زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

تقدير وقوع الثوب النجس فيه في الخارج ، وكذا لو كانت الصلاة قبل ساعة بحيث لو أتى بها المكلف ، لما وقعت في غير ما لا يؤكل لحمه فبعد ما لبس المكلف الثوب المشكوك في كونه من غير المأكول يشك في بقاء الصلاة على ما كانت عليه لجرى الاستصحاب وحكم بصحتها على تقدير الإتيان بها مع ذلك الثوب.

وفيه أولا : ان الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان الموضوع موجودا وكان المفقود من حالاته كما في العنبية والزبيبية على كلام ، لا في مثل المقام مما يكون الموضوع بنفسه مفقودا.

وثانيا : ان الاستصحاب التعليقي فيها ، يعارض الاستصحاب التنجيزي ، فان استصحاب كون الصلاة بحيث لو كانت قبل ساعة لم تكن في غير المأكول ، يعارض استصحاب عدم تحقق الصلاة ، غير المقترنة بغير المأكول ، وما اجيب به عن اشكال المعارضة في الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، لا يجري في المقام ، لوضوح ان السببية لو تمت لا تكون في المقام إلا عقلية ، لا شرعية ، فلا معنى للحكومة ، والمستصحب التنجيزي في المقام ليس حكما مغيا كي يجري ما أفاده المحقق الخراساني.

وثالثا : ان كلا من حصول الغسل ، ووقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل في المثالين لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية التي هي المتيقنة ، وهي كون الصلاة بحيث لو وجدت في الخارج لم تكن في غير المأكول ، وتحقق الغسل على تقدير وقوع الثوب في الحوض ومعلوم ان اثبات فعلية الجزاء لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية على ما كانت عليه.

٤٨١

ورابعا : انه في الأحكام كان لتوهم ان الوجود المعلق نحو من الوجود ، ولا مجال له في الموضوعات ، إذ لا يكون للموضوع الموجود على تقدير ، نحو من الوجود التكويني ، وهذا من البداهة بمكان.

استصحاب أحكام الشريعة السابقة

التنبيه السادس : قال الشيخ الأعظم (١) انه لا فرق في المستصحب بين ان يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أو حكما من أحكام الشريعة السابقة انتهى.

وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم امر.

وهو انه على ما ذكرناه في التنبيه الخامس من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، لكونه محكوما لاستصحاب عدم الجعل لا مورد لهذا البحث كما هو واضح.

فان قيل ان الدليل قام على جريان استصحاب عدم النسخ.

اجبنا عنه بان دليله الإجماع والمتيقن منه أحكام هذه الشريعة ، فبالنسبة إلى أحكام الشريعة السابقة لا مخرج عما تقتضيه القاعدة ، فهذا البحث إنما يكون على مبنى القوم القائلين بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

وكيف كان فقد استدل لجريان الاستصحاب في الحكم الثابت في الشريعة

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٥.

٤٨٢

السابقة : بان المقتضى موجود وهو جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا عدى أمور :

الأمر الاول : ما اشتهر من ان هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع فلا شك في بقائها حينئذ.

والظاهر ان منشأ ما ذكر : ان الحكم المجعول لا مقام له سوى مقام الوحى به بلسان جبرائيل على قلب النبي (ص) ، فذلك الإنشاء القائم بجبرائيل ، عين جعله تعالى ، فيكون الباقي عين ذلك الموحى به إلى ذاك النبي ، وعليه ، فإذا بقى حكم واحد من أحكام الشريعة السابقة لزم كون نبينا (ص) تابعا لذلك النبي السابق في ذلك الحكم ، وهذا ينافي ما دلت النصوص الكثيرة عليه من ان الانبياء لو كانوا أحياء لما وسعهم إلا اتباعه وانه افضل الانبياء هذا بناءً على عدم كون جعل الحكم بيد النبي (ص) وإلا فالامر اوضح.

واجيب عنه بان جعل الأحكام إنما يكون من قبل الله تعالى وله مقام غير مقام الوحى : إذ جبرائيل يكون سفيرا ومبلغا لتلك الأحكام المجعولة المحفوظة في اللوح المحفوظ لا انه منشئها.

وعليه فبقاء حكم من أحكام الشريعة السابقة لا يستلزم اتباع نبينا (ص) لذلك النبي كما لا يخفى ، فعدم الدليل على نسخ الجميع يكفي في الحكم بالعدم.

ويمكن ان يقال كما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) بان اللوح المحفوظ عند

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢١٦.

٤٨٣

اهله عبارة عن عالم النفس الكلية الموجود فيها صور ما في العقل الكلي بنحو الفرق والتفصيل فليس وجود كل ما فيها إلا بوجود النفس الكلية ، لا بوجود ذلك الشيء الخاص به في نظام الوجود ، فالحكم بوجوده الخاص غير موجود في ذلك المقام الشامخ.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) بما حاصله انه بعد ما لا كلام في ان شريعة الاسلام ناسخة لجميع الشرائع السابقة ، وقع الكلام في ان المراد بالنسخ :

١ ـ هل هو نسخ كل حكم من الأحكام.

٢ ـ أو نسخ بعضها.

٣ ـ أو نسخ جميعها من حيث كيفية الالتزام بمعنى وجوب الالتزام بكل حكم من حيث انه جاء به نبينا (ص) ، وان كان بعضها مما جاء به النبي السابق.

لا سبيل إلى الأول ، بل يمكن دعوى الضرورة على فساده فانه لا كلام في ان جملة من المحرمات الشرعية كشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، واللواط ، وما شاكل كانت محرمة في جميع الشرائع السابقة وكذا المستقلات العقلية.

واما الثاني : فالعلم الإجمالي به لا يمنع عن إجراء الأصل لانحلاله اما حقيقة بالعلم التفصيلي بنسخ جملة من الأحكام بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من موارد النسخ ، أو حكما من جهة ان حكم جملة من الموارد معلوم ، فلا يجري فيها أصالة عدم النسخ ، لعدم الاثر بعد معلومية الحكم فان الأصل يجري لتعيين

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٦.

٤٨٤

الوظيفة وبعد معلوميتها لا مورد له.

واما الثالث : فيرده انه لا دليل على وجوب التدين بكل حكم بما انه جاء به نبينا (ص) بل يجب التدين بأنه حكم الله تعالى جاء به هذا النبي أو النبي السابق مع انا نثبت بالاستصحاب كون الحكم عند نبينا (ص) على طبق الحكم عند النبي السابق ، والمستصحب حينئذ هو الحكم أي ذات المقيد مع قطع النظر عن الخصوصيات ، لا المقيد بالقيد المذكور بعد عدم كون القيد المذكور من خصوصياته المقومة له.

ولكن يرد عليه انه بعد دلالة الدليل على ان نبينا (ص) لم يدع موضوعا إلا وبين حكمه ، اما مماثلا للحكم السابق ، أو مخالفا.

ان أريد استصحاب شخص الحكم السابق فهو متيقن الارتفاع.

وان أريد الشخص الثابت في هذه الشريعة فهو مشكوك الحدوث.

وان أريد استصحاب الجامع بينهما فهو من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي فلا يجري لما مرّ.

الأمر الثاني : ان الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين لتغاير الموضوع فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه ، وحيث لا يقين بثبوته في حقنا وإنما اليقين متعلق بثبوته في حق غيرنا ، فالموضوع متعدد ومع تعدده لا يجري الاستصحاب.

٤٨٥

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) باجوبة :

١ ـ انا نفرض شخصا مدركا للشريعتين ، فإذا جرى في حقه الاستصحاب وحكم بثبوته له يثبت لسائر المكلفين بدليل الاشتراك.

وفيه : ان دليل الاشتراك إنما يدل على ان كل حكم مترتب على موضوع إذا انطبق ذلك العنوان المأخوذ في الموضوع على أي شخص ثبت في حقه الحكم بلا تمييز بين الأفراد : لا اشتراك جميع الأفراد في كل حكم ، إذ من الضرورى اختلافهم فيها مثلا المسافر حكمه غير حكم الحاضر ، والمستطيع حكمه غير حكم غيره ، ولا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، مثلا إذا كان شخص شاكا في الحرمة يجري في حقه أصالة البراءة ، ويحكم بالاباحة ، ولا يثبت ذلك في حق من هو متيقن بالحرمة ، لعدم انطباق الموضوع وهو الشاك عليه.

وفي المقام المدرك للشريعتين ، بما انه ينطبق عليه العنوان المأخوذ في الاستصحاب واركانه تامة في حقه يجري في حقه ذلك ويحكم بثبوته له.

واما غيره ممن لا يتم في حقه اركان الاستصحاب ، فلا معنى لثبوت الحكم له ، وليس ذلك منافيا لقاعدة الاشتراك في شيء وهو واضح.

نعم ، اصل حجية الاستصحاب مع تمامية موضوعه مشتركة بين الجميع.

٢ ـ النقض باستصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام هذه الشريعة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٥ (الأمر الخامس).

٤٨٦

وقد مر جوابه في أول المبحث وسيأتي توضيحه عند بيان المختار.

٣ ـ ما ذكره بقوله ان المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لاشخاصهم فيه انتهى (١).

وقد اختلفت كلمات القوم في بيان مراده وذكروا وجوها :

الوجه الاول : ما أفاده العلمان الخراساني (٢) والنائيني (٣) ، وحاصله ان جعل الأحكام والمنشئات الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يؤخذ للموضوع عنوان كلى مرآتا لما ينطبق عليه من الأفراد عند وجودها ، كالمستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكى يختلف الموضوع باختلاف الاشخاص ، فكل من ينطبق عليه العنوان المأخوذ موضوعا إلى انقضاء الدهر يثبت عليه ذلك الحكم المجعول لذلك العنوان ، فالشك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة كالشك في بقاء الحكم في هذه الشريعة ، فيجري الاستصحاب.

وسيأتي الجواب عنه عند بيان المختار في المقدمة الأولى.

الوجه الثاني : ان مراده تعلق الحكم بالكلى بما هو كتعلق الملكية بكلى الفقير في الزكاة.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٣.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٧٨ ـ ٤٧٩ (التنبيه السابع) / أجود التقريرات (التنبيه السابع) ج ٢ ص ٤١٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٢٧.

٤٨٧

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بقوله ضرورة ان البعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك ، بل لا بدَّ من تعلقه بالاشخاص وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية انتهى.

وفيه : ان الثواب والعقاب والبعث والزجر نظير انتفاع الفقير بالمال فان الانتفاع أيضاً شان الفرد لا الكلي ، والحل ان انطباق الكلي على الفرد يوجب ترتب الثواب على موافقة التكليف والبعث المتوجه إليه ، وترتب العقاب على مخالفته.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) وهو ان المراد ان الحكم متعلق بذوات الحصص من دون دخل لخصوصياتهم الملازمة لها المفردة لها ، وعليه فيسرى لا محالة إلى غيرها من الحصص غير الموجودة لفرض عدم دخل الخصوصيات المميزة.

ويرده ، أولا : ان مراد الشيخ ليس ذلك قطعا لتصريحه بان الموضوع هو الجماعة على وجه لا مدخل لاشخاصهم ، لا على نحو لا مدخل لخصوصياتهم.

وثانيا : انه غير تام : لان تعلق الحكم بموضوع لا يكون قهريا بل يكون سعته وضيقه منوطتان باعتبار من بيده الاعتبار.

والحق في توجيه هذا الوجه يتوقف على بيان مقدمتين :

الأولى ان حقيقة النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم لا رفع الحكم الثابت

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢١٨.

٤٨٨

فانه مستلزم للبداء المستحيل في حقه تعالى.

وعليه فبما ان الإهمال النفس الامرى غير معقول فالحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية ، اما ان يكون مجعولا إلى الابد ، أو إلى وقت معين ، فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان خاص فلا يجري الاستصحاب.

الثانية : انه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها بان يكون من يشك في ثبوت الحكم له متيقنا بثبوته له سابقا.

وعلى هذا فعدم جريان استصحاب عدم النسخ ظاهر فان من شك في ثبوت حكم ثابت في الشريعة السابقة له لا يكون متيقنا بثبوته له بل بثبوته في حق غيره فلا يجري الاستصحاب.

لا يقال ان لازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة فما المثبت لكل حكم في حقنا.

فانه يقال ان المثبت له الدليل الخارجي ، مثل حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة (١) الخ ، ولعل مراد من قال ان استصحاب عدم نسخ أحكام هذه الشريعة من الضروريات نظره إلى ذلك لا إلى الاستصحاب المصطلح.

واما ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) (٢) في توجيه جريان الاستصحاب بأنه بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي كما هو الحق لا غبار في جريانه بالنسبة

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٤٨ ح ٧ / الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٢) نهاية الأفكار ج ٤ ص ١٧٦

٤٨٩

إلى الموجودين في الشريعة اللاحقة ، بان يقال انهم كانوا سابقا بحيث لو وجدوا كانوا محكومين بكذا والآن باقون على ما كانوا عليه ، فان مرجع الشك في نسخ حكم الشريعة السابقة إلى الشك في بقاء القضية التعليقية والملازمة المزبورة.

فيرد عليه ان الاستصحاب التعليقي على فرض جريانه (وقد عرفت عدم جريانه) إنما يختص بما إذا كان الموضوع باقيا ولو بنظر العرف وإذا فرضنا اختصاص الحكم بالمدرك للشريعة السابقة ، أو احتملنا ذلك ، لا مورد للاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع وهو المدرك للشريعة السابقة.

فالمتحصّل مما ذكرناه تمامية هذا الوجه وانه لا يجري استصحاب حكم الشريعة السابقة ، كما لا يجري استصحاب عدم النسخ ، أضف إليه ما تقدم منا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا.

ثم انه قد ذكر وجهان آخران لعدم الجريان.

أحدهما : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه لو سلم جريان الاستصحاب ، ولكن بما ان ثبوت الحكم الثابت في الشرائع السابقة في هذه الشريعة إنما يكون بامضاء من الشارع كما يدل عليه قوله (ص) ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد امرتكم به (٢) الخ.

فمع عدم العلم بالإمضاء لا جدوى في استصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٨٠ (نعم يمكن ان يقال).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٨٣ باب الاجمال في الطلب ح ١١ وفيه بدل «امرتكم به» «أنبأتكم به» / مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٣٠ ح ١٤٦٥٥.

٤٩٠

وفيه : ان نفس دليل الاستصحاب دليل الإمضاء فان اطلاقه مع قطع النظر عما مر يشمل تلك الأحكام فتكون ممضاة بدليل عام ولا بأس به.

ثانيهما : ان العلم الإجمالي بنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة مانع عن جريان الاستصحاب لعدم جريانه في اطراف العلم الإجمالي.

وفيه : انه إنما يمنع ما لم ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم ، أو الفحص في ما بايدينا من الأخبار ، والعلم بعدم كون هذا المورد الخاص في الأخبار : فان العلم الإجمالي بنسخ جملة من الأحكام ينحل بالعلم بوجود الناسخ ، في ما بايدينا من الأخبار المدونة في الكتب المعتبرة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، فالصحيح ما ذكرناه.

حول اعتبار مثبتات الاستصحاب وعدمه

التنبيه السابع : المشهور بين الأصحاب ، ان الاستصحاب على فرض كون حجيته ثابتة بالاخبار ، وكونه من الأصول لا يكون حجة في مثبتاته ، وانه على فرض كونه من الامارات حجة في مثبتاته ، وهذا منهم مبني على ما هو المشهور بينهم ، من حجية الامارات في مثبتاتها ، وعدم حجية الأصول فيها.

وتنقيح القول في المقام يقتضي تعيين محل الكلام أولا.

ثم بيان ما قيل في وجه ذلك :

اما الأول : فلا اشكال ولا كلام في حجية الاستصحاب بالنسبة إلى

٤٩١

المستصحب ، وما يترتب عليه من الآثار الشرعية ، بلا واسطة ، أو بواسطة الاثر الشرعي ، كما لو استصحب طهارة الماء ، فانه يترتب عليه طهارة ماء نجس امتزج به لو كان كرا ، وطهارة الثوب المغسول بذلك الماء وهكذا ، وكذا يترتب على الاستصحاب الحكم العقلي الذي يكون موضوعه اعم من الواقع والظاهر ، كوجوب الاطاعة وحرمة المخالفة ، فلو استصحب وجوب فعل يترتب عليه ذلك.

وإنما الكلام في حجيته بالنسبة إلى الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي والآثار الشرعية المترتبة بواسطة ذلك الاثر العقلي ، والملازمات ، واللوازم ، والملزومات العقلية ، أو العادية للمستصحب بقاء ، واما ما هو من اللوازم حدوثا وبقاء فيجري في نفسه الاستصحاب أو الآثار الشرعية بواسطة هذه الأمور ، والمراد بالمثبتات التي قالوا ، ان الامارات حجة فيها ، دون الأصول تلكم.

فما في الكفاية (١) من انه لا شبهة في ترتيب ما للحكم من الآثار الشرعية والعقلية على اطلاقه غير تام.

وايضا لا اشكال في ان النزاع ليس في المحذور الثبوتي ، بل في ان الأدلة الشرعية تدل في مقام الإثبات على ذلك أم لا تدل عليه.

وبعد ذلك نقول ان المحقق الخراساني (٢) افاد في وجه عدم حجية

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٤ ـ ٤١٥.

٤٩٢

الاستصحاب في مثبتاته ، انها تتوقف على احد أمرين :

اما تنزيل المستصحب بلوازمه العقلية ، والعادية.

واما تنزيله منزلة المتيقن بلحاظ مطلق ما له من الاثر.

اما على الأول فواضح ، واما على الثاني : فلان اثر الاثر اثر فما هو اثر لازم الشيء اثر له فإذا كان التنزيل بلحاظ جميع الآثار ثبت آثار اللازم أيضاً وشيء منهما لم يثبت.

اما الأول : فلان ظاهر القضية تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن مع دخل العنوانين في الموضوع ، ومعلوم ان اللوازم ليست متيقنة بل عدمها متيقن.

واما الثاني : فلان المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، واما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها وما لم يثبت لحاظها بوجه لما كان وجه لترتيبها عليه بالاستصحاب.

ثم افاد في وجه الفرق بين الامارات والأصول (١) ، ان الأمارة كما تحكي عن الشيء تحكي عن لوازمه وملزوماته ، وملازماته ، ودليل الحجية يعم الجميع ، والأصول منها الاستصحاب ، ليس لها هذا الشأن لعدم الحكاية والدلالة فيها.

وفي كلامه (قدِّس سره) نظر ، اما أولا : فلان الحكاية قصدية متقومة بالقصد والالتفات ، والملزومات ، واللوازم ، والملازمات قد تكون غير ملتفت إليها فلا تكون الأمارة حاكية عنها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

٤٩٣

واما ثانيا : فلان دعوى عدم الإطلاق لدليل حجية الاستصحاب مع انه لاوجه لها ينافيها ما سيختاره من ترتيب آثار الواسطة إذا كانت جلية أو خفية ، وإذا لم يكن لدليل الاستصحاب إطلاق فلا مجال للقول المزبور.

والمحقق العراقي (ره) (١) وجه كلام المحقق الخراساني (ره) بما يندفع به الإيراد الأول ، وحاصله ان الحكاية التصديقية وان لم تكن مع عدم الالتفات ، إلا ان الحكاية التصورية ، موجودة وهي تكون موضوع الحجية.

وفيه : ان موضوع الحجية في الخبر ، الحاكى التصديقي ، واما التصورى فلا يكون حجة بلا ريب.

وقد افاد المحقق النائيني (ره) (٢) في وجه الفرق بين الامارات والأصول في ذلك : بان مرجع التعبد في الطرق إلى جعل ما ليس بعلم علما ، وتتميم كشفه الناقص ، وبعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ، واللوازم ، والملزومات.

وبالجملة : كما ان الشيء بوجوده الواقعي يلازم وجود اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، كذلك احرازه يلازم احرازها ، وبعد ما كانت الأمارة الظنية محرزة للمؤدى يترتب عليها جميع ما يترتب عليه من الآثار الشرعية ولو بالف واسطة.

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ١٨٤ بتصرف.

(٢). فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٨١ ـ ٤٨٢ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤١٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٢٩.

٤٩٤

واما الاستصحاب فليس المجعول فيه الإحراز ، بل مجرد تطبيق العمل على المؤدى بلا توسيط الإحراز ، فلا بد من الاقتصار على ما هو المتعبد به وليس هو إلا تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، والمؤدى ان كان حكما فهو المتعبد به وان كان موضوعا فالمتعبد به ما يترتب عليه من الحكم الشرعي ، واما آثار اللوازم ، فهي لا تكون مترتبة عليه ، وليس موضوعها مؤدى الأصل فلا وجه لترتبها.

وفيه : ان المراد من التلازم بين إحراز الشيء ، واحراز ما يلازمه ، ان كان هو التلازم بين الاحرازين الوجدانيين ، فهو مما لا شبهة فيه ، ولكنه غير مربوط بالمقام ، وان كان هو التلازم بين الاحرازين التعبديين ، فيرد عليه ان ذلك تابع لدليل التعبد فمع فرض عدم الدليل على التعبد باحراز اللوازم والملزومات والملازمات ، لا تلازم بينهما ، وان أريد ان إحراز الشيء تعبدا يلازم إحراز لوازمه وجدانا فهو بين الفساد.

واما ما أفاده (١) من انه بعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ، ففيه ان ما يكون اثرا تكوينيا للشيء أو لاحرازه الوجداني ، ولا يكون اثرا تكوينيا لاحرازه التعبدى ، لا مجال لاجراء تلك القواعد فيه.

والحق في المقام ان يقال ان حجية دليل الشيء ، في ملازماته ، وملزوماته ، ولوازمه تتوقف على قيدين :

__________________

(١) المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٤ ص ٤٨٧.

٤٩٥

أحدهما كون ذلك الشيء كاشفا عنها ككشفه عن مؤدى نفسه نظير الخبر الحاكي عن امر واقعي كشرب زيد ما في الكأس ، المعين الخارجي ، فانه كاشف عن شربه بالمطابقة ، وعن موته إذا كان ذلك سما في الواقع بالالتزام.

ثانيهما ثبوت الإطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات كما في أدلة حجية الخبر الواحد ، حيث انها باطلاقها تدل على ان مقول قول العادل مطابق للواقع بتمام آثاره وخصوصياته.

ومع فقد احد القيدين أو كليهما ، لا يكون دليل ذلك الشيء حجة في مثبتاته ، وفي بعض الامارات يكون القيد الثاني مفقودا كما في الظن بالقبلة ، حيث انه حجة من باب الطريقية ، ومع ذلك لا يكون حجة في مثبتاته ولا يثبت به لازمه وهو دخول الوقت ، فان قوله (ع) فليتحر أي فليأخذ بالاقوى ، لا يدل على ازيد من حجيته للقبلة خاصة.

واما في الأصول ومنها الاستصحاب فالمفقود هو الأول ، فان المأخوذ في موضوع الاستصحاب اليقين السابق ، والشك اللاحق ، ومع هذين القيدين يتعبد الشارع بالوظيفة المقررة.

وعليه فبالنسبة إلى المؤدى هما موجودان يتعبد الشارع به ، وبالنسبة إلى اللوازم والملزومات والملازمات ، هما مفقودان لا يتعبد بها ، مثلا : لو تيقن حياة زيد ، ثم شك في موته ، فبالنسبة إلى الحياة ، اليقين السابق والشك اللاحق موجودان ، واما بالنسبة إلى نبات اللحية الذي هو من اللوازم العادية لبقاء زيد إلى زمان الشك ، فهما مفقودان ، فبدليل الاستصحاب لا يتعبد به.

وان شئت فقل ، ان الحكم يدور مدار وجود الموضوع ، والفرض انه بالنسبة

٤٩٦

إلى اللوازم واختيها ، مفقود ، فلا تثبت به.

وبالجملة ، بعد ما لم يكن للاستصحاب ، وكذا سائر الأصول ، جهة كشف عن الواقع ، وكان دليل التعبد متضمنا للتعبد بترتيب آثار ما كان على يقين منه وشك ، واللوازم ليست مما كان على يقين منها فشك ، وآثارها ليست آثار الملزومات لها ، فلا تكون ادلتها شاملة للتعبد بآثار اللوازم.

ودعوى : ان آثارها إنما تكون آثارا للمؤدى ، لقياس المساواة فعلى القول باطلاق دليل الاستصحاب يدل ذلك على لزوم ترتيبها أيضاً.

مندفعة : بان قياس المساواة يتم إذا كانت اللوازم من سنخ واحد ، بان كانت جميعها تكوينية أو تشريعية ، مثلا : من لوازم حركة اليد حركة المفتاح ومن لوازمها انفتاح الباب ، فيكون الانفتاح لازم حركة اليد.

وهكذا في التشريعيات فإن نجاسة الملاقي للمتنجس من لوازم نجاسة الملاقى وهي من لوازم الملاقاة مع النجس.

واما إذا لم تكن جميعها من سنخ واحد ، كما إذا كان الاثر الشرعي مترتبا على امر عقلي تكويني فليس الاثر التشريعي من لوازم المؤدى :

والسر فيه ان ترتب الاثر الشرعي على موضوعه ليس من قبيل ترتب المعلول على علته ، فلا يكون من اللوازم بل من أحكامه فلا تصدق قضية : لازم اللازم ، لازم.

٤٩٧

عدم الفرق بين خفاء الواسطة وجلائها

ثم انه لا يكون الأصل المثبت معنونا في كلمات القدماء ، إلا انهم في جملة من الفروع الفقهية لا يعتمدون على الأصول المثبتة ، ومع ذلك في بعض الفروع اعتمدوا عليها ، وسيمر عليك ، ولذلك وجه المتأخرون ذلك ، بان الواسطة في تلك الموارد خفية واستثنوا هذا المورد وحكموا فيه بحجية المثبت ، والمحقق الخراساني (١) اضاف إليه جلاء الواسطة.

وكيف كان فقد استدل الشيخ الأعظم (ره) (٢) وتبعه المحقق الخراساني (٣) على اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية خفاء يعد الآثار المترتبة عليها آثارا لذى الواسطة ، بان المتفاهم عرفا من دليل الاستصحاب هو ايجاب ترتيب ما يعد بحسب نظر العرف من الآثار الشرعية لنفس المستصحب ، وان كانت حقيقة من آثار الواسطة : وذلك لما عرفت من ان الدلالة على الاثر الذي بلحاظه يكون التنزيل في مورد الاستصحاب إنما هو بمقدمات الحكمة ولا يتفاوت بحسبها فيما يعد عرفا اثرا بين ما كان اثرا بلا واسطة أو معها.

وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) (٤) بان الحكم الثابت لموضوع قد يكون

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦ بتصرف.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٤.

(٣) كفاية الأصول ص ٤١٥ (نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوب بنظر العرف).

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤١٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٣٥.

٤٩٨

بنظر العرف ثابتا للاعم منه ، أو الاخص بحسب المتفاهم العرفي من الدليل ، فيكون الظهور ، الفعلي التركيبي ، على خلاف الظهور الافرادي الوضعي ، وفي هذه الصورة نظر العرف يكون متبعا.

وقد يكون الموضوع بنظر العرف موافقا للمدلول الوضعي لكن العرف بحسب مناسبات الحكم والموضوع ، يرون بعض الخصوصيات من مقومات الموضوع وبعضها من علل ثبوت الحكم ومن قبيل الواسطة في الثبوت ، وفي هذه الصورة أيضاً يكون نظر العرف متّبعا ، كما حقق في مبحث حجية الظهور.

واما في غير هذين الموردين مما يرجع إلى المسامحة في التطبيق بعد معلومية مفهوم الموضوع بحدوده وقيوده ، كالمسامحة في تطبيق الوزن المعين كالحقة على الموجود الخارجي الذي هو اقل منها بمثقال ، فنظر العرف لا يكون متبعا.

وعليه فإذا كان معنى خفاء الواسطة ان العرف بحسب ما يستفاد من الدليل أو بحسب ما ارتكز في اذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع ، يفهمون ان الحكم ثابت لذى الواسطة والواسطة إنما تكون علة للحكم وواسطة في الثبوت ، فهذا يرجع إلى انكار الواسطة وان الحكم في الحقيقة ثابت لذى الواسطة.

وان كان معناه ان العرف يتسامحون في التطبيق مع ان ، الحكم ثابت للواسطة لخفائها ويرتبون الحكم على ذي الواسطة فهو داخل في المسامحات العرفية التي اتفقت كلماتهم على انها تضرب على الجدار ، فاستصحاب عدم خروج الودى بعد البول مثلا لا يكفي في الحكم بعدم لزوم الدلك.

٤٩٩

ولكن الظاهر ان مرادهما (١) ليس هو الرجوع إلى المسامحات العرفية ، وإنما يدعيان الرجوع إلى العرف في تحديد مفهوم النقض المترتب عليه الاستصحاب ، بدعوى ان الخطاب إنما يدل على حرمة نقض ما يعد نقضا بنظر العرف ، والعرف يرون ان عدم ترتيب آثار الواسطة إذا كانت خفية نقض لليقين السابق لانهم يرون اثرها اثرا لذى الواسطة وان كان بالدقة اثرا لها.

فالصحيح في الجواب ان يقال ان مفهومي الابقاء والنقض من المفاهيم الواضحة وهما يصدقان على ترتيب آثار المتيقن نفسه وعدم ترتيبها ، فإذا فرضنا ترتيب آثاره ، دون آثار الواسطة لما كان هناك نقض أصلاً ، وإنما العرف يرونه نقضا لمسامحتهم في التطبيق أي بنائهم على كونها آثارا ، لذى الواسطة ، ولا عبرة بنظر العرف في التطبيق.

فالاظهر انه لا اثر لخفاء الواسطة ، ولا فرق بينه وبين جلائها.

وألحق المحقق الخراساني (٢) بذلك بعض موارد جلاء الواسطة ، وذكر له موردين :

الأول : ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابى ، هي العلة التامة ، أو الجزء الاخير منها ، وهو الذي ذكره بقوله ، ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا كما لا تفكيك بينهما واقعا انتهى.

والوجه فيه ، ان العلة التامة أو الجزء الاخير منها ، والمعلول ، كما لا تفكيك

__________________

(١) الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني كما مر.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٥.

٥٠٠