها كما لا يعقل عدمها ، بعد تحققها ، واطلاق الشرط عليه ، إنما يكون بالمسامحة في التعبير ، وهذا الإطلاق صار سببا للاشتباه وتخيلوا ان المراد به ما هو من أجزاء العلة ، وعلى هذا فكما ان جعل وجوب الحج بيد الشارع ، وهو مجعول شرعي كذلك تضييق دائرة موضوعه أو توسعته بيده ، فدخل كل قيد في

٤٠٣

الحكم الذي مرجعه إلى تقييد الموضوع وتضييقه إنما يكون بالجعل الشرعي.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام الشيخ الأعظم ، وما في الأمر الثاني الذي أفاده المحقق الخراساني.

واما الأمر الأول : الذي أفاده.

فيرد عليه ان المتقدم إنما هو السبب ، والشرط ، والمنتزع عن التكليف هو السببية ، والشرطية.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان شرطية شيء للحكم أو مانعيته عنه إنما تنتزع من الحكم المجعول على النحو الخاص وهذا لا ربط له بشرطيته للمصلحة أو الجعل فتدبر حتى لا يشتبه الأمر عليك.

واما القسم الثاني : فالحق فيه ما أفاده المحقق الخراساني (١) وتوضيحه انه لهذه الأمور أيضاً مراتب ثلاث :

الأولى : كونها اجزاء للمتصور حيث ان الصلاة مركبة من أمور متباينة ومقولات مختلفة وقبل ان يأمر المولى بها لا بد وان يتصور المولى مجموعها ، فكل واحد منها جزء للمتصور.

الثانية : كونها اجزاء وشرطا للمصلحة ، حيث ان أحكام الله تابعة للمصالح والمفاسد فمصلحة واحدة مترتبة على مجموع الأجزاء والشرائط ولازمها كون كل جزء جزءا لما يحصل تلك المصلحة.

__________________

(١) كفاية الأصول ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٤٠٤

الثالثة : كونها قيودا للمأمور به.

اما الاوليان ، فهما خارجتان عن محل الكلام.

واما الثالثة فلا إشكال في ان الجزئية ، والشرطية ، والقاطعية ، بهذا المعنى منتزعة من امر المولى بعدة أمور منها هذه القيود ، وعليه ، فكما ان اصل جعل الحكم بيد المولى كذلك اخذ شيء قيدا وهذا واضح.

واما القسم الثالث : فلا اشكال في إمكان انتزاع تلك الأحكام من الأحكام التكليفية ثبوتها ، كما لا اشكال في إمكان جعلها استقلالا ، نعم ، لا ينبغي ان يشك في عدم انتزاعها من الأحكام التكليفية وقوعا لما ستعرف ، وبهذا يجمع بين كلمات المحقق الخراساني (ره) حيث حكم أولا بامكان انتزاعها من الأحكام التكليفية وفي آخر تلك الصفحة يصرح بعدم صحة انتزاعها منها.

وكيف كان فقد استدل لاستقلالها في الجعل بوجوه ذكرها المحققان الخراساني (١) والنائيني (٢).

الأول : انه ما من حكم تكليفي إلا ويشترك فيه مورد آخر فاى حكم تكليفي يمكن انتزاع لزوم العقد منه فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب فلا يمكن ان تكون هي منشأً لانتزاع اللزوم وكذلك سائر الوضعيات.

وفيه : ان منشأ الانتزاع لو فرض كل واحد من الأحكام التكليفية كان ما

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٢ بتصرف.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٨٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٧٦ ـ ٧٧.

٤٠٥

ذكره متينا ، ولكن القائل بهذا القول يلتزم بانتزاعها من مجموع الأحكام التكليفية في مواردها.

الثاني : ان مثل هذه الاعتبارات أي ، الملكية والزوجية ، وما شاكل ، متداولة عند من لم يلتزم بشرع ولا شريعة ، مع انه ليس عنده الزام وتكليف.

وفيه : ان منشأ انتزاع الملكية مثلا عندهم يمكن ان يكون هو الأحكام التكليفية الثابتة ببنائهم ، إذ لا ريب في انه عندهم يكون في موارد تلك الاعتبارات أحكام تكليفية مثلا لا يجوز عندهم التصرف في ماله بلا رضاه ووطء زوجته وهكذا.

الثالث : انه يلزم وقوع ما لم يقصد ، وعدم وقوع ما قصد.

وفيه : انه يقع ما قصد فان الملكية المقصودة بما انها امر انتزاعي على هذا المسلك فتحققها إنما يكون بهذا النحو ، أي بتحقق منشأ انتزاعها ، كما انه لا يلزم وقوع ما لم يقصد فان الحكم التكليفي بما انه منشأ الانتزاع فهو أيضاً مقصود تبعا.

الرابع : ان بعض الأحكام الوضعية غير قابل لانتزاعه من الحكم التكليفي كالحجية لأنه أي حكم تكليفي فرض يسقط بالعصيان ، والحجية لا تسقط.

وفيه : ان للحجية كسائر الأحكام الشرعية مقامين ، الجعل ، والمجعول ، وعلى فرض الانتزاعية ، ينتزع الأول من إنشاء وجوب تصديق العادل مثلا ، وينتزع الثاني من فعليته ، والذي يسقط بالعصيان هو الحكم الفعلي ، وبتبعه تسقط الحجية الفعلية : لأنه لا اثر لها كي تكون باقية ، والذي يكون باقيا هو

٤٠٦

الأول ومنشأ انتزاعه أيضاً باق.

والحق في المقام يقتضي ان يقال انه لا يصح ثبوتا ، الالتزام بانها انتزاعية لوجوه :

منها : ان الوجدان شاهد على انها عناوين مستقلة في العرف وهم يعتبرون الملكية لشخص مع عدم الالتفات إلى الحكم التكليفي بل قد يستهجن ملاحظته : مثلا لو سأل عن زوجية امرأة من أي شخص.

وبالجملة : لا إشكال في انه عند العرف تلاحظ هذه الأحكام مستقلة.

ومنها : ان الأمر الانتزاعي هو ما يصح حمل العنوان المأخوذ منه على منشأ انتزاعه كحمل الفوق على ما انتزع عنه الفوقية ، وفي ما نحن فيه لا يصح ذلك مثلا لا يصح حمل الملك على الحكم التكليفي الموجود في مورده.

ومنها : ان الملكية تكون للصبي والمجنون ولا تكليف لهما ولا يعقل انتزاعها من جواز التصرف بعد البلوغ ، والإفاقة ، لان فعلية الأمر الانتزاعي تستدعي فعلية المنتزع عنه كما لا يعقل انتزاعها من جواز التصرف المتوجه إلى الولي فانه كيف يمكن انتزاع الملكية لشخص من جواز التصرف لآخر ، ثم انه أي حكم تكليفي ينتزع منه الولاية.

واما إثباتا فإن الأدلة إنما رتبت الأحكام التكليفية على هذه العناوين ، مثل" لا يحل مال امرئ ... الخ" و" الناس مسلطون على أموالهم" وقوله تعالى :

٤٠٧

(وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)(١)(إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم)(٢) إلى غير ذلك من الأدلة.

وبالجملة فإن هذه الأدلة فرضت تلك العناوين ورتبت عليها الأحكام التكليفية.

فتحصل مما ذكرناه ان الأحكام الوضعية لا يمكن ثبوتا وإثباتا ان تكون منتزعة من الأحكام التكليفية ، بل هي مستقلة في الجعل.

بقي في المقام أمور :

الأمر الأول : ان المحقق الخراساني (ره) (٣) أورد على نفسه بان الملكية كيف جعلت من الاعتبارات مع أنها إحدى المقولات المحمولات بالضميمة ، وأجاب عنه بان الملك مشترك بين معان منها مقولة الجدة ، ومنها الإضافة الخاصة الإشرافية ، ومنها الإضافة المقولية.

توضيح المقام ان الموجودات الخارجية على قسمين :

قسم منها موجود لا في الموضوع ، وهي الجوهر.

وقسم منها إذا وجد وجد في الموضوع وهو العرض.

والثاني قد لا يحتاج في تحققه إلى شيء سوى موضوعه كالسواد ويعبر عنه

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٦ من سورة المؤمنون.

(٣). كفاية الأصول ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

٤٠٨

بالعرض المتأصل ، وقد يحتاج إلى شيء آخر.

والثاني أيضاً على قسمين : إذ قد لا يحتاج في تحققه إلى عرض آخر كالعلم ، حيث انه وان لا يوجد إلا مع عالم ومعلوم ، ولكن لا يتوقف تحققه على تحقق عرض آخر وقد يحتاج إليه ويكون ملازما مع تحقق عرض آخر كالأبوة.

والثاني أيضاً على نحوين : إذ ربما يكون العرضان متشابهين كالاخوة ، وربما يكونان مختلفين كالأبوّة والبنوة ، ومقولة الإضافة هي ما إذا كان العرض بنحو لا يوجد إلا ملازما لتحقق عرض آخر ، وإلا فمطلق التقابل بين شيئين وكل نسبة متكررة ليس من مقولة الإضافة.

هذا كله في الموجودات الخارجية واما الاعتباريات فهي خارجة عن هذه الأقسام.

وقد ظهر بما ذكرناه ما في كلام المحقق الخراساني من إطلاق الإضافة المقولية على الملكية ، حيث انها :

أولا من الاعتباريات وليست من المقولات.

وثانيا على فرض كونها منها لا تكون من مقولة الإضافة ، والمالكية وان كانت عنوانا اضافيا لكنها ليست من مقولة الإضافة : إذ فرق واضح بين العنوان الاضافي ومقولة الإضافة ، بل ربما يكون العنوان اضافيا ويستحيل كونه من مقولة الإضافة كالخالقية.

وثالثا ان اختصاص شيء بشيء بسبب التصرف ليس ملكا ، كما في الجل للفرس.

٤٠٩

والحق ان الملكية بمعنى الإحاطة والسلطنة ، ولها مصاديق حقيقية واعتبارية ، وما هو من الأحكام الوضعية هي الملكية الاعتبارية وتمام الكلام في محله.

الأمر الثاني : ان جملة من الأمور وقع الكلام فيها ، أنها من الأحكام الوضعية ، أم من الأمور الواقعية ، أو الانتزاعية ، منها الطهارة والنجاسة ، وقد اشبعنا الكلام فيهما في أول مبحث البراءة وعرفت انهما من الأمور الاعتبارية ، والاحكام الوضعية ، ولا يعقل كونهما من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، ومنها الصحة والفساد وقد تقدم ما هو الحق فيهما في الجزء الأول ، من هذا الكتاب ومنها غير ذلك مما لا يهمنا التعرض له.

الاستصحاب في الأحكام الوضعية

الأمر الثالث : انه ، هل يجري فيها الاستصحاب ، أم لا؟ والكلام فيه في موارد :

المورد الأول ، في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية اللاحقة للتكليف.

وأفاد المحقق الخراساني (١) انه لا مانع من جريان الاستصحاب فيها من حيث هي ، لأنها وان لم تسم أحكاما ، إلا ان أمر وضعها ورفعها بيد الشارع فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها ، نعم لا مجال لاستصحابها لاستصحاب أسبابها ومناشئ انتزاعها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٤.

٤١٠

وأورد عليه المحقق الأصفهاني (١) بان ذلك يختص بما إذا جرى الأصل في منشأ الانتزاع فانه حاكم على الأصل في الأمر الانتزاعي ، واما إذا لم يجر فيه الأصل ، فلا مانع من جريان الأصل في الأمر الانتزاعي ، كما في استصحاب عدم جزئية المشكوك فيه ، مع عدم جريان الأصل في الأمر النفسي في الأكثر لمعارضته بعدم تعلق الأمر بالأقل بما هو.

أقول : يرد على المحقق الأصفهاني ان جريان الأصل المحكوم عند ابتلاء الحاكم بالمعارض ، إنما هو فيما إذا كان هناك حكمان أحدهما مترتب على الآخر كطهارة ما غسل بالماء المشكوك الطهارة ، حيث أنها مترتبة على طهارة الماء ، وكل منهما حكم مستقل ، واما إذا فرضنا كون أحدهما من شئون الآخر وتبعاته ومنتزعا عنه ، فلا معنى لجريان الأصل فيه بعد سقوط الأصل في المنشأ كما في المقام ، فان إذا أمر المولى بعدة أمور ، كما ينتزع عنوان الحاكمية له ، والكلية للمجموع ، كذلك ينتزع الجزئية لبعضها وهذه عناوين تبعية ، لا أنها اعتبارات ، أو وجودات مستقلة فمع سقوط الأصل في المنشأ لا مورد لجريان الأصل فيها.

ويرد على المحقق الخراساني ان الجزئية وما شاكل ، التي تكون مجعولة تبعا ومنتزعة عن الجعل الشرعي لا يجري فيها الأصل لكونها من اللوازم التكوينية للحكم الشرعي نظير عنوان الحاكمية والمحكوم عليه.

المورد الثاني : في الأحكام الوضعية السابقة على الحكم التكليفي ،

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٤٧.

٤١١

والكلام فيه ، تارة يقع في الشرط والمانع ، وأخرى في الشرطية والمانعية.

اما الأول : فبناء على عدم كون دخلهما في التكليف واقعيا بل دخلهما جعلى لا مانع من استصحاب بقائهما أو بقاء عدمهما ، ويترتب على استصحاب بقاء الشرط وجود التكليف وعلى عدمه عدمه ، وعلى وجود المانع عدم التكليف ، وعلى عدمه وجوده.

واما بناءً على كون دخلهما واقعيا فلا يجري الاستصحاب لعدم ترتب الاثر عليه.

واما الثاني : فبناء على كون الشرطية والمانعية مجعولتين كما هو الحق يجري الاستصحاب فيهما ، لان المستصحب من الأمور المجعولة شرعا.

نعم ، لا يترتب على استصحابهما وجود التكليف وعدمه لانهما مترتبان على الشرط والمانع ، لا الشرطية والمانعية.

وبناء على عدم كونهما مجعولتين لا يجري لعدم كون المستصحب مجعولا شرعيا ولا موضوعا لاثر شرعي.

وبما ذكرناه ظهر الخلط في كلمات المحقق الخراساني حيث ان مورد كلامه استصحاب الشرطية ، وقوله والتكليف وان كان مترتبا عليه ، إنما يلائم استصحاب الشرط ، لأنه مترتب عليه ، لا على الشرطية.

المورد الثالث : في الأحكام الوضعية المستقلة في الجعل ، وقد مر الكلام فيها ، فإنها كسائر الأحكام الشرعية لجريان استصحاب عدم جعلها ، لا يجري فيها الاستصحاب.

٤١٢

تنبيهات الاستصحاب

ثم ان الشيخ الأعظم ذكر في المقام من التنبيهات اثني عشر ، وأضاف المحقق الخراساني إليها تنبيهين آخرين ، فصارت التنبيهات أربعة عشر ، وينبغي البحث فيها لما فيها من المباحث المهمة.

اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب

التنبيه الأول : قد طفحت كلمات القوم بأنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين فلا استصحاب مع الغفلة ، وملخص القول في المقام ، انه لا ينبغي الشك ، كما لا كلام في اعتبار فعليتهما في الاستصحاب : لأنهما مأخوذان موضوعا له وظاهر اخذ كل عنوان في الموضوع توقف فعلية الحكم على فعليته بجميع قيوده وهذا واضح لا كلام فيه.

وبناء عليه فقد وقع الكلام بين الأصحاب حيث فرقوا بين فرعين :

أحدهما : ما إذا تيقن بالحدث وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في انه توضأ أم لا؟

ثانيهما : ما لو تيقن به وشك فيه وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في الوضوء؟.

فانه في الفرع الأول حكموا بصحة صلاته : وفي الثاني ببطلانها ، وذكروا

٤١٣

في الفرق بينهما : انه في الفرع الأول لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية اليقين والشك فيها لفرض الغفلة ، واما بعد الصلاة فتجرى قاعدة الفراغ وهي مقدمة على الاستصحاب ، واما في الفرع الثاني فالتكليف بالوضوء قد تنجز قبل الصلاة بالاستصحاب لفرض فعلية اليقين والشك ، فكان محدثا ولم يتوضأ بعده قطعا فلا مورد لقاعدة الفراغ.

وتحقيق القول : في المقام بالبحث في مقامات :

المقام الأول : هل هناك فرق في جريان الاستصحاب بين الفرعين أم لا؟

الحق عدم الفرق بينهما وانه لا يجري في شيء منهما : لأنه كما يعتبر في جريان الاستصحاب حدوثا فعلية اليقين والشك ، كذلك يعتبر في بقاء جريانه بقاء فعلية الوصفين كما هو الشأن في كل عنوان اخذ موضوعا للحكم فان بقاء الحكم يدور مدار بقاء فعلية الموضوع ، مثلا في لا تشرب الخمر كما يتوقف فعلية الحرمة على فعلية الخمرية كذلك يعتبر في بقاء فعليتها ، بقاء فعلية الخمرية ، فلو تبدلت إلى الخل ترتفع الحرمة ، والاستصحاب لا يكون مستثنى من هذه الكلية ، وعليه فكما لا يجري الاستصحاب في الفرع الأول كذلك لا يجري في الفرع الثاني قبل الصلاة لفرض ارتفاع اليقين والشك بحدوث الغفلة.

وما عن بعض المحققين (١) من ان الشك إذا صار فعليا وجرى الاستصحاب ،

__________________

(١) ذهب الأغلب إلى بطلان الاستصحاب مع الشك التقديري أو الغفلة عنه واعتبره البعض توهما إلا عن بعض المعاصرين حيث قال : «ويمكن ان يفصل في المقامين بين ما إذا صار الشك ذاهلا رأسا بحيث يقال في الشك الحاصل بعده انه شك حادث فيقال بجريان

٤١٤

فالشك يكون باقيا في خزانة النفس ، وان كان الشاك غير ملتفت إليه ولكن وجوده فعلي فيجري الاستصحاب.

غريب فان الشك واليقين والظن مقسمها الالتفات وهو قسيم الغفلة ، فإذا ، فرض الغفلة لا محالة يكون الشك منعدما.

المقام الثاني : في جريان قاعدة الفراغ فيهما وعدمه :

الظاهر عدم جريانها فيهما ، وذلك لان قاعدة الفراغ من الامارات النوعية لوقوع المشكوك فيه ، كما هو المستفاد من التعليل بالاذكرية.

وعليه فحيث لا امارية في الفرضين ولا يحتمل الاذكرية فلا تجري القاعدة في شيء منهما ، هذا على ما هو الحق من كونها من الامارات.

واما على تقدير كونها من الأصول التعبدية وان التعليل بالاذكرية في الأخبار ، من قبيل الحكمة لا العلة ، ولا يوجب تقييد إطلاق الأدلة ، فالظاهر جريانها فيهما ، اما في الفرع الأول فواضح.

واما في الفرع الثاني فغاية ما قيل في وجه عدم الجريان فيه :

انه يعتبر فيه كون الشك حادثا بعد العمل ، واما الشك الموجود قبله الباقي بعد العمل فهو مشمول لدليل الشك قبل التجاوز ولا بد من الاعتناء به.

__________________

القاعدة وعدم جريان الاستصحاب وبين ما إذا غفل عن شكه مع كونه موجودا في خزانة النّفس نظير عدم العلم بالعلم فيقال بعدم جريان القاعدة وجريان الاستصحاب».

٤١٥

ولكنه فاسد : فانه من جهة استحالة اعادة المعدوم ، يكون الشك بعد الصلاة غير الشك الموجود قبلها المنعدم بالغفلة فهو شك حادث بعد العمل فتجري فيه القاعدة.

مع انه لو سلم إمكان اعادة المعدوم لم يدل دليل على لزوم حدوث الشك بعد العمل ، بل الدليل دلَّ على انه لا بد من الاعتناء بالشك الموجود حال العمل ، وغير ذلك من انحاء الشك مشمول للدليل.

فالاظهر انه لا فرق بينهما من هذه الناحية أيضاً.

المقام الثالث : في ان استصحاب الحدث بعد الصلاة ، هل يترتب عليه فساد الصلاة لاقترانها حينئذ بالمانع ، كما عن الشيخ الأعظم (ره) (١) ، واختاره المحقق الخراساني (٢) ، غاية الأمر قاعدة الفراغ حاكمة عليه.

أم لا يترتب عليه ذلك.

الظاهر هو الثاني : لان المانعية الظاهرية المنتزعة من الأمر بالصلاة مقيدا بعدم المانع إنما ثبتت من حين جريان الاستصحاب ، واما قبله في حال الصلاة فلعدم جريان الاستصحاب لم تكن ثابتة ، ولم يكن الأمر بالصلاة حال وقوعها مقيدا بعدم المانع ، والشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤٨ من الأمر الخامس.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٤.

٤١٦

جريان استصحاب مؤدى الأمارة

التنبيه الثاني : هل يعتبر في صحة الاستصحاب كون المستصحب محرزا بالوجدان ، أم يكفي فيها ، احرازه بالطرق والامارات ، بل بالأصول المحرزة ، بل وغير المحرزة أيضا وجوه واقوال :

والكلام يقع أولا في الامارات ثم في الأصول.

اما إذا كان محرزا بالأمارة ، فقد يقال انه لا يجري الاستصحاب ، لعدم اليقين بالثبوت ، بل ولا شك في البقاء ، إذ البقاء فرع الثبوت غير المحرز ، فيشك فيه على تقدير.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) فيها ، بما حاصله ان الاستصحاب ، إنما يكون شأنه اثبات البقاء على تقدير الحدوث ، وانه يكفي في جريانه الشك فيه على تقدير الثبوت ، ولا يعتبر فيه ثبوت المستصحب حدوثا ولا ترتب الاثر عليه ، فإذا ثبتت الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، فالدليل المتكفل للحدوث حجة على بقائه.

ثم انه أورد على نفسه بأنه قد اخذ اليقين بالثبوت والحدوث في التعبد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في المقام.

وأجاب عنه : بان اليقين اخذ مرآتا وطريقا لثبوته ، ليكون التعبد في بقائه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٤١٧

فإذا تعبد بالبقاء على فرض ثبوته يكون التعبد في بقاء ما فرض ثبوته.

ثم ذكر في هامش الكتاب (١) بان هذا على المختار من كون المجعول في باب الامارات التنجيز والتعذير ، واما على ما هو المشهور من كون مؤديات الامارات احكاما ظاهرية شرعية كما اشتهر ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، فالاستصحاب جار بلا اشكال للقطع بالحكم الظاهرى حدوثا والشك في ارتفاعه فيستصحب.

وفي كلامه مواقع للنظر :

الأول : فيما ذكره في الهامش ، فانه يرد عليه امران :

أحدهما : ان المشهور غير ملتزمين بذلك وقد مر في أول مبحث حجية الظن.

ثانيهما : انه لو سلم التزامهم بذلك ، لا يندفع الإشكال ، بما أفيد لان ما شك في بقائه إنما هو الحكم الواقعي الذي لم يكن متيقنا وما كان متيقنا إنما هو الحكم الظاهرى ، ولا شك في عدم بقائه.

توضيحه ان الأمارة إذا قامت على شيء يكون المتعبد به بمقدار ما دلت عليه الأمارة ، ولا يكون الثابت ازيد من ذلك ، مثلا لو اخبر العادل بزوجية امرأة لزيد إلى شهر يكون المتعبد به الزوجية إلى شهر وبعده لا تعبد من هذه الناحية بها قطعا ، وعليه ، فإذا قامت الأمارة على ثبوت شيء كالملكية بعد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٥ هامش رقم ١.

٤١٨

المعاطاة ولم تدل على انها لازمة لا تنفسخ ، أو جائزة تنفسخ به ، فالمخبر عنه الملكية قبل الفسخ ، وهو المتعبد به وبعده لا تعبد بالملكية الظاهرية قطعا ، ولو شك في بقائها يكون المشكوك فيه بقاء الملكية الواقعية لاما تعبد به بعنوان اخبار العادل ، وبالجملة الحكم بثبوت المؤدى إنما هو بمقدار ما اخبر به العادل مثلا وبعده يرتفع قطعا ، والشك إنما هو في بقاء الواقع فالمتيقن غير المشكوك فيه.

الثاني : ما ذكره من ان المجعول في باب الامارات التنجيز والتعذير ، وقد مر في اوائل مباحث الظن انه لا يعقل ذلك.

الثالث : ما ذكره من ان دليل الاستصحاب متكفل لاثبات الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فانه يرد عليه : انه ان قيل بعدم اخذ الشك في موضوع الاستصحاب لزم كونه من الامارات المثبتة للواقع ، وان اخذ فيه الشك في البقاء لا بد من إحراز الثبوت كي يتحقق الشك المذكور ، والمفروض على ما أفاده عدم إحراز الحدوث ، مع : ان المأخوذ في دليل الاستصحاب اليقين بالحدوث وحمله على الطريقية ، وان محط النظر في التعبد إلى جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء خلاف الظاهر ، فما أفاده لا يفيد في رفع العويصة.

وقد يقال في رفع هذا المحذور بان اليقين المأخوذ في الموضوع أريد به مطلق الحجة لا الصفة الخاصة وإنما اخذ ذلك من جهة كونه اظهر أفراد الحجة ، كما ان اليقين الموجود في قوله ، بل انقضه بيقين آخر أريد به تلك قطعا ، ولذا لم يتوقف احد في انه إذا قامت الأمارة على خلاف الحالة السابقة يرفع اليد عنها ، ويعمل بالأمارة.

٤١٩

وبالجملة : اليقين المأخوذ موضوعا ، إنما هو من باب انه احد أفراد الطبيعي فالحكم في الحقيقية إنما هو على طبيعي الحجة لا على اليقين خاصة ، فلو ثبت حجية شيء ، يدخل تحت هذا الدليل فلو قامت الأمارة على شيء فشك فيه يجري الاستصحاب.

وفيه : ان ما ذكر من تعليق الحكم على فرد بما انه من أفراد الطبيعي ممكن ولا محذور فيه إلا انه لا ريب في كونه خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.

وما أفاده من القرينة ، غير تام : فان الأمارة إذا قامت على خلاف الحالة السابقة إنما يؤخذ بها وينقض اليقين السابق ، اما من جهة الحكومة أو التخصيص كل على مسلكه وليس من باب ان المراد باليقين مطلق الحجة.

والحق في الجواب ان يقال انه قد تقدم ان المجعول في باب الامارات هو الطريقية والوسطية ، والعلمية.

وبعبارة أخرى : اعتبر الشارع الطريق علما تعبدا ، وعليه بنينا على قيام الأمارة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، ففي المقام الأمارة لقيام الدليل على تتميم كشفها تقوم مقام اليقين ، فدليلها يوسع موضوع دليل الاستصحاب ويثبت فردا لليقين تعبدا ، فلو قامت على شيء وشك في بقائه يستصحب.

وبالجملة بعد جعلها علما واحرازا ، يترتب عليها جميع آثار العلم ، والاحراز ، كما يثبت بها آثار المعلوم والمحرز ، ومن جملة تلك الآثار ، عدم النقض بالشك ، كما ان منها نقض الشك به ، فتدبر ، هذا كله في الامارات.

٤٢٠