تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الباب الثالث

في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله تاء

التأويل (١)

أصل التأويل من الأول ، وهو : الرجوع ، يقال : آل الشيء ؛ إذا رجع ، وأول الكلام تأويلا ، إذا رده إلى الوجه الذي يعرف منه معناه ، وقوله : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [سورة الأعراف آية : ٥٣] ، أي : يأتي ما يؤول إليه أمرهم في البعث ، وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران آية : ٧] ، أي : ما يرجع إليه معناه ، وقيل : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [سورة آل عمران آية : ٧] ، أي : بالبعث ، وليس بالوجه ؛ لأنه ليس للبعث هاهنا ذكر.

والتأويل في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران آية : ٧] ، قال أبو علي رضي الله عنه يعني تفسير المتشابه به كله على حقائقه ، وذلك أن في القرآن أمورا مجملة ، مثل أمر الساعة وأمر صغائر الذنوب التي شرط غفرانها باجتناب الكبائر ، واستدل على هذا بقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [سورة الأعراف آية : ٥٣] ، فجعل الموعود الذي وعدهم إياه في القرآن تأويلا للقرآن.

__________________

(١) قال الجرجاني : التأويل في الأصل : الترجيع. وفي الشرع : صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله ، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا للكتاب والسنة ، مثل قوله تعالى : " (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)" إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا ، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر ، أو العالم من الجاهل ، كان تأويلا.

وقال أيضا في موضع آخر : والفرق بين التأويل والبيان ، أن التأويل ما يذكر في كلام لا يفهم منه معنى محصل في أول وهلة ، والبيان ما يذكر فيما يفهم ذلك لنوع خفاء بالنسبة إلى البعض. [التعريفات : التأويل ، وبيان التفسير].

١٤١

وجاء في التفسير أن التأويل هاهنا منتهي مدة ملك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن اليهود حسبوا ليعلموا ذلك ، فأعلمهم الله أنه لا يعرف ذلك بالحساب ، وإنما يعرف من قبل الله تعالى.

والتأويل والتفسير واحد ، لأن معنى التأويل يعود إلى التفسير ، ويفرق بينهما من وجه ذكرناه في" كتاب الفروق" وهو أن التفسير هو الإخبار عن إفراد أحاد الجملة ، والتأويل : الإخبار بمعنى الكلام ، وقيل : التفسير إفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل ، والتأويل : الإخبار عن غرض المتكلم بكلامه.

والثاني : عاقبة الأمر وما يؤول إليه ، وهو قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [سورة الأعراف آية : ٥٣] ، يذكر قوما أوعدوا بالعذاب ، فتطلعوا عاقبة ما أوعدوا به رادين له ، فقال : هل ينظرون إلا تأويل ذلك المصير وتلك العاقبة ، أي : مرجعه ومآبه.

وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [سورة يونس آية : ٣٩] ، أي : لم تأتهم عاقبة ما وعدهم في القرآن أنه كائن في الآخرة من الوعيد ، ولم يعن أنه لم يأتهم العلم وتفسيره ، لأن جميع ما في القرآن مفهوم المعنى ، ولو كان فيه شيء لا يفهم معناه لم يكن لإنزاله وجه.

ومثل ذلك قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء آية : ٥٩ ، الإسراء : ٣٥] ، أي : عاقبة.

والثالث : تعبير الرؤيا ، قال : (يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [سورة يوسف آية : ٦] ، يعني : تعبير الرؤيا. وقال : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) [سورة يوسف آية : ٣٦] ، وقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) [سورة يوسف آية : ٤٥] ، وقال : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [سورة يوسف آية : ١٠١] ، يعني : بجميع ذلك تعبير الرؤيا ، وسميت الرؤيا أحاديث ؛ لأن منها ما يصح ، ومنها ما لا يصح ، مثل الأحاديث التي يتحدث بها صدقا وكذبا. فأما رؤيا الأنبياء عليهم‌السلام خاصة فيقين.

١٤٢

الرابع : التحقيق ، قال : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [سورة يوسف آية : ١٠٠] ، جاء في التفسير أنه أراد : تحقيق رؤياي ، وهو حسن ، ويجوز أن يكون معناه : تفسير رؤيا و : (يا أَبَتِ) بالكسر على حذف ياء الإضافة ، ويجوز بالفتح على حذف الألف المنقلبة عن ياء الإضافة ، وأجاز الفراء الضم ، ولم يجزه الزجاج ، إلا أن التاء عوض عن ياء الإضافة ، وقال علي بن عيسى : هو جائز ، لأن العوض لا يمنع من الحذف.

الخامس : قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) [سورة يوسف آية : ٣٧] ، جاء في التفسير أنه أراد بألوانه قبل أن يأتيكما ، والمراد بتسميته بألوانه وصفاته ؛ كأنه يفسره لهما ، فلهذا سماه تأويلا ، وسمي تفسير الشيء تأويلا ، لأنه مآل لبيان معناه ، و : (نَبَّأْتُكُما) [سورة يوسف آية : ٣٧] ، أخبرتكما ، والنبأ : الخبر العظيم ، لا يكون إلا كذلك.

وخرج لنا بعد وجه آخر ، وهو قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء آية : ٥٩ ، الإسراء : ٣٥] ، قال مجاهد : أي : جزاء قلنا : وذلك أن الجزاء هو الشيء الذي آلوا إليه.

١٤٣

تولى

يقال : ولي الشيء يليه ، إذا قرب منه ، وداري يلي دارك ، وولاية الأعمال ، من ذلك ، وكذلك : الولي ، وهو : المطر الذي يلي الوسمي ، والوسمي أول مطر يجيء ، والولي : الذي يليه ، ومنه : الولي ، خلاف العدد ، لأنه يقرب منك ، ثم قيل : ولى عنه ، وتولى عنه ، إذا أعرض وبعد.

والتولي في القرآن على ستة أوجه :

الأول : الانصراف ، قال : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) [سورة القصص آية : ٢٤] ، دل على أنه كان في الشمس فانصرف إلى الظل ، ومثله : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) [سورة النمل آية : ٢٨] ، أي : انصرف ، ومثله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [سورة التوبة آية : ٩٢].

والثاني : بمعنى الامتناع ، قال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [سورة المائدة آية : ٤٩] ، معناه : فإن امتنعوا من الإيمان بك والرضا بحكمك ، وقوله : (أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [سورة المائدة آية : ٤٩] ، أي : لما امتنعوا من ذلك أراد الله عقوبتهم ، فعجل بعضها لهم في الدنيا ، والإصابة بالذنب : الإصابة بعقوبة الذنب ، كما قال : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة هود آية : ٨] ، أي : حاق بهم جزاؤه ، وقوله : (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا) [سورة النساء آية : ٨٩] ، أي : فإن امتنعوا من الإيمان والهجرة ، وكان هؤلاء قوم من المنافقين زعموا أنهم احتووا المدينة واستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخروج منها إلى البدو ، فأذن لهم ، فخرجوا ولحقوا بالمشركين ، فأمر الله أن يؤخذوا ويقتلوا حيث وجدوا ، لأنهم كفار ، إلا أن يرجعوا إلى المدينة.

والثالث : الإعراض ، قال الله : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [سورة النساء آية : ٨٠] ، وقال : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) [سورة يونس آية : ٧٢] ، وقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [سورة الذاريات آية : ٥٤] ، كل هذا بمعنى الإعراض على ما قالوا وهو الأصل ، ويكون الإتيان الأوليان من هذا الوجه بمعنى الامتناع.

١٤٤

والرابع : قالوا : الهزيمة ، قال تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [سورة الأنفال آية : ١٥ ـ ١٦] ، يعني : الهزيمة عنهم ، ومصدر هذا التولية ، وليس بالتولي ، نهى الله تعالى المؤمنين أن يولوا الكفار أدبارهم في القتال إلا أن ينحرف أحدهم من موضع لا يمكنه فيه الضرب والطعن إلى موضع يمكنه فيه ذلك ، أو أن يضيق عليه فليلتجئ إلى جماعة من المسلمين ، فينضافوا معه على مدافعة العدو ، ومن يولي عن العدو على غير هذين الوجهين فقد باء بغضب من الله ، أي : استحق الغضب من الله مقابلة بقبيح فعله ، وهو من البواء في القتل ، وهو أن يقتل بالرجل كفوه.

قال أبو بكر الرازي رحمه‌الله : " وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثنى عشر ألقا ، فإذا بلغ ذلك فليس لهم أن ينهزموا عن مثلهم إلا متحرفين لقتال" ، والحجة حديث ابن عباس عنه عليه‌السلام" خير الأصحاب أربعة ، وخير السرايا أربعة مائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" (١) ، وسأل رجل مالكا ، فقال : أيسعنا قتال من خرج من أحكام الله وحكم بغيرها ، فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من ذلك.

وقال بعضهم : هذه الآية في أهل بدر ؛ وليس الفرار من الزحف كبيرة ، وهذا غلط ، لأن النفي عام ، وليس لأحد تخصيصه ، ولا يكون المجمل إلا على العموم ، وقيل : هذا الوعيد لازم لمن فر عن الزحف حبا للحياة ، فأما من لم يجد بدا من الفرار فهو في سعة.

والزحف : السير الثقيل ، وبه يوصف العساكر ، لأنها إذا دنت من العدو ، سارت على تعبئة ، وسير الجماعة المعبأة رويدا.

الخامس : بمعنى ولاية الأمر ، قال : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) [سورة النور آية : ١١] ، بالكسر ، أي : تولى الإثم فيه ، كأنه صار صاحب الإثم فيه ، وقرئ كبره ، أي : معظمه ، وكبر الشيء : معظمه ، وكذلك كبره : لغتان ، وقيل كبر : مصدر الكبير من الأمور ، وكبر : مصدر الكبير السن ، مثل : الكبر ، والكبر : الكبير أيضا.

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس (٢٧١٣) ، والدارمي (٢٤٣٨) ، وأبو يعلى في مسنده (٢٧١٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى ج ٩ / ١٥٦.

١٤٥

والسادس : بمعنى الولاية ، خلاف العداوة ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة آية : ٥١] ، وقوله : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [سورة الممتحنة آية : ١٣] ، يأمرهم بعداوتهم أن لا يناصحوهم.

١٤٦

التقى (١)

أصل التقى : أن تجعل بينك وبين من تخافه حاجزا ، قال النابغة :

سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتّقتنا باليد

ثم كثر حتى قيل : توقيته ، إذا هبت الإقدام عليه ، ويقال : تقاه يتقيه ، واتقاه يتقيه وتوقاه يتوقاه ، والمتقي في أسماء الدين : هو الذي يؤدي الفرائض ، ويجتنب المحارم ، ويجعل ذلك بينه وبين النار جنة ، ولا يستحقه مطلقا إلا المستحق للثواب ، ويجري على غيره مقيدا ، وقال الشاعر يصف سيوفا :

جلاها الصّيقلون فأخلصوا جعافا

كلّها يتّقى بأثر

والأثر : والأثر ماء السيف وفرنده ، كأنها تجعل ذلك بينها وبين من يريد عيبها ، والإقدام عليها حاجزا ، وذلك أنه إذا رأى أثرها لم يعبها ، أو ترك الإقدام على أصحابها.

وهو في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى الخشية ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [سورة النساء آية : ١ ، الحج : ١ ، لقمان : ٣٣] ، أي : اخشوا عقابه ، واجعلوا الإيمان بينكم وبينه ، وقال : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) [سورة الشعراء آية : ١٠٦] ، ومثله كثير.

الثاني : بمعنى العبادة ، قال الله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [سورة الأعراف آية : ٦٥] ، أي : أفلا تعبدون ، وقال : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [سورة المؤمنون آية : ٥٢] ، هكذا جاء في التفسير ، ويكون ذلك أيضا بمعنى الخشية ؛ لأنه إذا قال :

__________________

(١) (ت ق ي) : رجل تقيّ أي زكيّ وقوم أتقياء وتقي يتقى من باب تعب تقاة والتّقى جمعها في تقدير رطبة ورطب واتّقاه اتّقّاء والاسم التّقوى وأصل التّاء واو لكنّهم قلبوا. [المصباح المنير : التاء مع القاف]

والفرق بين التقي والمتقي والمؤمن : أن الصفة بالتقي أمدح من الصفة بالمتقي لانه عدل عن الصفة الجارية على الفعل للمبالغة والمتقي أمدح من المؤمن لان المؤمن يطلق بظاهر الحال والمتقي لا يطلق إلا بعد الخبرة وهذا من جهة الشريعة والاول من جهة دلالة اللغة ، والإيمان نقيض الكفر والفسق جميعا لانه لا يجوز أن يكون الفعل إيمانا فسقا كما لا يجوز أن يكون إيمانا كفرا إلا أن يقابل النقيض في اللفظ بين الإيمان والكفر أظهر. [الفروق اللغوية : ١ / ١٣٧].

١٤٧

أنا ربكم ، فقد أخبر أنه القادر عليهم ، وإذا كان كذلك فينبغي أن يخشى عقابه ، ولا يعصى ، ويرغب في ثوابه ، فيعبد ويطاع.

الثالث : الإيمان قال تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) [سورة نوح آية : ٣] ، أي : أن توحدوه ، ودليل ذلك قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة النساء آية : ١٣١] ، ووضعه الكفر بإزاء التقوى دليل على أن المراد بالتقوى : الإيمان.

والرابع : الإخلاص ، قال الله تعالى : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج آية : ٣٢].

والخامس : الانتهاء إلى المأمور به ، وترك تجاوزه ، قال : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ) [سورة البقرة آية : ١٨٩] ، أي : انتهوا إلى أمره في ذلك ، ولا تجاوزوه.

وكل هذه الوجوه متقاربة ، يجوز قيام بعضها مقام بعض.

١٤٨

التمني (١)

يقال : تمنى الرجل الشيء ، إذا قدر في نفسه بلوغه ، ومنه : منى الله لك كذا ، أي : قدره ، وقال الشاعر :

ما تمني لك الأماني

ومنينا من فلان بكذا ، أي : ابتلينا ، ولا يقال ذلك إلا في المكروه.

وسميت المنية منية ، لأنها مقدرة ، وقيل للمني مني ، لأن الولد مقدر منه ، والتمني : قول الرجل : يا ليتني كنت كذا.

والتمني في القرآن على وجهين :

__________________

(١) قال الجرجاني : التمني : طلب حصول الشيء سواء كان ممكنا أو ممتنعا. [التعريفات : ١ / ٢١].

الفرق بين التمني والارادة : أن التمني معنى في النفس يقع عند فوت فعل كان للمتمني في وقوعه نفع أو في زواله ضرر مستقبلا كان ذلك الفعل أو ماضيا ، والارادة لا تتعلق إلا بالمستقبل ، ويجوز أن يتعلق التمني بما لا يصح تعلق الارادة به أصلا وهو أن يتمنى الانسان أن الله لم يخلقه وأنه لم يفعل ما فعل أمس ولا يصح أن يريد ذلك ، وقال أبو علي رحمه‌الله : التمني هو قول القائل ليت الامر كذا فجعله قولا وقال في موضع آخر التمني هو هذا القول وإضمار معناه في القلب ، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن الاخشاد ، والتمني أيضا التلاوة قال الله تعالى"(إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)".

وقال ابن الانباري : التمني التقدير قال ومنه قوله تعالى"(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى)" ، وتمنى كذب وروي أن بعضهم قال للشعبي : أهذا مما رويته أو مما تمنيته أي كذبت في روايته ، وأما التمني في قوله تعالى"(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)" فلا يكون إلا قولا وهو أن يقول أحدهم ليته مات ، ومتى قال الانسان ليت الآن كذا فهو عند أهل اللسان متمن غير اعتبارهم لضميره ويستحيل أن يتحداهم

بأن يتمنوا ذلك بقلوبهم مع علم الجميع بأن التحدي بالضمير لا يعجز أحدا ولا يدل على صحة مقالته ولا فسادها لان المتحدي بذلك يمكنه أن يقول تمنيت بقلبي فلا يمكن خصمه إقامة الدليل على كذبه ، ولو إنصرف ذلك إلى تمني القلب دون العبارة باللسان لقالوا قد تمنينا ذلك بقلوبنا فكانوا مساوين له فيه وسقط بذلك دلالته على كذبهم وعلى صحة ثبوته فلما لم يقولوا ذلك علم أن التحدي وقع بالتمني لفظا.

الفرق بين الشهوة والتمني : قيل التمني : معنى في القلب وليس هو من قبيل الشهوة ، ولا من قبيل الارادة ، لان الارادة لا تتعلق إلا بما يصح حدوثه. والشهوة لا تتعلق إلا بما مضى. والارادة والتمني قد يتعلقان بالماضي.

وقيل : الفرق بين التمني والارادة : أن الارادة من أفعال القلوب ، والتمني قول القائل : ليت كان كذا وليت لم يكن ، ويؤيده أن أهل اللغة ذكروا التمني في أقسام الكلام. [الفروق اللغوية : ١ / ١٤٢ ، ٣٠٦]

١٤٩

الأول : هذا القول ، وهو قوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الجمعة آية : ٦] ، وذلك أن اليهود قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال الله لهم : إن كنتم كذلك فتمنوا الموت لتموتوا ، فتصيروا إلى الثواب عاجلا ، ثم أخبر أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الذنوب ، فكان هذا خبر غيب دالا على صدق الدعوة ، فلم يكن فيهم أحد يقول : إني تمنيت ولم أمت ، وشرح ذلك جرى في كتابنا في التفسير.

والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [سورة الحج آية : ٥٢] ، يقال : تمنى الرجل إذا قرأ ، قال الشاعر :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لا في حمام المقادر

والرسول والنبي واحد ، وإنما أراد التوكيد فكرره كما تقول : أحب كل مؤمن ومسلم ، والمؤمن والمسلم سواء ، وعلى هذا فإن بين المؤمن والمسلم فرقا في العربية ، وكذلك بين الرسول والنبي ، وأما في أسماء الدين فكل ذلك سواء ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ القرآن غلط الغلط الذي يجوز مثله على القارئ ، وكان الله ينبهه على الصواب ، فيرجع إليه ، فعاب ذلك عليه أعداؤه ، وليس فيه عيب ؛ لأن البشر لا يخلو من السهو والغلط ، وجعل الله تنبيهه إياه على الغلط نسخا له ، ورده إلى الصواب إحكاما لآياته.

وأما ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، ثم سجد ، وسجد المشركون ، وقالوا : قد رجع إلى دينكم ، فإن ذلك كذب ، لأن القارئ لا يغلط بمثل هذا ، ولا يجوز أن يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمدا ، لأنه كفر ، ولا يقع الكفر من الأنبياء.

وأخرى فإنه لا خلاف بين الرواة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان لا يمكنه الصلاة عند الكعبة ظاهرا ؛ لما كان المشركون ينالونه به من المكروه ، فكان يصلي عندها ليلا حين لا يطلع عليه أحد منهم ، فكيف سجدوا لقراءته ، وهذه حاله عندهم ، حتى كأنهم كانوا على ميعاد منه؟!.

١٥٠

التوفي (١)

أصل الوفاء : التمام وشيء واف : تام ، وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٤٠] ، أي : قوموا بأوامري على التمام أعطكم جزاء أعمالكم على التمام.

وتوفيت حقي ، واستوفيته ، إذا أخذته بتمامه ، ومعنى توفي الله الأنفس : قبضها عند تمام آجالها ، وقد وفيت الرجل حقه ، وأوفيت له ، إذا تممت عهده ، وخلافه : الغدر ، وهو أن تترك الوفاء به ، وأصل الغدر : الترك ، يقال : غادر الشيء ، وأغدره ، إذا تركه.

والتوفي في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الإنامة ، قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [سورة الأنعام آية : ٦٠] كأنه يقبض العقل والذهن الذي تميز به الأشياء.

الثاني : قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة آية : ١١٧] وروي عن الحسن ؛ أنه قال : التوفي هاهنا : رفعه إلى السماء.

ومثله قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [سورة آل عمران آية : ٥٥] أي : آخذك من بين بني إسرائيل ، ورافعك إلى السماء حيث لا ينفذ إلا حكمي ، ولا يريد أن الله في السماء ، وشبه رفعه إلى السماء بالموت ؛ لأنه يفقد عند الرفع كي يفقد عند الموت ، وقيل : الرفع هنا رفع المنزلة.

الثالث : قبض الروح ، قال الله تعالى : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) [سورة غافر آية : ٧٧] ، وقال : (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [سورة السجدة آية : ١١] ، وقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [سورة النحل آية : ٢٨ ، ٣٢] يعني : أنهم يقبضون أرواحهم.

__________________

(١) (وف ي) : وفيت بالعهد والوعد أفي به وفاء والفاعل وفيّ والجمع أوفياء مثل صديق وأصدقاء وأوفيت به إيفاء وقد جمعهما الشّاعر فقال أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته كما وفى بقلاص النّجم حاديها.

وقال أبو زيد : أوفى نذره أحسن الإيفاء فجعل الرّباعيّ يتعدّى بنفسه وقال الفارابيّ أيضا أوفيته حقّه ووفّيته إيّاه بالتّثقيل وأوفى بما قال ووفّى بمعنى وأوفى على الشّيء أشرف عليه. [المصباح المنير : الواو مع الفاء]

١٥١

التسبيح (١)

أصله : التنزيه من السوء على جهة التعظيم.

ولا يجوز أن يسبح غير الله ؛ لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم ، وذلك لا يستحقه إلا الله الذي لا يعجزه شيء.

__________________

(١) السين والباء والحاء أصلان : أحدهما جنس من العبادة ، والآخر جنس من السّعي.

فالأوّل السّبحة ، وهي الصّلاة ، ويختصّ بذلك ما كان نفلا غير فرض.

يقول الفقهاء : يجمع المسافر بين الصّلاتين ولا يسبّح بينهما ، أي لا يتنفّل بينهما بصلاة.

ومن الباب التّسبيح ، وهو تنزيه الله جلّ ثناؤه من كلّ سوء.

والتّنزيه : التبعيد. والعرب تقول : سبحان من كذا ، أي ما أبعده.

قال الأعشى :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وقال قوم : تأويله عجبا له إذا يفخر. وهذا قريب من ذاك لأنّه تبعيد له من الفخر. وفي صفات الله جلّ وعز : سبّوح.

واشتقاقه من الذي ذكرناه أنّه تنزّه من كل شيء لا ينبغي له. والسّبحات الذي جاء في الحديث : " جلال الله جلّ ثناؤه وعظمته".

والأصل الآخر السّبح والسّباحة : العوم في الماء. والسّابح من الخيل : الحسن مدّ اليدين في الجري. قال :

فولّيت عنه يرتمي بك سابح

وقد قابلت أذنيه منك الأخادع

يقول : إنّك كنت تلتفت تخاف الطّعن ، فصار أخدعك بحذاء أذن فرسك.

والتّسبيح التّقديس والتّنزيه يقال سبّحت الله أي نزّهته عمّا يقول الجاحدون ويكون بمعنى الذّكر والصّلاة.

يقال فلان يسبّح الله أي يذكره بأسمائه نحو سبحان الله وهو يسبّح أي يصلّي السّبحة فريضة كانت أو نافلة ويسبّح على راحلته أي يصلّي النّافلة وسبحة الضّحى.

ومنه (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي من المصلّين وسمّيت الصّلاة ذكرا لاشتمالها عليه.

ومنه (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) أي اذكروا الله.

ويكون بمعنى التّحميد نحو (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) وسبحان ربّي العظيم أي الحمد لله.

ويكون بمعنى التّعجّب والتّعظيم لما اشتمل الكلام عليه نحو (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) إذ فيه معنى التّعجّب من الفعل الّذي خصّ عبده به ومعنى التّعظيم بكمال قدرته.

وقيل في قوله تعالى (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي لو لا تستثنون قيل كان استثناؤهم سبحان الله.

وقيل إن شاء الله لأنّه ذكر الله تعالى. ينظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس ، والمصباح المنير (س ب ح).

١٥٢

وسبحان الله : تنزيه له مما لا يليق به ، ونصبه على مذهب المصدر ؛ كأنك قلت : تسبيحا له.

وسبحان : معرفة وعلم خاص ؛ فإن نونه شاعر فللضرورة ، وقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [سورة آية المزمل آية : ٧] أي : فراغا كبيرا للنوم ، وقد أوجب الله على العباد أن يسبحوه ويقدسوه ، وفي ذلك أوضح الدلالة على أنه لا يجوز إضافة الفواحش إليه.

والتسبيح في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الصلاة ، قال الله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [سورة الروم ، الأنبياء : ١٧ ، ٢٢] ، والسبحة : صلاة التطوع ، وقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [سورة الصافات آية : ١٤٣] أي : المصلين. (١)

__________________

(١) قال الشوكاني في فتح القدير : والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله ، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي ، وفي وقت الظهيرة. وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس. فقوله : (حِينَ تُمْسُونَ): صلاة المغرب والعشاء ، وقوله : (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): صلاة الفجر ، وقوله : (وَعَشِيًّا) صلاة العصر ، وقوله : (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : صلاة الظهر ، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما. قال الواحدي : قال المفسرون : إن معنى (فَسُبْحانَ اللهِ) : فصلوا لله. قال النحاس : أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال : وسمعت محمد بن يزيد يقول : حقيقته عندي : فسبحوا الله في الصلوات ؛ لأن التسبيح يكون في الصلاة. وجملة : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد ، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)[الحجر : ٩٨] وقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ)[البقرة : ٣٠] وقيل : معنى (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد ، والأول أولى. وقرأ عكرمة : «حينا تمسون وحينا تصبحون ،» والمعنى : حينا تمسون فيه ، وحينا تصبحون فيه. والعشيّ : من صلاة المغرب إلى العتمة. قاله الجوهري ، وقال قوم : هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، ومنه قول الشاعر :

غدونا غدوة سحرا بليل

عشيا بعد ما انتصف النهار

وقوله : (عَشِيًّا) معطوف على حين (فِي السَّماواتِ) متعلق بنفس الحمد ، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة والطير من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة والبيضة من الحيوان. وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران. وقيل : ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس ، وهو

١٥٣

الثاني : ظهور أثر الصنعة والخلق ، وهو قوله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [سورة الإسراء آية : ٤٤] يعني : ما ظهر فيها من آثار الصنع الدال على التوحيد.

والثالث : الاستثناء ، وهو قوله : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [سورة القلم آية : ٢٨] أي : تستثنون ، وهو قول : إن شاء الله ، وإنما قيل للاستثناء : تسبيح ؛ لأنه تعظيم ، كما أن قول" سبحان الله" تعظيم له ، وكانوا قالوا : قال : (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) [سورة القلم آية : ١٧] ، ولم يقولوا : إن شاء الله ، وفسر أيضا على ظاهره ؛ فقيل : لو لا تسبحون الله وتقدسونه وتعطون حقوق المساكين.

__________________

ـ شبيه بإخراج الحيّ من الميت (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم. قرأ الجمهور : (تُخْرَجُونَ) على البناء للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل ، فأسند الخروج إليهم كقوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ)[المعارج : ٤٣](وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم ، أي خلق أباكم آدم من تراب ، وخلقكم في ضمن خلقه ؛ لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه ، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام ، و" أن" في موضع رفع بالابتداء ، و (مِنْ آياتِهِ) خبره (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)" إذا" هي الفجائية ، أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في الأرض.

١٥٤

الباب الرابع

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ثاء

الثواء (١)

الثواء : الإقامة ، يقال : ثوى بالمكان ، وأثوى : لغتان فصيحتان ، قال الحارث بن حلزة :

آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

ويتصرف هذا الحرف في القرآن على أوجه :

الأول : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) [سورة القصص آية : ٤٥] أي : لم تكن مقيما فيهم ، فتعلم من أخبارهم ما تخبر به ، وإنما هو وحي ، وإن كان" مدين" عربيا فاستقامة من قولهم : مدن بالمكان إذا أقام به ، والياء فيه زائدة ، والذي أظن : أنه أعجمي الأصل.

الثاني : المثوى بمعنى المأوى ، قال تعالى : (يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) [سورة محمد آية : ١٩] ، وقوله : (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [سورة فصلت آية : ٢٤] وهو قريب من الأول ؛ بل هو فيه بعينه لأن المثوى : مفعل من ثوى ، وقيل للمنزل والمسكن : مثوى ؛ لأن صاحبه يقيم فيه.

__________________

(١) الثّواء : طول الإقامة ، ثوى يثوي. والمقبور يقال : ثوى.

والمثوى : الموضع. وأنزلني فأثواني ثواء حسنا. والثّيّة : الثّواء بمنزلة الطّيّة ، وكذلك الثّواية.

وأكرمي مثواه : اي مقامه. وربّ البيت : أبو مثواي ، وأمّث مثواي : للرّبّة.

والثّويّة : امرأة الرّجل الذي يثوي إليها.

والثّويّ : البيت في جوف البيت. وقيل : البيت المهيّا للضّيف. وقيل : الضّيف نفسه.

والثّويّة : موضع إلى جانب الكوفة.

وثأية الجزور : منحرها. وقيل : هو البيت الذي يولّد فيه الغنم ويجمع فيه البهم. وقيل : المحلّة التي يكون فيها متاع السّفر والصّيّادون يأوونها. وقيل : المثوى الخبيث ، ومنه ثاية الضّبع ، ويقولون : قبح الله ثايتك. [المحيط في اللغة : ٢ / ٤٢٥]

١٥٥

الثالث : المنزلة ، قال : (أَحْسَنَ مَثْوايَ) [سورة يوسف آية : ٢٣] أي : أعلى منزلتي ، ولو أوردنا هذين الحرفين في باب الميم جاز ، وأم المثوى : المرأة التي ينزل بها وبأهلها الضيف ، وأبو المثوى : الرجل ، وتقول : من أم مثواك الليلة ، ومن أبو مثواك؟.

١٥٦

الباب الخامس

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله جيم

الجبار

أصل الكلمة : الإصلاح ، جبر العظم (١) ؛ إذا أصلحه وجبر هو ، ثم استعمل في الامتناع ، فقيل : نخلة جبارة ؛ إذا امتنعت ففاتت الأيدي ، وهو راجع إلى الأصل ؛ لأنها إذا فاتت اليد صلحت ثمرتها ولم تشعث ، والجبيرة : الدملوج ، وكذلك الجبارة ؛ لأنه يصلح ويسوى ، والجبارة أيضا ، والجمع : الجبائر : الخشب الذي يشد على العضو المكسور ، وأجبرت الرجل على الأمر ؛ إذا أكرهته عليه ؛ لأنك تريد بإجبارك إياه إصلاحه ، وإصلاح نفسك ـ جبار يرجع إلى ذلك.

والجبار (٢) في أسماء الله ـ عزوجل ـ بمعنى أنه لا ينال بالأذى ، وبمعنى الكبرياء والعظمة ، وقال واصل بن عطاء : الجبار في صفات الله تعالى بمعنى أنه يجبر فاقة العبد.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : القهار ، قال الله تعالى : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) [سورة الحشر آية : ٢٣] يعني : القهار لخلقه بما أراد ، وقال : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [سورة ق آية : ٤٥] أي : بمسلط تقهرهم على الإيمان ؛ إنما أنت مذكر ، ويجوز أن يكون معناه : إنك لست بمتكبر تياه ، كما قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم آية : ٤].

__________________

(١) (ج ب ر) : جبرت العظم جبرا من باب قتل أصلحته فجبر هو جبرا أيضا وجبورا صلح يستعمل لازما ومتعدّيا وجبرت اليتيم أعطيته وجبرت اليد وضعت عليها الجبيرة والجبيرة عظام توضع على الموضع العليل من الجسد ينجبر بها والجبارة بالكسر مثله والجمع الجبائر. [المصباح المنير : الجيم مع الباء]

(٢) أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنا أبو منصور النضروي ، ثنا أحمد بن نجدة ، ثنا سعيد بن منصور ، ثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : «إنما يسمى الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد» [الأسماء والصفات للبيهقي : الحديث رقم (٤٧)]

١٥٧

الثاني : المتغلب الجابر ، قال الله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [سورة الشعراء آية : ١٣٠] أي : متغلبين جبارين ، وقال : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) [سورة القصص آية : ١٩] وقال بعض أهل التفسير : المراد بالجبار في هذه المواضع : القتال ، والبطش : الأخذ بالغلبة والشدة.

الثالث : المتكبر قال : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [سورة مريم آية : ٣٢] جاء في التفسير أنه عنى المتكبر عن عبادة ربه.

والرابع : العظيم الخلق القوي ، قال الله عزوجل : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) [سورة المائدة آية : ٢٢] جاء في التفسير : إنه عنى العظام الأجساد الطوال الأقوياء ، زعموا أنه لا يقاومونهم ، وقيل : إنه أراد الممتنعين الغلابين العتاة ، وهذا أصح ؛ لقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) [سورة المائدة آية : ٢٣] كأنهم قالوا : إن فيها قوما من عادتهم غلب أعدائهم ، فقيل لهم : اذهبوا إليهم فإنكم تغلبونهم ، وأعمل إن في القوم وجعل الجبارين من صفتهم ؛ لأن فيها ليس باسم.

قال : ومثله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [سورة غافر آية : ٣٥] ، والجبار هاهنا والمتكبر سواء ، وإنما كرر للتوكيد ، ولا يجوز أن يقال أنه يعني : ب" الجبار" هاهنا : القتال والغلاب ؛ لأن القتل والغلبة لا يضافان إلى القلب ويضاف إليه الكبر ، ويجوز أن تكون هذه الوجوه كلها بمعنى واحد وهو التكبر ، وإنما أوردتها على ما جاء في التفسير.

١٥٨

الجعل (١)

يقال : جعلت بمعنى أنشأت ولا يتجاوز مفعولا ، ومنه : جعل الله الناس ، وجعل الأرض ، وجعلت أيضا بمنزلة نقلت ، كقولك : جعلت الطين آجرا ، وجعلت الفضة خاتما ، وجعلت بمنزلة ظننت ، تقول : اجعل الأمين خادما وكلمه ؛ أي : ظنه خادما ، وجعلت بمنزلة سميت ، قال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [سورة الزخرف آية : ١٩] ، ويقال أيضا : جعلت القرية عن يميني.

والفرق بين الجعل والفعل ؛ أن جعل الشيء يكون بإحداث غيره فيه ، كجعلك الطين خزفا ، وفعل الشيء إحداثه لا غير.

وقال بعضهم : جد الجعل الفعل ولا بد لكل جعل من تعلق بمجعول ومفعول ، أما نفس الشيء الواقع عليه ظاهر اللفظ ؛ كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [سورة الملك ، النحل ، السجدة : ٢٣ ، ٧٨ ، ٩] أي : خلقهما ، وأما اسمه ووصفه ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي : جعلوا اسمهم اسم الإناث ووصفهم ، وفعلوا ذلك ، وأما حكمه ؛ كقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة التوبة آية : ١٩] أي : جعلتم حكم هذا كحكم هذا ، وكقولك : جعل الله هذا حلالا وهذا حراما ؛ أي : جعل حكمه حكم ذلك ، وأما علته لها كان المجعول على صفته ؛ كقولك : جعلت المتحرك متحركا ؛ أي : فعلت العلة.

__________________

(١) [جعل] : جعل : بمعنى صنع ؛ إلا أنّه أعمّ ، يقال : جعل يفعل كذا ، ولا يقال صنع ولا يجعل.

والجعالة والجعلية : واحد. وقد جعلت له الجعل. وهو يجاعله : أي يرشوه.

وأجعلت لفلان إجعالا : من الجعل. والجعال والجعالة : ما ينزل به القدر من خرقة أو غيرها ، وقد أجعلتها : أنزلتها به.

وجعال الفهميّ : شاعر. وكلبة مجعل : أرادت السفاد. وماء جعل ومجعل : ماتت فيه الجعلان ، والواحد جعل : وهي دابة. ورجل جعل : لجوج. وقد يقال ذلك لسواده تشبيها بالدابة.

وفي مثل : " سمك به جعله" أي لزق به من يكرهه. والجعل ـ واحده جعلة ـ : النخل القصيرة الصغار. [المحيط في اللغة : جعل]

١٥٩

وأما قوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) [سورة الأنبياء آية : ٧٣] فمعناه سميناهم بذلك ، ومثله : جعلت فلانا لصا ، وقوله تعالى : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [سورة الفرقان آية ، الأنعام : ٣١ ، ١١٢] أي : وصفناهم بهذا الوصف بعد أن عادوا الأنبياء ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [سورة الحديد آية : ٢٧] أراد الخبر بما في قلوبهم من ذلك ووصفه ؛ فالمجعول هو الخبر ويكون بمعنى اللطف ، وقوله : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [سورة يوسف آية : ١٠٠] أي : خلقها ، ويجوز أن يكون مكن يوسف عليه‌السلام فظهر صدق رؤياه ؛ فالمجعول نفس الرؤيا في الأول وفي الثاني للدلالة على صحته.

وقوله تعالى : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [سورة القصص آية : ٤] أي : فرقا ، والجعل راجع إلى ما به كانوا فرقا ؛ وهو الفعل الذي فرق بينهم ، وقوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) [سورة القصص آية : ٣٥] أي : حجة ؛ وهو قلب الفصاحة.

وقوله تعالى : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [سورة العنكبوت آية : ١٠] هؤلاء قوم آمنوا فلحقهم أذى من الكفار وهزوا فكفروا ، وكان يجب أن يدعوا الكفر خوفا من عذاب الله وتركوا الإيمان خوفا من عذاب الناس ؛ فأبدلوا حكم عذاب الناس حكم عذاب الله ؛ فالحكم هو المجعول ، وقال : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [سورة الأنبياء آية : ٩١] فالمجعول فعل ما صارت به آية ، وقال : (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الزخرف آية : ٥٩] أي عبرة ، وفعل ما صار به المسيح عبرة هو المجعول.

وقوله تعالى : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [سورة القصص آية : ٥] فأمره بالاقتداء بهم هو المجعول ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة هود آية : ١١٨] أي : بالإجبار.

والجعل بعد ذلك في القرآن على ستة أوجه فيما ذكره بعض المفسرين :

الأول : التسمية ؛ قال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [سورة الزخرف آية : ١٩] ، وقال : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) [سورة المائدة آية : ١٣] أي : سميناها قاسية.

١٦٠