زبدة الأصول - ج ٥

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-38-1
الصفحات: ٥٦٣

١
٢

٣
٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلواته واكمل تحياته على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما بقية الله في الأرضيين أرواح من سواه فداه.

وبعد فهذا هو الجزء الخامس من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.

٥

الفصل الثالث

من

الأصول العملية

أصالة الاحتياط

٦

الفصل الثالث (١)

في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف إجمالا

وملخص القول فيه : انه لو علم إجمالا بتعلق التكليف من الإيجاب والتحريم بشيء : فتارة يتردد ذلك الشيء بين المتباينين. وأخرى بين الأقل والأكثر.

فلا مناص من البحث في مقامين.

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين

وقبل الشروع في بيان ما هو الحق لا بد وان يعلم انه قد مر في مبحث العلم الإجمالي في القطع ان هذه المسألة معنونة في مباحث القطع وفي مباحث الشك ، وان المناسب للبحث في القطع هو البحث عن كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية ، هل يكون بنحو العلية؟ أو بنحو الاقتضاء؟

ثم بعد الفراغ عن كونه مقتضيا بالنسبة إلى كلا الحكمين ، أو خصوص

__________________

(١) هذا الفصل (أصالة الاحتياط) وقاعدة (لا الضرر) راجعه وأخرج مصادره اخي الحبيب الشيخ مصطفى مصري وكنت قد أشرت الى ذلك في بداية الجزء الرابع.

٧

الأولى منهما ، يبحث في مبحث الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.

لا ما أفاده الشيخ الأعظم من ان المناسب لمباحث العلم هو البحث عن الحكم الأول ولمباحث الشك هو البحث عن الحكم الثاني فراجع (١).

وأيضا قد مر هناك مفصلا ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية يكون مقتضيا وبالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون علة تامة.

وأيضا قد مر في ذلك المبحث انه قد يتوهم التنافي بين كلمات المحقق الخراساني في البابين حيث انه يرى في باب العلم الإجمالي ان العلم الإجمالي مقتض للتنجز وهو يصرح في المقام بكونه علة تامة له.

وبينا مراده الذي يندفع به هذا التوهم. وحاصله ان المعلوم بالإجمال ان كان فعليا من جميع الجهات يكون العلم علة تامة لتنجزه ، وان كان فعليا من جهة يكون مقتضيا له ، هذا ما يفيده في المقام.

وفي مبحث العلم الإجمالي أفاد انه يستكشف من أدلة الأصول كون كل حكم فعليا من جهة ، إلا ما دل دليل على كونه فعليا من جميع الجهات فراجع ما بيناه.

ولكن يرد عليه مضافا ما ذكرناه في ذلك الباب ، انه ان لم يؤخذ العلم دخيلا في الموضوع لا يعقل عدم فعلية الحكم إلا ان يتعلق به العلم التفصيلي ، فإن ترتب الحكم على موضوعه وفعليته عند فعلية موضوعه ، إنما يكون بنحو

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٧٠.

٨

ترتب المعلول على علته التامة ، ولا يعقل التخلف ، مثلا : لو قال الخمر حرام بلا اخذ شيء آخر في الموضوع لو وجد الخمر لا محالة يصير حكمها ، وهو الحرمة فعليا ، وإلا يلزم الخلف.

وبالجملة لا يعقل اخذ العلم بمرتبة من الحكم كالإنشاء دخيلا في مرتبة أخرى وهي الفعلية للتلازم بينهما.

وان اخذ في الموضوع يلزم الدور على المشهور أو الخلف على قول آخر.

والإجماع والضرورة قائمان على عدمه كما حقق في محله ، نعم في القطع الموضوعي يمكن اخذ العلم التفصيلي في الموضوع ، لكنه خارج عن محل الكلام : إذ الكلام في المقام في القطع الطريقي.

وكيف كان فتحقيق القول يقتضي البحث في مقامين :

المقام الأول : في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل من المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، هل يكون مقتضيا للتنجيز؟ أم علة تامة؟ أم لا يكون له اقتضاء؟ أم هناك تفصيل؟

المقام الثاني : في انه على فرض كونه مقتضيا ، هل أدلة الأصول تصلح للشمول لأطرافه أم لا؟ وعلى فرض العدم هل يشمل بعض الأطراف بنحو التخيير أم لا؟

اما المقام الأول : فقد أشبعنا الكلام فيه في ضمن مباحث أربعة في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع ـ وقد عرفت هناك ان المناسب في ذلك المبحث هو البحث في المقام الأول ، والمناسب لمباحث الشك البحث في المقام الثاني.

٩

شمول أدلة الأصول والأمارات لأطراف العلم وعدمه

واما المقام الثاني : فالكلام فيه في موردين :

أحدهما : في شمول أدلة الأمارات والأصول لأطراف العلم الإجمالي ، وعدمه.

ثانيهما : في انه على فرض عدم الشمول لجميع الأطراف ، هل تشمل بعضها أم لا؟

اما المورد الأول : فحيث عرفت ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، إنما يكون من قبيل العلة التامة ، فعدم شمولها لجميع الأطراف مع استلزام جريانها فيها المخالفة القطعية واضحة.

وإنما يصح هذا البحث على مسلك من يرى انه بالنسبة إليها إنما يكون مقتضيا ، وأيضا يصح فيما إذا لم يلزم من جريانها في جميع الأطراف المخالفة القطعية العملية ، كما لو كان إناءان معلومي النجاسة ، سابقا ، وعلم بطهارة أحدهما لاحقا واشتبه الطاهر بالنجس ، فإنه لا يلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما مخالفة عملية لتكليف لزومي.

والمختار عدم جريان الأمارات فيها ، وجريان الأصول من غير فرق بين التنزيلية وغيرها.

اما عدم جريان الأمارات ، فلان الإمارة حجة في مثبتاتها ولو لم يلتفت المخبر إليها ، وعليه فيلزم من جريانها في جميع الأطراف التعبد بالمتضادين.

١٠

مثلا : لو علم بطهارة احد الإنائين ، واخبر ثقة بنجاسة أحدهما ، واخبر آخر بنجاسة الإناء الآخر ، فلو شمل دليل حجية الخبر الواحد لكلا الخبرين لزم التعبد بأن كل إناء نجس وطاهر ، فإن من يخبر عن نجاسة احد الإنائين ، يخبر بالملازمة عن طهارة الآخر وكذلك من يخبر بنجاسة الآخر ، فيلزم من التعبد بهما ، البناء على انهما نجسان وطاهران ، وهو كما ترى.

اما جريان الأصول فيها ، فلوجود المقتضى ، وعدم المانع ، بعد عدم كون الأصل حجة في مثبتاته.

وقد اختار الشيخ الأعظم (١) والمحقق النائيني (٢) ، عدم جريان الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب في جميع الأطراف.

واستدلاله بوجهين :

الأول : ما أفاده الشيخ (٣) ، وهو ان الشك المأخوذ في صدر دليله ، وان كان يعم المقرون بالعلم الإجمالي إلا ان اليقين المجعول في ذيله ناقضا ، يشمل العلم الإجمالي أيضاً ، وبديهي ان الحكم بحرمة النقض في جميع الأطراف ، يناقض الحكم بالنقض في بعضها.

وفيه : ان هذا الوجه يجري في جميع الأصول حتى غير التنزيلية مثل قاعدة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٢٩. ج ٣ ص ٢٢٦ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٥١.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١١١.

(٣) نسبه إلى الشيخ الأنصاري في منتهى الدراية ج ٤ ص ١٤٤ وقال : انه ذكره في رسالة الاستصحاب.

١١

الحل ، حيث انه جعل الغاية فيها العلم ، الشامل للعلم الإجمالي.

مع انه لو سلم التناقض والتنافي ولاجله حكم بالإجمال ، فيمكن الاستدلال بسائر الأدلة التي لا تكون مذيلة بهذا الذيل.

أضف إلى ذلك ، ان الناقض هو اليقين المتعلق ، بعين ما تعلق به اليقين السابق ، فإذا علم بنجاسة احد الإنائين ، ثم علم بغسله إجمالا يكون العلم الثاني ناقضا له.

واما إذا كان اليقين السابق متعلقا بكل واحد بخصوصه ، واليقين اللاحق متعلقا بأحدهما لا بعينه فمثل هذا اليقين لا يصلح للناقضية لليقين السابق لتعدد المتعلق.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان هناك مانعا ثبوتيا عن جريانه.

وحاصله : ان جعل الاستصحابين يضاد مع العلم الإجمالي نفسه ، إذ المجعول في باب الاستصحاب هو البناء العملي على وفق الإحراز السابق ، أي بقائه عملا ، ومن المعلوم ان الحكم ببقاء الاحرازين تعبدا ، وعملا ، يناقض الإحراز الوجداني لعدم بقائهما.

وفيه : ان الاستصحاب إنما يجري في كل منهما بخصوصه ويتعبد ببقاء الإحراز السابق عملا فيه ، ولا نظر له إلى الطرف الآخر ، لفرض عدم حجيته في مثبتاته ، وعليه فلا مانع من جريانهما والعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، لا

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٥.

١٢

يمنع من جريانهما. وتمام الكلام في مبحث الاستصحاب فانتظر.

فالحق انه لا مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي تنزيلية كانت أم غير تنزيلية إلا من ناحية منجزية العلم الإجمالي ولزوم المخالفة القطعية. فإذا فرض عدم المانع من جهته تجري الأصول.

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه

واما المورد الثاني : فقد عرفت ان العلم الإجمالي ، ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، بل يكون مقتضيا له.

وعليه : فيقع الكلام في ان أدلة الأصول وغيرها من الأدلة ، هل تشمل بعض الأطراف ، بنحو يكون لازمه جواز ارتكاب ما زاد عن مقدار الحرام كما عن بعض؟ أم لا تشمل؟ كما عن المشهور.

والكلام في هذا المورد يقع في جهتين :

الأولى : في شمول العمومات.

الثانية : فيما يقتضيه النصوص الخاصة في العلم الإجمالي.

اما الأولى : فالمختار عدم شمول أدلة الأصول للبعض المعين ، ولا للبعض غير المعين ، وشمولها لبعضها تخييرا ، بأن تشمل جميع الأطراف بنحو التخيير.

اما عدم شمولها للمعين ، فلأنه يلزم منه الترجيح بلا مرجح ، ولا يرتفع هذا المحذور بتعليق الشمول على ما يختاره أولا ، فإنه يسأل عن المرجح لشمولها له

١٣

دون الذي لم يختره ، مع كون نسبة الدليل اليهما على حد سواء.

واما عدم شمولها لغير المعين ، فلأنه اما لا مورد لها ، أو لا يفيد شمولها له.

مثلا : لو علمنا بنجاسة احد الماءين ، فإما ان يكون طهارة الآخر معلومة ، أو تكون مشكوكا فيها ، فعلى الأول لا مورد للأصل ، وعلى الثاني لا يفيد ، إذ الطهارة الظاهرية لا تزيد على الطهارة المعلومة فكما ان الطهارة الواقعية المعلومة ، لا توجب عدم وجوب الموافقة القطعية كذلك الطهارة الظاهرية الثابتة بها.

وبالجملة : وجوب الاجتناب عن كل منهما ليس لأجل حكم الشارع بنجاسة كليهما حتى يرتفع بجريان أصالة الطهارة مثلا في أحدهما ، وإنما يكون بحكم العقل من باب احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وهذا الاحتمال الذي يكون موضوع حكم العقل بوجوب دفعه لا يرتفع بالتعبد بطهارة أحدهما غير المعين ، فإن كل واحد منهما بعد ذلك يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا بد وان يدفع هذا الاحتمال ، أو يجتنب بحكم العقل.

هذا لو أريد به غير المعين عندنا ، ولو أريد به غير المعين في الواقع ، فهو لا حقيقة له ، ولا تحقق كي يجري فيه الأصول.

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا

واما شمولها لبعض أطراف العلم الإجمالي تخييرا ، بأن تشمل جميع الأطراف بنحو التخيير ، فتقريبه يتوقف على بيان مقدمة ، وهي :

١٤

ان التخيير على ثلاثة أقسام :

الأول : التخيير الشرعي الذي يحكم به الشارع ابتداء كما في تعارض الخبرين مع عدم المرجح.

الثاني : التخيير الثابت في مورد التزاحم الذي يحكم به العقل فإنه إذا لم يتمكن المكلف من امتثال التكليفين معا لا محالة يسقط الإطلاق من كل من الدليلين ، فتكون النتيجة : ثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر.

أو يسقط الخطابان ويستكشف خطاب تخييري من الملاكين الملزمين ، على اختلاف المسلكين.

الثالث : التخيير الثابت من جهة الاقتصار على المتيقن في رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى ، كما لو ورد عام أفرادي له إطلاق أحوالي مثل ما لو قال اكرم كل عالم فإن مقتضى اطلاقه الاحوالي لزوم إكرام كل فرد ، في كل حال ، حتى في حال إكرام الآخر ، ثم علمنا عدم وجوب إكرام فردين من العلماء كزيد وعمرو مثلا معا ، ودار الأمر بين ان يكون كل منهما خارجا عن تحت العام رأسا فلا يجب إكرامهما ، وبين ان يقيد اطلاقه الاحوالي فيجب إكرام كل منهما عند ترك إكرام الآخر ، ومن المعلوم ان المتعين هو الثاني.

وبعبارة أخرى : الضرورات تتقدر بقدرها ، فالمقدار المعلوم خروجه عن تحت العام هو عدم وجوب إكرامهما معا ، واما الزائد عن ذلك فمقتضى عموم العام ، هو لزوم إكرام كل منهما منفردا ويترتب على هذا ثمرات مهمة في الفقه.

١٥

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم ان المدعى جريان القسم الثالث في المقام دون الاولين ، بدعوى ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول ثبوت الترخيص في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، سواء ارتكب الأطراف الأخر أم لم يرتكب ، وقد علمنا من حكم العقل بقبح الترخيص في المعصية ، انه لم يرخص الشارع في ارتكاب جميع الأطراف ، ودار الأمر بين ان يرفع اليد عن الترخيص في الجميع رأسا ، وبين أن يرفع اليد عن إطلاق الترخيص في كل طرف وتقييده بما إذا لم يرتكب الأطراف الأخر ، وقد عرفت ان المتعين هو الثاني.

ولازم ذلك هو التخيير في ان يطبق الترخيص على أي طرف شاء المكلف.

وبهذا البيان يظهر انه لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أدلة الأصول في المعنيين أي ، الترخيص التعييني في الشبهات البدوية ، والتخييري في المقرونة بالعلم الإجمالي.

وأورد عليه بإيرادات :

أحدهما : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه في المقام حيث يستحيل الإطلاق فيستحيل التقييد أيضاً ، لان التقابل بين الإطلاق والتقييد إنما يكون من تقابل العدم والملكة فإذا لم يمكن الإطلاق ثبوتا كيف يمكن التقييد في مقام الإثبات.

وفيه : انه في موارد العدم والملكة ، امتناع أحدهما لا يستلزم امتناع الآخر ، بل ربما يكون الآخر ضروريا ، مثلا الجهل في المبدأ إلا على محال ، والعلم

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤٥. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٢١.

١٦

ضروري ، والغنى في الممكن محال ، والفقر ضروري ، وهكذا.

اما في الإطلاق والتقييد ، فإذا امتنع أحدهما لمحذور فيه ، وكان ذلك في الآخر يكون هو أيضاً محالا ، مثلا : تقييد وجوب الصلاة بخصوص العاجزين محال ، والإطلاق أيضاً محال لعين ذلك المحذور ، وهو قبح التكليف بما لا يطاق.

ولو لم يكن ذلك المحذور في الآخر كما في تقييد الولاية بالفاسق ، فإنه ممتنع لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، يكون الإطلاق أو التقييد بمقابله ضروريا بعد امتناع الإهمال في الواقع ، وفي المقام بما انه يترتب محذور على الإطلاق وهو لزوم الترخيص في المعصية ، وهذا المحذور ليس في التقييد لا يكون محالا.

ثانيها : ان دليل عدم الإطلاق بما انه كالمتصل لكونه من البديهيات ، وهو يكون مجملا مرددا بين ان يقيد به الإطلاق الاحوالي أو الافرادي ، واجماله يسري إلى العام فلا وجه للتمسك بالإطلاق الافرادي لأدلة الأصول.

وفيه : ان المقيد في المقام ليس مجملا فإن الترخيص في المعصية ليس أمرا مجملا ، بل من المفاهيم الواضحة ، وهو إنما يترتب على الإطلاق الاحوالي دون الافرادي ، فلا محالة يوجب تقييده خاصة.

ثالثها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) وحاصله ان المأخوذ في أدلة الأصول موضوعا لها ، هو عدم العلم لا الشك ، اما في مثل (رفع عن أمتي ... ما

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢٤٦.

١٧

لا يعلمون) (١) (إن الناس في سعة ما لم يعلموا) (٢) فواضح.

واما مثل (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) (٣) فلأنه من جعل الغاية العرفان والعلم ، يستكشف ، ان المغيا ، هو ما لم يعلم وحيث ان العلم المجعول غاية أعم من الإجمالي والتفصيلي فكذا عدم العلم المأخوذ موضوعا هو عدم العلم الإجمالي والتفصيلي.

وعليه فلا يشمل أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي أصلاً.

وفيه : انه لو كان المقصود اجراء اصل واحد في جميع الأطراف كان ما ذكر متينا ، ولكن الذي يجري فيه الأصل هو كل طرف بخصوصه ، وهو كما يكون مشكوكا فيه يكون غير معلوم : إذ المعلوم بالإجمال هو الجامع وكل خصوصية وطرف غير معلوم ، فلا فرق بين كون الموضوع هو الشك أو عدم العلم.

رابعها : ما أفاده المحقق صاحب الدرر (ره) (٤) ، وهو ان الأدلة الدالة على ان العالم يحتج عليه ما علم ، وانه في غير سعة من معلوماته يقتضي الاحتياط بحكم العقل وينافى الترخيص الذي استكشفناه من الإطلاق ـ مضافا ـ إلى منع إطلاق الأدلة المرخصة ، بل هي متعرضة لحكم الشك من حيث انه شك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٥ ص ٣٦٩ ح ٢٠٧٦٩.

(٢) عوالي اللئالي ج ١ ص ٤٢٤ / مستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٢٠.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٧٨ ح ٢٢٠٥٠ وكذلك في الجزء ٢٤ و ٢٥. ووردت روايات أخرى فيها كلمة حتى تعلم.

(٤) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١١٧.

١٨

وفيه : اما الأدلة الدالة على ان العالم في غير سعة من معلوماته ، فهي متضمنة لبيان حكم إرشادي إلى ما يحكم به العقل ، وليست في مقام بيان حكم مولوي ، لما مر من ان الأمر بالاطاعة والنهي عن المعصية لا يكونان مولويين.

واما حكم العقل فهو حكم تعليقي يرتفع بورود الترخيص ولا ينافيه.

واما ما ذكره من منع الإطلاق ، فيرد عليه انه لم يشك احد في التمسك بإطلاقها في موارد الشبهات البدوية ، ويتمسك بها فيها بكلا اطلاقيها.

خامسها : ما أفاده الأستاذ المحقق وحيد عصره الخوئي (١) ، وهو ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس استلزامه الترخيص في الجمع ، وإلا لزم الالتزام بشمول الأدلة لجميع الأطراف ابتداءً فيما إذا كانت امورا متضادة ، مع ان المفروض خلافه.

بل المانع هو الجمع في الترخيص ، وذلك لا يرتفع بتقييد الترخيص في كل منها بعدم ارتكاب الآخر فإن المكلف إذا لم يرتكب شيئا من الأطراف كان الترخيص في جميعها فعليا لا محالة ، وهو مستلزم للعلم بترخيص ما علم حرمته بالفعل.

وبتقريب آخر : إذا علمنا حرمة احد الماءين وإباحة الآخر ، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح يقينا كما ان الإباحة غير مقيدة بترك الحرام قطعا ، فالحكم بإباحة كل منهما المقيدة مناف للحكم بالحرمة ، والإباحة المطلقتين ، وقد مر غير مرة ان الحكم الظاهري لا بد وان يحتمل مطابقته للواقع والإباحة المشروطة لا

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٦٠.

١٩

يحتمل مطابقتها للواقع بالضرورة.

وبعبارة أوضح : ان الإباحة الظاهرية إنما لا تنافي الحرمة الواقعية إذا لم تصل الحرمة ، وإلا كانت منافية معها وقد مر توضيح ذلك في محله.

وإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو كان متعلقة مرددا بين أمرين أو أمور ، ولم يكن متميزا في الخارج عن غيره ، فكيف يعقل ثبوت حكم آخر على خلافه؟ وهل هو إلا من الجمع بين المتضادين؟

ولكن يرد على ما أفاده :

أولا : ان المحذور هو الترخيص في المعصية ، وهذا لازم الترخيص في الجمع ، لا الجمع في الترخيص ، فالمانع هو الأول دون الثاني ، وما ذكره من النقض نلتزم به ولا نرى فيه محذورا.

ويرد على ما أفاده بتقريب آخر ، انه يشترط في صحة جعل الحكم الظاهري احتمال مصادفة المجعول بنفسه للواقع ، واما مصادفة قيده له فلم يدل دليل عليها ، وإباحة كل من الطرفين في فرض عدم ارتكاب الآخر يحتمل مصادفتها للواقع ، غاية الأمر على فرض المصادفة يكون الاباحة الواقعية ثابتة حتى في فرض ارتكاب الآخر.

ويرد على ما أفاده اخيرا

أولا : بالنقض بما إذا لم يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية فإنه دام ظله ملتزم بالجريان ، مع ان لازم ما أفاده عدم الجريان.

وثانيا : انه دام ظله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، أفاد ان

٢٠