زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

الحكمين من حيث انفسهما لا تضاد بينهما ، بل التنافي بينهما إنما يكون بالعرض ومن ناحية المبدأ أو المنتهى وشيء منهما لا يكون في المقام.

اما من ناحية المبدأ فلان الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في المتعلقات ، والأحكام الظاهرية ناشئة من المصالح في الجعل ، واما من ناحية المنتهى فلان جعل الترخيص مقيدا الذي نتيجته جواز ارتكاب أحدهما لا ارتكابهما معا ، ليس ترخيصا في المعصية.

وقد اعترف دام ظله بأن الترخيص في المخالفة الاحتمالية لا محذور فيه.

فتحصل مما ذكرناه ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول جواز ارتكاب ما زاد عن مقدار الحرام.

واما الجهة الثانية : فمقتضى النصوص الخاصة الواردة في موارد مخصوصة وجوب الموافقة القطعية.

لاحظ موثق عمار (١) الوارد في الإنائين المعلوم نجاسة أحدهما المشتبه بالآخر الدال على لزوم الاجتناب عنهما.

وحسن صفوان (٢) في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما المتضمن للأمر بالصلاة فيهما والنصوص الدالة على غسل تمام الثوب المعلوم نجاسة بعضه (٣)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ١٥٥ ح ٣٨٨.

(٢) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٥٠٥ ح ٤٢٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٤٠٣ ح ٣٩٨٣ وص ٤٠٤ ح ٣٩٨٤. وعدة روايات أخرى.

٢١

وبعض النصوص الوارد في الجبن (١) ويؤيده ما روى عن الإمام على انه ما اجتمع الحرام والحلال الأغلب الحرام الحلال (٢).

ولا يعارضها ما ورد في قطيع غنم (٣) نزا الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم حيث قال (ع) يقسم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما فكلما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين وهكذا حتى يبقي واحدة ، وما دل على الاكتفاء بصلاة واحدة إلى بعض الجهات المشتبه (٤) وغير ذلك من النصوص.

فإن بعضها مطروح وبعضها مؤول ، وبعضها مختص بمورده ، فالأظهر وجوب الموافقة القطعية.

عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : انه إذا لم يحرم المخالفة القطعية في مورد لأجل عدم القدرة عليها ، كما لو علم بحرمة الجلوس في إحدى الدارين في أول طلوع الشمس ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٤ ص ١٧٩ ح ٣٠٢٨٦ وح ٣٠٢٨٧.

(٢) عوالي اللئالي ج ٢ ص ١٣٢ وج ٣ ص ٤٦٦. وفي مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٤ ص ١٦٩ ح ٣٠٢٦١ وص ١٧٠ ح ٣٠٢٦٤.

(٤) وسائل الشيعة ج ٤ ص ٣١١ ح ٥٢٣٧.

٢٢

فهل تجب الموافقة القطعية كما عن بعض الاساطين (١) أم لا تجب؟ كما عن المحقق النائيني (ره) (٢) وجهان.

قد استدل للاول : بأن وجوب الموافقة القطعية إنما يكون بحكم العقل من جهة انه في كل طرف يحتمل التكليف يكون ذلك الاحتمال مورد الوجوب دفع الضرر المحتمل ، ويكون الاحتمال منجزا ما لم يكن هناك مؤمن شرعي أو عقلي ، وعدم المؤمن الشرعي في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إنما يكون لأجل التعارض من غير توقف لذلك على حرمة المخالفة القطعية.

وفيه : اولا ان التعارض بين الأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي إنما يكون لأجل انه من جريانهما معا يلزم الترخيص في المعصية فهما معا لا يجران فيقع التعارض بينهما ، وإذا فرض انه من جريانهما معا لا يلزم الترخيص في المعصية كما في المقام ، لفرض عدم القدرة على المعصية القطعية فلا مانع من جريانهما معا ، فلا تعارض بينهما فيجريان ، ونتيجة الأصلين عدم وجوب الموافقة القطيعة.

ودعوى ، ان جريان الأصل فيهما ، مستلزم للترخيص في المبغوض الواصل ، قد عرفت ما فيها وان هذا من حيث هو لا محذور فيه.

فالمتحصّل انه في كل مورد لم يتمكن من المخالفة القطعية لا يجب الموافقة القطعية.

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٢ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٦١ / المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٣٤.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٨٠ و ٢٥٦.

٢٣

حدوث المانع بعد العلم

الأمر الثاني : قد عرفت ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ليس لمانع ثبوتي ، وإنما يكون لأجل التعارض ، فلو لم يجر الأصل النافي في احد الأطراف ، اما من جهة كونه موردا لأصل ثبوتي من الاستصحاب ، كما لو علم بنجاسة احد الماءين ، الذين يكون أحدهما مستصحب النجاسة ، أو قاعدة الاشتغال ، كما لو علم بعدم الإتيان بإحدى الصلاتين ، مع كون إحداهما موردا لقاعدة الاشتغال ، أو تنجز التكليف فيه بمنجز آخر قبله ، كما لو علم بنجاسة ما في احد الماءين ثم علم بإصابة النجاسة بإحداهما أو إناء آخر ، أو غير ذلك من الموانع ، يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وهذا مضافا إلى وضوحه سيأتي الكلام فيه في مبحث الاضطرار ، والخروج عن محل الابتلاء فانتظر.

إنما الكلام : في هذا التنبيه في انه إذا حدث احد الموانع بعد تنجيز العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى : ما لو طرأ احد الموانع على العلم ، وهو على قسمين :

أحدهما : ما لو كان متعلق هذه الأمور مقارنا للعلم ، أو متقدما عليه.

كما لو علم بنجاسة احد الإنائين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بأن احد الإنائين معينا كان حين إصابة النجاسة المعلومة أو قبلها نجسا للملاقاة مع نجاسة أخرى.

ثانيهما : ما لو كان متعلقها متأخرا عنه ، كما لو علم بإصابة الدم بأحد

٢٤

الإنائين ، ثم علم تفصيلا بأنه صار أحدهما معينا نجسا ، أو فقد أحدهما أو انعدم ، أو علم بوجود احد الفعلين وأتى بأحدهما.

والمختار جريان الأصل النافي في القسم الأول ، دون الثاني.

اما الأول : فيتضح ببيان أمرين :

الأمر الأول : ان المنجز كان هو العلم التفصيلي ، أو الإجمالي ، أو الإمارة ، أو الاستصحاب يعتبر في بقاء منجزيته ، بقائه.

فلم علم تفصيلا أو إجمالا بنجاسة شيء أو احد الشيئين أو قامت الإمارة عليها أو استصحبت ، ثم شك فيها بنحو الشك الساري يزول تنجيزه ، ولا يجب الاجتناب عما علم نجاسته وجدانا أو تعبدا.

نعم لو كان العلم باقيا وشك في رفعه يجب الاجتناب عنه بقاءً.

الأمر الثاني : ان زوال العلم الإجمالي كما يكون بالشك فيما علم بالشك الساري ، كذلك يكون بالعلم الوجداني أو التعبدي بأن احد طرفي العلم حين حدوث العلم أو قبله كان محكوما بحكم مماثل لما علم بثبوته ، لان ذلك يوجب الشك في ثبوت تكليف آخر غير ما ثبت في ذلك الطرف المعين ، فالحجة المتأخرة توجب الشك الساري في العلم الإجمالي فلا محالة يزول تنجيزه.

فالمتحصّل انه لو كان المانع الطارئ متعلقه مقارنا أو متقدما على المعلوم بالإجمال ، لا محالة يسقط العلم عن التنجيز لزوال العلم بقاء.

وبما ذكرناه يظهر انه لو علم بنجاسة احد الشيئين في يوم الجمعة مثلا ثم في يوم السبت علم بأن أحدهما المعين كان في يوم الخميس نجسا واحتمل

٢٥

طهارته في يوم الجمعة : فإنه يجري الاستصحاب فيه فبقاء لا علم بحدوث تكليف زائد فينقلب الشك في انطباق المعلوم بالإجمال إلى الشك في حدوث نجاسة أخرى.

واما في القسم الثاني : فلا يجري الأصل في الطرف الآخر بل هو مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ العلم الإجمالي يكون باقيا ، والشك يكون شكا في الامتثال بعد العلم بحدوث التكليف ، وعدم الشك فيه ، والشك في الامتثال مورد لقاعدة الاشتغال.

وبتقريب آخر : ان المانع عن جريان الأصل وان كان هو التعارض وهو لا يكون باقيا ، إلا انه حيث يكون الشك في الزمان اللاحق بعينه الشك السابق ، ولا يكون فردا آخر ، ولم ينقلب إليه كما في القسم الأول ، والمفروض انه لم يشمله في الزمان السابق أدلة الأصول فلا تشمله إلى الأبد.

فإنه ليس لأدلة الأصول عموم ازماني حتى يقال بأن كل زمان موضوع مستقل فلا مانع من عدم الشمول في زمان والشمول في زمان آخر.

وإنما شمولها له في جميع الأزمان يكون بالإطلاق فكل واحد من أفراد الشك موضوع واحد في جميع الأزمنة ، فحينئذ إذا خرج فرد لا معنى لشمول الأدلة له بعد ذلك ، فإنه ليس فردا آخر.

وهذا الوجه مع إصرار الأستاذ (١) عليه غير خال عن المناقشة فإنه قد عرفت ان لدليل الأصل عموم أفرادي ، واطلاق أحوالي وزماني ، فإذا ورد

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٧٦.

٢٦

التقييد على الثاني يؤخذ بالمقدار الثابت ، وفي الزائد عليه يرجع إلى الإطلاق كما هو الشأن ، في كل إطلاق وعام ، وقد اعترف دام ظله (قدس‌سره) بذلك في دليل الأصل في مبحث شموله لأطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير (١).

والحق ان يقال انه في القسم الثاني ، وهو ما لو علم بطرو احد تلكم الأمور بعد تحقق العلم الإجمالي ، كما لو علم بنجاسة ما في احد الإنائين ثم انعدم أحدهما أو خرج عن محل الابتلاء أو اهريق ما فيه وانعدم أو علم بوجوب القصر أو التمام صلى القصر أو التمام ، يجري استصحاب بقاء الحكم المعلوم بالإجمال من وجوب الاجتناب ، أو لزوم الإتيان ، فإنه حين ما علم اجمالا بنجاسة ما في احد الإنائين أو وجوب احد الفعلين ، علم بتوجه خطاب لزومي إليه ، وبعد طرو المانع يشك في بقائه إذ لو كان في ذلك الطرف ، فقد ارتفع ، ولو كان في الطرف الآخر فهو باق ، فلا محالة يجري الاستصحاب وحيث ان المستصحب حكم شرعي لا يتوقف جريان الاستصحاب على وجود أثر شرعي آخر بل يتوقف على ترتب أثر عملي عليه ، وهو يتحقق في المقام وهو الاجتناب عن الطرف الآخر ، أو الإتيان به حيث ان العقل يحكم بذلك تحقيقا للامتثال القطعي.

وبهذا البيان يظهر انه لا نحتاج إلى اثبات ان هذا الفرد لازم الاجتناب ، أو يجب الإتيان به ، حتى يقال ان الاستصحاب المذكور لا يثبت ذلك لكونه لازما عقليا ، بل المستصحب بنفسه حكم شرعي مجرى الاستصحاب والعقل في مقام

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٣٢.

٢٧

امتثاله والقطع بفراغ الذمة ، يحكم بلزوم الاجتناب في العلم بالحرمة ، ولزوم الإتيان في العلم بالوجوب.

فإن قلت : ان الشك في بقاء ذلك التكليف مسبب عن الشك في تعلق التكليف بهذا الطرف ، والأصل ينفي ذلك فلا مورد للأصل المسببي.

قلت : ان الأصل على فرض جريانه إنما ينفي كون هذا الفرد موردا للتكليف من الآن ، ولا يجري بالنسبة إلى ما قبل ذلك فإنه يكون معارضا.

مثلا : لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فصلى الجمعة فإن الشك في وجوب الظهر ، لو جرى فيه الأصل فإنما يدل على عدم وجوبه فعلا ، ولا يكون مفاد الأصل عدم وجوبه من الأول ، فإذا لم يدل على عدم تعلقه به من الأول ، فاحتمال وجوبه قبل ذلك ليس موردا للأصل.

ومن البديهي ان بقاء الوجوب المعلوم تعلقه بأحدهما ليس مسببا عن كون هذا الفرد واجبا فعلا وإنما يكون مسببا عن تعلقه به أولا وحيث لا يجري فيه الأصل للتعارض فيجري في المسبب.

فإن قلت : إذا جرى الأصل في الظهر مثلا وحكم الشارع بعدم العقاب من ناحية ترك الظهر ، فما فائدة الاستصحاب؟ وجريانه لا يوجب حكم العقل بلزوم الإتيان بالظهر.

قلت : ان في صلاة الظهر جهتين ، إحداهما : كونها مصداقا للجامع الذي علم تعلق التكليف به ، ثانيتهما : خصوصية الظهرية ، والبراءة من الجهة الثانية تجري ، وتدل على عدم اقتضاء العقاب من هذه الناحية ، واما من الجهة الأولى

٢٨

فهي ساكتة عنها ، والاستصحاب يدل على اقتضائه من تلك الناحية ، ومن البديهي ان ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له اقتضاء.

ويمكن ان يذكر وجه آخر لعدم جريان الأصل النافي فيه ، وهو :

ان الأصل في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، من الأول إلى الابد يعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، وان كان اقصر زمانا منه ، كما لو علم بحرمة الجلوس من الطلوع إلى الزوال في محل ، أو حرمته من الطلوع إلى الغروب في محل آخر.

وان شئت فعبر عنه بأنه ينحل هذا العلم إلى علمين اجماليين.

أحدهما : العلم بحرمة الجلوس من الطلوع إلى الزوال في هذا المحل ، أو الجلوس من الطلوع إلى الزوال في محل آخر.

ثانيهما : العلم بحرمته من الطلوع إلى الزوال ، أو حرمته من الزوال إلى الغروب في محل آخر ، وحيث انهما مقارنان فينجزان معا.

وفي المقام نقول : انه لو فرضنا العلم بوجوب الجمعة أو الظهر مثلا ـ فصلى الجمعة ـ لا يجري الأصل في الظهر ، لان العلم الإجمالي ينحل إلى العلم بوجوب الجمعة إلى حين الإتيان بها ، أو الظهر إلى ذلك الزمان ، والعلم بوجوب الجمعة إلى ذلك الحين ، أو الظهر من ذلك الحين إلى الغروب.

فلا محالة أصالة عدم وجوب الظهر من ذلك الحين تعارض مع أصالة عدم وجوب الجمعة فتتساقطان فتدبر فإنه دقيق.

٢٩

لو كان المعلوم الإجمالي واجبا تعبديا

الأمر الثالث : إذا تردد الواجب بين أمرين أو أمور ، وأتى المكلف ببعض المحتملات فانكشف مصادفته للواقع ، فإن كان الواجب توصليا لا كلام في سقوطه ، وهو واضح.

وان كان تعبديا ، فهل يسقط ، أم لا؟ أم يفصل بين ما إذا كان المكلف عازما على الموافقة القطعية بإتيان جميع المحتملات ، فيسقط ، وبين ما إذا كان قاصدا للإتيان ببعض المحتملات فلا يحكم بالصحة؟

وجوه واقوال : وقد اختار الشيخ الأنصاري (ره) الوجه الثالث (١).

وعلل ذلك بأنه يعتبر في العبادة الجزم في نيتها فإن امكن تفصيلا وإلا فاجمالا ، وحيث انه في الصورة الأولى يكون الجزم موجودا ، دون الثانية فتصح الأولى دون الثانية.

ولكن حيث لم يدل دليل على اعتبار شيء في العبادة سوى كون الداعي غير نفساني ، وعرفت في محله من مبحث التعبدي والتوصلي :

انه إذا شك في اعتبار قصد القربة أو الوجه أو التمييز أو الجزم في النية أو نحوها مما لم يدل دليل على اعتباره ، يكون المرجع هو إطلاق دليل ذلك المأمور به ، ومع عدمه هو البراءة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٨١.

٣٠

فلو أتى المكلف ببعض المحتملات برجاء إصابة الواقع وصادف الواقع فقد قصد القربة بفعله وأتى بالعبادة على وجهها ، فتكون صحيحة ومجزية.

ويترتب على ذلك انه لو دار امر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين أفعال متعددة كما لو علم بنجاسة احد ثوبيه لا يعتبر في صحة الثانية ، الفراغ اليقيني من الأولى ، بل يكفي الإتيان ببعض محتملاتها.

فإذا صلى الظهر في احد ثوبيه ، له ان يصلى العصر في ذلك الثوب ، ولا يتوقف الإتيان بالعصر على الإتيان بالظهر في ثوبيه.

نعم ليس له ان يصلي العصر في الثوب الآخر : فإنه يحتمل ان يكون هو الطاهر فيكون قد أتى بالعصر قبل الظهر.

وان شئت قلت انه يعمل إجمالا بعدم الأمر بالعصر في ذلك الثوب ، اما لنجاسته أو لوقوع العصر قبل الظهر.

لو كان متعلق العلم عنوانا مرددا بين عنوانين

الأمر الرابع : لا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين ان يكون المعلوم عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة ، كما لو كان المعلوم خصوص نجاسة احد الماءين أو غصبية أحدهما ، أو ما شاكل ، وبين ان يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو علم اجمالا بنجاسة احد الماءين أو غصبيته.

وذلك لان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي وحرمة مخالفته القطعية ،

٣١

ووجوب موافقتها كذلك هو كونه وصولا للإلزام المولوي بعثا أو زجرا ، وتردد المعلوم بين عنوانين ، لا يوجب قصورا في كشفه ووصوله فإنه يعلم بخطاب مولوي موجه إليه ، والعقل يلزم بامتثاله واطاعته.

وان شئت فاختبر ذلك بما لو علم بتوجه امر باكرام زيد إليه ، ولم يعلم انه يجب اكرامه لعلمه أو لورعه ، فإنه لا يشك احد في لزوم امتثال هذا الحكم.

فما أفاده صاحب الحدائق على ما نسب إليه (١) من انه لو كان المعلوم بالإجمال مرددا بين العنوانين ، لا يجب موافقته القطعية ، ولا يحرم مخالفته القطعية ، في غير محله.

إذا كان أثر احد الأطراف اكثر

الأمر الخامس : انه لا فرق فيما ذكرناه من تنجيز العلم الإجمالي ولزوم الموافقة القطعية ، ولزوم ترتيب الأثر على كل طرف ، بين ما لو كان أثر كل واحد شيئا واحدا كما لو علم بغصبية احد المائعين.

وبين ما لو كان أثر أحدهما اكثر.

وفي الفرض الثاني لا فرق بين ان لا يكون بينهما قدر مشترك كما لو علم بوجوب قراءة يس ، أو التوحيد في ليلة الجمعة بنذر ونحوه ، فإن سورة يس وان

__________________

(١) نسب هذا القول إلى صاحب الحدائق في نهاية الأفكار ج ٣ ص ٣٣٢.

٣٢

كانت اكثر من التوحيد ، إلا انه لا قدر مشترك بينهما كي يكون هو المتيقن.

وبين ان يكون بينهما قدر مشترك ، كما لو علم بوقوع النجاسة في الإناء الذي فيه ماء مطلق أو في الإناء الذي فيه مائع مضاف ، فإن أثر النجاسة في كلا الطرفين ، هو حرمة الشرب وهي الأثر المشترك ، ولكن للماء المطلق أثر آخر يخصه وهو عدم جواز التوضؤ به على تقدير وقوع النجاسة فيه ، فإن العلم الإجمالي يكون منجزا في جميع الصور من حيث جميع الآثار.

فإنه في جميع الصور يتعارض الأصول في أطرافه وتتساقط.

فاحتمال التكليف في كل طرف بالنسبة إلى كل أثر موجود ، ولا مؤمن له ، فمقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل ترتيب جمع الآثار.

وعن المحقق النائيني (ره) (١) انه في الصورة الأخيرة يكون العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إلى الأثر المشترك ، واما بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض الأطراف ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، وفي المثال المتقدم لا يجوز شرب الماء المطلق ، ولا شرب المائع المضاف ، ولكن لا مانع من التوضؤ بالماء المطلق.

وعلل ذلك بأن توجه تكليف لا تشرب ، معلوم ، فلا مجرى للأصل بالنسبة إليه ، واما توجه لا تتوضأ فهو مشكوك فيه ، فيجري فيه الأصل بلا معارض.

ولكن يرد عليه ان جواز التوضؤ متفرع على جريان قاعدة الطهارة في

__________________

(١) نسبه إليه السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٦٧.

٣٣

الماء ، والمفروض سقوطها للمعارضة ، فلا طريق إلى الحكم بطهارته كي يحكم بجواز التوضؤ به.

وبعبارة أخرى : كلا الحكمين في احد الطرفين ، معارض مع الحكم الواحد في الطرف الآخر فلا يجري الأصل في شيء منهما.

وان شئت قلت : ان هذا العلم الإجمالي ينحل إلى علمين اجماليين مقارنين ، أحدهما : العلم بتوجه ، لا تشرب المائع المضاف. أو لا تشرب الماء المطلق ، ثانيهما : العلم بتوجه خطاب لا تشرب المائع المضاف ، أو لا تتوضأ من الماء المطلق ، وهذا العلمان متقارنان ، ويوجبان سقوط الأصول في كل طرف بالنسبة إلى جميع الآثار ، ولا يمكن إجراء أصالة البراءة عن خصوص عدم جواز التوضؤ ، فلا فرق بين ان يكون في كل طرف حكما واحدا أو في أحدهما حكما واحدا ، وفي الآخر حكمين ، فمن علم إجمالا بأنه اما مديون لزيد بدرهم أو لعمرو بدرهمين ، لا يجري الأصل في الدرهم الزائد.

نعم يتم ما أفاده فيما لو كان الموضوع واحدا وكان الترديد في السبب الذي تعلق به العلم الإجمالي كما لو علم بأنه مديون لزيد اما بدرهم ، أو بدرهمين من جهة العلم الإجمالي بأنه : اما استقرض من زيد درهما ، أو اتلف ماله الذي يسوى درهمين.

إذ اشتغال الذمة بدرهم لزيد معلوم لا يجري الأصل فيه ، والزائد مشكوك الحدوث فيجري فيه الأصل بلا معارض.

٣٤

تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

الأمر السادس : لو كانت الأطراف تدريجية الوجود ، بأن تعلق العلم الإجمالي بالأمور التدريجية ، فهل هو كالعلم الإجمالي المتعلق بالأمور الدفعية ، أم لا؟

وقبل الشروع في البحث لا بد وان يعلم ان محل الكلام في هذا البحث ، هو ما إذا لم تكن الأطراف مورد الاحتياط في انفسها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي.

فما مثلوا به للمقام بما لو علم اجمالا بأنه يبتلى في يومه هذا بمعاملة ربوية من جهة الشبهة الحكمية ، غير صحيح ، إذ في مثله يجب الاحتياط ، سواء كان العلم الإجمالي منجزا في التدريجيات ، أم لم يكن كذلك ، إذ كل معاملة يحتمل ان تكون ربوية في نفسها ، مع قطع النظر عن كون العلم الإجمالي مورد لأصالة الاحتياط ، لكون الشبهة حكمية ، ولا يجوز الرجوع فيها إلى أصالة البراءة قبل الفحص.

ومن جهة الحكم الوضعي مورد لأصالة عدم النقل والانتقال ، والفساد.

ودعوى : انه يمكن الرجوع إلى عموم ما دل على صحة كل معاملة ، مندفعة : بأن العمومات قد خصصت بما دل على فساد المعاملة الربوية فالشك إنما هو في مصداق المخصص ، ولا يصح التمسك بالعمومات في مثله.

وايضا محل الكلام في المقام : فيما لم يرد فيه نص خاص.

٣٥

فما مثل به من انه لو علمت المرأة المستمرة الدم انها تحيض ، اما في أول الشهر أو آخره ، غير تام ، لورود روايات خاصة في المسألة وقد اشبعنا الكلام فيها في الجزء الثاني (١) من كتابنا فقه الصادق.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان تدريجية أطراف العلم الإجمالي إنما تكون على أقسام.

القسم الأول : ان يكون ذلك مستندا إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينهما ، كما إذا علم بنجاسة احد الإنائين فشرب ما فيهما تدريجا مع تمكنه من شرب الجميع دفعة ، فلا إشكال ولا كلام في تنجيز العلم الإجمالي في هذا القسم ، وهو واضح.

ويلحق بالقسم الاول ، القسم الثاني : وهو ما إذا كانت التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف في الجمع بينهما ، مع تمكنه من ارتكاب كل منهما بالفعل مع ترك الآخر ، كما لو علم بحرمة احد الضدين الذين لهما ثالث ، وذلك للعلم بالتكليف الفعلي وتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها.

القسم الثالث : ما لو كانت التدريجية في المتعلق مع العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، كما لو علم بتعلق النذر بقراءة سورة خاصة في يوم الخميس ، أو في يوم الجمعة بناءً على القول بالوجوب المعلق ، وان وجوب الوفاء بالنذر إنما يكون فعليا ، لان الملاك يتم بالنذر ، ويكون التكليف المتعلق بالوفاء به فعليا على كل تقدير ، ويكون ظرف الامتثال والإتيان بالمتعلق متأخرا على

__________________

(١) فقه الصادق ص ١٣٠ حسب الطبعة الثالثة.

٣٦

تقدير.

وفي هذا القسم أيضاً لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي ، وتساقط الأصول في أطرافه ، لمعلومية التكليف واستلزام جريان الأصل في الطرفين للترخيص في المعصية.

القسم الرابع : ما لو كانت التدريجية في التكليف ، ولم يكن المعلوم فعليا على كل تقدير كما لو علم بوجوب مردد بين كونه فعليا الآن ، وكونه فعليا فيما بعد كما في مثال النذر ـ على القول بعدم معقولية الواجب المعلق ـ ، وكما لو تردد الواجب بين كونه مطلقا أو مشروطا بشرط يحصل فيما بعد.

وفيه اقوال :

القول الاول : جريان الأصل في كل من الطرفين مطلقا. وقد ذهب إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١).

القول الثاني : عدم جريانه في شيء من الطرفين مطلقا ، اختاره المحقق النائيني (ره) (٢).

القول الثالث : التفصيل بين ما إذا كان الملاك تاما على كل تقدير كما في مثال النذر ، فلا يجري الأصل في شيء من الطرفين ، وبين ما إذا لم يكن تاما على

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٢١٢.

٣٧

كل تقدير كما في المثال الثاني ، فيجري فيه الأصل اختاره الشيخ الأعظم (١).

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

المورد الاول : فيما لو كان الملاك تاما على كل تقدير ، كما في مثال النذر ، وإنما لا يلتزم بالوجوب لو كان النذر متعلقا بالامر المتأخر لعدم معقولية الواجب المعلق.

المورد الثاني : ما إذا كان الملاك على تقدير تاما ، وعلى تقدير غير تام ، لعدم تحقق ما له دخل في تماميته كاكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية التكليف ، ومثل له الشيخ (٢) بما لو علمت المرأة بأنها تحيض في الشهر ثلاثة ايام مرددا بين ايامه.

اما المورد الأول : فلا ينبغي التوقف في منجزية العلم الإجمالي ، لان الترخيص في تفويت الملاك الملزم قبيح عقلا كالترخيص في مخالفة التكليف ، فلا يجري الأصل في شيء من الطرفين.

واما في المورد الثاني : فافاد الشيخ (٣) انه يرجع إلى الأصل النافي للحكم إلى ان يبقي مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الاباحة ولا يتعارضان.

اما قبل بقاء ثلاثة ايام ، فلعدم المعارض للأصل النافي لعدم التكليف في ذلك الزمان بالنسبة إلى تلك الايام قطعا فلا حاجة إلى الأصل.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٢٧.

(٢) نقله في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧١.

(٣) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٧٨.

٣٨

واما الثلاثة الأخيرة فالأصل النافي للحكم ، لا يعارضه الأصل الجاري فيما قبلها لعدمه فعلا ، غاية الأمر بعد جريان الأصل فيه يقطع بمخالفة احد الأصلين للواقع. ولا محذور فيه.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) مبتنيا على ما ذكره في بحث مقدمة الواجب ، من حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي ، بدعوى ، انه لا فرق في ذلك بين كون التفويت مستندا إلى العبد ، وبين كونه مستندا إلى المولى فلا يجوز للمولى ان يرخص في تفويت الملاك الملزم.

وبما ان ترخيصه في الاقتحام في كل واحد من أطراف الشبهة في ظرف الابتلاء به يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه فيكون قبيحا.

وان شئت قلت : انه لا فرق في قبح تفويت الملاك الملزم بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فكما ان من يعلم تفصيلا بأن الاقتحام في فعل يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه لا يجوز له ذلك ، ويقبح للمولى الترخيص فيه ، كذلك من يعلم اجمالا بأن احد الفعلين التدريجيين مفوت للملاك الملزم ، كما في المقام ، لا يجوز له ذلك ، وليس للمولى ان يرخص فيه.

وما أفاده وان كان حقا ، إلا ان الظاهر عدم جريان الأصل ، حتى مع عدم البناء على استقلال العقل بقبح ذلك.

إذ من يعلم بتوجه التكليف إليه اما في أول الشهر ، أو آخره ، لا يمكن

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ١٩٨.

٣٩

للمولى ان يرخص في عدم امتثاله لأنه ترخيص في المعصية.

وبالجملة : الأصل الجاري في احد الطرفين في أول الشهر يعارض ، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر في آخر الشهر ، إذ لا يعتبر في التعارض كونهما عرضيين وفي زمان واحد.

مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي

الأمر السابع : لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف ، فهل يمنع ذلك عن تنجيز العلم الإجمالي أم لا؟

وقبل الشروع في البحث لا بد من بيان امر به يتضح محل البحث :

وهو ان محل الكلام : ما لو كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال. كما لو علم بنجاسة احد المائعين المضافين ، ثم اضطر إلى شرب أحدهما ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار ، فيقع الكلام في انه هل ينحل العلم الإجمالي بذلك أم لا؟

واما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار. كما لو علم بنجاسة احد الماءين المطلقين ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين ، أو علم بنجاسة الماء أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب الماء فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال حرمة الشرب ، وعدم جواز التوضؤ به ، والاضطرار إنما يرفع الحكم الأول ، ويكون الأثر الآخر باقيا فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي ، وهو واضح ، فلا يجوز التوضؤ بشيء منهما.

٤٠