زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

في شهر رمضان أو ان هذا اليوم منه ، هو الإشكال الساري في استصحاب الزمان وسيأتي الجواب عنه في تنبيهات الاستصحاب.

الاستدلال بأخبار الحل والطهارة

ومنها : أخبار الحل والطهارة ، لاحظ موثق مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (ع) كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك الحديث (١).

وبمضمونه روايات كثيرة ، وموثق مصدق بن صدقة عن عمار عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك شيء (٢). وقريب منه غيره.

والوجوه المحتملة في هذه النصوص ولعلها أقوال ، سبعة :

أحدها : ان يكون صدر الأخبار متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وبعنوان انه يشك في طهارتها أو حليتها ، وتكون الغاية متكفلة لبيان استمرار الحكم السابق إلى زمان العلم بالنجاسة أو الحرمة ، فيكون مفاد الصدر بيان كل من

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / الوسائل ج ١٧ ص ٨٩ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٢٢٠٥٣.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٢٨٤ باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ح ١١٩ / الوسائل ج ٣ ص ٤٦٧ باب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤١٩٥.

٣٦١

الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة أو الحلية ، ومفاد الغاية بيان قاعدة الاستصحاب ، اختاره المحقق الخراساني في تعليقته (١) على رسائل الشيخ الأعظم.

ثانيها : ان يكون الصدر متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، والغاية متكفلة لبيان قاعدة الاستصحاب اختاره المحقق الخراساني في الكفاية (٢).

ثالثها : ان المستفاد منها خصوص قاعدة الطهارة والحلية نسب إلى المشهور.

رابعها : ان المستفاد منها قاعدة الطهارة أو الحلية ، والاستصحاب نسب إلى صاحب الفصول (٣).

خامسها : أنها صدرا وذيلا ليست متكفلة إلا لبيان الاستصحاب خاصة اختاره الشيخ الأعظم (٤) في بعض النصوص.

سادسها : ان الروايات صدرا وذيلا متكفلة لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية إلا ما أخرجه الدليل فيكون مفادها بيان الحكم الواقعي فقط ، فيكون

__________________

(١) راجع درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣١٣ ... الخ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٨.

(٣) الفصول الغروية ص ٣٧٣.

(٤) راجع الفرائد ج ٢ ص ٥٧١ حيث اعتبر ان رواية عبد الله بن سنان مختصة باستصحاب الطهارة ولا دلالة لها على القاعدة.

٣٦٢

العلم بالنجاسة أو الحرمة مأخوذا طريقا اختاره صاحب الحدائق (ره) (١).

سابعها : ان صدرها متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وبعنوان انه يشك في طهارتها أو حليتها ، والغاية غير متكفلة لبيان شيء آخر بل العلم بالنجاسة أو الحرمة رافع لموضوع الحكم الظاهرى ، وطريق إلى ثبوت ضد الحكم المثبت بالصدر ، فيكون مفاد النصوص بيان الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة أو الحلية.

اما الوجه الأول : فقد استدل له المحقق الخراساني (ره) (٢) : بان المغيا مع قطع النظر عن الغاية بعمومه الانفرادي يدل على طهارة الأشياء أو حليتها بعناوينها الأولية فيكون دليلا اجتهاديا على الحكم الواقعي ، وبإطلاقه الاحوالي الشامل لحال كون الشيء مشكوكا فيه يدل على قاعدة الطهارة والحلية ، فيما اشتبه طهارته وحليته ، والغاية تدل على استمرار الحكم الثابت في المغيا ظاهرا وهو الاستصحاب.

وقد أورد المحقق النائيني (ره) (٣) على استفادة الحكم الواقعي والقاعدة منها بوجوه :

__________________

(١) كما هو ظاهر كلامه في الحدائق الناظرة ج ٥ ص ٢٤٩ عند قوله : «ألا ترى انه وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية ... الخ».

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٨.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٠ ـ ٦١.

٣٦٣

١ ـ ان الطهارة التي تحمل على الشيء المشكوك فيه متأخرة عن الطهارة الثابتة له بعنوانه الواقعي بمرتبتين لأنه لا بدَّ من فرض الطهارة للشيء والشك فيه ثم إثبات الطهارة الظاهرية ، فكيف يمكن الجمع بينهما في إنشاء واحد.

وفيه : ان الطهارة ليست قسمين ، بل هي شيء واحد ، والفرق بين الظاهرية والواقعية ، إنما هو من ناحية الموضوع ، إذ الموضوع ان اخذ فيه الشك يعبر عنه بالطهارة الظاهرية وإلا فبالواقعية.

٢ ـ ان الغاية تمنع عن إرادتهما معا ، فان الغاية بناءً على استفادة الحكم الواقعي لا يكون بنفسها غاية بل بما أنها كاشفة عن الواقع وهي القذارة الواقعية ، وبناء على استفادة الحكم الظاهري يكون العلم بنفسه غاية لا بما هو كاشف واستعمال اللفظ فيهما مستلزم للجمع بين الآلية والاستقلالية وأخذ الشيء الواحد موضوعا وطريقا.

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى ان الغاية إنما تكون لبيان حكم آخر ، وهو استمرار ما ثبت لا لبيان الحد والغاية كي يرد عليه ما أفيد.

٣ ـ وهو الحق وحاصله ان الشيء الذي هو موضوع وان كان يشمل المشكوك فيه ، ولكن لا بهذا العنوان وذلك لان معنى العموم والإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود ، ومن الواضح دخل الشك في القاعدة بما هو شك فكيف يمكن الجمع بين عدم دخالة القيد ودخالته.

واما استفادة الاستصحاب من الغاية ، ففيها ان الظاهر من الغاية كونها حدا ونهاية لما ثبت ، لا إنشاءً لحكم آخر غير ما انشأ بالمغيى والظاهر من كلمة (إلى) و (حتى) ، كونهما لبيان الغاية والحد ، لا لبيان استمرار ما ثبت.

٣٦٤

وعليه فإذا فرض كون الصدر في مقام جعل الحكم الواقعي لا بد من اخذ العلم طريقا محضا ، فيكون معنى حتى تعلم انه قذر حتى تتقذر بملاقاته مع القذارة نظير قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١). فتتمحض النصوص في إفادة الحكم الواقعي.

وإذا كان المغيا في مقام جعل الحكم الظاهري يكون العلم بنفسه غاية وتتمحض النصوص في جعل الطهارة أو الحلية الظاهرية.

وبعبارة أخرى : ان قوله (ع) (حتى تعلم انه قذر) وكذا قوله (ع) : (حتى تعلم انه حرام بعينه) اما ان يكون قيدا ، للموضوع ، أو يكون قيدا للمحمول.

ومفاده على الأول جعل الحكم الظاهري ، وعلى الثاني جعل الحكم الواقعي ، وعلى التقديرين لا يدل على الاستصحاب.

وبما ذكرناه ظهر ضعف القول الثاني ، الذي اختاره المحقق الخراساني.

كما انه ظهر ضعف ما نسب إلى صاحب الفصول ، وهو كون الأخبار في مقام جعل القاعدة والاستصحاب معا.

ويرد عليه مضافا إلى ما مر : انه لا يعقل الجمع بينهما ، إذ الشك في الحكم الظاهري لا يتصور ، وهو اما مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع ، لان موضوعه الشك وهو حالة نفسانية للإنسان وهو على نفسه بصير ، فإما ان يكون الشك

__________________

(١) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

٣٦٥

باقيا فالحكم باق قطعا ، وان لم يكن باقيا يرتفع كذلك ، فلا يتصور الشك فيه كي يستصحب ، ونظير ذلك ما ذكروه من عدم صحة جريان الاستصحاب في قاعدة الاشتغال.

كما انه ظهر ضعف الأخير.

فيدور الأمر بين إرادة الاستصحاب منها ، أو الحكم الواقعي ، أو القاعدة.

اما وجه استفادة الاستصحاب منها فامران :

أحدهما : أنها تدل على استمرار الطهارة أو الحلية الثابتة إلى زمان العلم بالضد أو النقيض وقد مر ما فيه.

وحاصله ، ان ثبوت استمرار أمر غير ثبوته مستندا إلى ثبوته في الزمان السابق ، والاستصحاب هو الثاني ، ومفاد النصوص هو الأول.

ثانيهما : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) في الرسائل في خصوص الماء كله طاهر ، من جهة ان الماء طاهر بالأصالة ، ونجاسته إنما تكون لعارض خارجي ، والخبر إنما يدل على استمرار الطهارة المفروض ثبوتها وليس الاستصحاب إلا ذلك.

وفيه : ان غاية ما يلزم من مفروغية طهارة الماء ، إنما هو الحكم باستمرارها في مورد الثبوت سابقا ، وهذا ليس استصحابا ، بل هو عبارة عن الحكم بالاستمرار استنادا إلى ثبوته سابقا.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

٣٦٦

وعلى الجملة لا يوجد في الروايات شيء دال على الحكم باستمرار ما ثبت لثبوته سابقا فليس مفادها الاستصحاب.

واما القول بكونها في مقام بيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، فهو يستلزم ارتكاب أحد خلافي الظاهر.

اما الالتزام بدخل العلم في باب النجاسة والحرمة في الموضوع ، وهو على فرض معقوليته خلاف ظاهر جميع أدلة النجاسات والمحرمات.

أو الالتزام بعدم كون العلم بالنجاسة أو الحرمة المجعول غاية ، بنفسه غاية ، بل يكون طريقا محضا إلى ثبوت النجاسة أو الحرمة نظير التبين المجعول غاية في قوله تعالى : (كلوا واشربوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

بناءً على كون المراد بالتبين العلم والانكشاف ، حيث ان تبين الفجر طريق إلى ثبوته الذي هو الموضوع لحرمة الأكل بلا دخل للعلم بنفسه في الموضوع ، وهو خلاف الظاهر.

فحينئذ يتعين حمل النصوص على أنها في مقام جعل قاعدة الطهارة والحلية.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، ان جملة من النصوص الصحيحة تدل على حجية الاستصحاب وعمدتها صحاح زرارة.

٣٦٧

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي

المستنبط من الحكم العقلي

ثم ان بعد ثبت دلالة الأخبار على حجية الاستصحاب ، لا بد من البحث في دلالتها من حيث شمولها لجميع الأقسام ، وعدم شمولها لها ، وقد كثرت الأقوال والتفاصيل في المقام ، واطال الشيخ الأعظم البحث في التفاصيل المذكورة في الكلمات ، إلا ان جملة منها لا تستحق البحث عنها ، وجملة من التفاصيل لا بدَّ من التعرض لها لما فيها من الفائدة ، فتنقيح القول بالبحث في موارد.

المورد الأول : ذهب الشيخ الأعظم (١) إلى انه لا يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بدليل عقلي ، ومحصل ما أفاده مبتنيا على ما هو المتفق عليه دليلا ، وقولا ، من اعتبار ، وجود الشك ، وبقاء الموضوع ، واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها في جريان الاستصحاب.

ان مدرك الحكم الشرعي ، ان كان هو الدليل النقلي فلو تبدل قيد من قيود الموضوع ، ربما يرى العرف اتحاد الموضوعين نظرا إلى ان القيد الزائل من حالات الموضوع ، لا من مقوماته كما في الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٠ (الأمر الثالث) فإنه بعد أن ابطل الاستصحاب فيما استقل به العقل من الأحكام قال : «اما الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب».

٣٦٨

فان أهل العرف يرون التغير واسطة لعروض النجاسة ، على الماء نفسه ، وهو باق بعد زوال التغير.

وربما يراه العرف تمام الموضوع ، أو من مقوماته بحيث يرون الموجود مغايرا لما كان ، كما في الاقتداء بالعادل فانه إذا زالت عدالته من جهة ان العرف يرون العدالة من مقومات الموضوع ، فالموجود وهو الفاسق غير ما كان ، وهو العادل ، فلا يجري الاستصحاب.

وربما يشكون في ذلك ، كما إذا كان الشخص في أول الوقت مسافرا ثم صار حاضرا ، فانه يشك في كون السفر المأخوذ موضوعا لوجوب القصر من مقومات الموضوع أو من حالاته ، وفي مثل ذلك أيضاً لا يجري الاستصحاب ، لان التمسك بدليله من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية هذا كله فيما إذا كان الدليل نقليا.

واما إذا كان المدرك له هو الحكم العقلي فكل قيد اخذ في الموضوع يكون مقوما ، وهذا يظهر ببيان أمرين :

الأول : ان العقل إذا استقل بحكم لا يعقل فيه الإهمال كما هو الشأن في سائر الصفات والأفعال النفسانية من قبيل الحب ، فان رأى قيدا دخيلا في حكمه واخذه في موضوعه ، يكون ذلك من مقومات الموضوع عنده وبانتفائه ينتفي الحكم العقلي قطعا ، ولا يحتمل بقائه لعدم معقولية الترديد للحاكم في حكمه.

الثاني : ان الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي لتبعيته له يكون كل قيد من القيود المأخوذة في الحكم العقلي ، من مقومات موضوعه فإذا تبدل

٣٦٩

قيد يرتفع الحكم الشرعي لتبدل الموضوع ، وانعدامه فلا يجري الاستصحاب.

وأورد عليه بإيرادات :

الإيراد الأول : ما عن العلمين الخراساني (١) والنائيني (ره) (٢) ، وهو إيراد على الأمر الثاني ، وحاصله ، ان الحكم العقلي ليس علة للحكم الشرعي ، بل هو إنما يكون كاشفا عن الملاك الذي هو العلة لجعل الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى : الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات ، دون مقام الثبوت ، فإذا ارتفع قيد من قيود الحكم العقلي يرتفع حكم العقل قطعا فينتفي الكاشف ، ولكن من المحتمل بقاء المنكشف وبتبعه بقاء الحكم الشرعي ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب.

وفيه : ان العناوين المحكومة بالحسن أو القبح على قسمين :

أحدهما : ما كان بنفسه مع قطع النظر عن جميع ما يترتب عليه من العناوين محكوما بأحدهما ، كعنوان الظلم والعدل وهذا هو الذي يعبر عنه تارة بالذاتي ، وأخرى بالضروري.

الثاني : ما يكون محكوما به من حيث اندراجه تحت عنوان محكوم به ذاتا كالمشي إلى السوق إذا كان تصرفا في ملك الغير مثلا.

وهو الذي يعبر عنه بالعرضي المنتهى إلى الذاتي ، والنظري المنتهى إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦ بتصرف.

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٢.

٣٧٠

الضروري ، وعليه ، فما يكون موضوعا للحكم العقلي في القسم الثاني ليس هو ذات الفعل بل ذاك العنوان المنطبق عليه ، فالمحكوم بالقبح في المثال الذي ذكره الشيخ الأعظم (ره) ، هو عنوان الضار لا الصدق الضار ، وعليه فبما انه من مقدمات استدلال الشيخ (ره) ان مقتضى الملازمة ، تعلق الحكم الشرعي بنفس ما تعلق به الحكم العقلي وهو عنوان الضار فمع انتفاء ، هذا العنوان ينتفي الموضوع فلا مورد لاستصحاب الحكم ، ولا يكون نظير المثال المفروض ، إذ في المثال المأخوذ في لسان الدليل موضوعا هو الماء المتغير ، وكان الأولى تنظيره بما لو علم حرمة حفر البئر لكونه موجبا لا ضرار الجار ، وتغير هذا العنوان ، ولم يكن في الزمان اللاحق الحفر ضرريا فهل يتوهم جريان استصحاب الحرمة.

الإيراد الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو انه لعدم احاطة العقل بالواقعيات ، يمكن ان يكون مع الملاك الذي استكشفه العقل ملاك آخر ، لا يكون لتلك الخصوصية دخل فيه ، وعليه فيحتمل بقاء الحكم الشرعي فيستصحب ذلك.

وفيه : ان للعقل حكمين :

أحدهما : دركه المصالح والمفاسد فانه بناءً على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لها يستكشف العقل من وجود المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة ، جعل الوجوب ، ومن المفسدة غير المزاحمة بالمصلحة جعل الحرمة.

ثانيهما : حكمه بالحسن والقبح العقليين الذي هو محل الخلاف بين

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧ بتصرف.

٣٧١

الإمامية والمعتزلة وبين الأشاعرة حيث ان الأشاعرة منكرون له ، وهما قد اثبتاه ، ويعبر عنه في الاصطلاح بالعقلي العملي ، أي الحكم العقلي المربوط بالنظام في قبال الحكم العقلي النظري ، وهو دركه للواقعيات ، واشكال المحقق الخراساني يرد على فرض كون مراد الشيخ (ره) من الحكم العقلي هو الأول.

واما على فرض كون مراده هو الثاني فلا يتم : فان الملاك الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه موضوع لحكم الشارع ، والملاك المحتمل وجوده في غير ذلك العنوان مستلزم لجعل الحكم على غيره ، فالمتيقن غير المشكوك فيه ، مثلا إذا استكشف العقل ان الكذب الضار قبيح ، يوجب ذلك جعل الحكم لعنوان الضار فلو احتملنا وجود ملاك آخر في مطلق الكذب ، فبما ان ذلك الملاك مستلزم لجعل الحرمة على عنوان الكذب ـ لا الضار ـ فالمتيقن حرمة الضار ، والمشكوك فيه حرمة الكذب فبعد تبدل عنوان الضار لا مورد للاستصحاب.

الإيراد الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه بما ان العقل غير محيط بالواقعيات ، يحتمل ان لا يكون لتلك الخصوصية ، دخل في ذلك الملاك الذي استكشفه العقل واقعا واخذها فيه بمعنى حكم العقل بحسن شيء أو قبحه مع تلك الخصوصية باعتبار كونه القدر المتيقن في ذلك ، فمع فرض الشك في بقاء الحكم العقلي ، مع انتفاء تلك الخصوصية لا محالة يشك في بقاء الحكم الشرعي فيستصحب.

وفيه : ما عرفت من ان العناوين المحكومة بأحكام عقلية اما ذاتية أو منتهية

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢١.

٣٧٢

إلى الذاتية.

وبعبارة أخرى : اما ضرورية أو منتهية إليها ، وعليه ، فلا يكاد يستقل العقل بحسن شيء أو قبحه إلا مع تبين الموضوع تفصيلا.

الإيراد الرابع : ما ذكره المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان غاية ما يدل عليه هذا الوجه هو عدم تصور الشك من جهة الشك في قيدية شيء فيه ، واما مع الشك في بقاء ما علم قيديته ، فهو بمكان من الإمكان كالشك في بقاء الصدق على مضريته ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب.

وفيه : انه ان أريد استصحاب الحكم فلا يمكن للشك في بقاء موضوعه وان أريد استصحاب الموضوع ، فهو استصحاب تعليقي في الموضوع الذي لم يلتزم أحد بجريانه حتى القائلين بجريانه في الأحكام : فانه لا بدَّ وان يقال ، هذا الصدق لو كان متحققا في الزمان السابق كان متصفا بالضارّية فالآن كما كان.

الإيراد الخامس : انه بناءً على ذلك لا بد من الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية مطلقا بناءً على مسلك أهل الحق من تنزه ساحة الشارع الأقدس عن الأغراض النفسانية ، وإنما تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، وأنها ألطاف في الواجبات العقلية : فانه على هذا المسلك يتحد موضوع حكم العقل وموضوع حكم الشرع.

وفيه : انه في الأحكام الشرعية الثابتة بغير حكم العقل يكون الموضوع بحسب ما يستفاد من الدليل شيئا يكون باقيا مع ارتفاع بعض الخصوصيات

__________________

(١) مقالات الأصول ج ٢ ص ٣٣٩.

٣٧٣

التي هي من حالات الموضوع بنظر العرف.

واما الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي فبما ان العقل لا يرى وراء الموضوع شيئا دخيلا في الحكم ، بل كل قيد يكون دخيلا فيه يكون راجعا إلى الموضوع فليس غير الموضوع شيء يعد من حالاته.

فتحصل مما ذكرناه ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية هو المتين ، هذا على فرض جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية وسيجيء الكلام في المبنى.

التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضي

المورد الثاني : ذهب جماعة تبعا للشيخ الأعظم إلى اختصاص حجية الاستصحاب بموارد الشك في الرافع (١) وانه لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي ، وبما انه اشتبه مراد الشيخ من المقتضي والرافع ، فلا بد من البحث أولا في بيان مراده ، ثم بيان ما يستفاد من الأدلة ، فتنقيح القول بالبحث في مقامين ، الأول في بيان المراد من الشك في المقتضي وتعيين مورد النزاع ، الثاني : في بيان ما هو الحق.

اما المقام الأول : فلا يخفى انه للمقتضي معان :

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٥٦٠ ـ ٥٦١.

٣٧٤

أحدها : ما يكون من أجزاء العلة حيث إنها مركبة من المقتضي ، وهو ما يترشح منه المعلول كالنار ، والشرط ، وهو ما يكون دخيلا في فاعلية الفاعل أو قابلية القابل كالمماسة ، وعدم المانع وهو عدم ما يزاحم المقتضى في تأثيره كعدم الرطوبة ، وقد يعبر عن المقتضى بالسبب.

لا ريب في ان مراد الشيخ (ره) من المقتضي ليس هذا المعنى : فانه قائل بجريان الاستصحاب في العدميات (١) مع انه لا مقتضي للعدم ، وأيضا يقول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مع انه لا مقتضى لها سوى إرادة الجاعل.

ثانيها : الموضوع فان الفقهاء قد يعبرون عن الموضوع بالمقتضى ، وعن القيود الوجودية المعتبرة فيه بالشروط في باب التكليف وفي باب الوضعيات بالسبب ، وعن القيود العدمية بالموانع يقولون ان المقتضى لوجوب الحج المكلف ، والشرط هو الاستطاعة ، والحيض من موانع الصلاة وهكذا.

والظاهر ان مراد الشيخ (ره) من المقتضى ليس ذلك أيضاً فان بقاء الموضوع معتبر بالاتفاق والشيخ (قدِّس سره) بعد تصريحه باعتبار بقاء الموضوع يفصل بين الشك في المقتضى والشك في الرافع.

ثالثها : ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد ، وليس مراده ذلك أيضاً فانه ملتزم بجريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية (٢) ولا يتصور لها ملاك ،

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٥١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢.

٣٧٥

وأيضا فانه ملتزم بجريان الاستصحاب في الملكية في المعاطاة (١) بعد رجوع أحد المتبايعين ، مع ان الملاك غير محرز ، بل يلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا لعدم إحراز الملاك.

بل المراد به قابلية بقاء الشيء في عمود الزمان إلى ما بعد زمان الشك ما لم يطرأ عليه رافع كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة الحاصلة بأسبابها ، فلو كان اليقين متعلقا بهذه الأشياء يكون له مقتض للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ رافع ، فإذا شك في بقائه لا محالة يكون الشك مستندا إلى الشك في الرافع ، ويقابله ما لا يكون له قابلية البقاء في نفسه ، كالزوجية المنقطعة لو شك في الأجل ، والخيار الثابت في مورد خيار الغبن على القول بالفورية ، والشك في أمثال هذه لا يستند إلى احتمال وجود الرافع ، بل الشك في استعداده للبقاء في نفسه ، فيكون الشك في ان المتيقن وبالتبع الجري العملي على طبق اليقين المتعلق به ، هل يكون له استعداد البقاء أم لا؟ والأول من موارد الشك في الرافع والثاني من موارد الشك في المقتضى.

وبهذا يظهر ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) في كتاب المكاسب من ، جريان استصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتبايعين ، وعدم جريان استصحاب بقاء الخيار بعد الزمان الأول في مورد خيار الغبن (٢) لاحتمال فوريته مبنيان على مبناه.

__________________

(١) كما نسبه اليه آية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ١٤٠ ، وهو ظاهر كلامه في المكاسب المحرمة ج ٣ ص ١٠٢ ، وفي الفرائد أشار إلى ذلك ج ٢ ص ٦١١.

(٢) راجع المكاسب ج ٥ ص ٢٣.

٣٧٦

ولا يرد عليه ما أورده السيد الطباطبائي (ره) (١) بان الأول أيضاً من قبيل الشك في المقتضى.

واما المقام الثاني : وهو بيان ما هو الحق ، فنخبة القول فيه يبتني على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان النقض تقابل الإبرام تقابل العدم والملكة ، فلا بد وان يتعلق بما يصلح ان يكون مبرما.

وهل الإبرام والنقض ، بمعنى الإتقان والإحكام وعدمه ، كما أفاده المحقق الخراساني (٢) وغيره ، أو بمعنى الهيئة الاتصالية ورفعها ، كما عن الشيخ الأعظم (٣) ، أو بمعنى هيئة التماسك والاستمساك ورفعها كما اختاره جمع من المحققين (٤) ، وجوه أقواها الأخير.

وذلك : لأنه في بعض هذه النصوص اسند النقض إلى الشك أيضاً لاحظ قوله (ع) في الصحيح الثالث المتقدم (ولكنه ينقض الشك باليقين) مع انه لا أحكام فيه ، وأيضا الإتقان والإحكام يصدق فيما لا يصدق الإبرام.

كما انه لا دخل للاتصال المقابل للانفصال بالإبرام المقابل للنقض.

__________________

(١) هو السيد الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى ، وقد أورد ذلك في حاشيته على المكاسب المحرمة ج ١ ص ٨١ ، ط إسماعيليان قم.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٠.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

(٤) استظهره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٥٣.

٣٧٧

ثم ان هيئة التماسك لا تكون إلا في مركب ذي أجزاء فيكون متماسكا تارة ، ومنحلا أخرى ، وعليه فالإبرام والنقض بما لهما من المعنى الحقيقي لا يصدقان إلا في المركبات الحقيقية ، والاعتبارية ، فإسناد النقض إلى اليقين الذي هو من البسائط كإسناده إلى العهد ، واليمين ، والعقد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، لا بدَّ وان يكون بلحاظ تنزيله منزلة المركب بلحاظ بعض لوازم المركب الموصوف بالإبرام ، والظاهر ان ذلك اللازم في المقام هو ارتباط بعض أجزاء المبرم ببعض ، فان اليقين من الصفات ذات الإضافة ولا يتحقق إلا متعلقا بشيء فهو مرتبط بمتعلقه ، وبهذا اللحاظ يصح إسناد النقض إلى الشك.

ومما ذكرناه ظهر ان المراد من النقض في نصوص الباب ليس هو رفع الأمر الثابت كما عن الشيخ الأعظم (ره).

المقدمة الثانية : في بيان المراد من الهيئة ، والظاهر انه ليس المراد منها النهي عن النقض حقيقة ، من غير فرق بين ، إرادة اليقين ، أو المتيقن ، أو آثار اليقين.

اما الأول : فلان اليقين بالحدوث لبقائه لا معنى للنهى عن نقضه لكونه طلبا للحاصل ، وطلب تحصيل اليقين بالبقاء ليس طلبا لا بقاء اليقين بل يكون طلب إيجاد فرد آخر.

واما الثاني : فلان المتيقن ان كان حكما شرعيا فإبقائه وعدمه ليس تحت اختيار المكلف بل أمره بيد الشارع ، وان كان من الموضوعات ، فهو اما ان يكون باقيا فطلبه طلب تحصيل الحاصل ، واما ان يكون زائلا فطلبه ليس طلبا للإبقاء بل طلب لاعادة المعدوم وبذلك ظهر ما في إرادة الثالث.

٣٧٨

فما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله ان النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه ، وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين.

غير تام : إذ كما ان النقض المذكور لا يتعلق باليقين كذلك لا يتعلق بالمتيقن ولا بأحكام اليقين.

فلا محالة يكون المراد النهي عن النقض بناءً وعملا ، وحيث لا شبهة في عدم كونه نهيا تحريميا نفسيا لعدم وجوب العمل على طبق اليقين السابق في باب المستحبات والمكروهات والمباحات ، مع جريان الاستصحاب فيها ، فلا محالة يكون إرشاديا.

وعليه فهل هو إرشاد إلى جعل الطريقية لليقين السابق في زمان الشك.

أو إلى جعل المماثل للمتيقن أو لحكمه بعنوان إبقاء الكاشف.

أو إلى منجزية اليقين السابق ومعذريته شرعا لإثبات الحكم في الزمان اللاحق.

أو يكون إرشادا إلى إثبات حكم شرعي بالجري العملي على طبق الحالة السابقة المتيقنة في ظرف الشك ، وجوه واقوال :

ولكن الأول ينافيه ظاهر الكلام ، إذ لازم الطريقية الغاء احتمال الخلاف وعدم الشك ، فلا يناسب فرض الشك في الموضوع.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

٣٧٩

والثاني خلاف الظاهر فان ظاهر القضية ، ترتب الحكم على اليقين نفسه دون المتيقن.

فيدور الأمر بين الأخيرين :

أوجههما الثاني لما عن المحقق النائيني (١) ، من ان اليقين بشيء حيث انه يقتضي الجري العملي على طبقه بما انه طريق إلى المتيقن ، فيكون مفاد النهي عن نقضه ، إبقاء المتيقن السابق من حيث اقتضائه الجري العملي.

فان قيل : ان لزوم العمل طبق اليقين إنما يكون لحكم العقل بلزوم إطاعة المولى وقبح مخالفته ، وعليه فليس للشارع التصرف في ذلك بجعله أو برفعه ، إلا بوضع منشأه أو رفعه.

اجبنا عنه : بأنه مع عدم بقاء اليقين حقيقة لا يستقل العقل بلزوم العمل على طبق اليقين السابق ، ولا بعدم لزومه ، وعليه فلا محذور في الجعل.

وان شئت قلت ان النقض استند إلى اليقين ، وهو بطبعه لا يوجب العمل على طبقه في ظرف الشك ، ولكن الشارع يتعبد به.

وعن بعض المحققين (٢) انه يتعين اختيار كون النهي عن نقض اليقين إرشادا إلى منجزية اليقين السابق ومعذريته شرعا بالنسبة إلى الحكم في الزمان اللاحق.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٨ بتصرف.

(٢) وهو ظاهر اختيار المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج ٣ ص ٣٠٤.

٣٨٠