زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

هو الموجب للاتصال المعتبر لا انه مانع عنه.

ثالثها : ما أفاده بعض المحققين (ره) (١) ، وحاصله : ان المعتبر في الاستصحاب اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن ، إذ التعبد الاستصحابى تعبد بعنوان البقاء فيعتبر اتصال الموجودين بالتعبد ، وباليقين ، وإلا لم يكن ابقاء الوجود ، وفي المقام لو فرضنا في مثال الاسلام والموت ازمنة ثلاثة ، كان الزمان الأول زمان اليقين بعدمهما ، والزمانان الاخيران.

أحدهما : زمان الاسلام. والآخر : زمان الموت.

وعليه فان كان الزمان الثاني ، زمان الموت ، كان عدم الاسلام المشكوك فيه متصلا زمانه بزمان اليقين بعدمه ، وان كان زمان حدوث الموت ، هو الزمان الثالث ، كان عدم الاسلام المشكوك فيه منفصلا زمانه عن زمان اليقين بعدمه وكذلك في طرف الاسلام ، فيكون التمسك في كل منهما بلا تنقض اليقين بالشك ، تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

وفيه : انه ليس المعيار اتصال زمان ذات المشكوك فيه بزمان ذات المتيقن ، وإلا لم يكن مورد مجرى الاستصحاب ، بل المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه من حيث انه مشكوك فيه بزمان المتيقن من حيث انه متيقن وفي المقام كذلك : إذ يحتمل بقاء العدم في كل منهما في الزمان الثاني المتصل بزمان اليقين ، وان يكون هو زمان الحادث الآخر فهو زمان الشك في كل منهما في زمان الآخر.

__________________

(١) وهو المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

٥٢١

رابعها : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) ، وحاصله ان في الحادثين المعلوم حدوثهما كاسلام الوارث ، وموت المورث ، والشك في المتقدم منهما ، والمتأخر ، ازمنة تفصيلية ثلاثة وزمانين اجماليين ، اما الأزمنة التفصيلية فهي زمان العلم بعدمهما ، كيوم الخميس مثلا ، وزمان العلم باحدهما فيه اجمالا ، كيوم الجمعة ، وزمان العلم بوجودهما معا مع العلم بكونه ظرفا لحدوث الآخر ، كيوم السبت ، واما الاجماليان.

فاحدهما : زمان اسلام الوارث المحتمل الانطباق على كل من الزمان الثاني ، والثالث على البدل.

وثانيهما : زمان موت المورث المحتمل الانطباق أيضاً على كل من الزمانين على البدل ، بحيث لو انطبق أحدهما على الثاني ، انطبق الآخر على الزمان الثالث ، وحينئذٍ فحيث يحتمل كون الزمان الثاني ، أي يوم الجمعة في المثال ظرف حدوث الاسلام أو الموت ، فلا مجال لاستصحاب عدم الاسلام المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت المورث ، لاحتمال ان يكون زمان الموت ، يوم السبت ، ويكون زمان الاسلام يوم الجمعة ، الذي هو زمان انتقاض يقينه باليقين الإجمالي بالخلاف ، ومع هذا الاحتمال ، لا يجري الاستصحاب ، لعدم إحراز كون النقض من نقض اليقين بالشك ، واحتمال ان يكون من نقض اليقين باليقين ، وكذا الكلام في استصحاب عدم موت المورث إلى زمان اسلام الوارث فانه مع احتمال كون زمان الاسلام ، بعد زمان موت المورث ، يحتمل انتقاض يقينه ،

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨ بتصرف.

٥٢٢

باليقين بالخلاف.

ومما ذكرناه في الوجوه السابقة يظهر الجواب عن هذا الوجه.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لا محذور في جريان الأصل في مجهولي التاريخ ، فيجري.

تكملة

ثم ان المحقق (ره) (١) ذكر انه بعد ما لا ريب في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وبين ضابط الاتصال والانفصال.

ان اتصال زمان الوصفين قد يكون ظاهرا ، وقد يكون خفيا.

وحاصل ما افاد انه في موارد حصول العلم على خلاف الحالة السابقة صور.

الأولى : ان يعلم اجمالا بارتفاع احدى الحالتين السابقتين من دون تعيين لها في علم المكلف أصلاً كما إذا علم بان احد الإنائين المعلوم نجاستهما قد طهر من دون تمييز وتعيين.

الثانية : ان يعلم في الفرض بطهارة خصوص ما هو واقع في الطرف الشرقي ، مع تمييزه في علم المكلف عن الاناء الواقع في الطرف الغربي واشتبه الاناءان بعد ذلك.

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٠ إلى ٢١٣ بتصرف.

٥٢٣

الثالثة : الصورة ولكن مع عدم تمييز الاناء الشرقي إلا بهذه الإشارة الاجمالية ، ولكن يكون بحيث لو اراد ان يميزه تمكن من ذلك وقد اشتبه الاناءان بعد ذلك.

اما في الصورة الأولى : فلا ريب في اتصال زمان الشك في نجاسة كل منهما بالعلم بنجاسته ، إذ العلم الإجمالي المزبور وان كان مناقضا للعلم بعدم طهارتهما المتولد من العلم بنجاسة كل منهما إلا انه غير ناقض للعلم بنجاسة كل منهما ، بل هو موجب للشك في بقاء نجاسة كل منهما وليس هناك بين اليقين بنجاسة كل منهما والشك في بقائها ، زمان فاصل.

واما في الصورة الثانية : فلا اشكال في ان اليقين بنجاسة الاناء الشرقي قد انتقض باليقين بطهارته ، وسقط فيه الاستصحاب لحصول غايته ، فإذا اشتبه الاناءان ، وحصل الشك في نجاسة كل منهما ، لا يكون اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، محرزا في شيء منهما.

وان شئت قلت انه يعلم اجمالا بسقوط الاستصحاب في أحدهما المعين فيكون التمسك به في كل منهما تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

واما الصورة الثالثة : فهي ذات وجهين يمكن الحاقها بكل من الصورتين السابقتين ، إلا ان الظاهر هو الالحاق بالثانية : إذ المفروض ان القطع بنجاسة ذلك الاناء الشرقي قد انتقض باليقين بالطهارة ، فبعد الاشتباه وان كان نجاسة كل من الإنائين مشكوكا فيها ، إلا انه انفصل في البين زمان كانت الطهارة في ذلك الزمان في أحدهما معلومة والشك إنما يكون في تعيين ذلك ، فلم يحرز اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين.

٥٢٤

ويترتب على ذلك فروع فقهية وتفصيل القول في كل منها موكول إلى محله.

ولكن الظاهر جريان الاستصحاب حتى في الصورة الثانية ، لما مر من انه لا يعتبر تقدم زمان اليقين ، على زمان الشك فضلا عن اعتبار اتصال الزمانين ، بل المعتبر هو اليقين بالحدوث والشك في البقاء الفعليين ، كان زمان حصول اليقين مقدما أو مؤخرا أو مقارنا ، وعرفت ان مجرد احتمال العلم بالخلاف لا يضر بالاستصحاب ، ففي جميع الصور ، كل واحد من طرفي العلم يعلم بنجاسته سابقا ويشك في بقائها فيجري فيه الأصل في نفسه.

واما في الصورة الرابعة : وهي ما لو كان الاثر مترتبا على الحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر المعبر عنه بمفاد ليس الناقصة ، بان يكون موضوع الاثر العدم النعتى ، فالظاهر انه لا اشكال في عدم جريان الأصل والحكم بترتيب آثار الاتصاف بالعدم ، إلا انه يمكن إجراء استصحاب عدم الاتصاف والحكم بنفي الآثار المترتبة على ثبوته ، وقد اشبعنا الكلام في ذلك وفيما أفاده المحقق الخراساني في مبحث العام والخاص في استصحاب العدم الازلي.

جريان الأصل في معلوم التاريخ

الموضع الثاني : فيما إذا كان تاريخ احد الحادثين معلوما دون تاريخ الآخر ، مثال ذلك ما لو علم بموت زيد يوم الخميس وعلم باسلام وارثه ، اما قبل ذلك الزمان أو في يوم الجمعة ، وصوره أيضاً أربع :

١ ـ ما إذا كان موضوع الاثر فيه وجود الشيء عند وجود الآخر ، بمفاد كان

٥٢٥

التامة ، كما إذا فرضنا ان الوارث يرث إذا كان مسلما حين موت المورث.

٢ ـ ما إذا كان موضوع الاثر وجود الشيء عند وجود الآخر بمفاد كان الناقصة كما إذا فرضنا ان الارث مترتب على الاسلام المتصف بالسبق في المثال.

٣ ـ ما إذا كان موضوع الاثر عدم الشيء عند وجود الآخر بمفاد ليس التامة ، بان يكون الموضوع العدم المحمولي.

٤ ـ ما إذا كان موضوع الحكم عدم الشيء عند وجود الآخر بمفاد ليس الناقصة بان يكون موضوع الحكم العدم النعتى.

اما في الصورة الاولى : فعن الشيخ الأعظم (١) والمحقق النائيني (٢) عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ ، وستقف على ما افاداه في الصورة الثالثة.

وعليه فلا اشكال في جريان استصحاب عدم كل من معلوم التاريخ ، ومجهوله في نفسه.

واما في الصورة الثانية : فعن المحقق الخراساني (٣) عدم جريان الأصل فيه ، وقد تقدم في مجهول التاريخ توضيح كلامه وما يرد عليه فلا نعيد.

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٨ وهو ظاهر كلامه ، ونسبه إلى ظاهر المشهور.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٢٢ (تكملة) / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦١ (بقي هناك قسم آخر قد ظهر حكمه مما ذكرناه ... الخ).

(٣) كفاية الأصول ص ٤٢١.

٥٢٦

اما الصورة الثالثة : ففيها أقوال :

١ ـ جريان الأصل في كل منهما في نفسه وتساقطهما بالتعارض وهو الاقوى.

٢ ـ جريانه في خصوص مجهول التاريخ ، دون معلومه ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) والمحقق الخراساني (ره) والمحقق النائيني (ره) (١).

٣ ـ عدم جريانه في شيء منهما فالكلام يقع في موردين :

الأول : في جريانه في مجهول التاريخ.

الثاني : في معلومه.

اما الأول : فحيث ان المانع المتوهم المتقدم في المسألة السابقة الموجب للبناء على عدم جريانه في مجهولي التاريخ ، إنما كان من جهة عدم إحراز زمان حدوث الآخر ، فبالتبع كان يتوهم عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، لا يكون مورد لتوهمه في المقام لأنه محرز على الفرض فالشك في بقاء عدم مجهول التاريخ متصل بزمان اليقين بعدمه بلا كلام ، فلا اشكال في جريانه.

واما المورد الثاني : فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجهين :

أحدهما : عدم اتصال زمان الشك باليقين : إذ عدمه التام بما هو ليس مشكوكا فيه في زمان لأنه قبل التاريخ المعلوم معلوم البقاء وبعده مقطوع الارتفاع ، وإنما الشك فيه بالاضافة إلى زمان الغير وحيث انه غير معلوم ويحتمل

__________________

(١) راجع المصادر السابقة للأعلام الثلاثة.

٥٢٧

تقدمه فلا يكون الاتصال محرزا ، وقد مر جوابه مفصلا فراجع.

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله ان زمان تبدل عدم المعلوم بوجوده لا يكون مشكوكا فيه في زمان من الأزمنة حتى في زمان المجهول : إذ هو اما قبل تاريخ المعلوم أو مقارن له ، أو متاخر عنه ، فان كان قبله فعدمه مقطوع ، وان كان مقارنا أو متاخرا عنه ، فوجوده مقطوع ، فلا شك في عدم المعلوم في زمان حدوث المجهول كي يجري فيه الأصل.

وبعبارة أخرى : ان حقيقة الاستصحاب هو الجر في الزمان أي جر المستصحب إلى زمان الشك ، وعليه فاما ان يراد بالاستصحاب في المقام استصحاب عدم المعلوم في الزمان من حيث هو ، فيرده انه لا شك فيه في شيء من الأزمنة المفروضة ، وان أريد جره في زمان المجهول ، يرده انه اما ان يلاحظ زمان حدوث المجهول على وجه الظرفية لوجوده أو على وجه القيدية ، وعلى الأول فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالاضافة إلى نفس اجزاء الزمان ، وقد عرفت انه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان ، وعلى الثاني لا تجري أصالة عدمه في ذلك الزمان لان عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا ، فلا يجري فيه الأصل.

وفيه أولا : انه لو فرضنا اخذ زمان حدوث الآخر بنحو القيدية فموضوع الحكم وان كان لا يجري فيه الأصل لعدم إحراز الحالة السابقة ، إلا ان عدم تحقق الموضوع يجري فيه الأصل لما عرفت في مجهولي التاريخ ، من ان عدم هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٥ ـ ٤٣٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦٢ بتصرف.

٥٢٨

الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع متيقن ، وان نقيض الوجود الرابط عدمه ، لا العدم الرابط فراجع ما مر.

وثانيا : انه إذا كان شيء معلوما من جهة ومشكوكا فيه من جهة أخرى يجري فيه الأصل بالاعتبار الثاني ، وفي المقام زمان المعلوم وجودا وعدما وان كان معلوما بالقياس إلى الزمان من حيث هو ، واما باعتبار زمان حدوث المجهول المردد بين الأزمنة غير المعلومة يكون مشكوكا فيه.

وان شئت قلت ، ان عدمه الخاص أي عدمه في زمان الآخر مشكوك فيه ، فيجري الأصل بهذه الملاحظة ولا محذور فيه سوى توهم عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين وقد مر جوابه.

واما الصورة الرابعة : وهي ما إذا كان موضوع الاثر العدم النعتى ، فقد ظهر من مجموع ما ذكرناه جريان الاستصحاب في كل من معلوم التاريخ ، ومجهوله فيها.

وان ايراد صاحب الكفاية (١) ، بان وجود هذا الحادث متصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر لا يكون مسبوقا بالعدم فلا يجري الأصل فيه.

اجبنا عنه بان عدم الاتصاف به مسبوق بالعدم ، وان لم يكن الاتصاف بالعدم ، مسبوقا بالعدم ، فيجري الاستصحاب فيه بهذا الاعتبار.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه انه يجري الاستصحاب في كل من مجهولي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢١ بتصرف.

٥٢٩

التاريخ ، وفي معلوم التاريخ ومجهوله ، في نفسه وان شيئا مما أورد عليه لا يتم ، وعليه فان كان الاثر مترتبا على أحدهما يجري فيه بلا معارض ، ولو كان مترتبا على كل منهما يتساقطان.

ولا يخفى انه قد يتوهم ان هذا الأصل يعارضه دائما اصل آخر ، وهو أصالة عدم المركب وعدم اجتماع القيدين معا ، وهذا غير مختص بالمقام ، بل هو جار في كل مورد كان الموضوع مركبا واستصحب احد القيدين واحرز الآخر ، كما لو أحرز اعلمية زيد ، وشك في عدالته مع العلم بها سابقا ، فان استصحاب بقاء العدالة ، يعارضه استصحاب عدم اجتماع الاعلمية والعدالة.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (١) بان الشك في بقاء عدم المركب مسبب ، عن الشك في وجود اجزائه فإذا جرى الأصل فيه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبب.

وفيه : ان السببية في المقام ليست شرعية ، فلا يكون الأصل في السبب حاكما على الأصل في المسبب.

والحق في الجواب ان يقال ان المركب من حيث انه مركب بوصف الاجتماع ، لا يكون موضوعا للحكم ، وإنما هو مترتب على ذوات الاجزاء المجتمعة ، ولا شك فيها ، بعد ضم الوجدان إلى الأصل ، نعم ، إذا كان وصف المقارنة أو غيرها دخيلا في الحكم ، يجري استصحاب العدم ، ويترتب عليه عدم

__________________

(١) وهو ظاهر كلامه في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٤٦ ـ ١٤٧.

٥٣٠

الحكم ، ولا يعارض باستصحاب الجزء وضمه إلى الوجدان كما لا يخفى.

الكلام حول تعاقب الحالتين المتضادتين

بقي الكلام في انه ، هل يجري الاستصحاب فيما تعاقب حالتان متضادتان كالطهارة والنجاسة ، وشك في ثبوتهما وانتفائهما ، للشك في المقدم والمؤخر منهما ، أم لا؟ والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة إنما هو من ناحية الموضوع ، وما ذكر في وجه عدم الجريان قولان :

اما الأول : فموضوع المسألة المتقدمة هي الموضوعات المركبة ، وموضوع هذه ، هي الموضوعات البسيطة ، وايضا المستصحب في المقام بقاء الحادث ، وهناك العدم الثابت قبل حدوثهما.

واما الثاني : فاستدل في المقام لعدم الجريان : بان زمان المتيقن ليس متصلا بزمان المشكوك فيه ، وفيما تقدم ، بعدم اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين ، أضف إلى ذلك كله ، انه في هذه المسألة ، كل من الحادثين رافع للآخر.

وكيف كان فالكلام يقع في موردين ، الأول في مجهول التاريخ ، الثاني في معلومه.

اما المورد الأول : فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجوه :

٥٣١

احدها : ما في الكفاية (١) ، وحاصله ان المحذور في المسألة السابقة ، وهو عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين جار هنا ، غاية الأمر عدم الاتصال هناك كان من ناحية عدم اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين ، لاحتمال الفصل بالحادث الآخر ، وفي المقام يكون من ناحية عدم إحراز زمان اليقين ، لاحتمال كونه الزمان الأول ، فيكون الزمان الثاني فاصلا واحتمال كونه الزمان الثاني ، فيكون متصلا فزمان المتيقن بما هو متيقن غير متصل بزمان المشكوك فيه بما هو مشكوك فيه.

وفيه : انه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين ، وعدم انفصال زمان المتيقن عن زمان المشكوك فيه بمتيقن آخر ، والمقام كذلك ، وان كان زمان المتيقن غير معين ومرددا بين زمانين ، إلا انه يعلم عدم الفصل بمتيقن آخر.

ثانيها : ما نقله المحقق العراقي (٢) عن المحقق الخراساني في مجلس بحثه ، وحاصله : انه اما ان يراد في المقام إجراء الاستصحاب ، في الزمان الإجمالي ، أو يراد استصحابه في الأزمنة التفصيلية ، وعلى الأول ، وان كان يجري الأصل إلا انه لا اثر له إذ الآثار كجواز الدخول في الصلاة إنما يترتب على ثبوت الطهارة في الزمان التفصيلي ، ولا يكفي ثبوتها في الزمان الإجمالي ، وعلى الثاني لا يجري الأصل من جهة ان المنصرف من دليل الاستصحاب ، هو ان يكون زمان الذي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٢) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٦ ـ ٢١٧.

٥٣٢

أريد جر المستصحب إليه ، على نحو لو تقهقرنا منه إلى ما قبله من الأزمنة لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب ، وليس المقام كذلك ، لان كلا من الطهارة والحدث لو تقهقرنا من زمان الشك الذي هو الساعة الثالثة لم نعثر على زمان اليقين بوجود المستصحب بل كل من الأزمنة السابقة زمان الشك في الوجود إلى ان ينتهى إلى الزمان الخارج عن دائرة العلم الإجمالي ، الذي هو زمان اليقين بعدم كل منهما.

وفيه : أولا : النقض بما لو علم بالطهارة مثلا في احد زمانين بنحو الاجمال ، وشك فيها بالشك البدوى ، من جهة احتمال حدوث الحدث بعده ، فان لازم البرهان المزبور عدم جريان الاستصحاب في المثال وقد نقل بعض مشايخنا انه أورد عليه في مجلس البحث بذلك بعض الفحول ولم يجب.

وثانيا : بالحل ، وهو ان الاثر إنما يترتب على التعبد بالمستصحب في زمان الشك ولا بد وان يكون ذلك الزمان معينا ولا يعتبر تعين زمان اليقين وفي المقام زمان الشك الذي يراد استصحاب الطهارة أو الحدث فيه هو الساعة الثالثة ، وهو معلوم معين ، وإنما المردد هو زمان اليقين ، ولا يضر تردده في الاستصحاب بعد إطلاق الدليل.

ثالثها : ما نسب إلى المحقق العراقي (١) : وحاصله انه إنما يجري الاستصحاب

__________________

(١) راجع نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٤ (والتحقيق) حيث اعتبر جريان الاستصحاب في مورد الشك في وجود ما ينطبق عليه البقاء محرزا ، واما في الفرض المذكور فلا يجري الاستصحاب كما أوضحه في ص ٢١٥ ـ ٢١٦ من الوجه الثاني.

٥٣٣

فيما إذا كان الشك في بقاء ما حدث ، واما إذا كان يقينان وكان الشك في كيفية الحادث ولونه فلا مجرى للاستصحاب ، وفي المقام كذلك فانه على تقدير حدوث الطهارة مثلا في الساعة الأولى فهي مرتفعة في الساعة الثالثة قطعا وعلى فرض حدوثها في الثانية فهي باقية قطعا والشك إنما هو في زمان حدوث المتيقن لا فى بقائه.

ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض المحققين من انه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، واما إذا كان عوض الشك يقينان فلا يجري الاستصحاب والمقام من هذا القبيل ، إذ الحدث مثلا لو كان متحققا قبل الوضوء فهو مرتفع قطعا ، ولو كان متحققا بعده فهو باق كذلك فلا شك في البقاء وكذلك الطهارة.

وفيه أولا : النقض بجميع موارد الاستصحاب مثلا لو علم بحياة زيد وشك في بقائها يمكن ان يقال انه لو كان في علم الله ان يموت قبل ساعة فهو ميت قطعا ولو كان ان لا يموت فهو حى كذلك.

وثانيا : بالحل وهو ان اليقينين المزبورين هما اليقين بالملازمة لا باللازم وهما منشأ الشك في البقاء ـ وبعبارة أخرى ـ ان هذين اليقينين الذين هما يقينان بقضيتين شرطيتين بضميمة الشك في ساعة الطهارة منشأ للشك في بقاء الحادث ويجرى فيه الاستصحاب فتدبر فانه يليق به.

٥٣٤

رابعها : ما نسب إلى بعض الاكابر (١) : وحاصله انه يعتبر في جريان الاستصحاب بحسب ظواهر الأدلة كون الشك الذي لا يجوز النقض به شكا في البقاء ، والارتفاع في زمان واحد ، والمقام ليس كذلك ، إذ كل واحد من الحادثين إذا لوحظ في الأزمنة ، يظهر انه لا شك في زمان واحد في بقائه وارتفاعه ، إذ الساعة الثالثة التي هي زمان الشك ، في البقاء لا يحتمل ارتفاعه ، والساعة الأولى التي هي زمان حدوث أحدهما لا شك في الارتفاع ، بل زمان الشك في الارتفاع هو الساعة الثانية التي هي زمان حدوث الآخر ، وفي ذلك الزمان لا شك في البقاء إذ هو اما وجد فيه أو ارتفع فزمان الشك في البقاء غير زمان الشك في الارتفاع.

وفيه : ان اعتبار هذا القيد لا يستفاد من النصوص ، ولا دليل آخر عليه فلا وجه لاعتباره.

وقد ذكروا لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ وجوها اخر ضعيفة يظهر وجه ضعفها مما ذكرناه ، لرجوعها إلى بعض الوجوه المتقدمة والاختلاف إنما يكون في التعبير.

فتحصل ان الاقوى جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ.

ثم انه بعد تعارض الاصلين الجاريين فيهما وتساقطهما.

قد يقال انه يرجع إلى استصحاب نفس الحالة السابقة على الحالتين لو

__________________

(١) وهو الظاهر مما نسبه المحقق السيد الحكيم في حقائق الأصول ج ٢ ص ٥١٠ إلى بعض مشايخنا المحققين.

٥٣٥

كانت معلومة.

وفيه : ان الحالة السابقة مرتفعة قطعا للعلم بحدوث ضدها.

وقد يقال انه حيث يعلم بحدوث ضد الحالة السابقة ، ويشك في ارتفاعه فيستصحب ، ولا يعارضه استصحاب نفس الحالة السابقة للعلم بارتفاعها ، ولا استصحاب مثلها إذ لا علم بحدوثه ، لاحتمال تعاقب المتجانسين ، فلو كانت الحالة السابقة هي الحدث ، وعلم بوقوع حدث ، ووضوء ، وجهل تاريخهما ، فالحدث الأول مرتفع قطعا ، وحيث انه يحتمل تقدم الحدث الثاني على الوضوء ، فلا علم بتحقق فرد آخر منه ، وهذا بخلاف الوضوء فيستصحب ما علم تحققه وهو الطهارة.

وفيه : انه قد مر في التنبيه الثالث من جريان الاستصحاب في القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي كما في الحدث في المقام ، فراجع فيعارض مع استصحاب الطهارة.

واما المورد الثاني : فعن جماعة من المحققين اختيار جريان الأصل في خصوص معلوم التاريخ ، وعدم جريانه في مجهوله ، وقد مر ما يمكن ان يستدل به له وضعفه.

وذهب جماعة آخرون منهم الشيخ الأعظم (ره) (١) إلى عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ.

__________________

(١) كما هو ظاهر كلامه في فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٧.

٥٣٦

واستدل له : بان استصحاب عدم تحقق مجهول التاريخ إلى زمان العلم بتحقق الآخر يقتضي تأخره عنه ، فلو علم انه توضأ في أول الزوال ، وعلم أيضاً بالحدث ، وشك في تقدم الحدث على الوضوء ، وتاخره عنه يجري استصحاب عدم الحدث ، إلى زمان الوضوء ، وهو يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء.

وفيه : ان هذا الأصل لا يترتب عليه هذا الاثر ، إلا على القول بالاصل المثبت ، لفرض ترتب الاثر على تأخر الحدث عن الوضوء ، ليكون رافعا لاثره ، ولا يثبت ذلك باستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء.

فتحصل ان الاظهر جريان الأصل في كل منهما في نفسه ، وفي حالة تعارض الاصلين لو علم بهما وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، من غير فرق بين الجهل بتاريخهما ، وبين ما لو علم تاريخ أحدهما ، ففي المثال ، لا بدَّ من الوضوء لقاعدة الاشتغال.

جريان الاستصحاب في الاعتقاديات

التنبيه الثاني عشر : في جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، كالنبوة والإمامة واطال الشيخ الكلام في هذا التنبيه (١) ، وملخص القول ، انه يقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : انه يعتبر في الاستصحاب زائدا على اليقين والشك وكون

__________________

(١) وهو الأمر التاسع من التنبيهات ، فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢

٥٣٧

المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي ، امران آخران ، أحدهما ترتب اثر عملي عليه ، ولا يكفي مجرد الاثر الشرعي في جريانه ، اما على المختار من ان المجعول فيه الجري العملي فواضح ، فانه بدونه يلزم اللغوية من التعبد به ، واما على مسلك المشهور من جعل الحكم المماثل فللانصراف ، فان هذه الأصول اصول عملية أي مقررة للشاك وظيفة له في مقام العمل ، فمع عدم الاثر العملي لا يجري ، وبالجملة جعل الحكم إنما هو للعمل وإلا يكون لغوا.

نعم لا فرق بين كون العمل عملا جارحيا أو جانحيا ، كالتسليم ، والانقياد ، والبناء ، وما شاكل ، ومجرد تسمية بعض الأفعال بالأصول لا يكون مانعا عن ذلك.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام الشيخ الأعظم (١) من انه لا يجري الاستصحاب في الاعتقاديات مطلقا مستدلا له : بان الاستصحاب ان اخذ من الأخبار فهو لا يكون رافعا للشك ، بل مؤداها الحكم على ما كان معمولا به على تقدير اليقين به ، والمفروض ان وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به ، لا يمكن الحكم به عند الشك ، لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف به وان كان حجة من باب الظن فلا ظن بالبقاء أولا ، ولا دليل على حجيته ثانيا.

ورتب عليه انه لو شك في نسخ الشريعة لا يصح الاستدلال بالاستصحاب ، لبقائها ، واضاف ان الدليل النقلي الدال عليه لا يجدي لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٣٨

وجه الظهور : انه قد عرفت ان المعتبر في الاستصحاب ترتب اثر عملي عليه كان ذلك من الاعمال الجوانحية أو الجوارحية ، والاعتقاد من القسم الأول ، والنسبة بينه وبين اليقين عموم من وجه فانه ، قد يكون القطع موجودا ولا اعتقاد كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(١) ، وقد يكون الاعتقاد والبناء موجودا ولا قطع كما في موارد التشريع وقد يجتمعان.

نعم ، في الاعتقاديات التي يعتبر فيها اليقين لا يجري الاستصحاب ، لأنه لا يصلح للقيام مقام العلم الموضوعي ، وان شئت قلت انه في الاستصحاب مع حفظ الشك يكون التعبد بالمتيقن ، وهو لا يزيل الشك ، فلو كان الموضوع مما يعتبر فيه العلم شرعا ، أو عقلا ، فلا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت الموضوع به ، إلا إذا كان العلم مأخوذا في الموضوع بما انه مقتض للجرى العملي ، ولعله يكون باب الشهادة من هذا القبيل ، وهذا لا يختص بالاعمال الجوانحية بل في الاعمال الجوارحية أيضاً كذلك.

مع ، انه إذا كان الاستصحاب حجة في كلتا الشريعتين يعتمد عليه للعلم بحجيته حينئذ ، بل يمكن ان يقال ان حجيته في الشريعة اللاحقة تكفى إذ لو كان الثابت هو الشريعة السابقة فهو ، ولو كان هي اللاحقة ، فمقتضى حجية الاستصحاب البناء على بقاء الأولى فتأمل.

الجهة الثانية : في استصحاب النبوة ، والكلام فيها من انحاء :

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

٥٣٩

تارة في انه هل يتصور الشك في بقائها أم لا؟

وأخرى في انه ما ذا يترتب على استصحابها ،

وثالثة في جريانه.

اما من الناحية الأولى : فالحق ان النبوة ان كانت من الصفات الواقعية ، ومرتبة عالية من الكمالات النفسانية ، وهي صيرورة نفس النبي (ص) بحيث تتلقى الأحكام الدينية ، والمعارف الالهية ، من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر فلا يتصور الشك في بقائها ، إذ الموت لو لم يوجب قوة هذه الملكة الراسخة لا يوجب ضعفها ، ومجيء نبى آخر ، ولو كان اكمل لا يوجب زوالها ، إذ كمال شخص ، لا يوجب زوال كمال الآخر ، واما انحطاط نفسه المقدسة عن هذه الدرجة ، فبما ان هذه الملكة لها درجة المعرفة الشهودية فلا يعقل زوالها ، وان كانت من الأمور الاعتبارية المجعولة ، يتصور الشك في بقائها كما لا يخفى.

واما من الناحية الثانية : فعلى فرض الشك في النبوة لا يترتب على استصحابها وجوب التصديق بما جاء به ، لأنه من آثار نبوته السابقة لا الفعلية ، ولا بقاء أحكام شريعته الشرعية ، لما تقدم من جريان الاستصحاب فيها حتى بناءً على نسخ الشريعة ، مع انه لو سلم ان معنى نسخ الشريعة نسخ جميع احكامها لا يترتب هذا الاثر على استصحابها ، لان بقائها ليس من آثار بقاء نبوته بل من آثار عدم مجيء نبى آخر بشريعة أخرى ، بل اثره وجوب الاعتقاد بنبوته.

وعليه فان كان المعتبر هو الاعتقاد بها يجري الاستصحاب ، ويترتب عليه هذا الاثر ، وان كان هو المعرفة والقطع فلا يجري لما مر ، وبه يظهر الكلام من

٥٤٠