زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

تعذر ما علم وجوبه ، وهو مورد للبراءة.

ثم ان المحقق النائيني (١) اختار في خصوص مسألة القراءة والائتمام ، عدم كون الوجوب تعيينا.

واستدل له : بأن الائتمام وان كان عدلا للواجب إلا انه عدل للصلاة فرادى بما لها من المراتب الطولية ، لما دل على ان (سين بلال عند الله شين) (٢). والنبوي الآخر (ان الرجل الاعجمي ليقرأ القرآن بعجميته فيرفعه الملائكة على عربية) (٣). وللاطلاقات الآمرة بقراءة ما تيسر (٤) الشاملة لصورة التمكن من الائتمام ، فلا يتعين عليه الائتمام حتى على هذا المسلك.

وبهذا البيان يندفع ما اورده الأستاذ (٥) عليه ، بأن ما يحتمله الامام من المأموم إنما هي القراءة وليس فيها حرف الشين ليتعين عليه الائتمام عند تعذر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييريا.

فإنه وان ذكر من الروايات خصوص النبوي المشهور إلا ان الظاهر ان مراده ما ذكرناه.

ويمكن ان يستدل لأصالة التخيير بالمعنى المشار إليه فيما لو عجز في

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٧. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٧.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٢٧٨.

(٣) مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٢٧٩.

(٤) سورة المزمل آية ٢٠.

(٥) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٤٣.

١٢١

الاثناء ، كما إذا تعذرت القراءة لأمر طارئ من ضيق الوقت ونحوه : باستصحاب بقاء الوجوب المتعلق بخصوص ما علم تعلق التكليف به كالقراءة ، أو بالأعم منه ومن ما علم مسقطيته ، كالائتمام. ولا نريد اثبات وجوب المسقط تعيينا ، كي يرد عليه ما أفاده المحقق النائيني من انه من الأصول المثبتة (١) ، بل بما ان المستصحب بنفسه من الأحكام الشرعية لا يتوقف جريان الاستصحاب إلا على ترتب أثر عقلي عليه ، وهو في المقام تعين الإتيان بما علم مسقطيته وشك في تعلق التكليف به ، فيتعين ذلك ، ويكون هذا الأصل حاكما على أصالة البراءة المتقدمة.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الاظهر هو التفصيل بين كون العجز من الأول فالأصل هو التعيين ، وبين كونه طارئا في الاثناء فالأصل هو التخيير.

الصورة الثانية : ان يعلم وجوب كل من الفعلين ، ويدور الأمر بين ان يكون وجوب كل منهما تعيينيا ، فيجب الإتيان بهما معا مع التمكن ، أو تخييريا يجتزى بإتيان أحدهما. والأصل في هذه الصورة هو التخيير ، ويظهر وجهه مما سنذكره في الصورة الثالثة ..

الصورة الثالثة : وهي ما إذا علم وجوب فعل بخصوصه واحتمل كون فعل آخر عدلا له حتى يكون ما علم تعلق التكليف به احد فردي الواجب التخييري. أو انه ليس عدله بل يتعين هو ، ولا يقوم شيء آخر مقامه ولا يسقطه ، كما لو علم بوجوب العتق ، وشك في انه واجب تعييني أو مخيرا بينه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٨. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٩.

١٢٢

وبين الصوم. فقد ذهب جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (١) ، والمحقق النائيني (٢) ، إلى ان الأصل فيها هو التعيين. وعليه يبتنى الحكم في مسألتنا التي هي محل الكلام في كونها مجرى لقاعدة الاشتغال ، أو البراءة.

اما المحقق الخراساني ، فقد استدل له بوجهين :

أحدهما : ما في الكفاية (٣) ، وهو مختص بما إذا كان المحتمل دخل خصوصية ذاتية في الواجب ، وان خصوصية الخاص منتزعة من نفس الخاص ولا يمكن معه الرجوع إلى البراءة. وقد مر الجواب عنه.

ثانيهما : ما ذكره في حاشيته على الفرائد (٤) وهو التمسك باستصحاب عدم وجوب ما يحتمل كونه عدلا ، واستصحاب بقاء التكليف بعد الإتيان به.

ويرد على الاستصحاب الأول : انه لا يثبت به التعيين ، إلا على القول بالأصل المثبت مع انه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني لما يحتمل تعيينيته.

ويرد على الثاني : ان الشك في بقاء الوجوب بعد الإتيان بما يحتمل كونه عدلا مسبب عن احتمال كون الواجب تعيينا ، فإذا جرى الأصل فيه ، وارتفع هذا الاحتمال ، وحكم بكون الواجب تخييريا ، لا يبقى موضوع لهذا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٤. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٣.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

(٤) درر الفوائد (القديمة) ص ٥٤٥.

١٢٣

الاستصحاب.

واما المحقق النائيني (١) ، فقد استدل له بأن صفة التعيينية ، ليست من الأمور الوجودية المجعولة ولو بالتبع ، كي يرفعها حديث الرفع ، بل هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل. وبعبارة أخرى : في مقام الثبوت ، التعيينية عبارة عن تعلق الارادة المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدها عدم تعلق الارادة بشيء آخر يكون عدلا لما تعلقت الارادة به ، فلا يجري فيها البراءة ، لأنه يعتبر في جريانها كون المرفوع امرا وجوديا موجبا لالقاء المكلف في الضيق والكلفة.

وبالجملة : الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في وجوب العدل وعدمه ، وبديهي ان عدم جعل الوجوب لا يكون موردا للبراءة. وعليه فالمرجع عند الشك في التعيين والتخيير هو قاعدة الاشتغال لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به ، بفعل ما يحتمل كونه عدلا له.

وفيه : ان متعلق التكليف في الواجب التخييري ، اما ان يكون كل من فردي الواجب متعلقا للتكليف مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، أو يكون هو الجامع بينهما ، غاية الأمر ان كان بين الفردين جامع حقيقي فهو المتعلق للتكليف ، وإلا فالمتعلق هو الجامع الانتزاعي المعبر عنه باحد الشيئين ، أو احد الأشياء على اختلاف المسلكين في الواجب التخييري.

اما على الأول : فالشك في كون شيء واجبا تعيينيا ، أو تخييريا ، يرجع إلى

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٤٢٧.

١٢٤

الشك في وجوبه مع الإتيان ، بما يحتمل كون عدلا له ، بعد العلم بوجوبه في صورة عدم الإتيان به. ولا ريب في ان ذلك أمر وجودي ، ومورد للبراءة.

وان شئت فقل : ان وجوبه عند ترك ما يحتمل كونه عدلا له ، معلوم ، ووجوبه في فرض عدم الإتيان به مشكوك فيه ، فيجري فيه البراءة ويثبت بها عدم وجوبه في تلك الحالة ، فيثبت التخيير.

واما على الثاني : فالعلم بكون الواجب تعيينيا ، أو تخييريا ، عبارة عن العلم بتعلق التكليف بالجامع ، والشك في كونه لا بشرط ، أي كونه مطلقا ، أو بشرط شيء وبنحو التقييد ، والاعتباران أي اللابشرطية ، وبشرط شيئية وان كانا متقابلين ولا يكون شيء منهما متيقنا ، إلا انه عرفت غير مرة ، ان أصالة البراءة عن التقيد ، غير معارضة باصالة البراءة عن الإطلاق ، لان الإطلاق يوجب التوسعة ، لا التضييق ، فلا يشمله دليل البراءة ، فيجري الأصل في التقيد ، وبه ينحل العلم الإجمالي ، فإذا ثبت عدم التقيد ، لا يكون الشك شكا في سقوط التكليف المنجز ، فلا يكون موردا لقاعدة الاشتغال ، بل بعد ارتفاع احتمال التقيد لا يبقى شك في الامتثال.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لاوجه للقول باصالة التعيين في هذا القسم ، بل المرجع أصالة البراءة عن الالزام بإتيان خصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينيا.

وبذلك يظهر ان الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني (ره) (١) لعدم جريان البراءة الشرعية في المركبات التحليلية فيما إذا كان يحتمل دخله في

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٠٧.

١٢٥

المأمور به مقوما له : غير تام.

ففي جميع موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر تجري البراءة العقلية ، والشرعية عن وجوب الأكثر.

الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : إذا ثبت جزئية شيء للمأمور به ، أو شرطيته له في الجملة ، ودار الأمر بين كونها مطلقة شاملة لحال النسيان ، فيبطل المأمور به بتركه ولو نسيانا ، أم يختص بحال الذكر فلا يبطل؟

وقد عنون ذلك في كلمات الاصحاب بأنه إذا ثبت جزئية شيء للمأمور به وشك في ركنيته.

وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في جهات :

الجهة الأولى : في إمكان تكليف الناسي بغير المنسي ، واستحالته.

الجهة الثانية : فيما تقتضيه الأصول اللفظية.

الجهة الثالثة : فيما تقتضيه الأصول العملية.

١٢٦

في إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي

اما الجهة الأولى : فعن جماعة منهم الشيخ الأعظم (١) استحالته : لان الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان الناسي ويدخل في عنوان الذاكر ، فلا يعقل انبعاثه عن ذلك البعث لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لا بد منه في الانبعاث وانقداح الارادة. وعلى هذا يستحيل فعلية مثل هذا الحكم في حقه سواء التفت إليه ، أم لم يلتفت. اما على الأول فلعدم بقاء العنوان وتبدله ، واما على الثاني فلعدم إمكان الانبعاث.

وقد ذكر الاصحاب في وجه امكانه امورا.

الأمر الأول : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) بأن يوجه الخطاب إلى الناسي بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسي ويكون ذلك العنوان ملازما لعنوان الناسي ، وهو مما يمكن الالتفات إليه. فإن التفكيك بين المتلازمين بمكان من الامكان فلا محذور.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأن العنوان الملازم للنسيان إنما اخذ معرفا لما هو العنوان حقيقة ، فالعنوان الحقيقي إنما هو عنوان الناسي والذي لا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٨٣.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١٠.

١٢٧

بدَّ منه في صحة التكليف هو إمكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ولا يكفي الالتفات إلى المعرف.

وهو غريب فإن العناوين المأخوذة جزءا للموضوع وقيدا للمكلف ليست من العناوين القصدية كي يلزم قصدها.

والصحيح ان يورد عليه بأن المنسي يختلف : فتارة يعرض للمكلف نسيان السورة. واخرى يعرض له نسيان التشهد. وثالثة يعرض له نسيان الذكر الواجب. وهكذا ، ولا يكون معينا مضبوطا كي يؤخذ عنوان ملازم له.

ودعوى كون عنوان ملازما لنسيان الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا ، مع انه مجرد فرض لا واقع له.

الأمر الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (١) أيضاً وهو ان يوجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسى بالخالي عما شك في دخله مطلقا ، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر. وارتضاه المحقق النائيني (ره).

وأورد عليه بعض اعاظم المحققين (ره) (٢) بأنه لا تعين للمنسي حتى يؤمر بما عداه مطلقا ، وبه مقيدا بالالتفات ، فلا بد من الالتزام بتعدد البعث بعدد ما يتصور من انحاء نسيان الجزء اطلاقا أو تقييدا.

وفيه : ان التكليف بكل واحد من الأجزاء والشرائط غير ما يتقوم به العمل يقيد بالالتفات ولا محذور في ذلك ، كيف وقد وقع ذلك في باب الصلاة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٢) في نهاية الدراية ج ٢ ص ٦٦١.

١٢٨

فإنه بواسطة حديث (لا تعاد الصلاة) (١) خصص أدلة الأجزاء والشرائط غير الخمسة المعينة بحال الذكر.

واما الإيراد عليه بأن الناسي لعدم توجهه إلى كونه ناسيا يقصد الأمر المتوجه إلى الذاكرين ، فما قصده لا واقع له ، وما له واقع لم يقصده.

فيندفع : بأن الناسي وان كان يعتقد مماثلة امره لأمر الذاكرين ، ولكنه لأجل قصده امتثال الأمر الفعلي المتوجه إليه ، ووجود امر فعلى كذلك ، لا يضر ذلك بصحة عمله ، بل يكون من قبيل الخطاء في التطبيق.

الأمر الثالث : ما عن تقريرات بعض الاعاظم لبحث الشيخ (ره) (٢) ، وهو ان الناسي يمكن ان يختص بخطاب ، ولا يلزم محذور عدم إمكان كون الناسي ملتفتا إلى نسيانه فلا يمكنه امتثال الأمر المتوجه إليه ، فإن الامتثال لا يتوقف على ان يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ عنوانا له بخصوصه.

بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق فيقصد الأمر المتوجه إليه بالعنوان الذي يتخيل كونه واجدا له وان اخطأ في اعتقاده ، فالناسي يقصد الأمر المتوجه إليه بتخيل انه امر الذاكر فيئول إلى الخطأ في التطبيق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأنه يعتبر في صحة البعث ان يكون قابلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠.

(٢) نسبه للشيخ الأنصاري المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

١٢٩

للانبعاث عنه. ومثل هذا التكليف لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للارادة في وقت من الاوقات ، لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد.

وفيه : انه لا يعتبر في صحة التكليف سوى الخروج عن اللغوية بترتب أثر عليه ، وهذا الأثر أي الامتثال من باب الخطاء في التطبيق يكفي في ذلك.

فالمتحصّل مما ذكرناه إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي ، وطريق اثباته احد الامرين : الاول : ما في تقريرات الشيخ (ره) (١). الثاني : الوجه الثاني الذي أفاده المحقق الخراساني (٢).

الكلام حول إطلاق دليل الجزء المنسي

واما الجهة الثانية : وهي البحث حول قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية الأجزاء والشرائط وسقوط التكليف عن خصوص الجزء أو الشرط المنسى.

فنخبة القول فيها انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط المنسى إطلاق يشمل حال النسيان نظير قوله (ع) (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (٣) أو (إلا

__________________

(١) حسبما نقل في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٣) عوالي اللآلي ج ١ ص ١٩٦.

١٣٠

بطهور) (١) فلا بد من الاخذ به ، والحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة ، سواء كان لدليل الواجب إطلاق ، أو لم يكن له ذلك : لأنه لا ريب في ان إطلاق دليل المقيد مقدم على إطلاق دليل المطلق.

ولا يتوهم انا ندعى ثبوت الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، وتعلق الأمر بالمركب ، أو المقيد حتى يقال انه غير معقول لكونه تكليفا بما لا يطاق.

بل ندَّعي ثبوتها في جميع آنات الأمر بالمركب أو المقيد ، فلازم الإطلاق سقوط الأمر عند نسيان الجزء أو الشرط ، ولازمه فساد الفاقد له.

فإن قيل : ان ما ذكر يتم إذا كان الدليل المثبت للجزئية أو الشرطية بلسان الوضع مثل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، واما إذا كان بلسان الأمر والتكليف كقوله اركع في الصلاة فلا يتم : لان هذا التكليف كسائر التكاليف مختص بحكم العقل بحال التذكر ، ولا يعقل شموله لحال النسيان فالجزئية المستفادة منه تبعية وتختص بحال الذكر أيضاً.

اجبنا عنه بأن هذه الأوامر ليست اوامر بعثية ومستقلة ، بل تكون ارشادية إلى دخالة متعلقاتها في المركب ، وفي الملاكات.

ودعوى : ان مقتضى حديث رفع النسيان الغاء جزئيته أو شرطيته في هذه الحال ، ـ وبه يثبت صحة المأتي به ومطابقته للمأمور به. ـ

مندفعة : بما تقدم من انه لا يترتب عليه ، سوى رفع الأمر بالمركب من المنسى ، ولا يثبت به الأمر بغيره لان رفع الجزئية إنما يكون برفع منشأ انتزاعها

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٦٥ ، ح ٩٦٠.

١٣١

وهو الأمر بالمركب. مع ان نسيان جزء أو شرط في فرد من الواجب ليس موردا لحديث الرفع راجع ما حققناه في ذلك المبحث.

ثم انه قد اجيب عن اصل الإشكال بوجوه :

الوجه الأول : ما يظهر من الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان الجزئية لا تكون منتزعة عن الأمر الغيري ، بل هو مسبب عنها ، فانتفائه في حق الغافل عنه لا يقتضي انتفاء الجزئية. نعم : لو كانت الجزئية أو الشرطية منتزعة عن الحكم التكليفي كوجوب لبس غير الحرير صح ما ذكر.

وفيه ، اولا : ان الجزئية للوافي بالغرض وان كان سببا للأمر الغيري وليس الأمر مسببا عنها ، إلا ان الجزئية للمطلوب والمامور به التي هي مورد الأثر في المقام تكون مسببة عن تعلق حصة من الأمر بالجزء.

وثانيا : انه لو تم ذلك وسلم كون الأمر مسببا عن الجزئية ، فعدم الأمر وان لم يكن كاشفا عن عدم الجزئية لكنه ليس كاشفا عن الجزئية. فإن سعة دائرة المنكشف وضيقها في مقام الاثبات تابعتان لسعة دائرة الكاشف وضيقها.

الوجه الثاني : ما عن المحقق العراقي (ره) (٢) وهو ان حكم العقل بقبح تكليف الناسي إنما يكون من قبيل الأحكام النظرية التي لا ينتقل الذهن إليها إلا بعد ، الالتفات والتأمل في المبادئ التي اوجبت حكم العقل ، فيدخل حينئذ في القرائن المنفصلة المانعة عن حجية ظهور الكلام لا عن اصل ظهوره.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٨٥.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٢٤.

١٣٢

وعليه يمكن ان يقال ان غاية ما يقتضيه الحكم العقلي المزبور إنما هو المنع عن حجية ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي ، واما بالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئية المطلقة فهي باقية ولا مانع عنها فيؤخذ بظهورها في ذلك.

وفيه ، اولا : ان حكم العقل بقبح تكليف الناسي من قبيل الأحكام العقلية التي تكون بمثابة القرينة المحتفة بالكلام بحيث يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق.

وثانيا : ان دلالة هذا الكلام على الجزئية إنما تكون بالالتزام ، وقد حقق في محله ان الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا وحجية ، فمع اختصاص المطلوب المطابقي بحال الذكر ، يكون المدلول الالتزامي أيضاً مختصا بتلك الحالة.

فالصحيح في الجواب ما ذكرناه : من ان هذه الأوامر إنما تكون ارشادا إلى جزئية متعلقاتها للمركب ، ودخلها في الملاكات والمصالح. وعليه ، فحال هذه الأدلة حال ما يكون بلسان الوضع بلا فرق بينهما أصلاً.

فالمتحصّل انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق كان لازمه فساد الفاقد له ولو في حال النسيان ، وقد خرج عن ذلك باب الصلاة. فإنه حيث لا تعاد الصلاة دل على اختصاص قيودها غير الخمسة المستثناة بحال الذكر ، فتصح مع فقدها نسيانا. وان لم يكن لدليل الجزء أو الشرط إطلاق ، فإن كان لدليل الواجب إطلاق فيؤخذ به ويحكم بصحة العمل الفاقد للمنسي والوجه فيه ظاهر. وان لم يكن له أيضاً إطلاق فتصل النوبة إلى البحث عن الأصول العملية.

١٣٣

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة

وهي الجهة الثالثة : من جهات البحث في المقام ومحصل القول فيها انه ذهب جماعة منهم المحقق الخراساني (ره) (١) إلى ان مقتضى حديث الرفع وغيره من أدلة البراءة صحة المأتي به فاقدا للمنسي لأن بها ترتفع جزئية المنسي أو شرطيته ، فيصح العمل لموافقته للمأمور به.

ولكن الحق في المقام هو التفصيل بين : التكليف الانحلالي المتعلق بجميع وجودات الطبيعة ، وو بين ما يكون متعلقا بصرف وجود الطبيعة.

فإن كان من قبيل الثاني (٢) ، وكان النسيان في فرد منه ، كما هو المفروض ، فالتكليف بأصل الطبيعي معلوم ، والشك يرجع إلى جواز الاكتفاء بالمأتي به وعدمه.

فبناء على استحالة تعلق خطاب خاص بالناسي ، فالمأتي به غير مأمور به قطعا. والشك في جواز الاكتفاء به ، ناش من الشك في وفائه بالغرض ، فلا محيص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فيلزم الاعادة.

واما بناءً على امكانه (٣) فيدخل في كبرى دوران الأمر بين الأقل والأكثر للعلم بتعلق التكليف بالطبيعة ، كالصلاة ، والعلم بدخالة المنسي ، كالسورة في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٦.

(٢) أي ما يكون متعلقا بصرف وجود الطبيعة.

(٣) أي إمكان تعلق خطاب خاص بالناسي.

١٣٤

حال التذكر ، والشك في دخالة المنسي في حال النسيان. فالواجب مردد بين ان يكون خصوص الطبيعة المشتملة على القيد ، أو الجامع بينها وبين الفاقدة لها في حال النسيان؟ فيرجع الأمر إلى العلم بالقدر الجامع والشك في اعتبار القيد على الإطلاق. وفي فرض الشك يرجع إلى البراءة ، ويحكم بعدم قيدية المنسي في حال النسيان ، ومطابقة المأتي به للمأمور به.

وما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) ـ من ان اقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسي هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط ، ولا يقتضي رفعها في تمام الوقت ، إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكر المكلف في اثناء الوقت بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالة البراءة عن الجزء المنسي لا تقتضي عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر. ـ

يرد عليه : ان التمسك في المقام لرفع الجزئية في حال النسيان إنما هو بعنوان ما لا يعلم ، لا بعنوان النسيان. وعليه فالرفع وان كان ما دام بقاء الموضوع ، إلا ان موضوعه ، وهو الشك يكون باقيا بعد رفع النسيان وحال التذكر. فإنه يشك في الجزئية لو أتى بها في حال النسيان ، ومع بقاء الموضوع لا معنى للالتزام بأن المرفوع هو الجزئية في خصوص حال النسيان. فتدبر فإنه دقيق.

واما ان كان التكليف من قبيل الأول ، أي كان التكليف انحلاليا ، فإن كان كل فرد محكوما بحكم مستقل ، كما في المحرمات ، والعام الاستغراقي. فلو نسى فردا من متعلق الحكم يرفع حكمه بحديث الرفع وسائر ما يدل على عدم تعلق

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٢٠.

١٣٥

التكليف بالمنسى. واما ان كان بنحو العام المجموعي وما شاكله ، كما لو وجبت البيتوتة في محل خاص من أول غروب الشمس إلى طلوعها ، فإن كل ساعة من الليل مشمولة لما دل على وجوب البيتوتة ، إلا ان الواجب واحد لا متعدد.

وليس من قبيل مطلوبية صرف وجود البيتوتة في الليل في ذلك المحل. فلو نسى المكلف الواجب في الساعة الأولى ، وشك في ان جزئية البيتوتة في هذه الساعة هل تكون مقيدة بحال الذكر؟ فيجب عليه البيتوتة في الساعات اللاحقة أو تكون مطلقة؟ فالامر بالبيتوتة ساقط رأسا فلا تجب في الساعات المتأخرة ، فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في التكليف. فيكون المرجع هو أصالة البراءة عن اصل التكليف.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام ، فإنها مشوشة مضطربة ، واجعل ما ذكرناه مقياسا ، لما قيل في المقام.

الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا

الأمر الثاني : في حكم الزيادة عمدا أو سهوا في المركبات الاعتبارية ، وتنقيح القول بالبحث في جهات.

الجهة الأولى : في انه هل يمكن تحقق الزيادة حقيقة في المركب الاعتباري أم لا؟

الجهة الثانية : في اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.

الجهة الثالثة : فيما تقتضيه القاعدة الاولية في الزيادة العمدية.

١٣٦

الجهة الرابعة : فيما تقتضيه القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة في الزيادة العمدية.

الجهة الخامسة : في حكم الزيادة السهوية من حيث الصحة والبطلان.

اما الجهة الأولى : فقد يقال باستحالة تحقق الزيادة حقيقة وان كانت متحققة بالمسامحة العرفية لان الزائد ان لم يكن من سنخ ما اعتبر جزءا أو شرطا للمركب الاعتباري لما صدق عليه الزيادة ، كما هو الشأن في غير المركب الاعتباري. ألا ترى : ان الدهن الذي اضيف إليه مقدار من الدبس ، لا يصح ان يقال انه زاد فيه. وان كان يصدق عليه عنوان الزيادة على ما في الظرف. وان كان من سنخه ، فإن كان ذلك الجزء الذي من سنخ الزائد مأخوذا على نحو (اللابشرط) من غير تقييد بالوجود الواحد ، فحيث ان كل ما أتى به بفرد من طبيعي ذلك الجزء كان مصداقا للمأمور به كان المأتي به واحدا أو متعددا. فلا زيادة هناك. وان كان مأخوذا (بشرط لا) عن الوجودات المتأخرة ، فالإتيان به مرة أخرى موجب لفقد قيد الجزء المستلزم لنقصه. مثلا : إذا أُخذ الركوع غير الملحوق بمثله جزءا للصلاة ، لو لحقه مثله لم يتحقق ما هو جزء للصلاة.

وفيه اولا : ان اعتبار (اللابشرطية) في الجزء إنما يتصور على وجهين :

الوجه الاول : اخذ طبيعة الجزء في المتعلق بنحو تصدق على الواحد والمتعدد.

الوجه الثاني : اخذه بنحو (اللابشرط القسمى) أي ليس مقترنا بلحوق مثله ، ولا مقترنا بعدمه. وفي القسم الأول لا يتصور الزيادة كما أفيد. واما في الثاني ، فحيث ان الجزء حينئذ صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول

١٣٧

الوجودات ، فالوجود الثاني غير دخيل فيه ، ولا مانع عن تحققه فيتحقق الزيادة. وبذلك يظهر صدق الزيادة إذا كان الزائد غير مسانخ لما اعتبر في المأمور به.

وثانيا : ان عدم صدق الزيادة بالدقة الفلسفية لا يترتب عليه أثر بعد صدقها عرفا ، وتبعية الأحكام للصدق العرفي ، ووضوح صدق الزيادة عرفا.

واما الجهة الثانية : فالظاهر اعتبار قصد كون المأتي به من أجزاء المأمور به في الزيادة ، إذ المركب الاعتباري كالصلاة مركب من وجودات متباينة ، ووحدته إنما تكون بالاعتبار ، ولا يكاد يتحقق إلا بالقصد.

وتفصيل القول في ذلك في الجزء الخامس من فقه الصادق (١).

واما الجهة الثالثة : فالشك في بطلان العمل من جهة الزيادة إنما يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمه في المأمور به. ومقتضى الأصل عدم اعتباره فيه ما لم يقم على اعتباره دليل ، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية.

نعم ربما يوجب الزيادة البطلان من جهة أخرى ، كما لو كان الواجب تعبديا وقصد المكلف امتثال خصوص الأمر المتعلق بالمركب من الزائد وغيره ، فإنه لا إشكال في البطلان من جهة ان ما قصده من الأمر لا واقع له ، وما له واقع لم يقصده. أو أوجبت الزيادة الاخلال بالهيئة الاتصالية المعتبرة في بعض الواجبات ، فإنه حينئذ يوجب البطلان. وعلى الجملة الزيادة من حيث هي لا توجب البطلان عمدا أو سهوا.

__________________

(١) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٢.

١٣٨

واما الجهة الرابعة : فقد دلت النصوص على مبطلية الزيادة العمدية للصلاة مطلقا كما هو المشهور بين الاصحاب. لاحظ صحيح ابى بصير عن الامام الصادق (ع) (مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) (١).

وأورد عليه بوجهين :

أحدهما : ما أفاده المحقق الهمداني (ره) (٢) وهو : ان الزيادات السهوية خارجة عن هذا الحكم. وعليه ، فيدور الأمر بين ارادة الزيادة العمدية منه ، وبين ارادة زيادة الاركان أو الركعات ، وحيث ان حصول الزيادة العمدية نادر وكون زيادة الركعة هو الفرد الواضح مما يطلق عليه انه زاد في صلاته ، فلو لم يكن الحديث منصرفا إلى الثاني لا ريب في اجماله ، والمتيقن هو ذلك.

وإلى ذلك نظر بعض المعاصرين (٣) حيث قال : انه منصرف إلى زيادة الركعة أو محمول على ذلك بقرينة ما دل على عدم قدح زيادة الجزء سهوا الموجب لرفع اليد عن اطلاقه على كل حال.

وفيه : ان مقتضى الصحيح مبطلية كل زيادة كانت هي ، الركعة ، أو الركن ، أو غيرهما ، من غير فرق بين العمد والسهو ، ومن غير فرق بين العلم والجهل. خرج عن هذا العموم زيادة غير الاركان ان كانت سهوية ، وقد حقق في محله ان العام حجة في غير أفراد المخصص ، فالباقي تحته زيادة الاركان

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٥٥ / وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٩.

(٢) مصباح الفقيه ج ٢ ق ٢ (طبعة حجرية) ص ٥٣٨.

(٣) المرحوم السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى ج ٧ ص ٣٧٩.

١٣٩

والركعة مطلقا ، وزيادة غيرهما ان كانت عمدية. ولا يدور الأمر بعد التخصيص بين ارادة العمد وبين ارادة زيادة الاركان أو الركعة كي يتم ما ذكراه.

ثانيهما : ما أفاده المحقق اليزدي (ره) (١) قال ثم الزيادة في الصلاة : اما ان تكون من قبيل الزيادة في العمر ، فيكون المقدر الذي جعلت الصلاة ظرفا له هو الصلاة ، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقدارا يطلق عليه الصلاة مستقلا كالركعة. واما ان يكون المقدر شيئا من الصلاة سواء كان ركعة أم غيرها. واما ان يكون مطلق الشيء. لا يبعد ظهور اللفظ في الأول ولا اقل من الاحتمال فالقدر المتيقن من الحديث بطلان الصلاة بزيادة الركعة. (انتهى)

وفيه : ان مقتضى الإطلاق هو الثالث. وان شئت قلت : حذف المتعلق يفيد العموم ، فعدم التصريح بالزائد يوجب إطلاق الخبر وإرادة كل زيادة ، غاية الأمر بواسطة الإجماع والروايات يقيد اطلاقه بالزيادة السهوية في غير الاركان.

ويمكن ان يستدل له : بمصحح زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام (قَالَ لَا تَقْرَأْ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَزَائِمِ فَإِنَّ السُّجُودَ زِيَادَةٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ) (٢). إذ لو لم تكن الزيادة مطلقا مبطلة لما صح هذا التعليل. ألا ترى : انه لو قال (الفقاع .. هِيَ خَمْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ) (٣) في مقام بيان الحرمة لما صح ذلك إذا لم يكن

__________________

(١) كتاب الصلاة ص ٢١٠.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣١٨ / وسائل الشيعة ج ٦ ص ١٠٥ ح ٧٤٦٠.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٢٣١٣٦.

١٤٠