زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

والميسور عن المباين ، في غاية الإشكال. مثلا : كون ثلاث ركعات ميسور الاربع عند تعذر الاربع مما لا طريق إلى احرازه ، إذ من المحتمل ان تكون خصوصية الاربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها. ولذا قيل ان التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الاصحاب ، والوجه في اعتباره تشخيص الركن في العبادة ، ليكون الباقي ميسور المتعذر.

وفيه : انه إذا علق الشارع الحكم بعدم السقوط على الميسور الواقعي ، ولم يعين طريقا إليه كان نظر العرف طريقا إليه ، وإلا لزم نقض الغرض ، فنظر العرف حجة باطلاق المقام وعدم نصب الطريق ولا ريب انه بنظر العرف : الثلاث ميسور الاربع ، وليست خصوصية الاربع ركنا بنظرهم.

وبذلك يظهر اندفاع ما أورد على ما ذكره المحقق الخراساني بقوله : إذا لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الإطلاق (١) الخ.

من انه إذا كان صدق الميسور مشكوكا فيه فلا معنى للتمسك بالإطلاق.

وجه الاندفاع ان مراده من الإطلاق ، الإطلاق المقامي لا الكلامي ، وتقريبه ما عرفت.

الايراد الثاني : انه لكثرة ورود التخصيص عليها حصل وهن في عمومها بنحو يحتاج في العمل بها إلى عمل الاصحاب ، فبدونه لا يعمل بها.

واجيب : عنه بأن ذلك يتم لو كان الخارج تخصيصا في الحكم. واما إذا كان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٧٢.

١٦١

تخطئة للعرف في عدم كون ما يرونه ميسورا ، ميسورا فلا يتم ذلك. إذ مقتضى الإطلاق المقامي كما مر : هو ايكال الشارع فهم الميسور إلى نظر العرف في جعل ما يرونه ميسورا لشيء صورة ، طريقا إلى الميسور الواقعي في مقام الوفاء بالغرض. ولازم ذلك هو الاخذ بما يراه العرف كونه ميسورا لشيء ، إلا في الموارد التي ثبت الردع فيها ببيان الشارع.

وفيه : ان الموارد الخارجة ليست بعنوان التخطئة المشار إليها ، لعدم كون المعيار الميسور في مقام وفاء الغرض ، لعدم الدليل على ذلك ، بل لعدم فهم العرف الاغراض ، لا معنى لمثل ذلك. فالظاهر من الدليل هو الميسور بحسب الصورة : فتأمل. فالاظهر انه إشكال لا ذاب عنه.

دوران الأمر بين الجزئية والمانعية

الأمر الرابع : إذا تردد الأمر بين جزئية شيء أو شرطتيه ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، بأن علم اجمالا اعتبار وجود شيء في المأمور به أو عدمه.

فللمسألة صور ثلاث.

الصورة الأولى : ما إذا كان الواجب واحدا شخصيا ولم يكن له أفراد طولية ولا عرضية ، كما في ما إذا ضاق الوقت ولم يتمكن المكلف إلا من صلاة واحدة ، ودار الأمر بين الصلاة عاريا أو في الثوب المتنجس.

١٦٢

قال الأستاذ (١) : ان الحكم فيه هو التخيير بلا شبهة ولا إشكال ، إذ الموافقة القطعية متعذرة ، والمخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة يقينا ، فلم يبق إلا الموافقة الاحتمالية الحاصلة بكل واحد من الامرين.

وفيه : انه إذا لم يكن القضاء واجبا ، تم ما أفيد ، واما مع وجوبه فهو يتمكن من الموافقة القطعية بإتيان صلاة في الوقت بإحدى الكيفيتين وصلاة أخرى خارج الوقت بكيفية أخرى ، وعليه فمقتضى العلم الإجمالي ذلك.

الصورة الثانية : ما إذا كانت الوقائع متعددة ، وان لم يكن للواجب أفراد طولية ولا عرضية كما إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا في الصوم أو مانعا عنه.

قال الأستاذ (٢) : حيث ان المكلف به متعدد فالحكم فيه هو التخيير الابتدائي ، فله ان يختار الفعل في جميع الايام أو الترك كذلك.

أقول : ما أفاده من عدم استمرارية التخيير متين ، لانها مستلزمة للمخالفة القطعية وهي غير جائزة ، وكذا ما أفاده من التخيير في كل يوم متين لعدم تمكنه من الموافقة القطعية. ولكن بما انه يجب قضاء الصوم فيحصل له علم اجمالي آخر ، وهو وجوب الصوم بأحد النحوين ، أو قضائه بالنحو الآخر ، فيجب ذلك تحصيلا للموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي.

الصورة الثالثة : ما إذا كان الواجب واحدا ذا أفراد طولية بحيث يكون

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٨٦.

(٢) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٨٦.

١٦٣

المكلف متمكنا من الاحتياط وتحصيل العلم بالموافقة بالإتيان بالواجب مع هذا الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما في الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة المردد بين كونه لازما أو مانعا ، وكما لو شك في السجدة وهو في حال النهوض إلى القيام ، فإنه يدور الأمر بين كون النهوض من أجزاء الصلاة ، فالشك في السجدة شك فيها بعد مضى المحل فلا يجوز الإتيان بالسجدة ويكون موجبا لبطلان الصلاة ، وبين ان لا يكون من الأجزاء ، فالشك فيها شك في المحل فلا بد من الإتيان بالسجدة.

فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير؟ أو الاحتياط وتكرار العمل؟

فعن الشيخ الأعظم اختيار التخيير قال : والتحقيق انه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة للواقع إذا لم تكن عملية فالاقوى التخيير هنا (١). انتهى.

وقد مر في ذيل مبحث دوران الأمر بين المحذورين هذه المسألة مفصلا ، وعرفت ان الاظهر هو تعين الجمع بتكرار العبادة فراجع ما حققناه ولا نعيد.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٠٣.

١٦٤

خاتمة

فيما يعتبر في العمل بالاحتياط

في بيان ما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والاخذ بالبراءة.

والبحث عن ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والكلام فيه في مواضع :

الموضع الاول : انه لا إشكال ولا كلام في ان حسن الاحتياط شرعا وعقلا ، مشروط بأن لا يكون مخلا بالنظام ، وإلا فلا يحسن ، لان ما يخل بالنظام قبيح عقلا ، بل موجب للاخلال بالغرض شرعا ، ومعه لا حسن فيه لا عقلا ولا شرعا.

الموضع الثاني : انه لا فرق في حسن الاحتياط بين ما لو كان هناك امارة على عدم الأمر ، وما لم يكن ، كما ذكرناه في آخر مسألة البراءة قبل مسألة دوران الأمر بين المحذورين.

الموضع الثالث : انه قد افاد المحقق النائيني (ره) (١) انه : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة شرعية ان يعمل المكلف اولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة احرازا للواقع. وليس للمكلف

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٦٥.

١٦٥

العكس.

واستدل له بامرين :

أحدهما : ان معنى اعتبار الطريق ، الغاء احتمال مخالفة الواقع عملا ، وعدم الاعتناء به. والعمل اولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ، ينافي الغاء احتمال الخلاف فإن ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما لو قدم اولا ما يقتضيه الحجة : فإن العقل يستقل حينئذ بحسن الاحتياط لرعاية اصابة الواقع.

وفيه : ان مقتضى حجية الإمارة وجوب العمل على طبقها ، ولا يكون مقتضاها عدم جواز العمل بما يخالف مفادها احرازا للواقع ، وإلا لزم عدم جواز العمل بما بخالف مفادها حتى بعد العمل بما تقتضيه الإمارة. وعليه : فكما ان العقل يستقل بحسن الاحتياط احرازا للواقع بعد العمل بمفادها كذلك يستقل بحسنه قبله.

ثانيهما : انه يعتبر في حسن الاطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الاطاعة التفصيلية ، وبعد قيام الطريق المعتبر على شيء ، كوجوب صلاة الجمعة ، يكون المكلف متمكنا من الطاعة والامتثال الفصيلي بمؤدى الطريق فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي بإتيان مخالفه وهو صلاة الظهر في المثال.

وفيه : مضافا إلى عدم صحة المبنى كما مر ، ان اعتبار الامتثال التفصيلي إنما هو في صورة التمكن منه في العمل الذي يأتي به بداعي الاحتمال. واما العمل الذي لا يمكن فيه ذلك فلم يستشكل أحد حتى هو في حسنه ، وفي المقام اتيان العمل بما يخالف مؤدى الإمارة ، لا يمكن فيه الاطاعة التفصيلية سواء أتى

١٦٦

به بعد العمل بمفادها ، أو قبله ، وما يمكن فيه الامتثال التفصيلي هو العمل بمفاد الإمارة سواء أتى به قبل المخالف أو بعده. وعلى الجملة ما يمكن فيه الاطاعة التفصيلية ، غير ما لا يمكن فيه تلك ، من غير فرق بين الصورتين ، وامكان الامتثال التفصيلي بالعمل بمؤدى الإمارة ، لا يكون شرطا في الاحتياط بالعمل بما يخالف مؤداها.

الموضع الرابع : هل يعتبر في حسن الاحتياط في العبادات ، عدم تمكن

المكلف من الامتثال التفصيلي وازالة الشبهة؟ كما عن جماعة (١).

أم لا يعتبر ذلك كما هو الحق؟

أم يفصل بين كون الاحتياط مستلزما للتكرار فيعتبر (٢) وبين عدمه فلا يعتبر.

أم يفصل بين موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف وعدمه وجوه واقوال (٣)

اقواها الثاني : وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في مبحث القطع. واجماله : انه لا يعتبر في صحة العبادات سوى الإتيان بجميع ما امر به المولى مضافا إليه ، وبعبارة أخرى : عن نية صالحة ، وعدم كون الداعي غير الداعي الالهي.

واما نية الوجه والتمييز وغيرهما مما ذكروه وجها لعدم جواز الاحتياط فلا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٦. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٨٣.

(٢) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٩٤.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٦٧. وج ٣ ص ٦٦.

١٦٧

دليل على اعتباره وتمام الكلام في محله.

فيما يعتبر في جريان البراءة

المقام الثاني : فيما يعتبر في جريان البراءة والاخذ بها. وقد طفحت كلماتهم (١) بأنه يعتبر في جريانها الفحص ، وانه لا يجوز العمل بها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها. واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي البحث في مواضع.

الموضع الأول : في اعتبار الفحص وعدمه.

الموضع الثاني : في مقدار الفحص المعتبر.

الموضع الثالث : في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه.

الموضع الرابع : في صحة العمل المأتي به قبل الفحص ، وفساده.

فالكلام فيه في موردين : الاول : في البراءة العقلية. الثاني : في البراءة الشرعية.

اما المورد الأول : فلا إشكال في اعتبار الفحص في جريان البراءة العقلية. لان العقل إنما يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف إذا استندت إلى المولى بأن لم يعمل بما هو وظيفته من البيان ، وجعله في معرض الوصول إلى المكلف.

واما إذا عمل المولى بما هو وظيفته ، وكان الحكم في معرض الوصول ولم

__________________

(١) المحقق العراقي في مقالات الأصول ج ٢ ص ٢٨٧.

١٦٨

يتفحص العبد عنه ، ولم يعمل بما هو وظيفته ، فلا يكون العقاب حينئذ قبيحا لعدم كونه عقابا بلا بيان.

وبالجملة المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوع هذا الحكم العقلي ليس هو ايصال التكليف إلى العبد قهرا ، بل المراد بيانه على الوجه المتعارف وجعله بمرأى من العبد ومسمع ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.

فلو كان الحكم مبيّنا من قبل المولى ولم يتفحص عنه العبد ، صح العقاب على مخالفته فلا يكون عقابه بلا بيان.

واما المورد الثاني : فلا إشكال أيضاً في عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية : لاطلاق ادلتها ، وعدم ما يوجب تقييده ، واما في الشبهات الحكمية فقد استدل للزوم الفحص بوجوه.

الوجه الأول : انصراف الاطلاقات إلى الشك المستقر الذي لا يكون في معرض الزوال بالفحص عن الأدلة فلا تشمل الشبهات قبل الفحص.

وفيه : ان هذه دعوى بلا بينة ولا برهان ، كيف وقد تمسك الاصحاب بها في الشبهات الموضوعية قبل الفحص ، وهذه آية عدم الانصراف. فمقتضى الاطلاقات هو عدم لزوم الفحص. وبه يظهر ان عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية إنما يكون على القاعدة ، نعم ورد الدليل الخاص على لزومه في بعض الموارد كمسألة النصاب في الزكاة وغيرها.

الوجه الثاني : الإجماع.

وفيه : انه لمعلومية مدرك المجمعين لا يكون كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

١٦٩

الوجه الثالث : العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الموارد المشتبهة في مجموع ما بأيدينا من الأخبار مع كونها على نحو لو تفحصنا عنها لظفرنا بها ، ومقتضى ذلك عدم جريان البراءة في شيء من المسائل قبل الفحص.

وأورد عليه بايرادين :

الايراد الاول : انه أعم من المدعى (١) إذ المدعى لزوم الفحص في خصوص ما بأيدينا من الأخبار ، والمعلوم بالإجمال أعم من ذلك. فإن من أطراف هذا العلم الأخبار غير المدونة في الكتب المعتبرة فالفحص فيما بأيدينا من الأخبار غير نافع.

وفيه : ان العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم اجمالي صغير ، وهو وجود واجبات ومحرمات في خصوص ما بأيدينا من الأخبار ، والشك في وجود غيرها في غير ما بأيدينا ، إذ من المحتمل تطابق النصوص غير الواصلة الينا ، مع ما بأيدينا من حيث المضمون ، وعليه فلا مانع من هذه الجهة.

الايراد الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني (٢) وهو انه اخص من المدعى : فإن لازمه جواز الرجوع إليها قبل الفحص بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأن المعلوم بالإجمال المردد بين الأقل

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٧٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٧٥.

(٣) نقله السيد الخوئي (ره) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٩٠. وفي دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٧٤.

١٧٠

والأكثر إذا كان ذا عنوان وتمييز ، غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم ، فإن الواقع تنجز بما له من الأفراد في الواقع ، كما لو علم بحرمة البيض من قطيع الغنم ، وتردد البيض بين العشرة والعشرين ، فهل يتوهم احد جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، بعد العلم تفصيلا بحرمة عشرة منها؟ والمقام من هذا القبيل ، فإن التكاليف المعلومة بالإجمال ، نعلم بوجودها في الكتب المعتبرة. وعليه فبعد الظفر بالمقدار المعلوم اجمالا ، لا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص.

نعم ، لو كان المعلوم بالإجمال من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر ، ولم يكن ذا علامة وتمييز جاز الرجوع إلى البراءة في مثل ذلك بعد الظفر بالمقدار الأقل ، ولكن المقام ليس كذلك.

ويرد عليه : ان الميزان في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو التعارض ، وإذا كان المعلوم بالإجمال الذي له علامة وتمييز ، مرددا بين الأقل والأكثر وظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال ، فلا مانع من جريان الأصول في سائر الأطراف لانها بلا معارض كما لا يخفى.

وان شئت قلت : ان العلم بتعلق التكليف بعنوان في التكاليف الانحلالية لا يوجب تنجزه بالنسبة إلى جميع أفراده الواقعية ، بل التنجيز يدور مدار ذلك مع العلم بالصغرى. ألا ترى ان الشارع الأقدس حرم الخمر والمكلف عالم بذلك ، ولكن ذلك لا يوجب تنجزه في الموارد المشكوك فيها. وفي المقام وان علم بوجود التكاليف في الأخبار المدونة في الكتب المعتبرة ، إلا ان هذا العنوان له أفراد معلومة ، وأفراد ومصاديق مشكوك فيها ، وفي القسم الثاني تجري البراءة

١٧١

بلا كلام ولا إشكال.

الوجه الرابع : ان عادة الشارع الاقدس جارية على ايصال التكاليف ، لا بالقهر والإجبار ، بل بجعلها في معرض الوصول إلى المكلفين. وعليه : فمقتضى قانون العبودية والمولوية لزوم الفحص عن الأحكام الشرعية ، ففعلية الوصول تكون من وظائف المكلفين بحكم العقل ، وهذا الحكم العقلي ، بمنزلة القرينة المتصلة ، ويكون مانعا عن ظهور أدلة البراءة في الإطلاق. وعليه فالأدلة لا تشمل الشبهات قبل الفحص.

الوجه الخامس : ما دل من الأخبار على لزوم التوقف في الشبهات قبل الفحص ورد حكمها إلى الامام (ع) (١). وحيث انها اخص من أدلة البراءة ، فتقدم عليها ، فتختص أدلة البراءة بالشبهات بعد الفحص.

الوجه السادس : الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم ، وهي طائفتان :

الطائفة الأولى : ما تضمن الأمر بالتفقه ، والحث والترغيب على فعله ، والذم على تركه ، كآية النفر (٢) ، والنصوص الكثيرة (٣). وتقريب الاستدلال بها

__________________

(١) إشارة إلى جملة من الاحاديث الواردة منها : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (ص) وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَاطْرَحُوهُ أَوْ رُدُّوهُ إِلَيْنَا. وسائل الشيعة ج ٢٠ ص ٤٦٣. وغيره.

(٢) سورة التوبة الآية ١٢٢.

(٣) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٧٦.

١٧٢

انه لو لم يكن الفحص واجبا لم يكن وجه للأمر بالسؤال والتفقه والذم على تركه.

الطائفة الثانية : ما تضمن مؤاخذة الجاهل بفعل المعصية لترك التعلم ، لاحظ ما عن الأمالي (١) عن الامام الصادق (ع) انه سئل عن قوله تعالى (فلله الحجة البالغة) (٢) فقال ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وان كان جاهلا ، قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة. وتقريب الاستدلال بها واضح.

وأورد على الاستدلال بها المحقق العراقي بايرادين :

الأول : اختصاصها بالفحص الموجب للعلم بالواقع ، والمطلوب أعم من ذلك. الثاني : انها ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره ، فعموم أدلة البراءة حينئذ ، واردة عليهما.

وفيهما نظر : اما الأول : فلقيام الامارات مقام العلم. واما الثاني : فلانها ظاهرة في الإرشاد إلى حكمه بلزوم الفحص عما جعله الشارع.

الموضع الثاني : في مقدار الفحص اللازم والظاهر انه لا حد مضبوط له ، بل حده حصول الاطمينان ، الذي هو حجة عقلائية بعدم وجود دليل من خبر أو اجماع تعبدي. فاللازم هو تتبع كتب الأخبار ، وكلمات الأبرار ، لتحصيل

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٩ والامالي للمفيد ص ٢٢٧ و ٢٩٢.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

١٧٣

العلم العادي بعدم الخبر وعدم اجماع تعبدي. ولاوجه للاكتفاء بالظن ، لأنه لا يغني من الحق شيئا.

واما تحقق الصغرى ، أي حصول الاطمينان بعدم الدليل ، فهو سهل لمن تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية.

في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه

الموضع الثالث : وهو استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه.

فملخص القول فيه ان الأقوال فيه ثلاثة :

القول الأول : ما هو المشهور بين الاصحاب (١) ، وهو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو اتفق.

القول الثاني : ما عن ظاهر الشيخ الأعظم (٢) وصريح المحقق النائيني (٣) ، وهو استحقاق العقاب على ترك الفحص المؤدى إلى مخالفة الواقع.

القول الثالث : ما عن المحقق الأردبيلي (٤) ، وصاحب المدارك (٥) ، وهو

__________________

(١) نسبه المحقق النائيني إلى المشهور في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٨١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥١٢.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٩. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٦٠.

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٩. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٦٠.

(٥) مدارك الأحكام ج ٢ ص ٣٤٥.

١٧٤

استحقاق العقاب على ترك الفحص والتعلم مطلقا وان لم يؤد إلى مخالفة الواقع. ومنشا الخلاف ان وجوب الفحص والتعلم هل يكون وجوبا نفسيا؟ أو طريقيا؟ أو ارشاديا؟ أو مقدميا؟

إذ على الأول : يكون الفحص كسائر الواجبات النفسية يعاقب على مخالفته. وعلى الثاني : يكون وجوب الفحص كسائر الأحكام الطريقية الموجبة لتنجز ذى الطريق ، واستحقاق العقاب على مخالفتها عند ترك الواقع. وعلى الثالث : يكون العقاب على مخالفة الواقع.

والاظهر عدم كون وجوبه نفسيا : لان الظاهر من الأدلة كون التعلم مقدمة للعمل ، كما هو صريح الخبر الوارد (١) في تفسير قوله تعالى (فلله الحجة البالغة (٢)) ، لا انه واجب نفسي. بل ظاهر ذلك الخبر كونه ارشاديا ، فإنه متضمن لإفهام العبد بما يقال له هلا تعلمت. ولو لم يكن وجوبه ارشاديا ، وكان نفسيا ، أو طريقيا كان له ان يجيب بعدم علمه بوجوب الفحص والتعلم ، كما أجاب عن الاعتراض بعدم العمل بعدم العلم بالحكم. مع انه إذا ثبت عدم كونه واجبا نفسيا لا مثبت لكونه طريقيا ، إذ عند دوران الأمر بين كون الأمر طريقيا ، أو ارشاديا لا معيّن لاحدهما.

ثم انه لا كلام في الواجبات المطلقة.

إنما الكلام في وجوب التعلم إذا كان الواجب مشروطا بشرط غير

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٩ والامالي للمفيد ص ٢٢٧ و ٢٩٢.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

١٧٥

حاصل ، من جهة انه في ظرف إمكان التعلم لم يثبت وجوب الواجب كي يجب تعلمه مقدمة له ، وفي ظرف حصول الشرط ، لا قدرة على الامتثال ، وقد مر الكلام في ذلك مستوفى في مبحث وجوب مقدمة الواجب.

حكم العمل المأتي به قبل الفحص

الموضع الرابع : وهو البحث حول صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده. فملخص القول فيه ان من ترك الفحص وعمل ، فإن كان عباديا ولم يتمش منه قصد القربة لا إشكال في فساده. وإلا فإن انكشف مخالفته للواقع ، أو لم ينكشف الخلاف والوفاق فكذلك. وان انكشف موافقته للواقع أو لما هو وظيفته صح لفرض الإتيان بالوظيفة ، فالصحة وسقوط الأمر حينئذ من القضايا التي قياساتها معها. كما انه لا إشكال في الصحة إذا انكشف موافقة عمل الجاهل قبل التقليد للواقع على فتوى كلا المجتهدين ، أي الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل ومن يجب الرجوع إليه فعلا.

إنما الكلام في موردين :

المورد الأول : فيما إذا انكشف موافقته لفتوى من كان يجب عليه الرجوع إليه حال العمل مع عدم مطابقته لفتوى المجتهد الفعلي أو مخالفته لها.

المورد الثاني : فيما إذا انكشف موافقته لفتوى المجتهد الفعلي ، ومخالفته لفتوى المجتهد الأول.

والاظهر هي الصحة فيهما : فإن متعلق رأى المجتهد الفعلي هو الحكم

١٧٦

الكلي ، والتقليد طريق إليه فبعد مطابقة عمله ، لفتوى من يجب الرجوع إليه يكون عمله مطابقا للواقع بحسب الطريق ، كما ان عمله ان كان مطابقا لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل كان عمله مطابقا للحجة ، إذ لا يعتبر في الموافقة للحجة العلم بالمطابقة ولا الاستناد إليها وتمام الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد.

حكم ما لو احتمل الابتلاء

بقي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : انه لا ريب في عدم لزوم الفحص فيما إذا اطمئن بعدم الابتلاء بالواقعة التي لا يعلم حكمها.

ولكن يقع الكلام فيما إذا احتمل الابتلاء.

وقد استدل (١) لعدم لزوم الفحص حينئذ باستصحاب عدم الابتلاء ، بناءً على جريانه في الأمور الاستقبالية كما هو الحق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) ، بأن الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثرا شرعيا أو موضوعا ذا أثر شرعي. واما إذا كان الأثر مترتبا على نفس الشك والاحتمال ، فلا مورد لجريان الاستصحاب.

__________________

(١) ذكر هذا الوجه السيد الخوئي بقوله ربما يقال. مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠١.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨. مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠١.

١٧٧

والمقام من قبيل الثاني : فإن الأثر المرغوب هو وجوب التعلم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهذا مترتب على احتمال الابتلاء دون واقعه فلا يجري فيه الأصل.

وفيه : ان وجوب التعلم إنما ثبت من باب اطاعة المولى ، ويكون وجوبه ارشاديا كما مر آنفا.

وعليه : فإذا جرى الاستصحاب وحكم بعدم الابتلاء يترتب عليه الأثر.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع لوجوب الفحص والتعلم هو الابتلاء.

وأورد عليه بعض الاكابر (١) بأن الاستصحاب يختص بالأمور الماضية ، فعدم الابتلاء في المستقبل لا يكون مشمولا لادلته.

وفيه : ان الميزان في جريان الاستصحاب تقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك فيه من غير فرق بين الأمور الماضية والاستقبالية وسيجيء تحقيق القول فيه في بحث الاستصحاب.

واستدل الأستاذ (٢) للزومه باستهجان تخصيص الأدلة الدالة على وجوب التعلم بموارد العلم أو الاطمينان بالابتلاء لندرتها فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء ثابتا بالدليل ، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل العملي (٣).

__________________

(١) نسب المحقق النائيني هذا القول إلى صاحب الجواهر في أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨.

(٢) السيد الخوئي أعلى الله مقامه.

(٣) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٨١.

١٧٨

وفيه : ان المسائل التي يعلم الابتلاء بها في غاية الكثرة.

فالحق ان يستدل لوجوبه بالعلم الإجمالي بابتلائه فيما بقي من عمره بما لا يعلم حكمه ، وهو مانع عن جريان الأصل في موارد الشك.

معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات

الأمر الثاني : المشهور بين الاصحاب (١) صحة صلاة من اجهر في موضع الاخفات ، وبالعكس ، ومن اتم في موضع القصر إذا كان منشؤه الجهل بالحكم وان كان عن تقصير ، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك الفحص.

وصار ذلك عويصة بأنه كيف يعقل الجمع بين الحكم بالصحة ، وعدم وجوب اعادة الواجب مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب. وذكروا وجوها في رفع هذه العويصة.

الوجه الاول : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) وحاصله : انه يمكن ان يكون المأتي به في حال الجهل خاصة مشتملا على مقدار من المصلحة ملزمة في نفسه ، ويكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة وزيادة ملزمة أيضاً ، ولكن لا يمكن تداركها عند استيفاء تلك المصلحة ، فالمأتي به غير مأمور به للأمر

__________________

(١) نسبه إلى الأصحاب في الفصول الغروية ص ٤٢٧.

(٢) درر الفوائد (الجديدة) ص ٢٧٦.

١٧٩

بالاهم ، ويحكم بصحته لاشتماله على المصلحة ، ولا يجب اعادة الواجب الواقعي لعدم إمكان استيفاء الباقي ، ويحكم باستحقاقه العقاب ، لأجل ان فوت المصلحة الملزمة مستند إلى تقصير العبد في ترك التعلم.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل ان كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية خصوصا مع إمكان استيفائها في الوقت.

ودعوى عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء ، واضحة الفساد : إذ لا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها الموجودة في المقام ، إلا إذا كان ثبوت المصلحة في الواجب مشروطا بعدم سبق المأتي به من المكلف ، وهو خلف ، إذ يلزم منه خلو الواجب عن المصلحة في حال الجهل ، فلا موجب لاستحقاق العقاب. وان لم يكن لتلك الخصوصية ، دخل في حصول الغرض فاللازم هو الحكم بالتخيير بين العملين ، غايته ان يكون الواجب افضل فردي التخيير ولاوجه لاستحقاق العقاب.

وفيه : ان الخصوصية الزائدة ، وان كانت دخيلة ، إلا انها دخيلة في كمال المصلحة لا في اصلها ، وإنما يسقط الواجب لعدم استيفاء الكامل.

ودعوى : ان المصلحتين لا تضاد بينهما إلا من ناحية عدم القدرة على متعلقهما وهي متحققة على الفرض.

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٩٢.

١٨٠