زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

حكم الشك في الضرر

التنبيه السابع : إذا شك في مورد ان الحكم ، أو المتعلق ضرري ، أم لا؟ كما لو شك في مضرية الصوم أو الوضوء وما شاكل ففيه وجوه واقوال :

أحدها : انه لو ظن بالضرر بالظن غير المعتبر يكون المورد مشمولا لحديث لا ضرر ، ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني.

قال في الكفاية (١) في مبحث الانسداد : نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من انسداد باب العلم به غالبا واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا به بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم امكانه عقلا كما في موارد الضرر انتهى.

وقال الشيخ في الرسائل (٢) نعم قد يوجد في الأمور الخارجية ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه كما في موضع الضرر الذي أنيط به أحكام كثيرة من جواز التيمم والإفطار وغيرهما انتهى ، وبذلك صرح في كتاب الصوم.

ولكن يرد على هذا الوجه انه يتم ان لم يكن باب العلمي مفتوحا وحيث ان قول أهل الخبرة وهم الأطباء حجة فلا يتم ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٢٩.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٧١.

٢٦١

ثانيها : انه حيث يشك في صدق الضرر ، فالحديث لا يشمل فيرجع إلى عموم دليل ذلك الحكم كدليل وجوب الوضوء والصوم ، وهو الظاهر من السيد في العروة.

ولكنه لا يتم على ما هو الحق من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ثالثها : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان الحديث لا يشمل ، والتمسك بدليل الحكم لا يجوز ، فيشك في الحكم والمرجع فيه حينئذ هو أصالة الاحتياط دون البراءة ، بدعوى ان مرجع هذا المانع إلى عدم قدرة الحاكم لتوسعة حكمه مع تمامية مقتضيه فيكون نظير عدم قدرة المحكوم له على الامتثال حيث ان العقل حاكم بالاخذ باحتمال الحكم ، ولا يرى مجرى البراءة إلا مورد الشك في اصل الاقتضاء.

وفيه : انه لم تم ذلك بالإضافة إلى البراءة العقلية ، لا يتم بالإضافة إلى البراءة الشرعية فان مقتضى إطلاق أدلتها ، ارتفاع الحكم في كل مورد شك فيه ، ومع الشك في الضرر حيث انه يشك في الحكم ، فلا محالة تجري البراءة ، ولا مورد لاصالة الاحتياط.

فالصحيح ان يقال ، انه إذا كان الواجب مما له بدل كالوضوء فانه لو سقط وجوبه ينتقل الفرض إلى التيمم ، أو كان الواجب مما يجب قضائه لو سقط وجوبه كالصوم ، لا يجري الحديث قطعا : فانه لو بنينا على ان الميزان هو الضرر

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٦٦.

٢٦٢

الواقعي ، ففي هذه الموارد بما ان لازم جريانه هو الجمع بين المبدل والبدل ، وفعل الشيء وقضائه ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن المبدل ، وفعل الشيء : للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما ، وهو خلاف الامتنان ، فلا يجري ، نعم من لا يرى منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات خصوصا فيما إذا كان المعلوم بالإجمال على تقدير غير فعلى وبلا ملاك كما في قضاء الصوم ، لا محالة يشك في الوجوب ويجرى أصالة البراءة عنه ، وعلى ما ذكرناه فمقتضى إطلاق دليل الواجب وجوبه ، ولعله إلى هذا نظر صاحب العروة.

ويمكن ان يذكر وجه آخر لكون المورد من موارد التمسك باطلاق دليل الواجب لا البراءة حتى مع كون المنفي في الحديث هو الضرر الواقعي ، وذلك لأنه يجري فيه استصحاب عدم حصول الضرر بفعله بناءً على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية ، على ما أشبعنا الكلام فيه في مبحث الاستصحاب.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه في موارد الشك في الضرر يبنى على عدمه فيرجع إلى إطلاق ، أو عموم دليل ذلك الحكم ، كدليل وجوب الوضوء ، والصوم ، ونحوهما.

نعم في خصوص باب الصوم بنينا على جواز الافطار مع الظن بالضرر كما هو المشهور ، بل ومع احتماله ، من جهة ان المأخوذ في جملة من النصوص موضوعا لجواز الافطار الخوف من الضرر (١) وهو يصدق مع الظن بالضرر بل

__________________

(١) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ١٠ من صفحة ٢١٤ إلى ٢٢٢.

٢٦٣

ومع الاحتمال المتساوي الطرفين ، وقد ذكرنا في كتابنا فقه الصادق (١) وجها آخر لجواز الافطار مع الظن بالضرر ، لعدم ارتباطه بالمقام اغمضنا عن ذكره.

بيان وجه تقديم دليل القاعدة على أدلة الأحكام

واما المقام الخامس : وهو بيان حال القاعدة مع ما يعارضها.

فالكلام فيه في موارد.

الأول : في بيان نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية.

الثاني : في بيان نسبتها مع سائر الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية.

الثالث : في تعارض الضررين.

اما المورد الأول : فبعد ما لا كلام في تقديم القاعدة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كادلة وجوب الوضوء على واجد الماء ، وحرمة الترافع إلى حكام الجور ، وسلطنة الناس على أموالهم وما شاكل ، وقع الكلام في وجه ذلك مع ان النسبة بين دليل القاعدة ، وبين كل واحد من تلك الأدلة عموم من وجه ، وقد ذكروا في وجه تقديمه امورا.

__________________

(١) فقه الصادق (الطبعة الثالثة) ج ٨ ص ٢٩٣.

٢٦٤

الأمر الاول : ما نقله الشيخ عن غير واحد من عدهما من المتعارضين ، وإنما يقدم القاعدة ، اما بعمل الأصحاب ، أو بالأصول ، كالبراءة في مقام التكليف ، وغيرها في غيره.

وفيه : اولا ما ستعرف من حكومة دليل القاعدة ، على جميع تلكم الأدلة ، ولا تعارض بينهما ، والترجيح إنما هو في غير موارد الجمع العرفي كما حقق في محله.

وثانيا : انه على فرض تسليم التعارض ، الأصول ليست من مرجحات احد الخبرين على الآخر ، واما عمل الأصحاب أي الشهرة الفتوائية فهو إنما يكون من المرجحات ، إذا كانت النسبة بينهما هو التباين ، أو العموم من وجه ، مع كون دلالة كل منهما على حكم المجمع بالعموم ، وان كانت دلالة أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم ، أو كانت دلالة كل منهما بالإطلاق فالمشهور هو التساقط في الثاني ، وتقديم العام في الأول فتأمل فان المختار خلافه.

الأمر الثاني : ان دليل القاعدة أخص من مجموع أدلة الأحكام ، وحيث ان المنفي هو الحكم أو الموضوع الضرري في الإسلام ، فطرف المعارضة مجموع تلك الأدلة لا كل واحد ، فلا بد من لحاظ النسبة بين دليلها ، ومجموع تلك الأدلة ، ومن الواضح ان النسبة هي العموم والخصوص المطلق فيقدم دليل ، القاعدة.

وفيه : ان جميع الأحكام ليس لها دليل واحد ، كي يلاحظ النسبة بين ذلك الدليل ، ودليل القاعدة ، بل لكل واحد من الأحكام دليل مستقل غير مربوط بغيره ، والنسبة لا بد وان تلاحظ بين الأدلة ، وعليه فلا محيص عن ملاحظتها بين دليل القاعدة ، وكل واحد من تلك الأدلة ، والنسبة حينئذ هي العموم من

٢٦٥

وجه.

الأمر الثالث : انه يدور الأمر لعلاج التعارض بين أمور ثلاثة.

احدها : تقديم دليل لا ضرر على بعض تلك الأدلة ، وتقديم بعضها عليه ، ثانيها : تقديم تلك الأدلة بأجمعها ، على دليله ـ ثالثها ـ تقديم دليله على جميع تلك الأدلة.

لا سبيل إلى الاولين : إذا الأول ، مستلزم للترجيح بلا مرجح ، والثاني ، يستلزم عدم بقاء المورد له ، فيتعين الثالث.

ويرد عليه انه لا محذور في الثاني ، لو لا الحكومة ، فان طرح الدليل عند التعارض ، غير عزيز.

الأمر الرابع : ما أفاده المحقق الخراساني (١) (ره) ـ وحاصله ـ انه إذا ورد دليل مثبت لحكم لعنوان أولي ، وورد دليل لبيان حكم لعنوان ثانوي ، وكانت النسبة بينهما عموما من وجه ، يوفق العرف بينهما بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي ، والثاني على بيان الحكم الفعلي ، ـ وبعبارة أخرى ـ يجمع بينهما بحمل العنوان الأولى على كونه مقتضيا ، والعنوان الثاني على كونه مانعا ، وحيث ان دليل نفي الضرر متضمن لتشريع حكم لعنوان ثانوي ، فيحمل لاجله الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على بيان الأحكام الاقتضائية ، فيكون المتحصل عدم وجود تلك الأحكام في موارد الضرر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

٢٦٦

وفيه : ان المراد بالحكم الاقتضائي ان كان الحكم المجعول غير الفعلي ، من جهة دخل شيء في فعليته فهو غير معقول ، إذ الحكم لا يعقل عدم فعليته بعد فعلية موضوعه ، وصيرورة الضرر مانعا عنها بمعنى اخذ عدمه في الموضوع ، وان كانت ممكنة إلا انه مع عدم الدليل عليه لاوجه له ، ودليلية حديث لا ضرر أول الكلام ، وان كان المراد هو الملاك ، فيرد عليه ان حمل الجملة الانشائية على الأخبار مما لا يساعده الجمع العرفي.

الأمر الخامس : ما أفاده الشيخ (١) ، والمحقق الخراساني (٢) ، وهو ان حديث لا ضرر لوروده في مقام الامتنان يقدم على العمومات.

ويمكن تقريبه بأنه إذا لم يكن ، للحكم مقتضى الثبوت في مورد الضرر ، فهو منفي لعدم المقتضى ، فلا معنى لنفيه امتنانا ، فورود الحديث في مقام الامتنان يقتضي وجود المقتضى له ، كما انه إذا لم يكن له مقتضى الاثبات من إطلاق دليل أو عموم لا محالة يكون منفيا لعدم الحجة من دون حاجة إلى نفيه امتنانا ، فمن ورود الحديث في مقام الامتنان يستكشف وروده لتحديد مقتضى الاثبات بقصره على غير مورد الضرر.

الأمر السادس : ما أفاده الشيخ الأعظم (٣) ، قال ان هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري كادلة لزوم

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٥.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٥.

٢٦٧

العقد ، وسلطنة الناس على اموالهم ووجوب الوضوء. وغير ذلك انتهى.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) ، بان حكومتها تتوقف على ان تكون بصدد التعرض لبيان حال ادلة الأحكام المورثة للضرر باطلاقها أو عمومها ، وحديث لا ضرر ليس كذلك ، بل هو لمجرد بيان ما هو الواقع من نفي الضرر فلا حكومة له ، بل حاله كسائر ادلة الأحكام.

ولكن : الحق ما أفاده الشيخ (ره) ، وذلك ، لعدم انحصار الحكومة بما إذا كان دليل الحاكم متعرضا لبيان ما أريد من المحكوم بالمطابقة ، كما في قول الإمام الصادق في خبر عبيد بن زُرَارَةَ (٢) (قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَدْرِ رَكْعَتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلَاثاً قَالَ يُعِيدُ قُلْتُ أَلَيْسَ يُقَالُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ فَقِيهٌ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ) بل لو كان صالحا لذلك بان يبين شيئا لازمه بيان حال المحكوم ، كان ذلك من قبيل الحكومة ، والمقام كذلك.

توضيح ذلك يقتضي البحث في موارد ثلاثة :

الأول : بيان ضابط الحكومة.

الثاني : بيان وجه تقديم الحاكم.

الثالث : تطبيق ضابط الحكومة على المقام ، وبيان كون دليل القاعدة حاكما على الأدلة المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية.

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٢٨٢.

(٢) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢١٥ ح ١٠٤٥٩ / تهذيب الأحكام ج ٢ ص ١٩٣.

٢٦٨

اما الأول : فضابط الحكومة ، كون احد الدليلين ناظرا إلى الآخر ، أو صالحا لذلك. اما بالتصرف في موضوعه سعة ، كقوله (ع) في الفقاع هِيَ خَمْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ (١) بالنسبة إلى أدلة حرمة شرب الخمر. أو ضيقا ، كقوله (ع) لا شك لكثير الشك (٢) ، بالنسبة إلى أدلة الشكوك.

أو بالتصرف في متعلقه ضيقا كما لو ورد (الضيافة ليست بإكرام) ، بعد ورود ما دل على وجوب اكرام العلماء. أو سعة ، كما في قوله (ع) (٣) (الطواف في البيت صلاة) بالنسبة إلى ما دل على شرطية الطهارة للصلاة.

أو بالتصرف في محموله ، بان يتلونه بلون ، ويدل على عدم ثبوت ذلك الحكم في بعض الحالات ، والموارد.

واما الثاني : فوجه التقدم إذا كان دليل الحاكم ناظرا إلى موضوع دليل المحكوم أو متعلقة واضح ، إذ كل من الدليلين متكفل لبيان شيء غير ما يكون الآخر متكفلا لبيانه : فان دليل المحكوم لا نظر له إلى بيان الموضوع أو المتعلق ، بل إنما يثبت الحكم على فرض تحقق الموضوع.

واما إذا كان ناظرا إلى المحمول ، فلان التمسك بأصالة الظهور أي الإطلاق أو العموم في دليل المحكوم فرع تحقق الشك في المراد ، ودليل الحاكم يرفع

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٣٢١٣٦.

(٢) هذه قاعدة فقهية مستفادة من الروايات وليست حديثا ، ويبدو أنها لكثرة استعمالها على ألسن الفقهاء ظنها البعض رواية مع أننا لم نعثر على هذا النص في الكتب الروائية.

(٣) مستدرك الوسائل ج ٩ ص ٤١٠ / عوالي اللئالي ج ١ ص ٢١٤ وج ٢ ص ١٦٧.

٢٦٩

الشك ، ويخصص الحكم بمورد خاص ، فلا يبقى مورد للتمسك بأصالة الإطلاق أو العموم.

واما الثالث : فان قلنا ان حديث لا ضرر إنما يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أو يكون مفاد الحديث نفي الحكم إذا كان الموضوع ضرريا ، فحكومة الحديث على أدلة الأحكام واضحة : فانه حينئذ يكون مضيقا لدائرة موضوعات أدلة الأحكام.

وان قلنا انه إنما يكون نافيا للحكم الضرري ، فالحديث يوجب تلون ما تضمنه أدلة الأحكام الأولية بلون مخصوص ، فعلى أي تقدير يكون حديث لا ضرر حاكما على ادلة الأحكام.

تعارض قاعدة لا ضرر ، مع قاعدة نفي الحرج

واما المورد الثاني : فهو في بيان نسبة قاعدة لا ضرر ، مع الأدلة المثبتة أو النافية للاحكام بعناوينها الثانوية ، ففي الكفاية (١) ، يعامل معهما معاملة المتعارضين ، لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وان كان دليل الآخر ارجح واولى ولا يبعد ان الغالب في توارد العارضين ان يكون من ذلك الباب بثبوت المقتضى فيهما مع تواردهما لا من باب التعارض لعدم ثبوته إلا في أحدهما انتهى.

وفيه : مضافا إلى ما حققناه في أول التعادل والترجيح ، من ان باب تزاحم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

٢٧٠

المقتضيين ، غير باب تزاحم الحكمين ، وانه لو لا حكومة احد الدليلين على الآخر لا بد من إجراء ما يقتضيه قواعد باب التعارض.

ان ما أفاده يتم بناءً على ما أفاده في وجه تقدم قاعدة نفي الضرر على ادلة الأحكام الاولية ، من التوفيق العرفي ، ولا يتم على مسلك الحكومة ، فان الوجه المتقدم لحكومة دليلها على أدلة الأحكام الاولية ، بعينه يقتضي تقديم دليلها على الأدلة المثبتة للاحكام بعناوينها الثانوية ، مثل دليل الشرط والنذر وما شاكل مما دل على ثبوت حكم في مقابل حكم العنوان الأولى ، كما لا يخفى.

فلا بد من ملاحظة نسبة دليل القاعدة مع الأدلة النافية للحكم بالعنوان الثانوي ، مثل دليل نفي الحرج ، والإكراه ونحوهما.

والعمدة هي قاعدة نفي الحرج (١).

فلو تعارض دليل قاعدة نفي الضرر ، مع دليل قاعدة نفي الحرج ، كما لو فرضنا ان عدم تصرف المالك في ماله وان لم يوجب تضرره ، إلا انه حيث يكون تصرفه لجلب منفعة وتعلق غرض عقلائي به يكون ذلك حرجا ، ـ وبعبارة أخرى ـ حجر المالك عن الانتفاع بما له حرج ، وكان تصرفه في ملكه موجبا لتضرر جاره ، ففيه وجوه واقوال.

الأول : تقديم قاعدة نفي الحرج لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر اختاره

__________________

(١) ومستند القاعدة قوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ سورة الحج.

٢٧١

الشيخ الأعظم في الرسائل (١).

الثاني : تقديم قاعدة لا ضرر ، نظرا إلى موافقة قاعدة نفي الحرج لها في اكثر مواردها ، فلو قدم قاعدة نفي الحرج في مورد التعارض لزم كون تأسيسها كاللغو.

الثالث : يعامل معهما معاملة المتعارضين الذين تكون النسبة بينهما عموما من وجه فيقدم قاعدة نفي الحرج للشهرة ، فان المشهور بين الأصحاب جواز التصرف في الفرض ، ولموافقة الكتاب ، أو يحكم بتساقطهما فيرجع إلى قاعدة السلطنة ، على الخلاف بين المسلكين في التعارض بالعموم من وجه.

الرابع : المعاملة معهما معاملة المتزاحمين ، فيقدم الأقوى منهما لو كان وإلا فيحكم بالتخيير ، اختاره المحقق الخراساني (٢) ، وهناك وجوه اخر ستقف عليها.

أما الوجه الأول : فتنقيح القول في المقام ، ان حكومة قاعدة نفي الحرج باطلة لوجهين.

أحدهما : ان كلا من القاعدتين حاكمة على عمومات الأحكام المجعولة في الشريعة ومبينة للمراد منها من غير ان يكون فيها جعل وتشريع فجعل احداهما ناظرة إلى الأخرى وشارحة لها والحال هذه لا معنى له كما لا يخفى.

ثانيهما : ان كلا منهما ناظرة إلى نفي الأحكام في مرتبة واحدة ، وليست قاعدة نفي الحرج ناظرة إلى قاعدة نفي الضرر بنحو التصرف في موضوعها أو محمولها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

٢٧٢

واما الوجه الثاني : وهو تقديم قاعدة لا ضرر لاقلية موردها ، فيرده : انه ليس مورد الضرر اقل ، إذ المراد بالحرج المشقة التي لا تتحمل عادة وبديهي ان الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك مطلقا.

أضف إليه ان أقلية المورد إنما توجب التقديم لو كانا متضادين ، بحيث يلزم من تقديم الأكثر موردا ، عدم بقاء المورد للأقل ، لا في مثل المقام مما لو قدمنا قاعدة نفي الحرج ، لا يلزم طرح قاعدة لا ضرر ، بل يبقى لها مورد وهو مورد توافقهما.

واما الوجه الرابع : وهو المعاملة معهما معاملة المتزاحمين الذي اختاره المحقق الخراساني (١) ، فيرد عليه : ان التزاحم إنما هو بين الحكمين ، والقاعدتان نافيتان للأحكام ولا يثبت بشيء منهما حكم أصلاً فلا معنى للتزاحم ، وان أريد به التزاحم بين المقتضيين ، فيرده ان باب تزاحم المقتضيين غير مربوط بباب تزاحم الأحكام.

وعلى هذا فان تم ما يخطر بالبال عاجلا من انه من جهة ان القاعدتين لهما الحكومة على الأحكام المجعولة ، ولا حكومة لهما على عدم الحكم ، انه في موارد الدوران بينهما كما في المثال ، لا يخلو الأمر من ان التصرف المذكور ، اما ان يكون مباحا غير محرم مع قطع النظر عن القاعدتين ، وهو ما إذا لم يكن تصرفا في مال الجار ولامتلفا لماله ، كما إذا حفر بئرا في داره قريبا من بئر الجار وصار ذلك سببا لنقص ماء بئر الجار ، أو يكون محرما غير مباح كما لو استلزم تصرفا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

٢٧٣

في مال الغير ، وعلى التقديرين لا مورد إلا لإحدى القاعدتين إذ ليس الا حكم واحد والآخر عدم الحكم ، ففي الفرض الأول هو السلطنة على المال ، وفي الثاني حرمة الإضرار بالغير.

فإذا كان حكم ، كسلطنة المالك على ماله ، حرجيا أو ضرريا يشمله ما دل على نفي الحرج أو دليل نفي الضرر ، ويرفع ذلك ، ولو فرضنا ان عدم ذلك الحكم كان كذلك كما في المثال ، لا يكون ذلك مشمولا لشيء منهما ولا يثبت به ذلك الحكم ، لان عدم الحكم وعدم السلطنة ليس مجعولا حتى يرتفع بإحدى القاعدتين ، فالقاعدتان لا تجتمعان في مورد.

وعلى فرض التنزل وتسليم تواردهما على مورد واحد واجتماعهما في محل واحد ، بالبناء على انه كما يرتفع بكل من القاعدتين الأحكام المجعولة ، كذلك يرتفع بهما عدم الحكم أيضاً ، فالأظهر عدم شمول شيء منهما لذلك المورد المجمع : من جهة انهما إنما وردتا في مقام الامتنان على الأمّة ، فإذا كان تصرف المالك في ماله ضرريا على الجار ، وتركه حرجيا على نفسه لا يكون رفع السلطنة منة على الأمَّة ، لكونه خلاف الامتنان على المالك كما ، ان رفع حجر المالك عن التصرف في ماله ليس فيه منَّة على الأمَّة لكونه خلاف الامتنان على الجار. ولعله إلى احد هذين الامرين نظر من قال ، انهما لا يتواردان على مورد واحد ولا يجتمعان في محل فارد.

وان لم يتم شيء منهما فالظاهر ان يعامل معهما معاملة المتعارضين ، ولا مورد لاعمال قواعد باب التزاحم ، لان التزاحم إنما هو بين الحكمين الوجوديين ، ولا معنى له في الاعدام ، والمفروض ان كلا من القاعدتين نافية

٢٧٤

للحكم لا مثبتة ، فلا يثبت بهما الحكم كي يعامل معهما معاملة المتزاحمين.

وعليه فحيث ان النسبة بينهما عموم من وجه ، والمختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير ، ففي المثال بما ان المشهور بين الأصحاب جواز تصرف المالك في ماله وان تضرر الجار به ، يقدم قاعدة لا حرج : لان الشهرة أول المرجحات ، ومع الإغماض عنه فهي موافقة للكتاب فتقدم ، فيحكم بجواز التصرف.

واما على المسلك الآخر من عدم الرجوع إلى اخبار الترجيح ، فعلى المختار من ان الأصل في تعارض الامارتين هو التخيير يحكم بالتخيير ، فله ان يختار قاعدة لا حرج ويقدمها ويبنى على جواز التصرف في المثال.

واما على القول بالتساقط ، فيحكم به ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة وغيرها من القواعد المبيحة وان وصلت النوبة إلى الأصل ، فانه البراءة في المقام.

فالمتحصّل انه يحكم بجواز التصرف في مفروض المسألة على جميع المسالك ، ولعله إلى بعض ما ذكرناه نظر الأصحاب فانهم افتوا بالجواز فتدبر جيدا.

حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به

ثم انه ينبغي التعرض لفرع يناسب المقام ، وهو انه إذا كان تصرف المالك في ماله مستلزما لتضرر جاره ، ولم يكن التصرف لدفع ضرر متوجه إليه ، ولا لجلب منفعة ولم يكن له فيه غرض عقلائي ، بل يكون عبثا ولغوا ، فهل يجوز

٢٧٥

هذا التصرف لعموم دليل السلطنة ، أم لا يجوز لقاعدة نفي الضرر فانها تنفي سلطنة المالك وإباحة تصرفه في ماله ، أم يجوز مع الضمان وجوه.

ظاهر كلمات الأصحاب هو الثاني. فان جماعة منهم كالعلامة في التذكرة (١) ، والشهيد في الدروس (٢) ، قيدوا جواز تصرف المالك فيما له ، بما يتضرر به جاره ، بما جرت به العادة ، وجماعة آخرين كالمحقق الثاني (٣) بصورة دعاء الحاجة ، بل العلامة في التذكرة استدل للجواز في المسألة المشار إليها : بان منعه عن عموم التصرف ضرر منفي.

ولا شك ان منعه عن هذا التصرف ليس ضررا.

وهذا هو الحق : فان قاعدة السلطنة وان اقتضت جواز تصرف المالك في ماله كيف شاء وان تضرر الغير به ، إلا ان حديث لا ضرر حاكم عليه كحكومته على سائر أدلة الأحكام.

وقد استدل بعض تبعا لسيد الرياض للجواز بعموم ما دل على تسلط الناس على أموالهم وأجاب عن ما في الكفاية من اشكال معارضته مع قاعدة لا ضرر بان النسبة بنيهما عموم من وجه والترجيح مع الأول للشهرة ، وانه لو سلم التكافؤ فالمرجع أصالة الإباحة.

ولكن قد عرفت ان أدلة نفي الضرر حاكمة على دليل السلطنة فلا معنى

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ج ٢ (ط. حجرية) ص ٤١٤ ، / تحرير الأحكام ج ٢ (ط. حجرية) ص ١٣١.

(٢) الدروس ج ٣ ص ٦٠.

(٣) جامع المقاصد ج ٦ ص ٢١٨.

٢٧٦

للرجوع إلى ما دل على الترجيح ، ولا للتساقط والرجوع إلى الأصل.

ومن غريب ما أفاد ، ان ما دل على ان الناس مسلطون على أموالهم من الخبر المتواتر ، مع انه خبر واحد مروى عن طرق العامة ، ولكنه معمول به فضعفه منجبر بالعمل.

ثم ان الظاهر انه لو تصرف فيه وتضرر الجار من دون ان يتلف منه مال ، لاوجه للحكم بضمانه ، ولا يثبت بقاعدة نفي الضرر الضمان كما مر مفصلا.

واما معارضة القاعدة مع دليل نفي الإكراه فسيجيء الكلام فيها.

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد

واما المورد الثالث : وهو ما لو تعارض حكمان ضرريان ، فمسائله ثلاث.

الأولى : لو دار امر شخص واحد بين ضررين ، بحيث لا بد من تحمل أحدهما ، أو ايراد أحدهما ، كما لو اكره على الإضرار بشخص ، اما بهذا الضرر ، أو بذاك.

الثانية : ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين ، كما لو اكره على ذلك.

الثالثة : ما لو دار الأمر بين تحمل الضرر ، أو ايراد الضرر على الغير.

اما المسألة الأولى : فكلمات الأصحاب في فروع هذه المسألة التي تعرضوا لها في كتاب الغصب ، واحياء الموات وغيرهما مضطربة ، ولكن الشيخ جزم في

٢٧٧

الرسالة (١) بلزوم الترجيح بالاقلية ، ومع التساوي فالتخيير.

قال : فان كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا اشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا اقل مما يستلزمه الحكم الآخر ، لان هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد فان من لا يرضى بتضرر عبده لا يختار له إلا اقل الضررين عند عدم المناص عنهما انتهى.

وقد جزم بذلك صاحب الكفاية (٢) (ره).

وملخص القول في المقام انه ان كان الضرران ، مباحين تخير في اختيار أيهما شاء وهو واضح.

وان كان أحدهما محرما ، والآخر مباحا اختار المباح ، إذ لاوجه لسقوط الحرمة كما لا يخفى.

وان كانا محرمين يختار ما حرمته اضعف ، ويجتنب عما حرمة أقوى واهم ، كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم ومع التساوي لا بدَّ من تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا اقل مما يستلزمه الحكم الآخر ، لما أفاده الشيخ ، ومع التساوي فهو مختار ، وبما ذكرناه يظهر ما في إطلاق كلام العلمين.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١٢٥.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

٢٧٨

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين

واما المسألة الثانية : فقد جزم المحقق الخراساني (١) بلزوم الترجيح بالاقلية ، ومع التساوى فالتخيير.

وقال الشيخ في الرسالة (٢) ، وان كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن ان يقال أيضاً بترجيح الأقل ضررا إذ مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره اكثر من ضرر الحكم الآخر لان العباد كلهم متساوون في نظر الشارع بل بمنزلة عبد واحد ، فإلقاء الشارع احد الشخصين في الضرر بتشريع الحكم الضرري فيما نحن فيه نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته فكما يؤخذ فيه بالأقل كذلك فيما نحن فيه ، ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الأخر ، ومع عدمها فالقرعة ، لكن مقتضى هذا ملاحظة الشخصين المختلفين باختلاف الخصوصيات الموجودة في كل منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص فقد يدور الأمر بين ضرر درهم وضرر دينار مع كون ضرر الدرهم اعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر ، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب انتهى.

وأورد على البناء على التخيير مع التساوي ، بان حديث لا ضرر لوروده

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

(٢) رسائل فقهية ص ١٢٥.

٢٧٩

في مقام الامتنان على الأمَّة لا يشمل المقام ، إذ لا معنى للمنة على العباد برفع الضرر فيما كان نفيه عن احد مستلزما لثبوته على آخر ، فيستكشف بذلك عن عموم ارادتهما ، فيجب الرجوع إلى سائر القواعد.

وعلى البناء على الترجيح بأقوائية الضرر أو أكثريته. بان ذلك يوجب الترجيح في الضررين بالنسبة إلى شخص واحد لا شخصين ، إذ لا منة في نفي الضرر الأقوى على من استلزم ذلك في حقه ثبوت الضرر ، بل إنما يكون منة على خصوص من نفي عنه ، وكون العباد بالنسبة إلى الله تعالى ، بمنزلة عبد واحد ، لا يصحح المنة على جميعهم في نفي الضرر الأكثر والأقوى ، ولو على من استلزم ذلك بالنسبة إليه الضرر.

وتنقيح القول في المسألة ان فروعها ثلاثة : الفرع الأول : ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين ، كما لو اكرهه المكره بذلك.

الفرع الثاني : ما إذا كان الضرر متوجها إلى احد الشخصين مع قطع النظر عن الحكم الشرعي ، كما إذا وقع دينار شخص في محبرة الغير ، وكان ذلك بفعل شخص ثالث.

الفرع الثالث : ما إذا كان الضرر متوجها إلى أحدهما بآفة سماوية.

اما الفرع الأول : فلا اشكال في انه يجوز أحدهما ـ ولا يجوز الآخر ـ وارتفاع عدم الجواز عن أحدهما حيث يكون لأجل عدم تمكن المكلف فلا محالة يقع التزاحم بينهما فلا بدّ من إعمال مرجحات ذلك الباب ، ومن جملتها الاهمية ، وحيث أنها ربما تكون بالأكثرية فما أفاده الشيخ من الترجيح بالاقلية ، يتم في هذا الفرع وليجعل ما استدل به الشيخ الذي هو وجه اعتباري

٢٨٠