زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

توقف المتحرك وسكوت المتكلم من تعب وغيره ، بعد العلم بان الداعي إلى الحركة أو التكلم كان إلى بعد زمان الشك ، أو شك في بقاء جريان الماء أو سيلان الدم من جهة احتمال ما يوجب المنع عن الجريان أو السيلان بعد العلم بمقدار اقتضاء عروق الارض ، أو باطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم.

وبين ما إذا كان الشك في بقائه ناشئا عن الشك في مقدار اقتضائه ، للبقاء ، كما إذا شك في مقدار الداعي المنقدح في النفس إلى الحركة أو التكلم ، أو شك في مقدار اقتضاء عروض الارض لنبع الماء ، أو باطن الرحم لسيلان الدم ، مع العلم بعدم عروض المانع ، وما إذا كان الشك في البقاء ناشئا عن احتمال قيام مقتض آخر مقام المقتضي الأول عند ارتفاعه.

كما إذا شك في بقاء التكلم من جهة احتمال حدوث داع آخر إليه غير الداعي الأول مع العلم بارتفاع ذلك الداعي.

كما عن المحقق النائيني (ره) (١) حيث اختار (قدِّس سره) جريان الاستصحاب في الصورة الأولى ، وعدم جريانه في الصورتين الاخيرتين.

واستدل للاول بان الشك في بقاء الأمر التدريجي في الحقيقة يرجع إلى الشك في وجود جزء آخر غير ما تيقن به ، فما هو المتيقن غير المشكوك فيه.

والجواب عنه ما مر من وحدة الأمر التدريجي ، وان الاتصال يساوق الوحدة حقيقة ولا اقل عرفا ، غاية الأمر ربما يكون الأشياء المتعددة حقيقة واحدة اعتبارا كما ان الواحد الحقيقي قد يصير متعددا اعتبارا ، وعلى أي حال الإشكال

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٨ ـ ١٠٩ بتصرف.

٤٦١

المزبور مندفع بما مر مفصلا.

واستدل للاخير : بجريانه في الصورة الأولى بما ذكرناه ، وبعدم جريانه في الصورة الثانية : بأنه من قبيل الاستصحاب الجاري في مورد الشك في المقتضى ، وبعدم جريانه في الصورة الثالثة : بان وحدة الأمر التدريجي وتعدده كالتكلم والحركة ، إنما هي بوحدة الداعي وتعدده ، أو وحدة مقتضيه وتعدده فالشك في حدوث الداعي الآخر عند ارتفاع الداعي الأول ، يرجع إلى الشك في حدوث فرد آخر عند ارتفاع الفرد الأول ، فيكون من صغريات القسم الثالث من استصحاب الكلي فلا يجري.

أقول : اما ما أفاده في الصورة الأولى فهو متين.

واما ما أفاده في الصورة الثانية.

فيرده ما تقدم من حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضى.

واما ما أفاده في الصورة الثالثة.

فيرده ما مر من ان وحدة الشيء لا تدور مدار وحدة داعيه ومقتضيه ، بل مدار الوحدة على الاتصال أو الاعتبار ، فالحركة المتصلة من المبدأ إلى المنتهى واحدة ، وان تجدد الداعي في الاثناء ، وكذا الخطبة الواحدة ، كما انه لو انقطعت الحركة أو الخطبة في الاثناء ثم شرع فيها ، تصير متعددة لا محالة ، وان كان الداعي إليها واحدا.

فالمتحصّل جريان الاستصحاب مطلقا.

وما قيل من انه إذا شك في حدوث داع آخر ، يكون منشأ الشك في البقاء

٤٦٢

الشك في حدوث الداعي ، فالاستصحاب الجاري في عدم حدوثه حاكم على هذا الاستصحاب.

يندفع : بأنه من جهة عدم كون السببية شرعية لا يكون الأصل الجاري في السبب حاكما على الأصل الجاري في المسبب.

ثم ان صاحب الكفاية (١) قال ان استصحاب بقاء الأمر التدريجي ، اما ان يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي باقسامه ، فإذا شك في ان السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقى منها شيء ، صح فيه استصحاب الشخص والكلى ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني ، وإذا شك في انه شرع في أخرى ، مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث انتهى.

وفيه : ان كل سورة إذا لوحظت مستقلة تكون شيئا واحدا ، ولكن القراءة أيضاً شيء واحد ، فإذا ترتب الاثر على القراءة يستصحب بقاؤها ، ولو كان الشك من جهة الشك في الشروع في الثانية ، ولا يكون من قبيل القسم الثالث.

نعم ، لو كان الاثر مترتبا على نفس السورة كان الأمر كما ذكر.

والمحقق النائيني (ره) (٢) افاد في تقريب جريان الأقسام فيها : بأنه إذا شك في ان الداعي للقراءة المعين المعلوم ، هل تم أو بعد باق صح فيه استصحاب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٨.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٤٠.

٤٦٣

الشخصي والكلي ، وإذا شك في ان الداعي كان قصيرا أو طويلا كان من القسم الثاني ، وإذا شك في انه هل انقدح داع آخر مع العلم بتمامية الداعي الأول ، كان من القسم الثالث.

ثم ان القسم الثالث قد مر عدم جريان الاستصحاب فيه ، وكذلك القسم الثاني فى المقام من جهة ان الشك فيه دائما يكون من قبيل الشك في المقتضى ، لأنه يشك في ان داعيه على القراءة مثلا كان على قراءة سورة أو سورتين ، فبالنسبة إلى السورة الثانية الداعي والمقتضي غير محرز فينحصر بالاستصحاب الشخصي ، والقسم الأول من الكلي.

ويظهر ما يرد عليه مما ذكرناه وما سنذكره في بيان المختار.

والحق في تقريب جريان الأقسام في الأمور التدريجية ، ان يقال ان الشك في بقاء الزماني التدريجي :

تارة يكون في ان الحركة التي شرع فيها هل انتهت وبلغت إلى المنتهى ، أم هي باقية على صفة الجريان؟

وأخرى يكون في ان الحركة الخاصة هل هي من طرف المشرق فقد منعه مانع عن السير ، أم من طرف الجنوب فحيث لا مانع هناك فهو بعد في حال الحركة.

وثالثة ، في الشروع في حركة أخرى بعد انتهاء الحركة التي شرع فيها وبلغت إلى المنتهى وتبدلت إلى السكون.

ففي الصورة الأول صح فيه استصحاب الشخصي والكلي الذي هو من

٤٦٤

قبيل القسم الأول.

وفي الصورة الثانية كان من قبيل القسم الثاني من أقسام الكلي ، وليس من قبيل الشك في المقتضي الذي افاد المحقق النائيني (١) انه دائما من قبيل الشك في المقتضي.

وفي الصورة الثالثة كان من قبيل القسم الثالث.

استصحاب الفعل المقيد بالزمان

واما القسم الثاني : أي الزماني الذي ليس قوامه بالزمان ولا ينصرم بانصرامه ، بل له قرار وبقاء ، وارتباطه بالزمان إنما يكون من جهة تعلق الحكم الشرعي به مقيدا بزمان خاص ، كالقيام ، والجلوس ، وغيرهما من الأفعال القارة المقيدة بالزمان الخاص ، فهو على انحاء.

١ ـ ما علم ان الفعل يكون مغيا بغاية معينة.

٢ ـ ما علم استمراره ما لم يرفع برافع.

٣ ـ ما لا يعلم شيء منهما ، كما لو علم من دليل مجمل وجوب الجلوس اما إلى الزوال أو إلى ما بعده.

اما الأول : فالشك في بقاء حكمه.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٩.

٤٦٥

تارة يكون من جهة الشك في تحقق القيد خارجا كالشك في الغروب المجعول غاية لوجوب الصلاة ، والصوم ، من جهة الغيم ونحوه.

وأخرى يكون من جهة الشك فيه مفهوما ، كما لو شك في ان غروب الشمس المجعول غاية لوقت الظهرين هل هو استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقية؟

وثالثة يكون من جهة تردد الغاية لأجل تعارض الأدلة كما لو شك في ان غاية وقت العشاءين هل هو انتصاف الليل أو طلوع الفجر؟ ورابعة يكون لأجل احتمال حدوث تكليف آخر مع اليقين بتحقق الغاية وارتفاع الحكم الأول.

اما في الصورة الأولى : فقد مر الكلام مفصلا وعرفت انه يجري استصحاب بقاء الوقت ويترتب عليه جميع الآثار ، ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم.

واما في الصورة الثانية : فقد مر في التنبيه الثالث عند البحث عن جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، ان الاظهر جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية ، فيستصحب بقاء اليوم ويترتب عليه الاثر.

واما في الصورة الثالثة : فالاستصحاب الموضوعي لا يجري ، ولكن لا مانع من استصحاب الحكم على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

واما في الصورة الرابعة : فاستصحاب الموضوع لا مانع عنه ، واستصحاب الحكم يتوقف على القول بجريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب

٤٦٦

الكلي.

واما الثالث (١) : أي ما لو لم يعلم كون الحكم مستمرا أم غير مستمر كما لو علم من دليل مهمل وجوب الجلوس في مكان إلى الزوال وشك بعد الزوال في وجوبه.

فعن المحقق النراقي (قدِّس سره) (٢) انه يقع التعارض في مفروض المثال بين استصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال ، وبين استصحاب عدم الوجوب الثابت ازلا ، لان انقلاب العدم إلى الوجود في الجملة لا يستلزم انقلاب مطلق العدم الازلي ، وإنما يستلزم انقلاب العدم المطلق لان الموجبة إنما تناقض السالبة الكلية ، لا السالبة الجزئية ، فوجوب الجلوس قبل الزوال ، لا يناقض عدم وجوبه بعده والمفروض عدم دلالة الدليل على الوجوب فيه فيرجع إلى استصحاب العدم الازلي الذي لم يعلم انتقاضه إلا قبل الزوال ، فهنا شك واحد ، وهو الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بيقينين أحدهما اليقين بوجوب الجلوس قبل الزوال ، ثانيهما اليقين بعدم وجوب الجلوس بعد الزوال في الازل ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر.

ودعوى اتصال اليقين الأول بالشك ، دون الثاني لفصل اليقين الأول

__________________

(١) اما النحو الثاني فيأتي بعد ثلاث صفحات.

(٢) كما حكاه عنه غير واحد من الاعلام عن مناهج الاحكام والاصول ص ٢٤٢. راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٦ (عن بعض المعاصرين) / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١٠ ـ ١١١.

٤٦٧

بينهما وهو المرجح.

تندفع : بان كلا منهما متصل بالشك لان اليقين الأول ، إنما صار فصلا بين اليقين بالعدم المطلق والشك ، لا بينه وبين العدم المقيد بالزمان المشكوك فيه ، والشاهد بذلك مضافا إلى وضوحه ان هذا الشك موجود في زمان اليقين بالوجود أيضاً.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) والمحقق الخراساني (٢) بان الاصلين لا يجريان في المورد الواحد كي يقع التعارض بينهما : إذ الزمان اما ان يؤخذ ظرفا للوجوب ، ولا يكون قيدا للواجب ، فيجري استصحاب الوجود نظرا إلى وحدة القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها بالنظر المسامحي العرفي ، ولا يجري استصحاب العدم للعلم بانتقاض العدم بالوجود المطلق غير المقيد بزمان خاص المحكوم ببقائه في ظرف الشك بمئونة الاستصحاب.

واما ان يؤخذ قيدا للواجب ومفردا له ، فلا محالة يصير الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله فينتقض الوحدة المعتبرة بين القضيتين فلا يجري استصحاب الوجود ، فيكون مجرى لاستصحاب العدم ، لان المقدار المعلوم انتقاضه من العدم إنما هو وجوب الجلوس المقيد بما قبل الزول ، واما الجلوس المقيد بما بعده فخروجه مشكوك فيه ، فيجري استصحاب العدم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٠.

٤٦٨

وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) (١) بأنه لا يجري شيء من الاستصحابين في الموردين ، اما استصحاب الوجود فلأنه من قبيل الاستصحاب في الشك في المقتضى ، لأول الشك إلى الشك في كون الوجود قبل الزوال مرسلا ، أو مغيا بالزوال ، واما استصحاب العدم فلما مر في البراءة من ان استصحاب العدم الازلي لا يجري مطلقا ، ولا يثبت به عدم الحكم في ظرف الشك.

أقول : الايرادان وان كانا تامين على مبناه (قدِّس سره) إلا انه قد مر في محله بطلان المبنى وان الاستصحاب يجري في الشك في المقتضى ، والعدم الازلي ، ولكن الذي يرد على الشيخ والمحقق الخراساني بل والنراقي ، ما تقدم منا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية فالموردان موردا جريان استصحاب عدم الوجوب.

واما الثاني : أي ما علم استمراره ما لم يرفع برافع كما إذا شك في الطهارة بعد خروج المذى أو شك بعد الغسل مرة في بقاء النجاسة في المحل.

فافاد المحقق النراقي (٢) انه ، وان كان يقع التعارض بين استصحاب الوجود والعدم ، إلا انه من جهة كون الشك في هذا المورد أي الشك الرافع مسببا عن الشك في رافع الطهارة والنجاسة ، فاصالة عدم جعل الرافعية لما شك في رافعيته حاكم على الاصلين ، ومعها لا يبقى شك في البقاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١٢.

(٢) المصدر السابق الذي حكاه عنه غير واحد عن مناهج الاحكام والاصول ص ٢٤٢.

٤٦٩

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) مضافا إلى ما مر : بان دليل سببية الشيء للطهارة أو النجاسة أو غيرهما ، مما يكون من هذا القبيل ، اما ان يكون له إطلاق ويدل على استمرار الحادث إلى ان يزيله الرافع ، فلا مورد لاصالة عدم جعل السببية للعلم به ، واما ان لا يكون له إطلاق ولا يدل على الاستمرار ، فلا مورد لاصالة عدم جعل الرافعية ، ولا اثر لها إذ الشك حينئذ ليس من ناحية الرافع كي يرتفع بهذا الأصل.

وما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية بقوله ازاحة وهم (٢) لا يخفى ان الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلهما يكون مما إذا وجدت باسبابها لا يكاد يشك في بقائها إلا من قبل الشك في الرافع لها لا من قبل الشك في مقدار تأثير اسبابها انتهى ، راجع إليه ، وظاهره اختياره الشق الأول وانه قد علم كون الوضوء بنفسه مقتضيا للطهارة والشك إنما حصل في كون المذى رافعا ، وان الملاقاة سبب للنجاسة والشك إنما حصل من جهة احتمال كون الغسل مرة رافعا لها.

ولكن يرد عليه ان الطهارة وما يقابلها ليست من الأمور الواقعية الخارجية كي تكون اسبابها مؤثرة فيها ، ويكون اسباب ما يقابلهما رافعة لها بل هي من الأمور الاعتبارية ، فمعنى رافعية الشيء للطهارة ، هو حكم الشارع عقيبه بالحدث ، كما ان معنى عدم رافعيته حكمه عقيبه بالطهارة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٩.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٠.

٤٧٠

وعليه فحيث يعلم اجمالا باحدهما بعد ما شك في رافعيته ، وكل من الشكين مسبب عن الشك في المجعول الشرعي ، فلا حكومة لأحد الاصلين على الآخر ، ويجرى في هذا المورد ما ذكرناه في مورد الشك في المقتضى ، وهو انه لا يجري الاستصحاب في الحكم الكلي.

الاستصحاب التعليقي

التنبيه الخامس : قد وقع الخلاف بين الاعلام في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المتيقن حكما غير تنجيزي معلقا ومشروطا ، وعدمه ، ويطلق على هذا الاستصحاب الاستصحاب التعليقي تارة ، والمشروط أخرى ، باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقية حكم فيها بوجود الحكم على تقدير امر آخر ، ومثلوا له ، باستصحاب حرمة ماء العنب ، فيما إذا جف وصار زبيبا ثم غلا.

والبحث في جريان هذا الاستصحاب وعدمه ، يكون مبتنيا على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، واما بناءً على عدم جريانه فيها كما هو المختار على ما عرفت ، فلا وجه للنزاع أصلاً كما لا يخفى.

وايضا إنما يصح هذا النزاع على القول بمعقولية الواجب المعلق وثبوت الحكم المعلق ، وإلا فبناءً على عدم ثبوت الحكم المعلق كما ذهب إليه

٤٧١

الشيخ (قدِّس سره) (١) ، لا مجال لهذا النزاع أصلاً ، لعدم وجود القضية المتيقنة.

وقبل الدخول في البحث وبيان ما قيل في وجه الجريان وعدمه ، لا بدَّ من تقديم مقدمتين.

الاولى : ان العناوين المأخوذة في الحكم.

تارة يستكشف من ظاهر الدليل ، أو من الخارج انها دخيلة في الحكم حدوثا وبقاء.

وأخرى يستكشف منه ترتب الحكم على المعنون وان تبدل عنوانه ، كما لو دل الدليل على حلية الحنطة مثلا وعلم ان عنوان الحنطة عنوان مشير ، فهذا الحكم ثابت ، وان تبدل العنوان إلى كونه خبزا مثلا.

وثالثة : لا يحرز احد الامرين كما في تغير الماء الموجب لتنجسه فانه لا يحرز ان الحكم يدور مدار عنوان التغير حدوثا وبقاء.

ومحل الكلام في المقام ما كان من قبيل الثالث إذ الحكم في الفرض الأول مع تبدل العنوان معلوم العدم ، وفي الفرض الثاني معلوم الثبوت ، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

وبه يظهر ان ما مثلوا به لمورد الاستصحاب التعليقي ، بما إذا غلى ماء

__________________

(١) راجع فرائد الأصول حيث أشار الشيخ الأعظم إلى ذلك في حجية القول السابع من أدلة الاستصحاب ج ٢ ص ٦٠٥ ، وفي نهاية الأمر الرابع (الاستصحاب التقديري او التعليقي ج ٢ ص ٦٥٤.

٤٧٢

الزبيب ، في غير محله : إذ موضوع الحرمة ليس هو العنب بل الموضوع هو العصير العنبى وهو الماء المتكون في العنب إذا اخرج منه بالعصر ، ومن المعلوم ان العنب إذا جف ، وصار زبيبا ، واريق ماء خارجي عليه ، وصار حلوا بمجاورته اياه ، يكون المشكوك فيه ، غير المتيقن.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع ليس هو العنب كي يقال انه متحد مع الزبيب فيجري فيه الاستصحاب ، بل الموضوع هو العصير العنبى ، وهو غير الماء الخارجي الذي صار حلوا بمجاورة الزبيب.

الثانية : ان الشك في بقاء الحكم.

تارة يكون شكا في بقاء الحكم الكلي المجعول ومنشأ الشك فيه ليس إلا احتمال النسخ.

وأخرى يكون شكا في بقاء الحكم الجزئي ، لأجل احتمال تبدل الموضوع الخارجي ، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية.

وثالثة يكون الشك فيه من ناحية الشك في سعة الموضوع وضيقه في مقام الجعل ، كما في الشك في جواز وطء المرأة بعد الطهر من الحيض ، وقبل الاغتسال ، ومورد البحث هو الاخير.

إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فيقع البحث فيما استدل به لعدم الجريان ، وللجريان :

اما الأول فنذكر تلك الوجوه في ضمن الايرادات على ما استدل به للجريان.

٤٧٣

واما الثاني فقد استدل له بوجوه :

وقد ذكر الشيخ الأعظم (١) منها وجهين :

أحدهما : ما ذكره المحقق الخراساني (٢) أيضاً ، وحاصله ، انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب الوجودي سوى كون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود من دون اعتبار شيء زائدا عليه ، واما كونه موجودا بنحو خاص فلا يعتبر ، ومن المعلوم ان تحقق كل شيء بحسبه ، والمعلق قبل ما علق عليه ، لا يكون موجودا فعلا ، لا انه لا يكون موجودا أصلاً ولو بنحو التعليق كيف ، والمفروض انه مورد فعلا للخطاب ، فكان على يقين من ثبوته قبل طرو الحالة فيشك فيه بعده.

وأورد عليه بإيرادات :

منها : انه يعتبر في جريان الاستصحاب في الأحكام ترتب اثر عملي عليه والحكم المعلق لا اثر عملي له.

وفيه : ان المعتبر ترتب الاثر حين إجراء الأصل لا حين اليقين ، والفرض وجوده.

ومنها : ان الموضوع وهو العنب في المثال منتف.

وفيه : انه وان كان الحق تبدل الموضوع في المثال ، لكن لا لما ذكر كي يرد

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١١.

٤٧٤

عليه ما أورده المحقق النائيني (ره) (١) من ان أهل العرف يفهمون ، ان الموضوع هو الجسم الخاص ، وان وصف العنبية والزبيبية ، من الحالات.

بل من جهة ان الموضوع هو ماء العنب ، والزبيب ، لا ماء له ، بل إنما ينقع في الماء ويكتسب من الزبيب الطعم والحلاوة ، وهل يتوهم اتحاد الماء الخارجي مع ماء العنب ، ولكن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في خصوص المثال لا مطلقا كما هو واضح.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان الحكم الكلي المنشأ ، لا شك في بقائه ، إذ لا يحتمل عدمه إلا على وجه النسخ ، والحكم الفعلي لترتبه على الموضوع المركب ، إنما يكون وجوده بعد تحقق كلا جزئي الموضوع ، لان نسبة الموضوع إلى حكمه ، نسبة العلة إلى المعلول ، فلا يتقدم الحكم على موضوعه ، فقبل فرض غليان العنب في المثال لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومعه لا معنى لاستصحاب بقائه ، والحكم الفرضى التقديرى لا يصح استصحابه ، لعدم كونه مجعولا شرعيا ، بل هو عقلي لازم لجعل الحكم على الموضوع المركب الذي وجد احد جزئيه.

وفيه : ان ما ذكره (ره) يتم على مسلكه من رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه من قيوده.

واما بناءً على رجوعه إلى الحكم ، وكون الموضوع في المثال العصير العنبي ،

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٩ بتصرف.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧ (الوجه الثالث).

٤٧٥

وكون الغليان شرطا للحكم لا جزءا للموضوع ، فلا يتم ، إذ قبل تحقق الشرط وان لم يكن الحكم فعليا ، إلا ان الشك ليس في بقاء الحكم العقلي الفرضى ، ولا في بقاء الحكم الكلي لموضوعه الكلي ، بل إنما يكون شكا في بقاء الحكم الإنشائي الجزئي المنطبق على هذا الموضوع الجزئي.

وعليه ، فدعوى عدم الشك في بقاء الحكم الإنشائي غير صحيحة إذ ما لا شك فيه هو الإنشاء الكلي لموضوعه الكلي ، واما الإنشاء الجزئي المتعلق بهذا الموضوع ، فهو مشكوك البقاء ، وعلى ذلك فايراده مبنائى لا بنائي.

وبذلك ظهر ان ما أفاده بعض الاعاظم (١) في منجزات المريض في المثال من جريان الاستصحاب التعليقي إذا كان الموضوع العصير العنبى ، وكان الغليان شرطا ، واما إذا كان الموضوع العصير العنبى الغالى ، فلا يجري الاستصحاب يتم على هذا المبنى.

فما علقه المحقق الكاظمي (ره) (٢) في المقام من ان المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي لا يتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع ، بل يكفي كون الشرط علة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب ، فانه مع عدم الغليان لا حرمة ولا نجاسة أيضاً لانتفاء المعلول بانتفاء علته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه غير صحيح.

__________________

(١) راجع بحر الفوائد ج ٣ ص ١٢١ بتصرف.

(٢) في تعليقته على فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٧ حاشية رقم ١.

٤٧٦

ومنها : ما ذكره المحقق الخراساني (١) بقوله ان قلت وحاصله معارضة هذا الاستصحاب مع استصحاب ضده المطلق ، وهو في المثال الحلية المطلقة ، واجيب عن هذا الإيراد باجوبة.

١ ـ ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٢) : وهو ان استصحاب الحرمة على تقدير الغليان حاكم على استصحاب الاباحة قبل الغليان.

واوضحه المحقق النائيني (ره) (٣) ، بان الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان مسبب عن الشك في ان الحرمة المجعولة للعنب إذا غلى ، هل هي مختصة بحال كونه عنبا ، أم تشمل ما لو كان زبيبا ، فإذا حكم بكونها مطلقة ببركة الاستصحاب ، لا يبقى شك في الحرمة ليجري فيها الاستصحاب.

وفيه : ان ارتفاع الحلية بعد الغليان ليس مترتبا على الحرمة المعلقة ، ولا الشك فيه مسببا عن الشك فيها حتى يكون الأصل الجاري في الحرمة حاكما على الأصل الجاري في الحلية ، بل الحرمة الفعلية بعد الغليان التي هي لازم الحرمة المعلقة قبل الغليان ، منافية للحلية الفعلية بعد الغليان بنحو التضاد فثبوت كل منهما لازم لعدم الآخر كما هو الشأن في جميع المتضادين ، مع انه لو سلم الترتب لا يكون الترتب شرعيا وحكومة الأصل السببي ، إنما تكون فيما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب المتنجس بالماء المشكوك طهارته.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

٤٧٧

٢ ـ ما أفاده المحقق الخراساني (١) وهو ان الحلية الثابتة قبل تحقق موجب الشك في بقائها حلية مغياة بعدم الغليان ، لان ما علق عليه احد الضدين لا محالة يكون غاية للضد الآخر ، واستصحاب الحلية المغياة الثابتة حال العنبية لا يخالف ولا يعارض استصحاب الحرمة المعلقة ، بل يوافقه.

ونتيجة الاستصحابين شيء واحد ، وهو ارتفاع الحلية وثبوت الحرمة بعد الغليان ، والشك في الحرمة والحلية الفعلية بعد الغليان ليس شكا غير الشك في بقاء الحرمة المعلقة والحلية المغياة حتى يجري فيه الأصل ، ويعارض مع استصحاب الحرمة.

وفيه : ان القطع بثبوت الحلية المغياة للعنب يوجب القطع بالحلية الفعلية له ، فإذا شك في بقائها في الزمان اللاحق ، ولو من جهة احتمال بقائها غير معلقة على عدم الغليان ، يجري فيها الاستصحاب ، وهو يعارض استصحاب الحرمة ، المعلقة.

٣ ـ ما أفاده المحقق العراقي (قدِّس سره) (٢) وحاصله : ان الثابت في حال العنبية ، الحلية المغياة بالغليان ، والحرمة المعلقة به ، فالشك في الحلية والحرمة في حال الزبيبية ، مسبب عن الشك في بقاء شرطية الغليان وغائيته ، فيستصحب بقاء الشرطية ، والغائية ، وهو حاكم على استصحاب بقاء الحلية.

وفيه : ما تقدم في مبحث الأحكام الوضعية ، من ان المسبب لا يترتب على

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٢.

(٢) نهاية الافكار ج ٤ ص ١٧٢ بتصرف.

٤٧٨

السببية ، ولا المشروط على الشرطية ، ولا عدم المغيى وارتفاعه على الغائية ، بل هي آثار السبب ، والشرط والغاية ، لا الشرطية ، والسببية ، والغائية.

مع ان الغاية على الفرض عقلية ليست بحكم شرعي ، ولا موضوعا لحكم شرعي : إذ ارتفاع الحلية بعد تحقق الغليان عقلي.

ودعوى انه منتزع من الحكم الشرعي ، وهو الحرمة المعلقة.

مندفعة ، بأنه عليه يجري الأصل في منشأ الانتزاع دونه فليس هذا استصحابا ، غير استصحاب الحرمة المعلقة.

فالمتحصّل ان هذا الإيراد لا يمكن الذب عنه فهذا التقريب لا يكفي.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (١) وحده وهو انه يستصحب الملازمة بين الغليان والحرمة ، وسببية الغليان للحرمة الفعلية ، وهذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي ، فان الملازمة فعلية لانها لا تتوقف على صدق طرفيها ، ومشكوك فيها في حال الزبيبية فيستصحب بقائها.

وفيه : أولا ان المسبب لا يترتب على السببية والملزوم غير مترتب على الملازمة ، بل هما مترتبان على السبب واللازم ، فاستصحابهما لا يكفي في الحكم بتحققهما.

وثانيا : ان الشيخ (ره) يرى انتزاعية الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ونحن أيضاً وافقناه في مثل السببية والشرطية فراجع ، وعليه فلا يجري فيها

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤ بتصرف.

٤٧٩

الاستصحاب.

وثالثا : ان الملازمة والسببية ان لم تكن جعلية لا يجري فيها الاستصحاب ، لعدم كونها اثرا شرعيا ، ولا موضوعا لاثر شرعي ، وان كانت مجعولة فلها كسائر الأحكام مقام الجعل والفعلية ، وبالنسبة إلى الحكم الكلي المجعول لا شك في البقاء ، وبالنسبة إلى فعليتها لا يقين بالثبوت ، إذ فعليتها تتوقف على فعلية موضوعها وهو مركب من جزءين ، وفي المثال ، أحدهما العنب ، والآخر الغليان ، والمفروض عدم تحقق الثاني فلا تكون فعلية.

فالاظهر عدم جريان الاستصحاب التعليقي ، ويرد عليه مضافا إلى ذلك كله انه لو سلم جريانه ، فهو محكوم ، باستصحاب عدم الجعل الذي لاجله اخترنا عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا.

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات

واوضح من ذلك في عدم الجريان ، الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، والمتعلقات ، إذ الموضوع أو المتعلق إنما يترتب عليه الاثر إذا وجد في الخارج ، واما وجوده التقديرى ، فلا يكون موضوع الاثر.

وقد يتوهم انه بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، يجري الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات ، فلو كان الحوض قبل ساعة بحيث لو وقع فيه الثوب النجس لتحقق غسله ، وطهر لوجود الماء فيه ، ثم شك في بقاء الماء لجرى الاستصحاب التعليقي ، وحكم بحصول الغسل والطهارة على

٤٨٠