زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

مندفعة : بأنه يستكشف من الإطلاق صحته ثبوتا لأنه على ذلك بناء العقلاء كما عرفت.

المورد الثاني : وقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) (١) إلى انه يلحق بهذا المورد ما لو علم بأن الدخول في محل الابتلاء شرط للتكليف ، لكن شك في مورد من جهة الشبهة المفهومية ، في الابتلاء وعدمه.

وقد استدل له : بأن المتبع في غير المقدار المتيقن من التقييد هو إطلاق الدليل لما حقق في محله في العام والخاص ، من ان التخصيص أو التقييد بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر ، لا يمنع عن التمسك بالعام أو الإطلاق فيما عدا المتيقن من التقييد وهو الأقل ، إذا كان الخاص أو المقيد منفصلا عن العام أو المطلق.

وأورد عليه بإيرادات.

الإيراد الأول : ما أفاده المحقق الخراساني وقد تقدم نقل كلامه (٢) ، وما يرد عليه آنفا فلا نعيد.

الإيراد الثاني : انه قد حقق في مبحث العام والخاص ، ان المخصص إذا كان مجملا دائرا بين الأقل والأكثر ، فإن كان لفظيا متصلا بالعام ، أو كان عقليا

__________________

(١) نسب في حواشي المشكيني هذا القول للشيخ الانصاري بقوله : ان الظاهر من كلام الشيخ في الرسالة كون الشك في الابتلاء في موارد الشكوك ـ من قبيل الشبهة المفهومية ، حواشي المشكيني ج ٤ ص ٢٠٤.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٠.

٦١

ضروريا يسري إجماله إلى العام ، ولا يصح التمسك باصالة العموم في الأفراد المشكوك فيها ، والمخصص في المقام عقلي ضروري ، فإن اعتبار إمكان الابتلاء بما تعلق التكليف به من المرتكزات العرفية والعقلائية ويكون كالمتصل بالعام ، فإجماله يمنع عن التمسك بالعام وبالإطلاق.

وفيه : أولا : المنع من كون المخصص في المقام من الأحكام العقلية الضرورية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء كيف ، وقد عرفت ان الأظهر عدم اعتباره.

وثانيا : ان الأحكام العقلية لا يتطرق إليها الإهمال والإجمال : لان العقل لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من الخصوصيات والقيود.

وثالثا : ان العنوان الخارج عن العام إذا كان بنفسه ذو مراتب كالخروج عن محل الابتلاء ، فالدليل المخرج وان كان عقليا ضروريا لا يسري إجماله إلى العام.

وإنما السراية فيما إذا كان الخارج عنوانا واحدا مرددا بين الأقل والأكثر ، لو سلم الإجمال في الحكم العقلي.

الإيراد الثالث : ما أفاده المحقق الخراساني في الحاشية على الرسائل (١).

قال : إنما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته بأن يكون من أحوال ما أطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك.

__________________

(١) درر الفوائد ص ٢٤٤.

٦٢

وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر من مرتبة اصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة في مقام اصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟ انتهى.

وفيه : انه لو كان معتبرا في التكليف كان معتبرا في الفعلية ، لا في التنجز ، بل لا يعقل ذلك ، إذ المراد من عدم التنجز إذا كان المتعلق خارجا عن محل الابتلاء ، لو كان انه في صورة الترك وعدم الإتيان بما تعلق النهي به ، لا يعاقب عليه فهذا في جميع المحرمات الداخلة في محل الابتلاء كذلك ، وان كان المراد ان التكليف يكون بنحو لو خولف لا يعاقب عليه ، فهذا مما لا يمكن الالتزام به ، إذ فرض ذلك فرض الابتلاء.

الإيراد الرابع : ما أفاده المحقق صاحب الدرر (١) ، وهو انه لا يمكن القطع بحكم ظاهري بواسطة الإطلاق والعموم ، لان المفروض الشك في ان خطاب الشرع في هذا المورد حسن أم لا؟ ولا تفاوت بين الخطاب الظاهري والواقعي.

وفيه : مضافا إلى ان الالتزام بجعل الحكم المماثل في حجية الامارات غير العلمية خلاف التحقيق وخلاف ما بنى عليه ، انه لو سلم فإنما هو في الامارات غير العلمية سندا ، واما غير العلمية دلالة ، كالظهور العمومي فهي ليست بمعنى جعل الحكم المماثل قطعا ، بل بمعنى بناء العقلاء على اتباعها عملا ، والحكم باستحقاق المؤاخذة على مخالفتها ، فليس هناك حكم ظاهري ، ليكون حاله حال الحكم الواقعي في القيد المزبور.

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١٢١.

٦٣

فالحق ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) تام لا يرد عليه شيء مما أورد عليه.

لو شك في القدرة العقلية

واما المورد الثالث : وهو ما لو شك في القدرة العقلية بالشبهة المصداقية ، أو شك في الخروج عن محل الابتلاء بهذا النحو على القول باعتبار الدخول في محل الابتلاء.

فقد يقال : ان مقتضى إطلاق أدلة التكاليف ثبوتها في هذه الموارد.

ولكن قد تقدم في مبحث العام والخاص ، ان التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لا يجوز مطلقا خصوصا إذا كان المخصص لبيا ضروريا.

وعن بعض المحققين (١) انه وان لم يصح التمسك بالاطلاقات إلا انه لا يصح الرجوع إلى البراءة أيضاً لتسالم الاصحاب على ان الشك في القدرة ليس موردا للبراءة بل يجب الفحص ليحرز العجز أو يتحقق الامتثال ، ألا ترى انه لو شك في القدرة على حفر الارض لدفن ميت ، أو شك الجنب في كون باب الحمام مفتوحا حتى يكون قادرا على الغسل أم لا؟ لا ريب في لزوم الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الدفن أو وجوب الغسل ، وعليه فيتعين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال واصالة الاحتياط.

وفيه : اولا : ان هذا لو تم فإنما هو في التكاليف الوجوبية ، ولا يتم في

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٠٢ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٠٠.

٦٤

المحرمات ، فإنه لا يلزم من جريان البراءة فوت الغرض الملزم الذي هو المانع عن جريان البراءة في الواجبات كما ستعرف.

وثانيا : انه لا تسالم من الاصحاب على عدم جريان البراءة عند الشك في القدرة إلا فيما علم فوات غرض المولى الملزم على كل حال ، أي حتى مع العجز عن الامتثال ، غاية الأمر مع العجز لا يستند الفوت إلى المكلف فلا شيء عليه ، فيجب الفحص حينئذ لئلا يكون فوت الغرض الملزم مستندا إلى تقصير العبد ، لان العلم بالغرض بمنزلة العلم بالتكليف.

واما لو لم يحرز وجود الغرض الملزم ، اما لاحتمال دخل القدرة فيه ، أو لعدم كون المورد محله كما في المقام إذ لم يحرز وجود الغرض الملزم في مورد الشك في التكليف فلا مانع من جريان البراءة ، إلا إذا كان للتكليف المشكوك قدرته على امتثاله بدل كما في مثال الغسل أو الوضوء ، فإنه حينئذ للعلم الإجمالي بتوجه احد الخطابين ، اما المبدل أو البدل إليه ، لا تجري البراءة في شيء منهما.

وبه يظهر انه في مثل غسل الجنب لا تجري أصالة البراءة للعلم الإجمالي بوجوبه أو وجوب التيمم لا لكون الشك شكا في القدرة.

وثالثا : انه لو تم ما ذكر ، فلازمه عدم جريان البراءة في الطرف المشكوك كونه مقدورا أو مبتلا به ، وعليه فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض بناءً على ما هو الحق من ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي للتعارض.

فالمتحصّل مما بيناه انه في المقام : ان كان المعلوم بالإجمال تكليفا وجوبيا ،

٦٥

وعلم بوجود الغرض الملزم ، كوجوب غسل احد الميتين لكونه مسلما ، أو دفنه لا تجري البراءة ، بل لا بد من الفحص عن القدرة.

وإلا كما لو علم بكون احد المائعين خمرا مع احتمال عدم القدرة على شرب أحدهما بالخصوص ، فإنه تجري البراءة عن حرمة شرب ما علم كونه مقدورا بلا مانع : إذ من جريان البراءة لا يلزم تفويت الغرض الملزم ، ولا علم بتكليف فعلي على كل حال ، إذ لعله يكون في الطرف المشكوك قدرته عليه ، ويكون في الواقع غير مقدور فلا تكليف.

ولا يعارضها أصالة البراءة في الطرف الآخر ، لما ذكرناه ، ولانه لا يجري الأصل فيه من جهة أخرى : لأنه بعد ما عرفت من عدم جواز التمسك باطلاق الدليل المتضمن للحكم ، لا محالة لا تجري البراءة ، لان كل مورد لا يكون قابلا لوضع التكليف لا يكون قابلا للرفع أيضاً.

ثم انه بعد ما عرفت من انه لو علم بتعلق التكليف بما يكون مقدورا ، أو ما يشك في القدرة عليه في المحرمات ، لا يكون العلم الإجمالي منجزا ، تعرف انه لا يبقى ثمرة مهمة للنزاع في ان الخروج عن محل الابتلاء مانع عن الفعلية أم لا؟

إذ في غالب موارد الخروج عن محل الابتلاء يشك في القدرة العقلية.

٦٦

لو كان احد أطراف العلم غير مقدور شرعا

بقي الكلام في أمرين :

الأمر الاول : انه ذهب جماعة منهم المحقق النائيني (١) والاستاذ المحقق الخوئي (٢) ، إلى ان ما لا يكون مقدورا شرعا ، مثل ما لا يكون مقدورا عقلا ، في انه إذا كان احد أطراف العلم الإجمالي كذلك ، كما إذا كان احد الإنائين أو الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما ملكا للغير الذي يبعد جواز استعماله ولو بالشراء ونحوه ، لا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر.

ولا يعارضه الأصل في غير المقدور ، لعدم ترتب أثر عملي على جريانه فيه بعد العلم بحرمة التصرف فيه على التقديرين فينحل به العلم الإجمالي ولا يكون منجزا.

ولكن يرد عليهم : انه لا ريب في صحة اجتماع النواهي المتعددة في شيء واحد من الجهات العديدة ، ويترتب عليها آثارها :

مثلا : لو شرب الخمر التي هي ملك للذمي بغير اذنه يعاقب عقابين ويحد حد شارب الخمر ، ويكون ضامنا للقيمة. وكذا لو وطء الاجنبية في حال طمثها.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤٥. وج ٣ ص ٤٢١ الطبعة الجديدة.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٢٩.

٦٧

كما لا إشكال في جريان الأصل في شيء علم حرمته من جهة وشك فيها من جهة أخرى ورفع أثر الحرمة الثانية به.

وعليه : فلا وجه لعدم تنجيز العلم الإجمالي في المثال ، إذ لا يعتبر في التنجيز سوى كونه علما بتكليف فعلى منجز على كل تقدير ، وتعارض الأصول في أطرافه ، وهذا الملاك موجود في المقام ، فالحق عدم اللحوق.

نعم يتم ما افادوه في المحرمين الذين لهما أثر واحد كالفردين من طبيعة واحدة.

العلم الإجمالي في الطوليين

الأمر الثاني : إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين أمرين طوليين ، كما لو علم بنجاسة الماء ، أو التراب مع انحصار الطهور بالمشتبهين.

فعن المحقق النائيني (ره) (١) وجوب الوضوء والاكتفاء ، به وانه لا يكون هذا العلم منجزا بدعوى : ان تنجيز العلم الإجمالي متوقف على كونه منشأ للعلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وهذا غير ثابت في المقام ، إذ على تقدير كون النجس هو التراب ، لا يترتب عليه شيء ، لان عدم جواز التيمم حينئذ من جهة التمكن من الوضوء بالماء الطاهر ، لا لنجاسة التراب ، وان شئت قلت ان النجاسة المعلومة لم تؤثر في عدم جواز التيمم على كل تقدير : اما على تقدير كون النجس هو الماء فواضح ، واما على تقدير كون النجس هو التراب ، فلان عدم جواز التيمم حينئذ مستند إلى وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥٦. وج ٣ ص ٤٣٩ الطبعة الجديدة.

٦٨

وعليه فتجرى أصالة الطهارة في الماء بلا معارض ، وبها يرتفع موضوع جواز التيمم ، وهو عدم التمكن من الماء.

وفيه : انه إنما يتم ذلك إذا لم يكن للتراب أثر آخر غير جواز التيمم كما إذا كان التراب في مكان مرتفع لا يمكن السجود عليه ، أو كان مملوكا للغير ولم يأذن في ذلك.

ولا يتم فيما كان الابتلاء به من غير تلك الجهة أيضاً ، وكان له أثر آخر كالسجود عليه ، فإنه حينئذ تتعارض أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التراب ، فتتساقطان ، وعليه فيجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمم.

الشبهة غير المحصورة

الأمر التاسع : قد اشتهر بين الاصحاب (١) ان أطراف العلم الإجمالي إذا كانت غير محصورة لا يكون العلم منجزا.

والكلام في هذا الأمر إنما هو في ان عدم الحصر بنفسه ، هل يكون من موانع تنجيز العلم الإجمالي أم لا؟ فلا بد من فرض الكلام في ما إذا كان المورد خاليا عن جميع ما يوجب المنع عن تنجيز العلم ، ولو في غير المقام من موانع التكليف ، من العسر والحرج ، والخروج عن القدرة وما شاكل ، وعلى ذلك فتسقط جملة مما استدل به على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٢٨.

٦٩

وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في موردين.

المورد الأول : في ضابط الشبهة غير المحصورة.

المورد الثاني : في بيان حكمه.

اما المورد الأول : فقد اختلفت كلمات الاصحاب في ذلك وذكروا لها ضوابط :

منها : ما عن جماعة (١) وهو تحديدها ، ببلوغ الأطراف إلى حد يعسر عدها أو يمتنع ، وزاد بعضهم (٢) قيد في زمان قليل.

وفيه : ان تحديدها بذلك احالة على المجهول ، إذ في أي مقدار من الزمان يعسر عده والزمان القليل أيضاً غير ظاهر المراد.

ومنها : الارجاع إلى العرف (٣).

وفيه : اولا ان اهل العرف لا يفهمون حده.

وثانيا : ان هذا اللفظ لم يرد في رواية أو آية حتى يرجع إلى العرف في مفهومه ، وإنما تكون المسألة عقلية.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (٤) : وهو ان غير المحصورة ما لا يمكن فيها

__________________

(١) فوائد الرضوية ج ٢ ص ٥١. ومصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٢.

(٢) نقل ذلك المحقق العراقي في نهاية الافكار ج ٢ ص ٣٢٩.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٣٧.

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٧٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٧٥

٧٠

المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف وان تمكن من ارتكاب كل واحد ، ولهذا تختص الشبهة غير المحصورة عنده (ره) بالشبهات التحريمية فإنه في الشبهات الوجوبية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، وان بلغت الأطراف في الكثرة ما بلغت.

وفيه : اولا : ان عدم التمكن منها ربما يكون مع كون الشبهة محصورة قطعا ، كما لو علم بحرمة الجلوس في زمان معين في إحدى الدارين.

وثانيا : ان المراد من القدرة على المخالفة هي القدرة دفعة أو تدريجا.

فعلى الأولى كثير من الشبهات المحصورة كذلك ، وعلى الثاني قل شبهة غير محصورة تكون كذلك.

وثالثا : ان التمكن من المخالفة وعدمه يختلف باختلاف الاشخاص ، والموارد ، وقلة الزمان ، وكثرته كما لا يخفى فليس له ضابط كلى.

ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان الشبهة غير المحصورة ما يكون احتمال وجود التكليف في كل طرف من أطرافها موهوما لكثرة الأطراف.

وأورد عليه بايرادين :

أحدهما : ما عن المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان الوهم له مراتب فالمراد أي مرتبة منه فهذا احالة على المجهول.

__________________

(١) ذكر ذلك في مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٧٩ / دراسات في علم الأصول ج ٢ ص ٣٧٢.

(٢) نسبه إليه في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٣.

٧١

ثانيهما : ما عن المحققين العراقي (١) والخوئي (٢) وهو ان موهومية احتمال التكليف ، لا تمنع من التنجيز ، لان مجرد احتمال التكليف بأي مرتبة كان يستلزم احتمال العقاب الذي هو الملاك في تنجز التكليف لو لا المؤمن.

ولكن الظاهر عدم ورود شيء من الايرادين عليه. وتمامية ما أفاده ، وهو يظهر ببيان مراده ، وحاصله : انه إذا وصل كثرة الأطراف إلى حد كان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف احتمالا موهوما في مقابل الاطمئنان كما يظهر من الامثلة التي ذكرها ، بمعنى انه يطمئن العرف بعدم كونه في ذلك الطرف والعقلاء : لحجية الاطمئنان عندهم لا يعتنون باحتمال خلافه ، ولهذا الاحتمال الموهوم ليس مراتب ، فالصحيح تمامية ما أفاده الشيخ (ره).

أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة

واما المورد الثاني : فيقع الكلام فيه :

اولا : في وجوب الاحتياط فيها وعدمه.

ثانيا : في حرمة المخالفة القطعية وعدمها.

اما الأول : فقد استدل لعدم وجوبه ، بوجوه :

الوجه الاول : الإجماع على ذلك.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ١٥٦.

(٢) مصباح الأصول ج ص ص ٣٧٣ / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٠.

٧٢

ويتوجه عليه : ان القدماء لم يتعرضوا للمسالة بل هي معنونة في كلمات متأخري المتأخرين. فكيف يعرف اتفاقهم عليه؟

أضف إليه ان مدرك المجمعين معلوم وهو احد الوجوه الآتية فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

الوجه الثاني : ان الاحتياط في الشبهة غير المحصورة مستلزم للعسر والحرج ، وهما في الشريعة منفيان.

وفيه : ان المنفي هو العسر الشخصي لا النوعي ، وعليه : فهذا يختلف باختلاف الاشخاص والازمان ، وغير ذلك من الخصوصيات ، فلازمه وجوب الاحتياط مع عدم لزومه في مورد.

مع انه في شمول أدلة نفي العسر والحرج لوجوب الاحتياط أي فيما إذا لم يكن متعلق التكليف الواقعي حرجيا كلام سيأتي عند التعرض لقاعدة لا ضرر (١) فانتظر.

الوجه الثالث : ان ما في رواية الجبن : قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه‌السلام) عَنِ الْجُبُنِّ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ فَقَالَ أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ ... الخ) (٢) يدل على ذلك.

فإنه يدل على ان وجود الميتة في مورد في الجبن المردد بين جميع ما في البلد

__________________

(١) كما سيأتي.

(٢) وسائل الشيعة ج ص ٥ ص ١١٩ ح ٣١٣٨٠.

٧٣

لا يوجب لزوم الاجتناب عن الجميع.

وفيه : أولا : ان جميع ما في البلد من الجبن لا تكون داخلة في محل الابتلاء ، فلعل عدم التنجيز لذلك لا لكون الشبهة غير محصورة.

وثانيا : انه يحتمل ان يكون المسئول عنه هو الشبهة البدوية ، ومنشأ شك السائل ما رآه من جعل الميتة فيه في مورد ، فيكون أجنبيا عن المقام.

الوجه الرابع : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه إذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن منها ، لا تجب الموافقة القطعية.

وقد مر ما في جعل عدم التمكن من المخالفة القطعية ضابطا للشبهة غير المحصورة ، ولكنه على فرض الإغماض عنه يتم ما أفاده في المقام ، لما تقدم في التنبيه الأول.

الوجه الخامس : ما أفاده الشيخ الأعظم (٢) ، وهو عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوما.

وقد مر تقريب ما أفاده عند بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة ، وعرفت انه متين : إذ الاطمئنان حجة عقلائية.

ويمكن ان يستدل لعدم وجوب الاحتياط مضافا إلى ذلك : بأن الدليل على لزومه في أطراف العلم الإجمالي منحصر في النصوص الخاصة كما تقدم ، وعليه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ص ص ص ٧٦. وج ٣ ص ٤٧ ص الطبعة الجديدة.

(٢) نسبه السيد الخوئي إلى الشيخ الأنصاري في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٢. وفي مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٦.

٧٤

فحيث ان موارد تلك النصوص من قبيل الشبهة المحصورة فالتعدي عنها ، واثبات لزوم الاحتياط في الأطراف الشبهة غير المحصورة ، يحتاج إلى دليل آخر مفقود ، وعرفت ان القواعد تقتضي عدم لزوم الاجتناب.

فالأظهر عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة كما هو المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه كما قيل.

واما الثاني : وهو انه هل يحرم المخالفة القطعية ، أم لا؟

فملخص القول فيه ، ان الأدلة المتقدمة لا تدل على عدم الحرمة ، ولكن يمكن ان يستدل له بأن أطراف الشبهة إذا كانت كثيرة بحد كان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف احتمالا موهوما ، بالنحو الذي عرفته لا يكون مثل هذا العلم بيانا عند العقلاء ، وعليه فهو في حكم العدم فلا يحرم المخالفة القطعية.

ومما ذكرناه يظهر انه في الشبهة غير المحصورة يسقط حكم الشك عن كل واحد من الأطراف أيضاً ، بحيث يكون الشك في كل واحد منها كلا شك ، فلو كان حكم الشك في نفسه لزوم الاحتياط ، كما في الأموال والدماء والفروج حيث لا يجوز على المشهور الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة ، لا يترتب على الشك في أطراف الشبهة غير المحصورة.

وعلى هذا بنينا على جواز الوضوء من الأواني غير المحصورة عند العلم الإجمالي بإضافة أحدها ، مع انه لا يجوز التوضؤ بما يشك في انه مضاف أو مطلق ، لعدم إحراز الشرط في صحة الوضوء من إطلاق الماء.

٧٥

واما على ما أفاده المحقق النائيني (١) في وجه عدم وجوب الاحتياط في المقام من التعليل : بأنه لا يحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن منها ، ولا تجب الموافقة لأنه تابع لها ، يكون العلم كلام علم ، فالشك متحقق ، وبنفسه مورد لقاعدة الاشتغال ، فحكمه بصحة الوضوء بأحد الاناءات في المثال لا يبنى على ما أسسه ، وتعليله ما أفتى به : بأن المعلوم عند العقلاء كالتالف ، لا يظهر معناه مع وجوده بجميع خصوصياته الشخصية.

تذييل : إذا كانت الشبهة كثيرة في كثير ، كما لو كان المعلوم مائة وأطراف الشبهة خمسمائة ، فهل يجب الاحتياط ، أم لا؟

الظاهر ان ذلك يختلف باختلاف المباني ، فإنه على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (٢) وتبعناه ، يجب الاحتياط في المقام لان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف ليس احتمالا موهوما لا يعتنى به العقلاء ، فإنه من قبيل تردد الواحد في الخمسة.

وعلى مسلك المحقق النائيني (٣) من ان الضابط عدم التمكن من المخالفة القطعية ، لا يجب لعدم التمكن منها فإن المخالفة القطعية ، إنما تكون بارتكاب اربعمائة وواحد.

__________________

(١) نقله عنه تلميذه السيد الخوئي في الهداية إلى الأصول ج ٣ ص ٣٩٦.

(٢) أوثق الوسائل ص ١٨٤.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١١٧.

٧٦

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

الأمر العاشر : قد طفحت كلماتهم بأنه لا يجب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة. واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأمر الأول : ان محل البحث ما إذا لم يكن لجميع الأطراف ملاق ، بل كان لبعضها ، وإلا فلا ريب في وجوب الاجتناب عن الملاقَى : للعلم الإجمالي بنجاسة احد أفراد الملاقي ـ بالكسر ـ.

الأمر الثاني : ان محل البحث ما إذا لم يكن في البين ما يقتضي نجاسة الملاقى كالاستصحاب ، فإنه إذا جرى استصحاب النجاسة في الملاقَى ـ بالفتح ـ يترتب عليه نجاسة الملاقي لكونها من الآثار الشرعية المترتبة على نجاسة الملاقَى.

حكم العلم الإجمالي بجزء الموضوع

الأمر الثالث : انه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي ان يكون علما بالحكم ، اما ابتداءً ، أو بواسطة العلم بتمام الموضوع.

واما لو لم يكن كذلك بأن تعلق العلم الإجمالي بجزء الموضوع ، فلا يكون مثل هذا العلم منجزا لعدم تعارض الأصول وعدم تساقطها.

فلو علم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، أو علم بخمرية احد المائعين يكون هذا العلم الإجمالي منجزا في المثال الأول ، وفي المثال الثاني بالنسبة إلى ما يكون الخمر تمام الموضوع له وهو حرمة الشرب.

٧٧

واما بالنسبة إلى ما يكون الخمر جزء الموضوع وجزئه الآخر الشرب ، وهو وجوب الحد فلا يكون العلم الإجمالي موجبا لترتبه لو شرب أحدهما.

وكذا لو علم بأن احد الجسدين ميت انسان ، والآخر جسد حيوان مذكى مأكول اللحم ، فإن هذا العلم الإجمالي ، وان كان يقتضي وجوب غسل كل منهما ، ووجوب الاجتناب عن أكل لحم كل من الجسدين ، إلا انه إذا مس شخص أحدهما ، لا يحكم عليه بوجوب الغسل ، لان تمام الموضوع مس بدن ميت الإنسان ، وهو مشكوك التحقق والأصل عدمه.

والسرُّ فيه انه إذا تعلق العلم الإجمالي بالحكم الفعلي يكون الشك في كل من الأطراف شكا في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يكون مجرى للبراءة ، واما إذا تعلق بما هو جزء الموضوع وكان الشك في تمامية الموضوع ، فلا محالة يشك في اصل التكليف فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة.

وهذا بحسب الكبرى واضح لا إشكال فيه.

وإنما وقع الإشكال والخلاف في بعض الموارد من حيث الصغرى.

ومن ذلك ما لو علم بغصبية إحدى الشجرتين ، ثم حصلت الثمرة لاحداهما دون الأخرى.

فقد يقال : بأنه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الثمرة الموجودة لا تكليفا ولا وضعا ، لان المحرم هو التصرف في نماء المغصوب وهو في المثال مشكوك فيه ، كما ان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير ، وهو أيضاً مشكوك فيه والأصل عدمه.

وعلى الجملة : ان هذا العلم الإجمالي إنما يؤثر بالنسبة إلى ما يترتب على

٧٨

غصبية الشجرة ، ولا يؤثر بالنسبة إلى آثار غصبية الثمرة لتوقفها على تحقق موضوعها وهو غصب الثمرة غير المحرز في المثال ، واحراز غصبية العين ، يوجب ترتب أحكام غصب العين لا ترتيب أحكام غصب الثمرة ، فبالنسبة إلى أحكام غصب الثمرة من الضمان وحرمة التصرف تجري أصالة ، الإباحة ، والبراءة ، وعدم الضمان.

ولكن المحقق النائيني (ره) (١) أفاد : ان العلم الإجمالي المذكور بالنسبة إلى آثار غصب الثمرة إنما يكون من قبيل العلم بتمام الموضوع لا جزئه.

بدعوى ان ضمان المنفعة والثمرة حكم مجعول مترتب على غصب العين من الدار والشجرة وما شاكل ، فإن اخذ العين المغصوبة كما يوجب ضمانها ، كذلك يوجب ضمان منافعها إلى الأبد ، إذ اخذ المنافع وان لم تكن موجودة إنما يكون بأخذ العين ، ولذلك جاز للمالك الرجوع إلى الغاصب الأول في المنافع المتجددة بعد خروج العين عن تحت يده ودخولها تحت يد غيره ، فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يقتضي ضمان العين المغصوبة كذلك يقتضي ضمان منافعها المتجددة ، هذا من حيث الحكم الوضعي.

واما من حيث الحكم التكليفي ، أي حرمة التصرف في الثمرة ووجوب الاجتناب عنها : فلأن وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب ، مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن المغصوب ، لان النهي عن التصرف في المغصوب نهى عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفى في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، لا بمعنى فعلية

__________________

(١) نسبه إليه السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٠٧.

٧٩

وجوب الاجتناب عن الثمرة قبل وجودها فإن ذلك بديهي البطلان لامتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ، بل بمعنى ان ملاك حرمة التصرف في الثمرة إنما يكون تاما من حين غصب العين الموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة وغير الموجودة ، وان النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة عند وجودها ، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرف في الثمرة من شئون حرمة التصرف في الشجرة ، فكما يكون العلم الإجمالي موجبا لتنجز الأحكام المترتبة على الاعيان من الشجرة وما شاكل ، يوجب تنجز الأحكام المترتبة على ما يعد من شئونها التابعة لها خطابا وملاكا ، ومجرد تأخر وجود الشيء عن ظرف وجود العلم بعد تمامية ملاك حكمه لا يكون مانعا عن تنجيزه كما مر تحقيقه في العلم الإجمالي في التدريجيات.

ولكن ما أفاده لا يتم ، لا من ناحية الحكم الوضعي ، ولا من ناحية الحكم التكليفي.

اما من الناحية الأولى : فلان الحكم بضمان المنافع المتجددة بغصب العين يتوقف على أمرين :

أحدهما : إحراز وضع اليد على العين المغصوبة ، فمع وضع اليد على أحدهما لا يكون ذلك محرزا.

ثانيهما : إحراز كون المنافع للعين المغصوبة ، ومع الشك في ذلك كما في المقام يكون مقتضى أصالة البراءة عدم الضمان.

واما من الناحية الثانية : فلأن ما أفاده من تمامية الملاك قبل وجود المنفعة ،

٨٠