أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين ، وعليه أتوكل
الحمد لله ذي النعم الجليلة والمنن الجزيلة ، الداعي إلى الرشاد ، والهادي إلى السداد ، ذي الفضل الجسيم والإحسان العميم ، الشامل لطفه ، الكريم عطفه ، الغالب سلطانه ، الواضح برهانه ، المتم نوره : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة آية ٣٢] ، المعلي دينه ولو رغم المنافقون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وبيده الآخرة والأولى ، وما عنده خير وأبقى ، لا يجلب الخير إلا بمعونته ، ولا يدفع الضر إلا بمغوثته.
وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المرتضى ، صلّى الله عليه وعلى آله الذين اصطفى ، وبعد
فإنك ـ سددك الله ـ ذكرت أنك طالعت الكتب المصنفة في الوجوه والنظائر من كتاب الله جل ثناؤه ، فوجدت فيها تأويلات تطرد على أصول أهل الحق من القائلين بالتوحيد والعدل.
فأردت أن يرد كل شيء منها إلى حقه ، وألفيت في معانيها ما يدخل بعضه في بعض ، فالتمست إيراد كل نوع منها على وجهه ، وتوخيت أن يكون ما تفرق منها مجموعا في كتاب واحد على وجه يقرب استخراج ما يراد منه عند الحاجة إليه ، ويزاد عليه ما كان من جنسه مما لم تتكلم فيه السلف.
فعملت كتابي هذا مشتملا على أنواع هذا الفن ، محمولا على ما طلبت ، ومسلوكا به طريق ما سألت ، قد نفي اللبس عن جميعه ، ويبين الصواب في صنوفه ، وميزت وجوهه تمييزا صحيحا ، وقسمت أبوابه تقسيما مليحا.
وذكر أصل كل كلمة منه واشتقاقها في العربية ؛ لتكثر فائدتك به ، ونظم على نسق حروف المعجم ؛ ليتيسر الوصول إلى المطلوب من أنواعه ، ويتسهل نيل ما ينبغي من أصنافه.
فأبتدئ منه بما كان في أوله ألف أصلية أو زائدة ، ثم بما كان في أوله باء ، ثم كذلك إلى آخر الحروف.
والله المعين على ما فيه رضاه ، وهو حسبنا ونعم الحسيب.
الباب الأول
في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ألف
إمام
قال الشيخ أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل رحمهالله :
الإمام أصله : القصد (١).
__________________
(١) الإمام : الذي له الرياسة العامة في الدين والدنيا جميعا. ينظر التعريفات للجرجاني (أ م م).
وأمّا الهمزة والميم فأصل واحد ، يتفرّع منه أربع أبواب ، وهي الأصل ، والمرجع ، والجماعة ، والدّين ، وهذه الأربعة متقاربة ، وبعد ذلك أصول ثلاثة ، وهي القامة ، والحين ، والقصد ، قال الخيل : الأمّ الواحد والجمع أمّهات ، وربما قالوا أمّ وأمّات. قال شاعر وجمع بين اللّغتين :
إذا الأمّهات قبحن الوجوه |
|
فرجت الظّلام بأمّاتكا |
وتقول العرب : " لا أمّ له" في المدح والذمّ جميعا. قال أبو عبيدة : ما كنت أمّا ولقد أممت أمومة. وفلانة تؤمّ فلانا أي تغذوه ، أي تكون له أمّا تغذوه وتربّيه.
وتقول أمّ وأمّة بالهاء. قال :
تقبّلتها من أمّة لك طالما |
|
تنوزع في الأسواق عنها خمارها |
قال الخيل : كلّ شيء يضّمّ إليه ما سواه مما يليه فإنّ العرب تسمّي ذلك الشيء أمّا. ومن ذلك أمّ الرأس وهو الدّماغ. تقول أممت فلانا بالسيّف والعصا أمّا ، إذا ضربته ضربة تصل إلى الدماغ. والأميم : المأموم ، وهي أيضا الحجارة التي تشدخ بها الرؤوس ؛ والشّجة الآمّة : التي تبلغ أمّ الدماغ ، وهي المأمومة أيضا. قال :
يحجّ مأمومة في قعرها لجف |
|
فاست الطّبيب قذاها كالمغاريد |
قال الخليل : أمّ التّنائف أشدّها وأبعدها. وأمّ القرى : مكّة ؛ وكلّ مدينة هي أمّ ما حولها من القرى ، وكذلك أمّ رحم وأمّ القرآن : فاتحة الكتاب. وأمّ الكتاب : ما في اللّوح المحفوظ. وأمّ الرّمح : لواؤه وما لفّ عليه. قال :
وسلبن الرّمح فيه أمّه |
|
من يد العاصي وما طال الطّول |
وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها : أمّ مثوى ، وللرّجل أبو مثوى. قال ابن الأعرابيّ : أمّ مرزم الشّمال ، قال :
إذا هو أمسى بالح لاءة شاتيا |
|
تقشّر أعلى أنفه أمّ مرزم. |
وأم كلبة الحمّى. ففيه قول النبي صلىاللهعليهوسلم لزيد الخليل : " أبرح فتى إن نجا من أمّ كلبة". وكذلك أمّ ملدم ، وأمّ النّجوم : السّماء. قال تأبّط شرّا :
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي |
|
بحيث اهتدت أمّ النّجوم الشّوابك |
انظر معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس مادة (أ م م).
وسمي الإمام إماما ؛ لأنك تقصد قصده في أفعاله.
وقيل للخليفة : إمام ؛ لأنك تقصد قصد أوامره ، أو لأنه يتقدم ، فتتبع أثره.
والطريق (١) : إمام ؛ لأنه يقصد. وقد أممت ، إذا قصدت.
وأصل التيمم : التأمم ، وهو تفعل من ذلك. وأمر أمم : قصد ، وهو ما بين القريب والبعيد.
وأم الشيء : أصله ، ترجع إلى هذا ؛ لأن كل من يريد الشيء فإنما يقصد أصله ، فيبتدئ به في أكثر الحال.
وأم الدماغ : الجلدة الرقيقة التي تجمعه.
وسميت الأم أما ؛ لأن ولدها يتبعها.
وسميت سورة الحمد : أم الكتاب ؛ لأنها تتقدم الكتاب ، فهو تابع لها كما يتبع الولد أمه.
والإمام في القرآن على أربعة أوجه :
أولها : بمعنى القائد ، قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [سورة البقرة آية ١٢٤] ، أي : قائدا في الخير مقتدى بك.
__________________
(١) الإمام : الطريق ، قال تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ). والأمام : بمنزلة القدّام ، وفلان يؤمّ القوم ، أي : يقدمهم. وتقول : صدرك أمامك ، ترفعه ، لأنّك جعلته اسما ، وتقول : أخوك أمامك ، تنصب ، لأنّ أمامك صفة ، وهو موضع للأخ ، يعنى به ما بين يديك من القرار والأرض. العين مادة (أ م م).
وقال الألوسي في روح البيان ١٠ / ٥٨ : إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليهالسلام بأنها (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي لبطريق واضح يتكرر مع الأخبار عنها آنفا ، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين ، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم : الضمير يعود على لوط وشعيب عليهماالسلام أي وانهما لبطريق من الحق واضح.
وقال الجبائي : الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب ، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ.
والجعل هاهنا بمعنى القضاء ، أي : قاض لك بالتقدم على الناس بالنبوة ليقتدوا بك ، : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [سورة البقرة آية ١٢٤] ، يجوز أن يكون سؤالا : أن يجعل من ذريته أنبياء ، ويجوز أن يكون استخبارا ، فقال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية ١٢٤] ، أي : ينال عهدي المؤمنين من ذريتك دون الظالمين لأنفسهم.
والعهد هاهنا : النبوة والوحي ، وقيل : الرحمة ، وقيل : الوعد ، والأول الوجه.
ومثله : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [سورة الفرقان آية ٧٤] ، أي : الطف بنا حتى نصير من التقوى والصلاح بحيث يقتدي بنا المتقون. ويجوز أن يكون المعنى : حتى نكون يوم القيامة من أئمة المتقين نتقدمهم في المضي إلى الجنة ويتبعوننا.
وقال : إماما ، وأراد أئمة ، سماهم بالمصدر.
أم يؤم إماما وإمامة ، كما تقول : جل جلالا وجلالة ، ومثله : الكتاب والكتابة ، وقيل : معناه : اجعلنا للمتقين بالائتمام بهم ، أي : اجعلنا أتباعا لهم.
ونحوه قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [سورة هود آية ١٧ ، الأحقاف ١٢] ، يعني : التوراة يقتدى بها.
الثاني : الكتاب ، قال الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [سورة الإسراء آية ٧٢] ، أي : بكتابهم الذي فيه أعمالهم. وقيل : بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة. وقيل : بدينهم.
الثالث : قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [سورة يس آية ١٢] ، يعني : اللوح المحفوظ ، والشاهد قوله : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [سورة يس آية ١٢] ، أي : نكتب ما سلف من أعمالهم ، وما أثروه في الدنيا من سنن الخير أو الشر ، ثم قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي : وكتبنا كل شيء في اللوح المحفوظ ؛ لتعتبر الملائكة بما يكون من ذلك لأوقاته ، لا لمخافة النسيان ؛ لأن النسيان لا يجوز على الله.
الرابع : الطريق ، قال الله تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [سورة الحجر آية ٧٩]. أي : بطريق واضح تمرون عليها في أسفاركم ، يعني : القريتين المهلكتين ؛ قرية قوم لوط وأصحاب الأيكة.
الأمة (١)
راجعة إلى القصد ، وهي : الجماعة التي تقصد الأمر بتضافر وتعاون. وقولنا : أمة محمد صلّى الله عليه ، معناه : الجماعة القاصدة لتصديقه ، المتفقة في أصول دينه ، وإن اختلفت في الفروع.
ويجوز أن يكون أصل الكلمة الجمع. فقيل للرجل : أمة ؛ لأنه يسد مسد الجماعة. والإمام : إمام ؛ لاجتماع القوم عليه. والأم ؛ لجمعها أمر الولد (٢).
والأمة : الدهر ؛ لأنها جماعة شهور وأعوام ، وهو قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [سورة يوسف آية ٤٥]. وقيل : يريد بعد حين أمة فحذف.
وأمه : إذا قصد الاجتماع معه. وفلان حسن الأمة ، أي : القامة ؛ وذلك لاجتماع خلقه على الاستواء.
والأمي : قيل : من الأمة الجماعة ، أي : على أصل ما عليه الأمة ، وقيل : هو من الأم.
وهي في القرآن على عشرة أوجه :
__________________
(١) الأمة : الجماعة ، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير ، ومنه قوله تعالى : " إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ" ، وقال صلىاللهعليهوسلم في زيد بن عمرو بن نفيل : (يبعث أمة واحده) لانه لم يشرك في دينه غيره ، والله أعلم.
وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى : "(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) " أي على دين وملة ، ومنه قوله تعالى : "(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ". وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى : "(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)" أي بعد حين وزمان. ويقال : هذه أمة زيد ، أي أم زيد.
والامة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الامة ، أي حسن القامة ، قال : وإن معاوية الاكرمين؟ حسان الوجوه طوال الامم وقيل : الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم [القرطبي : ٢ / ١٢٧].
(٢) تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إماما لذريته ، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى" الأمة" إلى طاعة لله ، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره ، من قول الله عزوجل إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [سورة النحل : ١٢٠] ، يعني بقوله" أمة" ، إماما في الخير يقتدى به ، ويتّبع عليه. ينظر تفسير الطبري ٤ / ٢٧٦.
أولها : الجماعة ، قال الله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة آية ١٢٨] ، أي : جماعة ، ومثله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) [سورة البقرة آية ١٢٤] ، وقوله تعالى : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [سورة آل عمران آية ١١٣] ، وقوله : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) [سورة المائدة آية ٦٦] ، وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) [سورة الأعراف آية ١٥٩].
الثاني : الملة ، قال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة البقرة آية ٢١٣]. يعني : أهل أمة واحدة ، أي : ملة ؛ فحذف لبيان المعنى (١) ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية ٨٢].
وسميت الملة أمة ؛ لاجتماع أهلها عليها ، ويجوز أن يقال : أنها سميت أمة ؛ لأنها تقصد وتتبع.
والمراد أن الناس كانوا على الكفر فيما بين آدم ونوح ، أو فيما بين نوح وإبراهيم ، فبعث الله النبيين عليهمالسلام بالأوامر والنواهي والبشارات والزواجر ، : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [سورة البقرة آية ٢١٣] ، أي : الذي فيه الحق ؛ ليكون فصلا بين المختلفين بما فيه من التمييز بين الصواب والخطأ ، وهو مثل قولك : ذهب به ، وخرج به ، وما أشبهه (٢).
__________________
(١) وأصل" الأمة" ، الجماعة تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن" الأمة" من الخبر عن" الدين" ، لدلالتها عليه ، كما قال جل ثناؤه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة المائدة : ٤٨ سورة النحل : ٩٣] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله : " كان الناس أمة واحدة" ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
(٢) جائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك ـ ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك. فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عزوجل : من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل. ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به ، إذا لم يكن العلم به لله طاعة ، غير أنه أي ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها" يونس" : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس : ١٩]. فتوعّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك
الثالث : أهل الإسلام بعينه ، قال الله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [سورة يونس آية ١٩] ، يعني : حالهم على عهد آدم ، وما كانوا عليه في سفينة نوح. ومثله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة النحل آية ٩٣] ، ومثله في المائدة ، أي : لو شاء الله لجعلكم متفقين على الإسلام قهرا ، كما قال تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [سورة الشعراء آية ٤].
الرابع : قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة الأنبياء آية ٩٢]. أي : ملتكم ، فهي هاهنا الملة بعينها ، وفي الأول : الجماعة المتفقة على الملة الواحدة كما بينا.
قال الزجاج : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ، : (أُمَّتُكُمْ) رفع ؛ لأنه خبر هذه ، المعنى : أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق ، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها ، فنصب : (أُمَّةً واحِدَةً) على الحال.
وقرئ : أمة واحدة على أنها خبر بعد خبر ، ومعناه : إن هذه أمة واحدة سورة ليست آية أمما ، ويجوز أن يكون نصب : (أُمَّتُكُمْ) على التوكيد كأنه قال : إن أمتكم كلها أمة واحدة.
الخامس : قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [سورة هود آية ٨]. يعني : سنين.
ومثله قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [سورة يوسف آية ٤٥]. أي : بعد حين.
وسمي الحين أمة ؛ لأنه جماعة أوقات وشهور. وقيل : هو على حذف : أي : بعد حين أمة ، أي : جماعة.
__________________
ـ لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
وقرئ : بعد أمه ، أي : بعد نسيان. وقيل : (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) ، أي : جماعة معدودة ، بأنه ليس فيها من يؤمن ؛ فإذا صارت كذلك أهلكت بالعذاب.
السادس : قوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) [سورة النحل آية ٩٢] ، يعني : قوما يكونون أربى من قوم ؛ أي : أكثر عددا ، ومنه الربا ؛ لأنه زيادة في أصل المال.
ومثله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) [سورة الحج آية : ٣٤]. أراد أنه جعل لكل أمة من الأمم التي خلت فيها الرسل منسكا ؛ وهو الذبائح التي كان أمرهم أن يتقربوا بها إلى الله ـ ونتكلم في ذلك فيما بعد إن شاء الله ـ ولم يرد جميع الأمم ؛ لأنه لم يجعل للمجوس وعباد الأصنام مناسك (١).
السابع : الإمام ، قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) [سورة النحل آية ١٢٠]. أي : إماما يقتدى به في الخير.
وقيل الأمة : الرجل العظيم ، وسمي بذلك ؛ لأنه يؤم في الحوائج ؛ أي : يقصد.
__________________
(١) لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة ، والامة القوم المجتمعون على مذهب واحد ، أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم ، قاله مجاهد : يقال : نسك إذا ذبح ينسك نسكا.
والذبيحة نسيكة ، وجمعها نسك ، ومنه قوله تعالى : " (أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) " (١) [البقرة : ١٩٦].
والنسك أيضا الطاعة.
وقال الازهرى في قوله تعالى : "(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً)" : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع ، أراد مكان نسك. ويقال : منسك ومنسك ، لغتان ، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين ، الباقون بفتحها.
وقال الفراء : المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى.
وقال ابن عرفة في قوله : " ولكل أمة جعلنا منسكا" : أي مذهبا من طاعة الله تعالى ، يقال : نسك نسك (٢) قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل : منسكا عيدا ، قاله الفراء. وقيل : حجا ، قاله قتادة.
والقول الاول أظهر ، لقوله تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ذبح ما رزقهم.
فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له ، لانه رازق ذلك.
ثم رجع اللفظ من الخبر عن الامم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالاله واحد لجميعكم ، فكذلك الامر في الذبيحة إنما ينبغى أن تخلص له.
الثامن : أمة كل رسول ؛ يعني : من بعث إليه الرسل من أمثال عاد ، وثمود ، وقوم لوط ؛ وهو قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) [سورة الحجر آية ٥ ، المؤمنون ٤٣] ، يعني : من هذه الأمم لم تسبق أجلها في العذاب.
وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر آية ٢٤]. يعني : الأمة من هذه الأمم ؛ لأن الفرس والسند والهند والزنج أمم ولم يبعث فيها نذير ، وإنما كانوا متعبدين بتصديق من بعث في غيرهم من الأنبياء ، على حسب ما يعبدوا بتصديق محمد صلىاللهعليهوآله ، ولم يبعث فيهم.
التاسع : قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران آية ١١٠]. يعني : أمة محمد صلىاللهعليهوآله خاصة.
وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [سورة البقرة آية ١٤٣]. أي : عدلا. وهو من واسطة القلادة ، وليس من قولهم : هذا شيء وسط. إذا كان بين العالي والمنحط ، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وعلى آله : " أنا أوسط قريش نسبا".
وله وجه آخر : وهو أن الوسط : العدل ، وسمي بذلك ؛ لأنه بين غلو الغالي وتقصير المقصر (١).
__________________
(١) وأما" الوسط" ، فإنه في كلام العرب الخيار. يقال منه : " فلان وسط الحسب في قومه" ، أي متوسط الحسب ، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه ، و" هو وسط في قومه ، وواسط" ، كما يقال : " شاة يابسة اللبن ويبسة اللبن" ، وكما قال جل ثناؤه : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) [سورة طه : ٧٧] ، وقال زهير بن أبي سلمى في" الوسط" :
هم وسط ترضى الأنام بحكمهم |
|
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم |
قال أبو جعفر : وأنا أرى أن" الوسط" في هذا الموضع ، هو" الوسط" الذي بمعنى : الجزء الذي هو بين الطرفين ، مثل" وسط الدار" محرّك الوسط مثقّله ، غير جائز في" سينه" التخفيف.
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم" وسط" ، لتوسطهم في الدين ، فلا هم أهل غلوّ فيه ، غلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ـ ولا هم أهل تقصير فيه ، تقصير اليهود الذين بدّلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربهم ، وكفروا به ؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأما التأويل ، فإنه جاء بأن" الوسط" العدل. وذلك معنى الخيار ، لأن الخيار من الناس عدو لهم.
ومعنى الآية على هذا : إنكم لم تغلوا في الأنبياء غلو النصارى في عيسى ، إذ قالوا : إنه إله. ولم تقصروا فيهم تقصير اليهود ، إذ قالوا : إنه كذاب.
ومن الأول قولهم : فلان وسيط في حسبه ، أي : هو الكامل المتناهي.
وفي الآية دليل على أن الأمة لا تجتمع على الباطل.
والوسط بالإسكان : الموضع.
والوسط بالتحريك : ما بين طرفي كل شيء ، وأصل الكلمة العدل ، فالمكان لا يمتد إلى المسافة إلى أطرافه.
والرجل الأوسط في قومه : الذي تكلله الشرف من نواحيه.
العاشر : قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) [سورة الرعد آية ٣٠]. يعني : الكفار من أمة محمد صلّى الله عليه ، وقد تقدم ذكر الأمم والرسل في القرآن ، فعطف قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ). على أولئك الرسل ، فكأنه قال : كما أرسلنا إلى أمم رسلا من قبل أرسلناك إلى أمة ، يعني : هذه الأمة ، و : (خَلَتْ). أي : مضت ولم تبق منهم باقية.
وفي هذا التزهيد في الدنيا والحث على الاعتبار بمن سلف. ثم قال : (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [سورة الرعد آية ٣٠]. أي : لتتلوه عليهم وتدعوهم إلى العمل به فحذف ذلك.
وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [سورة الرعد آية ٣٠]. موصول بقوله : (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ). الكفر بالرحمن دينهم.
والأصل في هذا كله واحد إلا أن موضع الاستعمال يختلف (١).
__________________
ـ ذكر من قال : " الوسط" العدل. ينظر تفسير الطبري ٣ / ١٤٠ ـ ١٤١.
(١) قال الخيل : الأمّة : الدّين ، قال الله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف ٢٢].
وحكى أبو زيد : لا أمّة له ، أي لا دين له. وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في زيد بن عمرو بن نفيل : " يبعث أمّة وحده".
وهاهنا وجه آخر ، وهو قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [سورة الأنعام آية : ٣٨]. لما جعلها أمثالهم في الخلق والموت والبعث جعلها أمما.
__________________
ـ وكذلك كلّ من كان على دين حقّ مخالف لسائر الأديان فهو أمّة. وكلّ قوم نسبوا إلى شيء وأضيفوا إليه فهم أمّة ، وكلّ جيل من النّاس أمّة على حدة.
وفي الحديث : " لو لا أنّ هذه الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها ، ولكن اقتلوا منها كلّ أسود بهيم".
فأمّا قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة ٢١٣] ، فقيل كانوا كفّارا فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين. وقيل : بل كان جميع من مع نوح عليهالسلام في السفينة مؤمنا ثمّ تفرقوا. وقيل : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل ١٢٠] ، أي إماما يهتدى به ، وهو سبب الاجتماع. وقد تكون الأمّة جماعة العلماء ، كقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) [آل عمران ١٠٤].
وقال الخيل : الأمّة القامة ، تقول العرب إنّ فلانا لطويل الأمّة ، وهم طوال الأمم ، قال الأعشى :
وإنّ معاوية الأكرمين |
|
حسان الوجوه طوال الأمم |
قال الكسائيّ : أمّة الرجل بدنه ووجهه. قال ابن الأعرابيّ : الأمّة الطاعة ، والرّجل العالم.
قال أبو زيد : يقال إنّه لحسن أمّة الوجه ، يغزون السّنّة ، ولا أمّة لبني فلان ، أي ليس لهم وجه يقصدون إليه لكنهم يخبطون خبط عشواء.
قال اللّحيانيّ : ما أحسن أمّته أي خلقه. قال أبو عبيد : الأمّيّ في اللغة المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب ، فهو [في] أنّه لا يكتب على ما ولد عليه.
قال : وأمّا قول النّابغة :
* وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع*
فمن رفعه أراد سنّة ملكه ، ومن جعله مكسورا جعله دينا من الائتمام ، كقولك ائتم بفلان إمّة.
والأمة في قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف ٤٥] ، أي بعد حين.
والإمام : كلّ من اقتدي به وقدّم في الأمور. والنبيّ صلىاللهعليهوسلم إمام الأئمة ، والخليفة إمام الرّعية ، والقرآن إمام المسلمين. قال الخليل : الإمّة النّعمة. قال الأعشى :
* وأصاب غزوك إمّة فأزالها*
انظر مقاييس اللغة مادة (أ م م).
الأخذ (١)
أصله : الجمع ، ومنه يقال للموضع الذي يجتمع فيه ماء السماء : الأخذ ، والجمع إخاذ ، ويقال له : وخذ أيضا ، ويقال : ولي على الشأم وما أخذ إخذه ؛ أي : اجتمع مع أعماله. ومآخذ الطير : مصائدها ؛ لأنها تجتمع فيها ، والاتخاذ : أخذ الشيء لأمر يستمر.
واستعمل في القرآن على ستة أوجه :
أولها : القبول ، قال الله تعالى : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) [سورة المائدة آية : ٤١]. أي : اقبلوه. وقوله : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [سورة التوبة آية : ١٠٤]. أي : يقبلها ، ومعنى قبوله لها إثابته عليها. وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) [سورة الأنعام آية : ٧٠]. أي : لا يقبل منها فدية ، والعدل : الفدية ، وسنذكره إن شاء الله.
ومثله قوله : (خُذِ الْعَفْوَ)(٢) [سورة الأعراف آية ١٩٩]. أي : اقبل الفضل من أموالهم.
__________________
(١) الفرق بين الاخذ والاتخاذ : أن الاخذ مصدر أخذت بيدي ويستعار فيقال أخذه بلسانه إذا تكلم فيه بمكروه ، وجاء بمعنى العذاب في قوله تعالى" (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ)" وقوله تعالى" (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ)" وأصله في العربية الجمع ومنه قيل للغدير وخذ وأخذ جعلت الهمزة واوا والجمع وخاذ واخاذ ، والاتخاذ أخذ الشئ لامر يستمر فيه مثل الدار يتخذها مسكنا والدابة يتخذها قعدة ، ويكون الاتخاذ التسمية والحكم ومنه قوله تعالى" (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)" أي سموها بذلك وحكموا لها به [الفروق اللغوية : ١ / ٢٩].
(٢) قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : تأويله : (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس ، وهو الفضل وما لا يجهدهم. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن مجاهد ، في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : عفو أخلاق الناس ، وعفو أمورهم.
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) ، .. الآية. قال عروة : أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن الزبير قال : ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ، الآية.
__________________
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : بلغني عن مجاهد : (خُذِ الْعَفْوَ) ، من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
ـ .... قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن وهب بن كيسان ، عن ابن الزبير : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : من أخلاق الناس ، والله لآخذنّه منهم ما صحبتم.
ـ .... قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن الزبير قال : إنما أنزل الله : (خُذِ الْعَفْوَ) ، من أخلاق الناس.
ـ حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : من أخلاق الناس وأعمالهم ، من غير تحسس ـ أو تجسس ، شك أبو عاصم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خذ العفو من أموال الناس ، وهو الفضل. قالوا : وأمر بذلك قبل نزول الزكاة ، فلما نزلت الزكاة نسخ. ذكر من قال ذلك :
ـ حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله (خُذِ الْعَفْوَ) ، يعني : خذ ما عفا لك من أموالهم ، وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه.
ـ حدثني محمد بن الحسين. قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (خُذِ الْعَفْوَ) ، أما" العفو" : فالفضل من المال ، نسختها الزكاة.
ـ حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) ، يقول : خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة.
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله نبيّه صلىاللهعليهوسلم بالعفو عن المشركين ، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض قتالهم عليه. ذكر من قال ذلك :
ـ حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال : ثم أمره بالغلظة عليهم ، وأن يقعد لهم كل مرصد ، وأن يحصرهم ، ثم قال : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ، [سورة التوبة : ٥ ، ١١] الآية ، كلها. وقرأ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، [سورة التوبة : ٧٣ / سورة التحريم : ٩] قال : وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ، [سورة التوبة : ١٢٣] بعد ما كان أمرهم بالعفو. وقرأ قول الله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ، [سورة الجاثية : ١٤] ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل ، فنسخت هذه الآية العفو.
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : خذ العفو من أخلاق الناس ، واترك الغلظة عليهم وقال : أمر بذلك نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم في المشركين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمه نبيّه صلىاللهعليهوسلم محاجّته المشركين في الكلام ، وذلك قوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) ، وعقّبه بقوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) ، فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيّه صلىاللهعليهوسلم في عشرتهم به ، أشبه وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين. [جامع البيان : ١٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٩].
قال ابن عباس : العفو ما عفا من أموالهم ؛ وهو الفضل منها بعد الكل والعيال ، ثم نزلت آية الزكاة ، وهو قول مقاتل.
وقال الحسن ومجاهد : أمر النبي صلىاللهعليهوآله أن نأخذ العفو من أخلاق الناس.
والعفو هو التيسير والتسهيل ، والمعنى : استعمال العفو ، وقبول ما سهل من الأخلاق ، وترك الاستقصاء في المعاملات ، وقبول العذر من المذنب ، وإلى نحو هذا ذهب أبو علي رضي الله عنه.
وقال بعضهم : خذ ما أتاك عفوا من إيمان قومك وغيرهم ، وينبغي أن يكون هذا قبل فرض السيف.
وقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [سورة الحشر آية ٧]. أي : اقبلوه واعملوا به.
الثاني : الحبس ، قال الله تعالى : (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) [سورة يوسف آية ٧٨]. أي : احبس ، : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ) [سورة يوسف آية ٧٩]. أي : نحبس ، ومثله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [سورة يوسف آية ٧٦]. وذلك أنه إذا حبس فقد حصل محصل الأسير ، [والأسير] يقال له : الأخيذ.
الثالث : العقاب ، قال الله تعالى : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) [سورة غافر آية ٥]. أي : عاقبتهم. وقوله : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) [سورة هود آية ١٠٢]. أي : عقابه. وقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [سورة العنكبوت آية ٤٠]. أي : عاقبنا ، وفي هذا دليل على أن من لم يفعل ما وجب عليه فقد فعل ذنبا.
الرابع : القتل ، قال الله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [سورة غافر آية ٥]. أي : ليقتلوه. كذا قيل ، والصواب : ليتمكنوا منه ، فإما أن يقتلوه ، أو يخرجوه ، أو يحبسوه ، وذلك أن ما أخذته فقد تمكنت منه.