زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ ان شككت انه أصابه شيء؟ قال (ع) : لا ولكنك إنما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك. قلت : ان رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال (ع) : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدرى لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك (١).

الكلام في هذه الصحيحة يقع في مواضع :

الأول : في فقه الحديث وما يستفاد منه من الأحكام.

الثاني : في دلالته على الاستصحاب.

الثالث : في التعليل لعدم وجوب الإعادة بالاستصحاب.

اما الموضع الأول : فالمستفاد منه أحكام.

منها : بطلان الصلاة في صورة العلم بالنجاسة ، ونسيانها.

ومنها : بطلانها مع العلم الإجمالي بالنجاسة ، وعدم العلم بمحلها.

ومنها : انه لو شك في النجاسة وصلى ثم رأى في ثوبه النجاسة ، لا تجب إعادة الصلاة وقد تعجَّب زرارة من هذا الحكم لتخيله منافاته لما حكم به أولا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤٢١ باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ح ٨ / وذكره في الوسائل مقطّع في ثلاث موارد من الجزء ٣ باب ٤١ من أبواب النجاسات ص ٤٧٧ ح ٤٢٢٤ ، والباب ٤٢ ص ٤٧٩ ح ٤٢٢٩ ، والباب ٤٤ ص ٤٨٢ ح ٤٢٣٦.

٣٤١

من وجوب الإعادة مع العلم بالنجاسة ، ونسيانها وسأل عن علة هذا الحكم ، فأجاب (ع) بأنه في صورة عدم العلم بالنجاسة كان مقتضى الاستصحاب جواز الدخول في الصلاة ، وعدم وجوب إعادتها بخلاف الصورتين الأوليتين.

ومنها : بطلان الصلاة في صورة النجاسة في أثناء الصلاة مع العلم بكونها من الأول ، والصحة مع احتمال ان تكون النجاسة قد وقعت في الأثناء.

وقد أشكل على الرواية بأنه في صورة الجهل بالنجاسة مع وقوع تمام الصلاة في النجس حكم (ع) بالصحة ، وفي تلك الصورة مع وقوع بعضها فيه حكم بالبطلان ، وقد يقال كما عن بعض الأفاضل ان المفروض في المسألة الأولى ، انه تفحص ولم ير شيئا ـ بخلاف المسألة الثانية ـ ولكن الفحص لا يصلح فارقا.

والأولى : ان يقال انه في المسألة الثانية المفروض وقوع بعض الأكوان الصلاتية مع النجس المعلوم ، وهو الموجب للبطلان ، وهذا ليس في الأولى.

لا يقال انه ان كان هذا موجبا له لزم الحكم بالبطلان في الفرض الثاني في تلك المسألة ، وهو ما لو رأى النجاسة واحتمل وقوعها في الأثناء.

فانه يقال : انه خارج عن تحت ما دل على اعتبار عدم العلم بالنجاسة في جميع الحالات والأكوان الصلاتية لهذا الخبر ، ولخبرين آخرين ، وعلى أي تقدير هذا ليس إشكالا على الرواية ، بل الأصحاب أيضاً أفتوا بالفرق بين المسألتين.

واما الموضع الثاني : فمورد الاستدلال به ، قوله (ع) فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك في الموردين ، وتقريب الاستدلال به ما في سابقه.

٣٤٢

ولكن قد يقال : فيه ان مفاده في المورد الأول قاعدة اليقين ، فان الظاهر ان المراد باليقين فيه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة فمفاده حينئذ قاعدة اليقين.

ويدفعه ان الظاهر منه سيما بعد عدم فرض اليقين بعد الفحص في السؤال ، وعدم الشك بعده هو اليقين قبل ظن الإصابة.

واما الموضع الثالث : ففي التعليل لعدم وجوب الإعادة بالاستصحاب ، مع انه يصلح وجها لمشروعية الدخول في الصلاة لا لعدم وجوب الإعادة ، فان الإعادة ليست نقضا لاثر الطهارة المتيقنة بالشك ، بل هو نقض لليقين باليقين.

وقد ذكر الأصحاب في توجيه التعليل وجوها :

منها ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، وحاصله ان الشرط لصحة الصلاة هو إحراز الطهارة ، لانفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة ، عدم الإعادة ، ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعد الصلاة ، لفرض كونه محرزا للطهارة بالاستصحاب حال الصلاة.

وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ما في الدرر (٢) وهو ان قوله وليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك على ذلك لا ينتج عدم الإعادة إلا بضميمة ما دل على كفاية نفس الإحراز حين الصلاة ، وهو خلاف ظاهر الرواية حيث أنها ظاهرة في ان قوله (ع) ليس

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ١٦٣.

٣٤٣

الخ ينتج بنفسه عدم الإعادة.

وفيه : انه يمكن ان يقال ان الشرطية للإحراز مجعولة بنفس قوله وليس الخ إذ كما يمكن جعل الشرطية لشيء بالأمر به ، كذلك يصح جعلها له بلسان ، ان الواجد له ، صحيح ، كما في المقام فتعليل الصحة بالإحراز جعل لشرطيته.

الثاني : انه لو كان الإحراز شرطا لكان لازمه عدم صحة الصلاة مع الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة ، لعدم قيام الأصل مقام القطع الموضوعي.

وفيه : ان الشرط هو إحراز الطهارة اعم من الواقعية والظاهرية ففي موارد القاعدة ، وان لم تكن الطهارة الواقعية محرزة ، إلا ان الطهارة الظاهرية محرزة.

الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني (١) بقوله لا يقال على هذا لا مجال لاستصحاب الطهارة فإنها ليست حكما ولا موضوعا لحكم ، وأجاب عنه بجوابين :

الجواب الأول : أنها من قيود الموضوع والاستصحاب كما يجري في تمام الموضوع يجري في جزئه.

وفيه : ان الطهارة ليست جزءا للموضوع على هذا المسلك ، ولذا لو انكشف الخلاف لا تبطل الصلاة ، بل ما هو قيد الطهارة بوجودها الاعتقادي المقوم للإحراز المنعدم جزما ، بانعدام الإحراز.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٤.

٣٤٤

الجواب الثاني : ان الطهارة شرط شرعي اقتضائي.

ولا يرد عليه ما أورده المحقق العراقي (١) ، بان مجرد الشرطية ما لم يبلغه الاستصحاب إلى مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر عملي ، وبدونه لا يجري الأصل لكونه أصلاً عمليا :

فانه يمكن ان يقال ان المستصحب إذا كان حكما أو موضوعا لحكم الطهارة ، التي هو موضوع للشرطية الواقعية الاقتضائية لا يعتبر فيه سوى ما يخرجه عن اللغوية ، وفي المقام بما انه لو استصحب الطهارة يحرز الطهارة به فيتحقق الشرط الفعلي فلا مانع من جريانه.

ولكن يرد على المحقق الخراساني ان لازم ذلك هو الالتزام بفساد صلاة من غفل عن النجاسة وصلى لعدم إحرازها ، مع ان الصحة في الفرض مورد اتفاق الفتاوى والنصوص (٢).

وأيضا لازمه فساد صلاة من تيقن بالنجاسة وصلى معها لبرد ونحوه ، ثم انكشف بعد الصلاة عدم تضرره بالبرد لو لم يلبس الثوب وطهارة ثوبه لعدم إحراز الطهارة مع انه لا إشكال في عدم الإعادة.

ومن الوجوه انه يحسن التعليل له بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٤ ص ٥٠.

(٢) راجع الكافي ج ٣ ص ٤٠٤ باب الرجل يصلي في الثوب وهو غير طاهر عالما أو جاهلا / الاستبصار باب ١٠٩ من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسة / الوسائل ج ٣ ص ٤٧٤ باب ٤٠ من أبواب النجاسات والأواني والجلود.

٣٤٥

للإجزاء ، فيكون الصحيح من حيث ما فيه من التعليل دليلا على تلك القاعدة.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) بأنه خلاف الظاهر إذ العلة حينئذ ، هو مجموع الصغرى ، وتلك الكبرى ، لا هذه الصغرى بخصوصها فلا يصح التعليل بها.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (٢) بما حاصله ان العلة هي مجموع الكبرى والصغرى أي كونه مستصحبا للطهارة المحقق للأمر الظاهري بالصلاة في هذه الحال ، والأمر الظاهري مقتضٍ للإجزاء.

وعليه فكما يصح التعليل بهما ، يصح التعليل بأحدهما : وفي الصحيحة علل بالصغرى.

وفيه : ان اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بمثابة يصح في مقام التعليل بالصغرى ، وفرض كون الكبرى مسلمة ، وتصحيحه بإرجاعه إلى ان الشرط هو الطهارة اعم من الواقعية والمحرزة ، من قبيل الأكل من القفا وان كان في نفسه صحيحا : إذ لو كان الشرط خصوص الطهارة الواقعية لا مناص عن البناء على البطلان لعدم الشرط ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، فالأجزاء بعد انكشاف الخلاف لا معنى له إلا ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٦ وقد اعتبر هذا الوجه تخيلا.

(٢) راجع كفاية الأصول حيث صحح التعليل ص ٣٩٣ وأجاب عن الاشكالات المحتملة ص ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٣٤٦

فما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من صحة التعليل على كل من المذهبين.

لا يتم : فانهما مذهب واحد ذو تعبيرين لا مذهبين.

فالصحيح في مقام الجواب عن اصل الشبهة :

اما الالتزام بكون الشرط اعم من الطهارة الواقعية أو المحرزة.

أو بالالتزام بان النجاسة التي لم يقم معذر شرعي كالأمارات ، والاستصحاب ، واصل الطهارة ، أو عقلي كالقطع ، والغفلة على عدمها ، مانعة.

ولا يرد على الثاني شيء سوى ان ظاهر الأخبار ـ منها هذه الصحيحة وفتاوى العلماء ـ شرطية الطهارة.

ولكنه يندفع بان الطهارة الخبثية ليست إلا عدم النجاسة ، والخلو عن القذارة الشرعية ، فإذا كانت النجاسة مانعة فعدمها شرط معتبر في الصلاة فيصح التعبير ، بمانعية النجاسة ، أو اشتراط الطهارة.

هذا كله على فرض تسليم كون النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة المظنونة التي خفيت عليه قبل الصلاة ، واما لو كانت النجاسة المرئية مما احتمل وقوعها بعد الصلاة كما لعله الظاهر ولو بقرينة تغيير التعبير في كلام الراوي حيث انه في الفرع السابق عليه ، يقول فلما صليت وجدته مع الضمير ، وفي هذه الفقرة يقول فرأيت فيه ، بدون الضمير ، فلا إشكال كي يحتاج إلى الجواب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٤٥ (ولكن الحق انه لو أغمضنا عن الجواب ... الخ).

٣٤٧

الاستدلال لحجية الاستصحاب بثالث صحاح زرارة

ومنها : صحيح ثالث لزرارة عن أحدهما (ع) في حديث قال (ع) : إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (١).

هذا الخبر من حيث السند لا إشكال فيه.

واما من حيث الدلالة فقد وقع الكلام فيه في موردين :

الأول : في اصل دلالته على الاستصحاب.

الثاني : في اختصاص ذلك بباب أو عمومه لجميع الأبواب.

اما الأول : فقد أورد على الاستدلال به للاستصحاب : بان لازمه لزوم الإتيان بالركعة المشكوك فيها متصلة ، وهذا يتنافى مع مذهب الخاصة والنصوص ، وقد ذكروا في توجيه الخبر وجوها.

أحدها : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) ، وهو ان المراد باليقين فيه اليقين

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٥١ باب السهو في الثلاث والأربع ح ٣ / الوسائل ج ٨ ص ٢١٦ باب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١٠٤٦٢.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٧.

٣٤٨

بتحصيل البراءة من البناء على الأكثر ، والإتيان بالركعة المشكوك فيها مفصولة ، فيكون المراد انك متمكن من تحصيل اليقين بالفراغ ، فلا ينبغي لك البقاء على الشك به فصل ركعة مفصولة لتحصيل القطع ، واستشهد لكون هذا هو المراد من لا ينقض اليقين بالشك بأمرين :

الأول انه قد جرى اصطلاح الأئمة (ع) على التعبير عن الوظيفة المقررة للشاك في عدد الركعات ، من البناء على الأكثر ، والإتيان بالمشكوك فيها مفصولة بذلك كقوله (ع) " إذا شككت فابن على اليقين".

الثاني ، انه لو حمل على إرادة الاستصحاب منه لزم حمله على التقية ، أو البناء على ان تطبيقه على المورد تقية وكلاهما خلاف الظاهر فلا مناص عن الحمل على ذلك.

وفيه : أولا ، ان معنى لا تنقض إبقاء اليقين الموجود لا إيجاده ، وما ذكره الشيخ يرجع إلى إيجاب تحصيل اليقين ، وبذلك ظهر ان ما قيل من انه يدل على الاستصحاب وقاعدة البناء على الأكثر وتطبيقه على المورد إنما يكون بالاعتبار الثاني ، غير تام : لعدم إمكان الجمع بينهما فان اليقين في الاستصحاب مفروض الوجود ، وفي القاعدة يجب تحصيله.

مع ان إسناد النقض إليه يوجب تخصيصه بخصوص الاستصحاب لعدم صحة إسناد النقض مع إرادة طلب إيجاده والفعل الخاص يوجب تقييد المتعلق العام.

وثانيا : ان اليقين بالفراغ لم يذكر قبل حتى يكون إشارة إليه.

٣٤٩

ثانيها : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من ان المراد من اليقين : اليقين بعدم الإتيان ، والمراد من الشك : الشك فيه ، ولازمه حينئذ إتيان ركعة أخرى ، ولكنه مطلق من حيث كون الركعة متصلة أو مفصولة ، ويقيد إطلاق الخبر بالأخبار الدالة على لزوم إتيانها مفصولة.

وفيه : انه ان كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلة امر بها لتكون جابرة لمصلحة الصلاة على تقدير نقصها ونافلة على تقدير التمامية ، يكون استصحاب عدم إتيان الرابعة ، وترتب الأمر بهذه الصلاة عليه ، استصحابا لشيء ، وتعبدا بشيء آخر ، كاستصحاب عدالة زيد للتعبد بعدالة عمرو ، وان كانت صلاة الاحتياط جزءا على تقدير النقص ، ولغوا ، أو نافلة على تقدير التمامية ، وحيث ان الصلاة المأمور بها على فرض عدم الشك ، هي الصلاة مع تكبيرة واحدة وتسليمة كذلك ، فاستصحاب بقاء الأمر بمثل هذه الصلاة لإثبات الأمر بما يكون مشتملا على تسليمين وتكبيرتين يكون أيضاً استصحابا لبقاء تكليف ، لإثبات تكليف آخر ، إذ صيرورة شيء جزءا للمركب الاعتباري لواجب لا يمكن إلا بتغيير أمره وتبدله.

وان شئت قلت ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب آثار المتيقن في ظرف الشك ، واما ترتيب آثار نفس الشك فهو لا يكون مربوطا بالاستصحاب.

وعليه ففي المقام ان أريد استصحاب عدم إتيان الرابعة وترتيب آثار اليقين ، بعدم إتيانها فهو يقتضي إتيانها متصلة ، وهو ينافي مذهب الخاصة ، وان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٣٥٠

أريد ترتيب آثار الشك وهو البناء على الأكثر وإتيان ركعة منفصلة فهو غير مربوط بالاستصحاب.

ثالثها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان مقتضى الاستصحاب ليس إلا عدم الإتيان بالرابعة واما ان تكليفه الإتيان بها موصولة أو مفصولة فالاستصحاب أجنبي عن ذلك ، نعم ، الإتيان بالركعة منفصلة ينافي إطلاق الأدلة الأولية الدالة على لزوم الإتيان بالركعات متصلة ، فأدلة وجوب البناء على الأكثر غير منافية حتى لإطلاق دليل الاستصحاب فلا وجه لرفع اليد عن ظهور القضية في الاستصحاب.

ولكن عرفت ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب آثار المتيقن ، دون الشك فراجع.

رابعها : ان إتيان الركعة منفصلة مترتبة على شيئين :

أحدهما : الشك بين الثلاث والأربع.

ثانيهما : عدم الإتيان بالرابعة ، فالاستصحاب إنما يجري لتنقيح جزء الموضوع.

وفيه : ان تمام الموضوع له هو الشك ، وليس لعدم الإتيان بالرابعة دخل فيه ، بل لا يمكن دخله ، فان إحراز فعليته وتنجزه حينئذ يتوقف على إحراز فعلية موضوعه ، ولا يعقل إحراز فعلية هذا الجزء ، إذ لو أحرز لا يبقى الشك.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥١.

٣٥١

خامسها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) ويمكن استظهاره من الفصول (٢) أيضاً ، وهو ان اليقين المحقق هنا هو اليقين بالثلاث لا بشرط ، في قبال الثلاث بشرط لا الذي هو أحد طرفي الشك ، والثلاث بشرط شيء الذي هو الطرف الآخر ، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقص بلا جابر ، أو الزيادة بلا تدارك بخلاف رعاية اليقين بالثلاث لا بشرط ، فانه لا يمكن إلا بالوجه الذي قرره الإمام (ع) من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة ، واما إضافة ركعة متصلة فإنها من مقتضيات اليقين بشرط لا والمفروض انه لا بشرط.

وفيه : انه يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة المشكوك فيه والمتيقن ، وبهذا التقريب المتيقن هو ثلاث ركعات والمشكوك فيها الركعة الرابعة.

فالصحيح في المقام ان يقال انه (ع) في مقام بيان القاعدة الكلية وهي حجية الاستصحاب ولكن تطبيقها على المورد إنما يكون تقية ، وهو وان كان خلاف الأصل ، ولكن لا مناص عنه كما عرفت.

فان قيل فلم لا يحمل الخبر على التقية؟

اجبنا عنه ان : الضرورات تقدر بقدرها فبالمقدار الذي يرفع به الضرورة يرفع اليد عن القواعد والأصول.

وفي المقام يندفع الضرورة بالالتزام بكون التطبيق على المورد تقية ، كما في الخبر الوارد في إفطاره (ع) يوم الشك لحكم الخليفة بكونه يوم العيد ، معللا

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٩٧.

(٢) راجع الفصول الغروية ص ٣٧١

٣٥٢

بان ذلك إلى إمام المسلمين ان افطر افطرنا وان صام صمنا (١).

فان قلت احتمال كون التطبيق تقية معارض باحتمال كون الكبرى صادرة تقية للعلم بأعمال تقية في البين ، ومعه لا مورد لجريان أصالة الجهة في الكبرى ، وعليه فلا يمكن الاستدلال به.

قلت ان أصالة الجهة في التطبيق لا تجري على أية حال ، إذ لو كانت الكبرى صادرة تقية لما ترتب اثر على جريانها في التطبيق ، فتجرى في الكبرى بلا معارض.

الاستدلال بما روى عن الخصال لحجية الاستصحاب

ومنها : ما رواه الشيخ الأعظم في الرسائل (٢) ، قال : ومنها ما عن الخصال (٣) بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) : قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين.

وفي رواية أخرى عنه (ع) : من كان على يقين فأصابه شك فليمض على

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٨٢ باب : الذي يشك فيه من شهر رمضان هو او من شعبان ح ٧ / الوسائل ج ١٠ ص ١٣٢ باب جواز الإفطار للتقية والخوف ... ح ١٣٠٣٥.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٩.

(٣) الخصال ج ٢ ص ٦١٩ / وذكره الحر العاملي في الوسائل ج ١ ص ٢٤٦ ح ٦٣٦.

٣٥٣

يقينه ، فان اليقين لا يدفع بالشك. وعدها المجلسي في البحار (١) في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية انتهى.

وأورد على الاستدلال به بإيرادين :

الإيراد الأول : انه ضعيف السند لقاسم بن يحيي.

واجيب عنه بان العلامة ضعفه (٢) تبعا لابن الغضائري (٣) ، والمعروف ان تضعيفه لا يقدح.

وفيه : ان هذا وحده لا يكفي بل لا بدَّ من إثبات وثاقته فغاية ما يثبت بما أفيد كونه مجهول الحال :

والحق ان يقال : انه ثقة ، لشهادة ابن قولويه ، والصدوق بوثاقته :

إذ الأول روى عنه في كامل الزيارات (٤) في ثواب زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شهد بوثاقة كل من وقع في إسناد كامل الزيارات.

والثاني حكم بصحة ما رواه في زيارة الحسين (ع) وفي طريقه إليه القاسم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٦٨ حيث عنون الباب ٣٣ ما يمكن ان يستنبط من الآيات والأخبار من متفرقات مسائل أصول الفقه ، ثم ذكر الرواية في نفس الباب ص ٢٧٢ ح ٢.

(٢) رجال العلامة الحلي ص ٢٤٨ الباب الأول في القاسم رقم ٦.

(٣) رجال ابن الغضائري ج ٥ ص ٥٣ قال عنه : مولى المنصور روى عن جده ، ضعيف.

(٤) كامل الزيارات ص ١٠ الباب الأول ح ١.

٣٥٤

بن يحيى بل ذكر ان هذه الزيارة اصح الزيارات عنده رواية ، راجع الفقيه (١) في زيارة قبر أبي عبد الله (ع) ، ولا يعارضها تضعيف ابن الغضائري ، لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه.

ويؤيد وثاقته رواية الاجلاء من قبيل : احمد ابن محمد بن عيسى ، سيما وكثرة رواياتهم عنه.

الإيراد الثاني : انه صريح في اختلاف زمان الوصفين وسبق زمان اليقين على زمان الشك وظاهر في اتحاد المتعلقين فيكون ظاهرا في قاعدة اليقين ، فانه في الاستصحاب لا يعتبر سبق زمان اليقين بل لا يعتبر اختلاف زمان الشك واليقين بل المعتبر سبق زمان المتيقن.

وردوه بوجوه ، منها ما في الكفاية (٢) قال ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين. لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد انتهى.

وفيه : ان المتحد مع اليقين هو المعلوم والمتيقن بالذات ، وهي الماهية الموجودة بالعلم وتكون في الذهن ، واما الماهية الموجودة في الخارج أي المعلوم بالعرض ، فهي غير متحدة مع اليقين ، والاختلاف في الاستصحاب إنما يكون

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٥٩٧ ٥٩٨ ح ٣١٩٩ و ٣٢٠٠ فإنه ذكر في ذيل الباب بعد ذكره الزيارة : «اخترت هذه ـ الزيارة ـ لهذا الكتاب لانها اصح الزيارات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغ وكفاية» وقد رواها عن الحسن بن راشد وطريقه إليه عن القاسم بن يحيى.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٧.

٣٥٥

بحسب زمانها ، بخلاف قاعدة اليقين وبالجملة التغاير والاختلاف بحسب الزمان إنما هو في المعلوم بالعرض ، ومن الواضح انه غير متحد مع اليقين والشك وما هو متحد معه إنما هو المعلوم بالذات ولا تغاير ولا اختلاف بالنسبة إليه.

ومنها : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان صدر الخبر من جهة تضمنه سبق زمان اليقين على زمان الشك ، وان كان موجبا لقابلية حمله على قاعدة اليقين ، إلا انه قابل للحمل على الاستصحاب لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب ، هو سبق زمان اليقين ، ولكن ذيله ظاهر في الاستصحاب ، فان قوله" فليمض على يقينه" ظاهر في المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل ، وهذا لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو الاستصحاب.

واما القاعدة ، فاليقين فيها ينعدم ولذا تسمى بالشك الساري.

وفيه : ان اليقين في الموضعين لم يستعمل فيما هو موجود فعلا بل استعمل في الصفة الموجودة قبلا المقتضية للجري العملي ، فإطلاقه يجعل المورد من موارد الاستصحاب ، أو قاعدة اليقين صحيح ، ويكون استعمالا فيما وضع له ولا يكون استعمالا في الصفة الموجودة في الحال حتى يقال في مورد القاعدة تكون الصفة منعدمة واستعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ لو صح لا ربط له بما هو من قبيل الجوامد كاليقين فتدبر.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥٥.

٣٥٦

ومنها : ما قيل انه يمكن استظهاره من كلمات الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان اليقين من جهة كون حقيقته المرآتية والطريقية فكلما اخذ في الموضوع يكون ظاهره ، إرادة المتيقن منه.

مثلا ، لو قال القائل كنت متيقنا أمس بعدالة زيد ، ظاهره إرادة اصل تحقق العدالة وعليه فقوله (ع) " من كان على يقين" وان كان ظاهرا في بادئ الأمر في كون اليقين في الزمان الماضي إلا إنما بملاحظة ما ذكرناه يكون ظاهرا في كون القيد للمتيقن لا اليقين فينطبق على الاستصحاب.

وفيه : ان الظهور المدعى يتم في العلم لا في اليقين : توضيحه ان كلا منهما والقطع عبارة عن الصورة الحاصلة من الشيء عند النفس ، إلا ان العلم يطلق باعتبار انكشاف الشيء في قبال الجهل ، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة ، واليقين يطلق باعتبار ان هذا الانكشاف له الثبات والدوام ، بعد ما لم يكن بهذه المرتبة ، ولعل السر في عدم إطلاق القاطع والمتيقن عليه تعالى انه يستحيل في حقه الحيرة وعدم ثبات الانكشاف ، ويطلق عليه العالم لانكشاف الأشياء لديه ، وعلى هذا لو اخذ العلم في المتعلق يكون ظاهرا في الطريقية والمرآتية ، وليس كذلك اليقين.

ولكن الظاهر ان نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى ان منشأ اختصاص الرواية بالقاعدة ، أمران :

أحدهما ظهور الكلام بقرينة كلمة (ف) في تأخر الشك عن اليقين.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٠.

٣٥٧

ثانيهما : ظهوره من ناحية حذف المتعلق في وحدة متعلق اليقين والشك : فان هذين الأمرين إنما يكونان في القاعدة دون الاستصحاب.

ويمكن ان يقال ان ذكر الكلمتين في الرواية ليس من جهة دخل ذلك في الحكم بل لعله من جهة الغلبة حيث ان الغالب في موارد الاستصحاب تقدم اليقين على الشك ، واما وحدة المتعلقين فهي تبتنى على ان يكون زمان الماضي قيدا للمتيقن فانه حينئذ يكون المشكوك فيه نفس ما كان متيقنا.

واما إذا كان قيدا لليقين كما هو الظاهر ، فالمتيقن شيء عار عن قيد الزمان فينطبق على الاستصحاب.

ويرد على ما ذكر أولا : ان ظاهر اخذ كل عنوان في الحكم ، دخله فيه وحمله على الغالب خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.

واما الثاني : فيرده ان ظهور الكلام في الاتحاد من ناحية زمان وان اخذ الزمان المستفاد من كلمة كان قيدا لليقين لا ينكر.

فالحق ان يقال ان الصفات ذات الإضافة كاليقين والإرادة ، وما شاكل ، تكون ظاهرة عند الإطلاق في اتحاد زمان الوصف والموصوف ، مثلا لو قيل أني مشتاق إلى الماء ، يكون ظاهرا في اشتياقه فعلا لا اشتياقه بالماء في الغد ، ولو قيل ، ان فلانا يريد الماء ، ظاهر في انه يريد الماء فعلا ، وهكذا.

ففي المقام قوله (ع) " من كان على يقين" ، يكون ظاهرا في ان المتيقن هو الأمر السابق ، وقوله (ع) " وأصابه شك" ظاهر في ان المشكوك فيه لاحق.

وبعبارة أخرى : اختلاف زمان الوصفين يكون ظاهرا في اختلاف

٣٥٨

الموصوفين ، وان المتيقن يكون سابقا على المشكوك فيه ، وهو لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، مضافا إلى شيوع التعبير عن الاستصحاب به.

الاستدلال بمكاتبة القاساني

ومنها : خبر الصفار عن علي بن محمد القاساني قال كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟

فكتب (ع) : اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية (١).

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٢) بان الخبر ضعيف السند للقاساني (٣).

واجيب عنه ، بان القاساني وان ورد فيه قدح ، إلا انه ورد فيه المدح أيضاً ، وقد وثقه جماعة ، فيتعارض المادح والقادح فيرجع إلى التوثيق.

وفيه : ان من وثقه الجماعة هو القاشاني (٤) بالشين المعجمة ، واما القاساني

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ١٥٩ باب علامة اول شهر رمضان وآخره ح ٧ / الوسائل ج ١٠ ص ٢٥٥ باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ح ١٣٣٥١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٠.

(٣) راجع رجال النجاشي ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦ رقم ٦٦٩.

(٤) وثقه النجاشي في كتابه (رجال النجاشي) / ورجال ابن داود / الا ان العلامة في رجاله بعد ان ضعّف القاساني ونقل توثيق الشيخ للقاشاني استظهر انهما واحد. راجع رجال العلامة ص ٢٢٩ رقم ٦ «علي بن محمد القاشاني».

٣٥٩

بالسين المهملة ، الذي هو في سند هذا الخبر ، فقد ضعفوه ولم يوثقه أحد ، وقد اشتبه الأمر على جماعة وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فتقريب الاستدلال به ، ان تفريع تحديد كل من الصوم ، والإفطار على رؤية هلالي رمضان ، وشوال ، لا يستقيم إلا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك أي مزاحما به ، وقد جعله الشيخ اظهر ما في الباب من الأخبار في دلالته على الاستصحاب.

وأورد عليه المحققان الخراساني (١) ، والنائيني (٢) ، بان المراد باليقين فيه ليس هو اليقين بان اليوم الماضي كان من شعبان ، أو اليقين بعدم دخول رمضان ، بل المراد باليقين فيه هو اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، ويدل الخبر على انه لا بد في ، وجوب الصوم ، ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب.

وفيه : ان ما أفاده لو تم فإنما هو في وجوب الصوم من باب اعتبار الجزم بالنية.

واما بالنسبة إلى الإفطار فلا يتم ، إلا مع إرادة اليقين بعدم دخول شوال أو بقاء رمضان فينطبق على الاستصحاب ، فما أفاده الشيخ متين.

والإشكال في جريان الاستصحاب في المقام ، بأنه لا يثبت به وقوع الصوم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٦٦ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥٧.

٣٦٠