زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

وفي فرض الشك قال : ولا يتوهم ان ذلك ينافي ما ذكرناه في مبحث حجية الخبر الواحد من عدم معقولية جعل التنجيز والتعذير لكونهما من الأحكام العقلية ، إذ في المقام يدعى ان الشارع الاقدس يوسع في منجزية اليقين السابق الذي هو منجز بحكم العقل.

ولكن يرد عليه انه في لزوم المحذور المذكور لا فرق بين كون المنجزية مسبوقة بالتحقق وعدمه.

فالمتحصّل ان المتعين هو الوجه الاخير الذي اختاره المحقق النائيني إذا عرفت ما تلوناه عليك من المقدمتين.

فقد استدل لاختصاص الحجية بالشك في الرافع بوجوه :

الوجه الأول : ما عن الشيخ الأعظم (١) ، وهو ان الأمر يدور بين ان يراد بالنقض ظاهره ، وهو رفع الأمر الثابت لكونه اقرب إلى معناه الحقيقي وهو رفع الهيئة الاتصالية ، فيختص متعلقة بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.

وبين ان يراد منه مطلق ترك العمل ، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين.

والظاهر رجحان الأول إذ الفعل الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام.

وفيه : ما تقدم من ان المراد بالنقض في المقام ، ليس رفع الأمر الثابت ، بل اسند إلى اليقين بملاحظة كون اليقين مربوطا بمتعلقه ، أضف إليه ما مر من ان

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

٣٨١

معناه الحقيقي ليس هو رفع الهيئة الاتصالية.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) ، وحاصله : انه ان كان متعلق اليقين غير محدود في عمود الزمان بغاية فاليقين المتعلق به يقتضي الجري العملي على طبقه على الإطلاق ولا موجب لرفع اليد عنه إلا الشك في الرافع فيصدق عليه نقض اليقين بالشك من حيث الجري العملي.

واما إذا احتمل كون المتيقن مغيا بغاية ، فالمتيقن مما يقتضيه اليقين هو الجري العملي ما قبل الغاية المحتملة وبالنسبة إلى ما بعدها لا مقتضى للجري العملي من أول الأمر فعدم الجري يستند إلى قصور المقتضي وانتقاض اليقين بنفسه لا إلى نقض اليقين بالشك.

وفيه : ان متعلق اليقين إذا كان غير محدود في عمود الزمان بغاية ولكن كان مغيا بغاية زمانية كالزوجية المغياة بالطلاق أو احتمل كونه مغيّا بها فاليقين المتعلق به لا يقتضي الجري العملي على طبقه حتى بعد ما يحتمل كونه غاية ، فعدم الجري فيه كعدم الجري في الصورة السابقة بلا فرق بينهما أصلاً.

وبالجملة ، لا فرق بين الموردين سوى ان الثاني يحتمل كونه مغيا بالزمان ، والأول يحتمل كونه بالزمان ، وهذا لا يوجب الفرق بينهما من حيث صدق نقض اليقين بالشك ، وعدمه.

أضف إليه ان اليقين لا يقتضي الجري العملي بعد تبدله إلى الشك في مورد.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٩.

٣٨٢

وان شئت قلت ان المصحح لاستناد النقض إلى اليقين عنده هو عدم اقتضاء اليقين للجري العملي في نفسه في ظرف الشك ، فكيف يذكر ذلك مانعا.

الوجه الثالث : ما اشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١) وصرح به في التعليقة (٢) ، وحاصله : ان اليقين ، وان كان يصح اسناد النقض إليه ، إلا انه في باب الاستصحاب ، بما ان اليقين متعلق بالحدوث ، والشك متعلق بالبقاء ، واليقين بالحدوث ، لم ينتقض ، بل هو باق حقيقة ، فلا يصح النهي عن نقضه بحسب العمل ، لعدم صحته إلا فيما إذا انحل حقيقة ، واليقين بالبقاء لم يكن فرفع اليد عن البقاء ليس نقضا لليقين به ، فلا محيص عن حمل الخبر على قاعدة اليقين ، أو الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع :

إذ اليقين في قاعدة اليقين تعلق بالحدوث والشك أيضاً تعلق به ، فاليقين قد اضمحل بالشك حقيقة فيصح النهي عن نقضه عملا.

وفي مورد الاستصحاب في الشك في الرافع بما ان متعلق اليقين من شانه الاستمرار والبقاء فاليقين المتعلق بحدوثه كأنه متعلق بالبقاء.

وبعبارة أخرى : اليقين تعلق بأصله حقيقة وببقائه اعتبارا ، وهو قد ارتفع وانحل بالشك فيه ، فيصح النهي عنه بحسب البناء والعمل ، وهذا بخلاف الشك في المقتضي حيث لا انحلال فيه لا حقيقة ولا مسامحة ، فلا يصح النهي عن نقضه عملا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩١ (قلت : الظاهر ان وجه الاسناد ..)

(٢) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣١٧ ـ ٣١٨ بتصرف.

٣٨٣

وحيث ان مورد الخبر لا ينطبق على قاعدة اليقين ، فيتعين حمله على إرادة جعل الحجية للاستصحاب في موارد الشك في الرافع خاصة ، هذا محصل كلامه بتوضيح منا.

وفيه : انه في مورد الشك في الرافع أيضاً اليقين المتعلق بالحدوث ، لا يكون متعلقا بالبقاء ولو اعتبار أو مسامحة ، إذ المتيقن لم يحرز ان يكون من شأنه الاستمرار حتى بعد حدوث زماني يحتمل كونه غاية ، أو احتمل حدوث ما هو غاية ، ويكون حاله حال الشك في المقتضى من حيث المتيقن ، وحل الإشكال ان العناية المصححة لاسناد النقض إليه ، ليس إلا اتحاد المتعلقين ذاتا ، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا ، وهذا كاف في اضمحلال اليقين مسامحة وبنظر العرف وفي صحة اسناد النقض إليه ، وفي ذلك لا فرق بين الموردين.

الوجه الرابع : ما ذكره بعض المحققين (١) ، وهو ان غاية ما تدل عليه الأخبار هو سلب العموم ، لا عموم السلب فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد ، والمتيقن هو الشك في الرافع.

وفيه : انه لو كان العموم مستفادا من لفظ (كل) و (اجمع) ونحو ذلك وكان النفي أو النهي واردا على العموم لكان لدعوى سلب العموم مجال ، بل

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٥ (بقي في المقام شيء لا بأس بالتعرض له ..) إلا انه اعتبر هذا الوجه توهم.

٣٨٤

قد يدعى ظهوره في ذلك كما في مثل لا تكرم كل فاسق.

ولكن فيما إذا كان العموم مستفادا من النفي أو النهي الوارد على الطبيعة حيث ان عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها فلا مجال لتوهم كونه من قبيل سلب العموم فان العموم حينئذ متأخر رتبة عن ورود الحكم ، بل هو من قبيل عموم السلب قطعا ، والمقام من قبيل الثاني كما هو واضح.

ثم انه بعد ما عرف من عدم تمامية شيء مما استدل به على اختصاص الروايات بالشك في الرافع ، وان مقتضى إطلاقها حجية الاستصحاب في الشك في المقتضى أيضاً ، لا بأس بالتعرض لامرين :

أحدهما : ان الشيخ الأعظم صرح بجريان الاستصحاب في موارد مع ان الشك فيها من قبيل الشك في المقتضى.

منها : الشك في النسخ وقد صرح بجريان استصحاب عدم النسخ ، أضف إليه ان جريانه فيه متفق عليه ، حتى ادعى الأمين الاسترآبادي (١) انه من ضروريات الدين ، والنسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم إذ البداء مستحيل في حقه تعالى ، فالشك فيه شك في انتهاء الأمد فيكون من الشك في المقتضى.

ومنها : الشك في الموضوع الخارجي (٢) كحياة زيد والشيخ (قدِّس سره) قد صرح

__________________

(١) حكاه عنه (عن الفوائد المكية) الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٩٥.

(٢) راجع فرائد الأصول ج ٢ ٦٣٨ ، إلا أن الشيخ الأعظم (قدِّس سره) استظهر جواز الاستصحاب في المورد حسب الظاهر.

٣٨٥

في أول تنبيهات الاستصحاب ، بأنه لو شك في بقاء حيوان علم وجوده وشك في انه يعيش سنة أو مائة سنة لا يجري الاستصحاب ، لأنه من الشك في المقتضي؟

ولازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في المثال ، فانه لا يعلم اقتضاء بقائه ، ورعاية الجنس القريب ، أو البعيد ، أو النوع ، أو الصنف كل ذلك بلا وجه ، مع انه ملتزم بجريانه في الموضوعات مطلقا.

ومنها : الشك في الغاية (١) ، كما لو شك في هلال شوال مثلا فان الشك إنما هو في ان شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما ، فالشك من قبيل الشك في المقتضى مع انه ملتزم بجريان الاستصحاب فيها.

الأمر الثاني : ان متعلق اليقين والشك ان لوحظا بالنظر الدقي فهما متغايران ، ولا يصدق نقض اليقين بالشك ، حتى في مورد الشك في الرافع لتعلق اليقين بالحدوث ومتعلق الشك هو البقاء ، وان لوحظا بالنظر المسامحي العرفي أي بإلغاء خصوصية الزمان الذي عرفت انه المناط في صدقه واطلاقه ، يصدق نقض اليقين بالشك حتى في مورد الشك في المقتضى.

ويضاف إلى جميع ما تقدم ان من جملة روايات الاستصحاب خبر محمد بن مسلم المتقدم الذي عرفت دلالته على حجية الاستصحاب ، ولم يذكر فيه لفظ النقض لاحظ قوله (ع) : (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه) فعلى فرض التنزل وتسليم عدم دلالة النصوص المتضمنة للفظ النقض على حجية

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ الأمر الثاني من تنبيهات الاستصحاب بتصرف.

٣٨٦

الاستصحاب في الشك في المقتضى ، لا اشكال في دلالة هذه الرواية عليها.

فالمتحصّل انه لا ينبغي التوقف في حجية الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي.

الكلام حول حجية الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود

المورد الثالث : نسب إلى المحقق السبزواري (١) عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في رافعية الموجود ، واستدل له بان الشك في رافعية الموجود كالشك في رافعية المذي للطهارة لا يكون ناقضا لليقين بالطهارة قطعا ، لأنه يجتمع مع اليقين بها ، ولذا كانا مجتمعين في زمان اليقين ، فرفع اليد عنه لا يكون مستندا إلى وجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، وإنما يستند إلى اليقين بوجود ما شك في كونه رافعا ، لان الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة التامة ، فالالتزام بارتفاع الطهارة بالمذي ليس من نقض اليقين بالشك ، بل إنما هو من نقض اليقين باليقين.

وفيه : ان الشك في الرافعية المقارن مع الطهارة لا يكون ناقضا ، لعدم وحدة متعلقة مع متعلق اليقين ، وكذا اليقين بخروج المذي مع قطع النظر عن

__________________

(١) وهو العلامة ملا محمد باقر السبزواري ، راجع ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد ج ١ ص ١١٥ ـ ١١٦ حيث قسّم الصور إلى أربعة ، واختار الاستصحاب في ما إذا كان الشك في وجود الرافع دون غيره. ط. مؤسسة أهل البيت (ع) (حجري).

٣٨٧

حكمه ، بل الناقض هو الشك الحاصل بعد خروج المذي المتعلق ، برافعية الموجود الخارجي المعين ، ورفع اليد عن اليقين بالطهارة به نقض لليقين بالشك.

المورد الرابع : ان الشك في الغاية هل يشمله أدلة الاستصحاب أم لا؟ والكلام فيه في موضعين :

الأول : في الفرق بينه وبين الشك في المقتضى والشك في الرافع.

الثاني : في بيان حكمه.

اما الأول : فالشك في المقتضى عبارة عن لا شك في بقاء ما لا يعلم إرساله ولا تقييده بالنسبة إلى عمود الزمان.

والشك في الرافع عبارة عن الشك في بقاء ما علم إرساله وإنما احتمل رفعه لرافع.

والشك في الغاية عبارة عن الشك في بقاء ما علم تقييده لاحتمال تحقق القيد.

واما الثاني : فالشك في الغاية يتصور على وجوه :

أحدها : ان يعلم الغاية ويكون مفهومها مبينا عنده ولكن شك في تحققه لأجل أمور خارجية ، كما لو شك في تحقق الليل من جهة الغيم.

ثانيها : ان يشك فيها لأجل الشك في المفهوم ، وعدم تبينه كما لو شك في ان الغروب ، عبارة عن استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقية.

٣٨٨

ثالثها : ان يشك فيها من جهة ترددها بين مفهومين متغايرين ، كما لو شك في ان غاية صلاة العشاء ، هل هو انتصاف الليل ، أو طلوع الفجر.

والظاهر جريان الاستصحاب في الوجه الأول ، دون الأخيرين : لأنه في الأول اليقين مقتض للجري العملي والشك يستند إلى أمر خارجي ، واما في الأخيرين : فاليقين بنفسه لا يقتضي الجري العملي ، ويكون قاصرا ، فلا يصدق على رفع اليد عن الحالة السابقة نقض اليقين بالشك.

التحقيق حول الاستصحاب في الأحكام الكلية

المورد الخامس : ذهب جمع من المحققين منهم الفاضل النراقي (١) ، والأستاذ الأعظم (٢) ، وبعض الإخباريين (٣) إلى اختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية ، وانه لا يجري في الشبهات الحكمية فلو كان حكم كلى مشكوك البقاء ، كوجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، ومشروعية الجماعة في صلاة

__________________

(١) حكاه عنه غير واحد من الأعلام منهم آية الله الخوئي في مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٦ / الهداية في الأصول ج ٤ ص ٣٥ / ومن أمثلة ذلك ما ذكره النراقي في مستند الشيعة ج ٦ ص ٣٥ : جريان الاستصحاب في صلاة الجمعة في زمن الغيبة ، وقد نسبه إليه غير واحد في حاشيته على منهاج الأصول ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٦ فإنه بعد حكاية ذلك عن الفاضل النراقي قال : «وهذا هو الصحيح».

(٣) نسبه إلى قاطبة المحدثين آية الله الخوئي في الهداية في الأصول ج ٤ ص ٣٥.

٣٨٩

العيدين في زمان عدم وجوبها ، ونجاسة الماء القليل النجس المتمم كرا ، وثبوت بعض الخيارات مع التراخي ، وما شاكل ، لا يحكم بالبقاء لأجل الاستصحاب.

وتنقيح القول في المقام يستدعي ان يعين محل البحث أولا ، ثم بيان ما هو الحق المستفاد من الأدلة.

اما الأول : فالشك في الحكم ، تارة يكون ناشئا من الشك في اصل الجعل من حيث السعة والضيق بالنسبة إلى عمود الزمان بان يشك في ان الجعل في الحكم المعين هل هو يعم جميع الأزمنة.

أم يكون مختصا بقطعة من الزمان فيرتفع بنفسه بعد انقضاء ذلك الامد ، كما لو علم بجعل حكم في الشريعة وشك في نسخه ، إذ النسخ بهذا المعنى يمكن وقوعه في الشريعة المقدسة ، وقد وقع بالنسبة إلى القبلة.

واما النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت أولا على نحو السعة فلا يمكن الالتزام به لاستلزامه البداء المستحيل في حقه تعالى.

لا كلام في جريان استصحاب عدم النسخ وقد عده بعضهم من ضروريات الدين ، وهو كاشف عن دليل خاص يدل عليه ، فهو خارج عن محل البحث.

وأخرى يكون الشك راجعا إلى المجعول ، بعد فعليته في الخارج والعلم بان اصل الجعل غير محدود بزمان. وهو على قسمين :

إذ ، قد يكون منشأ الشك أمور خارجية ، كما لو علم بطهارة شيء ، وشك في عروض ما يوجب النجاسة.

٣٩٠

وقد يكون منشأ الشك الشك في سعة دائرة المجعول وضيقه ، كما لو شك في ان الحائض التي يحرم وطؤها ، هل هي في خصوص حال وجود الدم ، أو الأعم منه ومن حال بقاء الحدث كما في ما بعد الانقطاع وقبل الاغتسال.

ومحل الخلاف هو القسم الثاني.

اما الأول : فهو خارج عن محل البحث لأنه في تلك الموارد يجري الاستصحاب الموضوعي فلا اثر للنزاع في جريان الاستصحاب فيه وعدمه.

ثم انه فيما هو محل البحث :

تارة يكون الزمان مفردا للموضوع كحرمة وطء الحائض : فان للوطء أفراد طولية تقع من أول الحيض إلى آخره ، وفي ذلك لا يجري الاستصحاب فان الفرد المعلوم حرمته هو الفرد المفروض وقوعه قبل انقطاع الدم ، والمشكوك فيه ، هو ما يقع في حال انقطاع الدم ، فلا مورد لجريان الاستصحاب ، وظاهر ان هذا خارج عن محل البحث.

ودعوى انه يمكن ان يقال ان هذا الفرد من الوطء لو كان واقعا قبل الانقطاع كان حراما ، والآن كما كان.

مندفعة بان ذلك من الاستصحاب التعليقي في الموضوع الذي لا كلام ولا إشكال في عدم جريانه.

وأخرى لا يكون كذلك بل هو حكم واحد مستمر من الأول إلى الآخر كنجاسة الماء القليل المتمم كرا : إذ الماء شيء واحد لا تعدد فيه ، والنجاسة واحدة مستمرة من الأول إلى الآخر ، ومن هذا القبيل ، الملكية ، الزوجية وما

٣٩١

شاكل ، وقد استدل لعدم جريان الاستصحاب فيه بوجوه :

الأول : ان مورد الصحيح هو الطهارة والشبهة موضوعية ، وحيث ان من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فلا يمكن التمسك بإطلاق لا تنقض لحجية الاستصحاب حتى في الأحكام الكلية.

وفيه : ان المبنى فاسد كما حققناه في محله في هذا الشرح.

الثاني : معارضته مع أدلة الاحتياط.

وفيه مضافا إلى ان لازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم الحكم لا استصحاب الحكم ، ان الاستصحاب حاكم على أدلة الاحتياط.

الثالث : ان نقض اليقين ، وان كان اعم مما إذا تعلق بالحكم أو الموضوع ، والموضوع أيضاً قابل للتنزيل كالحكم ، لكن بما ان الفعل إبقاء عملي لليقين بالحكم ، فإسناد النقض إليه إسناد إلى ما هو له ، وهو لا يكون إبقاء عمليا لليقين بالموضوع ، بما هو لعدم محركيته له بنفسه ، بل بلحاظ نشو اليقين بالحكم منه ، فإسناده إليه إسناد إلى غير ما

هو له ، ولا يمكن الجمع بين الاسنادين في كلام واحد.

وفيه : أولا ان الإسناد الكلامي وان كان واحدا صورة إلا انه ينحل إلى اسنادات عديدة في اللب والواقع ، وفي ذلك المقام لا يلزم الجمع بين الاسنادين في إسناد واحد ، وفي النسبة الكلامية اسند النقض إلى اليقين ولهذا الإسناد وصفان اعتباريان ، بلحاظ حيثيتين ، وهما حيثية الانطباق على الموضوع ، وحيثية الانطباق على الحكم فتدبر فانه دقيق.

٣٩٢

وثانيا : ان إسناد النقض إلى اليقين بالموضوع أيضاً إسناد إلى ما هو له إذ الفعل كما يكون إبقاء عمليا لليقين بالحكم ، يكون إبقاء عمليا لليقين بالموضوع باعتبار بقاء الموضوع في عالم التشريع ، والاعتبار ، لا باعتبار بقائه في عالم الوجود.

الرابع : ان استصحاب الحكم معارض باستصحاب عدم الجعل.

توضيح ذلك : انه يفرض الكلام في الماء القليل النجس المتمم كرا ، حيث يشك في بقاء نجاسته ، أو ارتفاعها لان الكر لا يحمل خبثا ، فالنجاسة قبل التتميم متيقنة ويشك في بقائها فيستصحب ، ولكن في المورد يقين سابق آخر وهو اليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام ، لا مطلقا ، ولا مقيدا بعدم التتميم ، والمتيقن مما علم جعله هو النجاسة للماء القليل غير المتمم ، ولا يعلم جعلها للقليل المتمم ، فيجري استصحاب عدم جعل النجاسة له.

وهذا الأصل ، اما ان يكون حاكما على استصحاب النجاسة ، إذ الشك في بقاء الحكم مسبب عن الشك في الجعل.

واما ان يتعارضان ويتساقطان ولا حكومة في البين نظرا إلى ان الأصل السببي الحاكم هو ما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب النجس بالماء المشكوك طهارته ، وفي المقام ليس كذلك فان عدم النجاسة الفعلية ليس من الآثار الشرعية لعدم جعل النجاسة ، بل هو من لوازمه التكوينية بل عينه ولا مغايرة بينهما فلا معنى لحكومة أحدهما على آخر وهو ظاهر.

وعلى التقديرين لا يجري استصحاب النجاسة.

٣٩٣

وقد أورد على هذا الوجه بأمور :

١ ـ ما عن الشيخ الأعظم (١) ، وهو ان الزمان إذا فرضنا أخذه ظرفا للواجب لا قيدا للوجوب ومفردا له ، الذي هو مورد لاستصحاب بقاء الحكم الثابت يقينا سابقا لبقاء موضوعه ، لا يبقى معه مجال لجريان استصحاب العدم الأزلي لانتقاضه بالوجود المطلق غير المقيد بزمان خاص كما هو المفروض.

وفيه : ان المقدار انتقاضه إنما هو ثبوت النجاسة إلى ما قبل التتميم كرا في المثال ، واما بالنسبة إلى ما بعده فجعلها من الأول مشكوك فيه ، وعليه فكما يجري استصحاب النجاسة ، يجري استصحاب العدم.

٢ ـ ما عن المحقق الخراساني (٢) ، وهو انه فيما يجري فيه استصحاب الحكم المتوقف على كون الزمان ظرفا بحسب المتفاهم العرفي الموجب لكون القضية المتيقنة متحدة مع القضية المشكوك فيها لا يجري استصحاب عدم الحكم المتوقف على كون الزمان قيدا ، لعدم إمكان الجمع بين القيدية والظرفية لكمال المنافاة بينهما.

وفيه : ان استصحاب عدم الحكم يجري فيما إذا كان الزمان ظرفا من جهة ان المشكوك فيه مسبوق بيقينين باعتبار أحدهما يجري الاستصحاب الوجودي ، وباعتبار الآخر يجري العدمي.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٨ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٩.

٣٩٤

٣ ـ ما عن المحقق النائيني (١) وهو ان الآثار الشرعية والثواب والعقاب تترتب على المجعول والحكم الفعلي ، واستصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول من الأصول المثبتة وبدون إثباته لا يترتب عليه الأثر.

وفيه : مضافا إلى النقض باستصحاب عدم النسخ فلو كان استصحاب عدم الجعل بالإضافة إلى عدم الحكم من الأصول المثبتة ، كان استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل بالإضافة إلى وجود الحكم كذلك.

ان الحكم ليس من الأمور الحقيقية وإنما هو أمر اعتباري قائم بالنفس ، أو إبراز لشوق المولى بالفعل في الواجبات وإبراز كراهته في المحرمات ، ولا تعدد للاعتبار والمعتبر ، والإبراز والمبرز كما في الإيجاد والوجود ، وإنما لا يجب امتثاله قبل وجود موضوعه ، لأجل عدم الحكم بدونه ـ وبعبارة أخرى ـ بدون فعلية موضوعه لا حكم فعلي ولا إنشائي ، وعلى ذلك ، فاستصحاب الجعل لإثبات المجعول ، وعدم الجعل لإثبات عدم المجعول ، ليس مثبتا ، فتدبر.

٤ ـ ما عن المحقق النائيني (٢) أيضاً وهو ان المتيقن العدم الأزلي غير المنتسب إلى الشارع ، أي العدم المحمولي ، والمشكوك فيه العدم النعتي المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي من الأصل المثبت ولا نقول به.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) ذكر ذلك في غير مورد أوضحها ما في فوائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٠ ـ ١٠١.

٣٩٥

وفيه : ما عرفت من ان جعل الأحكام كان تدريجيا ، فأوائل البعثة لم يكن هذا الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا ، فالمتيقن هو العدم النعتي.

٥ ـ معارضة استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي ، مع استصحاب عدم جعل الترخيص ، للعلم بتحقق أحدهما.

وفيه : انه لا مانع من إجرائهما معا لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.

٦ ـ ان المستصحب لا بدَّ وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا ذي اثر شرعى ، وعدم الحكم ليس بشيء منهما وعدم العقاب من لوازمه العقلية.

وفيه : انه لم يدل دليل على ذلك ، بل الدليل دل على اعتبار كون وضعه ورفعه بيد الشارع ، وعدم الحكم أزلا غير قابل للوضع والرفع ، لكنه بقاء بيد الشارع ، وهذا يكفي في التعبد.

٧ ـ ان استصحاب عدم الحكم ، لا يوجب القطع بعدم العقاب ، لعدم ثبوت الإباحة به ، وعدم كونه أثرا شرعيا فيحتاج معه إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب.

وفيه : ان الآثار العقلية المترتبة على الأثر الشرعي يترتب باستصحابه ، ولذلك التزم هذا المستشكل بترتبه على الإباحة المستصحبة ، فيترتب عدم العقاب على استصحاب عدم الحكم ، وتفصيل القول في الإيرادات الثلاثة الأخيرة ، ونقدها ، وبعض إيرادات أخر وما يتوجه عليه ، تقدمت في مبحث البراءة ، في الاستدلال عليها بالاستصحاب.

٣٩٦

٨ ـ ما أورده الفاضل النراقي (١) على نفسه وأجاب عنه ، وصححه المحقق النائيني (ره) (٢) وحاصل ما ذكره المحقق النائيني ، انه يعتبر في صحة جريان الاستصحاب ، اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك فيه ، فلو علم بنجاسة شيء أول الصبح ، ثم بعد ساعة علم بطهارته ، ثم شك ، لا مجال لجريان استصحاب النجاسة لانتقاض اليقين بها باليقين بالطهارة ، بل يجري استصحاب الطهارة بلا معارض.

وفي استصحاب عدم الجعل في المقام لا يكون زمان المشكوك فيه متصلا بزمان المتيقن ، لفصل المتيقن الآخر بينهما إذ المتيقن الأول هو عدم النجاسة ، والمتيقن الثاني ، هو النجاسة والمشكوك فيه متصل بالثاني دون الأول ، فلا يجري استصحاب عدم النجاسة.

وفيه : ان لنا متيقنين أحدهما : عدم النجاسة الفعلية. ثانيهما : عدم جعل النجاسة ، والذي انتقض باليقين بالنجاسة هو الأول.

واما الثاني : أي عدم جعل النجاسة للمتمم مثلا فهو موجود حتى في حال العلم بالنجاسة ولم ينتقض بعد ، فان اليقين بالنجاسة حال عدم التتميم لا يكون ناقضا لليقين بعدم النجاسة بعدم التتميم كما هو واضح.

__________________

(١) نقل كلامه الشيخ الأعظم في الفرائد ج ٢ ص ٦٤٧ ، ونسبه اليه البعض في حاشيته على منهاج الأصول ص ٢٤٢.

(٢) راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١١ ، وقد نقل كلام النراقي ص ١١٠.

٣٩٧

فالمتحصّل تمامية الإيراد الرابع على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، وهو انه اما ان يكون محكوما لاصالة عدما لجعل ، أو معارض معها.

فالأظهر عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

بقي في المقام أمران لا بدَّ من التنبيه عليهما :

أحدهما : انه قد يتوهم اختصاص ذلك بالاحكام الكلية ، من جهة انه في الشبهات الموضوعية يكون الجعل معلوما فلا يجري استصحاب عدم الجعل.

ولكنه يندفع ، بأنه من جهة ان جعل الأحكام إنما يكون على نحو القضية الحقيقية ، فكل موضوع خارجي من أفراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند الشك لا مانع من استصحاب عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي ، إلا انه قد عرفت عدم ترتب ثمرة عليه فراجع.

ثانيهما : ان ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية إنما هو في الأحكام البعثية والزجرية.

واما الأحكام الترخيصية كالإباحة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها لعدم جريان استصحاب عدم الجعل فيها ، لأنها كانت مجعولة في صدر الإسلام ، اما بنحو العموم ، أو الخصوص ، تأسيساً ، أو إمضاءً.

٣٩٨

الكلام حول جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية

المورد السادس : فيما ذهب إليه جماعة منهم الفاضل التوني (١) من التفصيل بين الأحكام الوضعية والتكليفية ، وعدم حجية الاستصحاب في الأحكام الوضعية ، وحجيته في الأحكام التكليفية.

فلا بد أولا من صرف عنان الكلام إلى تحقيق حال الوضع وانه حكم مستقل في الجعل اوامر انتزاعي ينتزع عما في موارده من الأحكام التكليفية.

وقبل الشروع في البحث لا بدَّ من التنبيه على امر ـ وهو ـ بيان الحكم الشرعي وحقيقته ، وملخص القول في ذلك ، ان الحكم بمعنى ، الثبوت ، والاستقرار ، والاستحكام ، ولذا ، يقال ان الله تعالى يحكم ما يشاء ، أي يثبت ما يشاء ، وقد يطلق الحكم على الأخبار ويقال فلان حكم بمجيء زيد من السفر ، والحكم الشرعي هو ما اثبته الشارع بما انه شارع.

وعليه فان قلنا ان الأحكام الوضعية كلها مجعولات شرعا ، اما بالاستقلال ، أو بالتبع ، يصح إطلاق الحكم على الحكم الوضعي ، وان قلنا ان بعضها غير قابل لذلك وان كان إثباته بيد الشارع لكن بما انه خالق لا بما انه شارع ، فلا يصح إطلاق الحكم الشرعي عليه بأي معنى فرض.

وبذلك يظهر أمور :

__________________

(١) الوافية في الأصول ص ٢٠٢ الناشر مجمع الفكر الإسلامي ـ قم.

٣٩٩

الأول : ضعف ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية (١) بقوله إلا ان صحة تقسيمه بالبعض الآخر اليهما وصحة اطلاقه عليه بهذا المعنى مما لا يكاد ينكر انتهى.

الثاني : عدم تمامية ما أفاده المحقق القمي في القوانين (٢) من ان الحكم عبارة عما يتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير : لما عرفت من انه اعم من ذلك.

الثالث : ان ما أفاده بعض المحققين (٣) من ان كل ما لم يكن حكما تكليفيا ، ولم يكن تكوينيا فهو حكم وضعي ، تام.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الوضع على أنحاء :

١ ـ ما يكون سابقا على التكليف ، كالسببية ، والشرطية ، والمانعية للأمر.

٢ ـ ما يكون لاحقا على التكليف ، كالجزئية ، والشرطية ، والقاطعية لمتعلق

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٩.

(٢) ذكر هذا التعريف المحقق القمي في القوانين في موردين : الأول : في المقدمة ص ٥ والثاني ص ٢٠٤ حيث قال : «بناء على تعريف الحكم : بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين ..».

(٣) كما يظهر من المحقق موسى التبريزي صاحب أوثق الوسائل (المتوفى سنة ١٣٠٥ ه‍. ق) راجع أوثق الوسائل ص ٤٧٤ (هل الأحكام الوضعية مستقلة بالجعل أو منتزعة) فإنه بعد استعراض الأقوال قال : «قال العلامة الطباطبائي في فوائده ... بل كلما استند إلى الشرع وكان غير الاقتضاء والتخيير فهو حكم وضعي» ثم قال : «وهو الحق الذي لا محيص عنه على القول بأن أحكام الوضع مجعولة».

٤٠٠