تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

ذلك ، وإنما أراد الإخبار عن كثرة ما أعده للفريقين ، وقيل : كلماته معلوماته ما خلق ، وما يريد أن يخلق والجملة أنه لم يرد الموجود ، وإنما يريد ما يستأنف ، لأن ما حصل في الوجود معروف قدره.

الثالث : قوله : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [سورة النساء آية : ١٧١] ، قيل : أراد أمره ، والمعنى عندي يرجع إلى الخلق ، أي : خلقه في رحمها من غير ذكر ، وسمي في رحمها من غير ذكر وسمي ليس أيضا في موضع آخر كلمة ، وهو قوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [سورة آل عمران آية : ٤٥] ، وذلك أن الناس ينتفعون به كما ينتفعون بكلام الله ، ويجوز أن تكون الكلمة هنا من ، قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) ، وهو راجع إلى الخلق على ما ذكرنا ، ويجوز أن تكون كلمته ألقاها ، أي : بشارته ألقاها إلى مريم على لسان ملك ، كما قال لنا : (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [سورة المزمل آية : ٥] ، وقيل ألقاها عليها أي : خلقه في بطنها ، وكان الله أخبر به في الكتب المتقدمة ، فلما ولد من غير ذكر ، قال الله لها : أن تلك الكلمة ، أي : المعنى بالكلمة ، وأما الكلمات في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [سورة البقرة آية : ١٢٤] ، فمعناه أمره إياه وابتلاؤه بها تكليفه إياه طاعته فيها وسمي التكليف ابتلاء على مقتضى العرف ، وذلك إنا لا نعرف ما يأتي الرجل منا ، وما نذر حتى يكلفه ، والله عالم بنفسه غير محتاج إلى اجتلاب العلم بالابتلاء ولكنه على ما ذكرته.

٤٢١
٤٢٢

الباب الثالث والعشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله لام

اللباس (١)

اللباس واللبس : ما يلبس واللبس المصدر ، وسمي الخلط لبسا لأن وجه الصواب مستمر معه ، وأصل اللبس الستر ، واللبوس مثل اللباس ، قال الشاعر :

لبوسا ومطعما

وجاء في القرآن بمعنى الدرع ، وهو قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [سورة الأنبياء آية : ٨٠].

واللباس في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [سورة البقرة آية : ١٨٧] ، جاء في التفسير أنهن سكن لكم ، وأنتم سكن لهن ، وقيل : معناه أن الرجل والمرأة يتضامان فيصير كل واحد منهما بمنزلة اللباس للآخر ، ومن الأول قوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) [سورة النبأ آية : ١٠] ، أي : سكنا.

الثاني : الثبات ، قال الله : (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [سورة الأعراف آية : ٢٦] ، ومعنى قوله : (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) [سورة البقرة آية : ٢٦] ، أعطيناكم ، كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [سورة الحديد آية : ٢٦] ، والحديد إنما يستتار من الأرض ، وعبر عن الإعطاء بالإنزال ، كما يعبر عن الجعل بالرفع ، فتقول : رفعنا أمرنا إلى الوالي ، وقيل : إنما قال : (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [سورة الأعراف آية : ٢٦] ، لأن أصول اللباس ينبت كماء السماء ، وقيل : بذرة كان من السماء.

__________________

(١) (ل ب س) : لبست الثّوب من باب تعب لبسا بضمّ اللّام واللّبس بالكسر واللّباس ما يلبس ولباس الكعبة والهودج كذلك وجمع اللّباس لبس مثل كتاب وكتب ويعدّى بالهمزة إلى مفعول ثان فيقال ألبسته الثّوب والملبس بفتح الميم والباء مثل اللّباس وجمعه ملابس. [المصباح المنير : اللام مع الباء].

٤٢٣

الثالث : قوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) [سورة الأعراف آية : ٢٦] ، قالوا معناه : العمل الصالح ، وهو على هذا التاويل مرتفع على الابتداء ، وذلك من صفته ، وقيل معناه أن ستر العورة لباس المتقين ، وقيل : رفع بإضمار هو والمعنى ، ولباس التقوى وهو خير ، وقيل : لباس التقوى اللباس الخشن الذي يلبسه من يختار العبادة ، وأشير به إلى الصوف ، وبالأول إلى الكتان والقطن ، وقيل : هو لباس الصلاة ، لأن الصلاة أحق ما يسمى بالتقوى ، وقيل : أنزلنا عليكم الوحي الذي فيه لباس التقوى ، ولباس التقوى على هذين التأويلين منصوب ، وقال ابن الكلبي : لباس التقوى العفاف ؛ لأن المؤمن لا تبدوا عورته وإن كان عاريا ، والفاجر لا يزال تبدوا عورته وإن كان كاسيا ، وذكر اللباس هاهنا الذكر عن بني آدم.

٤٢٤

لو لا (١)

لو لا كلمتان يعدهما النحويون من حروف الرفع على المسامحة ، وإنما يرتفع ما بعدهما على الابتداء وضم لا إلى لو للمعنى الحادث بينهما ، وهو الدلالة على الشيء لا يقع من أجل غيره ، كقولك : لو لا زيد لخرجنا ، فزيد مبتدأ لم يعمل فيه لو ولا لا ، وأما قولهم لولاك فغير جائز عند المحققين.

والصواب لو لا أنت لكان كذا على الابتداء والخبر ، فإذا قلت : لو لا زيد تأخذه ، فزيد منتصب بفعل مضمر ، والظاهر تفسير ، ويسمى هذا تحضيضا ، والتحضيض توكيد الأمر والمعنى ، لو لا تأخذ زيدا تأخذه ، وقال القتبي : لو لا تكون في بعض الأحوال بمعنى هلا ، وذلك إذا رأيتها بغير جواب تقول : لو لا فعلت كذا تريد هلا ، قال الشاعر :

تعدون عقر البيت أفضل مجدكم

بني ضوء طري لو لا الكمي المقنعا

يريد ولا تعدون الكمي المقنع ، فإذا رأيت لو لا جوابا كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) [سورة الصافات آية : ١٤٣ ـ ١٤٤] ، فهي التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره.

وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : على قول بعض المفسرين بمعنى لم ، وهو قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [سورة يونس آية : ٩٨] ، معناه أنهم لم يؤمنوا يعني : أهل القرية ، ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله ؛ ألا ترى أن ما بعد إلا في الجحد يتبع ما قبلها ، فيقول : ما قام أحد إلا زيد ، وإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا نصبت ؛ لأنهما منقطعان عما قبل ، إلا وكذلك قوم يونس منقطعون من قوم غيره من الأنبياء ممن لم ينفعه إيمانه ، ولو كان الاستثناء هاهنا قد وقع على طائفة منهم لكان رفعا ، وقيل : (إِلَّا قَوْمَ

__________________

(١) " لو لا" معنيان : أحدهما" هلّا" والآخر" لو لم يكن". ووقع القوم في لولاء شديدة : إذا تلاوموا فقالوا : لو لا ولو لا. [المحيط في اللغة : ما أوله الام].

٤٢٥

يُونُسَ) [سورة يونس آية : ٩٨] ، مردود إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس آية : ٩٦] ، إلا قوم يونس.

ويكون على أن يؤمن أهل قرية بأسرها ، حتى لا يشتد منهم أحد إلا قوم يونس ، يقول : فهلا كانت القرى كذلك ، وهذا الوجه أجود من الأول ، وقال بعضهم : إلا هاهنا بمعنى سوى ، أي : فهلا أهل قرية سوى قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم وزال عنهم العذاب ، وعندنا أنهم آمنوا قبل أن يروا من العذاب ما يقع به العلم الضروري ؛ بأنهم لو صاروا إلى ذلك كانوا ملجأين ، والملجأ غير محمود على فعل الخير.

قال الثاني : بمعنى هلا ، قال الله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) [سورة هود آية : ١٦١] ، وقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) [سورة الأنعام آية : ٤٣] ، وقوله : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) [سورة الواقعة آية : ٨٦] وكذلك لو ما في قوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [سورة الحجر آية : ٧] ، أي : هلا وهذا والأول عندنا سواء.

الثالث : التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره ، قال الله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة يس آية : ١٤٣ ـ ١٤٤] ، وقيل : المسبحون المصلون ، وقد ذكرناه ، ويجوز أن يكون من التسبيح.

٤٢٦

لمّا ولما

لما تكون بمعنى لم وبينهما فرق ، ويدخل فيه الألف للتوكيد ، وإذا كان مخففا كان بمعنى إلا ، فالذي هو بمعنى لم ، قوله : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ)(١) [سورة ص آية : ٨] ، والمخفف الذي يكون دخوله بمعنى إلا ، وقوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [سورة يس آية : ٣٢] ، وقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [سورة الطارق آية : ٤] ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وهي لغة لهذيل ، والمشدد أيضا بمعنى حين ، قال الله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [سورة الزخرف آية : ٥٥] ، وفي المخفف وجه آخر.

قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [سورة آل عمران آية : ٨١] إلى قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) [سورة آل عمران آية : ٨١] ، فقال : ما هنا بمنزلة الذي ، ودخلتها اللام كما دخلت على أن حين قلت : لمن فعلت؟ لأفعلن ، ودخلت على نية اليمين ، واللام الثانية للجواب ؛ كقوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [سورة الأعراف آية : ١٨].

وقال الكسائي : هو على مذهب الجزاء ، قال الله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) [سورة آل عمران آية : ٨١] ، جواب لقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [سورة آل عمران آية : ٨١].

وقال الفراء : قرئ : (لَما آتَيْتُكُمْ) [سورة آل عمران آية : ٨١] ، بكسر اللام ، والمراد إذ أخذت ميثاقكم بهذا الكلام ، يعني : قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [سورة آل عمران آية : ٨١]. والفرق بين لما ولم أن لما يوقف عليها نحو قد جاء زيد ، فتقول : لما ، أي : لم

__________________

(١) قال الرازي : أما قوله تعالى : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي ، ولو ذاقوه لم يقع منهم إلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات وثانيها : أن يكون المراد من قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر ، ثم إنهم أصروا على الكفر ، ولم ينزل عليهم العذاب ، فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه. [مفاتيح الغيب : ١٣ / ١٦٥].

٤٢٧

يجيء ، ولا يجوز ذلك في لم وفي كلامهم كاد ولما ، أي : كاد يفعل ولم يفعل ، ولما جواب قد فعل ولم جواب فعل ، لأن قد للتوقيع. قال سيبويه : ليست ما في لما زائدة ، لأن لما تقع في مواضع لا يقع فيها لم ؛ فإذا قال القائل : لم يأتني زيد فهو نفي لقوله : أتاني وإذ قال : لما يأتني فمعناه أنه لم يأت وأنا متوقعه.

٤٢٨

اللغو (١)

أصل اللغو الصوت ، وسواء كان له معنى أو لم يكن بمعنى ، ثم سمي ما يتكلم به كل جيل لغة ، وأصلها لغوة ، كما قيل : أن بك قدة ، والأصل قدوة ومثال هذا كثير ، ثم قالوا : لغو الطائر ثم لما رأوا ذلك صوتا لا معنى له ، جعلوه أصلا في كل شيء لا معنى له ، فقالوا : لغى فلان يلغوا ؛ إذا تكلم بكلام لا معنى له ، ومنه قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [سورة فصلت آية : ٢٦] ، أي : عارضوه بكلام لا معنى له لتشغلوه به عن قرأته ؛ ثم سموا المسقط الملغي لغوا ؛ لأنه في سبب ما لا معنى له ، وقيل : ألغيت الشيء إذا أسقطته ، وقال جرير :

ويذهب بينها المري لغوا

كما ألغيت في الدية الحوارا

ثم سموا الباطل لغوا تشبيها بالمسقط الملغي ؛ لأن الباطل يسقط مع الحق ؛ فلا يكون له ثبات ، ويقال للفحش لغو ؛ لأنه ساقط من الكلام مطرح لا يلتفت إليه ، ويقال : هو لغو ولغا ، وقيل : اللغو في اليمين ؛ لأنه لا إثم فيه ، فكأنه ساقط لا معنى له ، ويجوز أن تكون اللغة من قولهم لغى الشيء يلغي إذا يعلو به فأما اللهجة فهي من قولهم : لهجت بالشيء إذا لزمته.

واللغو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : اللغو في اليمين ، قال الله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٢٥] قالوا : هو قول لا والله ، ويلي والله مما يقوله الرجل ولا يعتمده ، وقيل : هي اليمين الكاذبة التي يرى صاحبها لأنه صادق فيها ، وليس فيها كفارة ولا إثم ، وقال

__________________

(١) (ل غ و) : لغا الشّيء يلغو لغوا من باب قال بطل ولغا الرّجل تكلّم باللّغو وهو أخلاط الكلام ولغا به تكلّم به وألغيته أبطلته وألغيته من العدد أسقطته وكان ابن عبّاس يلغي طلاق المكره أي يسقط ويبطل واللّغو في اليمين ما لا يعقد عليه القلب كقول القائل لا والله وبلى والله واللّغى مقصور مثل اللّغو واللّاغية الكلمة ذات لغو ومن الفرق اللّطيف قول الخليل اللّغط كلام لشيء ليس من شأنك والكذب كلام لشيء تغرّ به والمحال كلام لغير شيء والمستقيم كلام لشيء منتظم واللّغو كلام لشيء لم ترده. [المصباح المنير : اللام مع الغين].

٤٢٩

سعيد بن جبير : اللغو أن يحلف الرجل على الحرام ؛ فلا يؤاخذه الله بتركه ، وهذا موافق لتأويل من تأول قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٢٤] ، هو أن يمتنع باليمين عن فعل مباح أو يقدم على فعل محظور ، وعند الكوفيين : أن الغموس لا كفارة فيها ، لأنها يمين ولا يترقب برها ولا حنثها فهي كاللغو ، والمؤاخذة المعاقبة ، ويقال : لا آخذك الله أي : لا عاقبك.

الثاني : الباطل ، قال الله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [سورة المؤمنون آية : ٣] ، وقال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [سورة الفرقان آية : ٧٢] ، أي : بالباطل ، وقيل : يراد باللغو هاهنا جميع ما يلغى أي : يطرح ، وقيل : أراد أنهم إذا ذكروا النكاح كبوا عنه ، وقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [سورة القصص آية : ٥٥] ، وقيل : يعنى به هاهنا الكفر.

الثالث : مكروه الكلام ، قال : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [سورة الغاشية آية : ١١] ، : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) [سورة الواقعة آية : ٢٥] ، واللاغية مصدر مثل العافية ، والعاقبة.

٤٣٠

اللام المكسورة

أجمع أهل العربية أن الحروف حقها البناء على السكون ؛ فإذا وقع الحرف أولا امتنع النطق به ساكنا ؛ فاضطر الناطق إلى حركتها فحركت كلها بالفتح ؛ لأنه أخف الحركات إلا حرفين الباء واللام ، فقيل : مررت بزيد ؛ وهذا لزيد فأما الباء فعلة كسرها إنها لا تنتقل عن باب الجر إلى غيره ، فألزم الكسر لأن عملها الكسر ؛ ولأنها لا تتغير عن حالها كما تتغير اللام والكاف ، وذلك أن اللام قد تكون توكيدا والكاف تكون اسما وحرفا وكونها اسما ، قال الشاعر :

وصاليات ككما يؤثفين

فالكاف الثانية اسم لدخول الكاف الأولى عليه ؛ لأن الحرف لا يدخل على الحرف فألزم الباء الكسر لما فارقت أخواتها ؛ وأما لام الجر فإنها كسرت إزالة الالتباس ، وذلك إنك لو قلت : إن هذا لزيد ففتحت اللام لم يعرف ليزيد التوكيد والتمليك ؛ ألا تراهم لما ارتفع الالتباس في المضمر فنحوها ، فقالوا : هذا لك وله.

واللام المكسورة في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى كي ، قال الله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [سورة يس آية : ٦] ، أي : كي تنذرهم.

الثاني : بمعنى أن ، قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [سورة آل عمران آية : ١٧٩] ، وقوله : (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [سورة الأنفال آية : ٣٣] ، وقوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [سورة إبراهيم آية : ٤٦] ، أي : أن تزول.

قالوا الثالث : في موضع لأن لا ، قال : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) [سورة النحل آية : ٥٥] ، أي : لأن لا تكفروا ، وهو مثل قوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء آية : ١٧٦] ، قيل : لأن لا تضلوا ، وليس لا عند المحققين النحويين مما يحذف في هذا الموضع ، وإنما المعنى في ذلك كراهة أن تضلوا ، ومعنى قوله : (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) [سورة العنكبوت آية : ٦٥ ـ ٦٦] ، أنهم أشركوا معنا غيرنا فعبدوه دوننا ليكفروا

٤٣١

نعمنا عليهم ، ويطرحوا شكرها وليتمتعوا في الدنيا بإطراح عبادتنا ، وذلك أن العبادة فيها على النفس مشقة ، فهم أطرحوها حبا للتمتع وللترفه.

وقال بعضهم : معناه جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم سببا إلى الكفر ، واللامات ثمانية : لام القسم ، ولام الابتداء ، ولام الإضافة ، ولام الأمر ، ولام كي ، ولام الأصل ، ولام التعريف ، ولام الاستغاثة ، ولام القسم : لأمر لقد ولا يجوز أن تكون لام الابتداء ؛ لأن لام الابتداء لا تلحق إلا الاسم ، وما كان بمنزلة الاسم من الفعل المضارع في باب إن ، ولام الإضافة كقوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [سورة الروم آية : ٤] ، ولزيد الثوب ، ولام الأمر كقوله : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [سورة الطلاق آية : ٧] ، ولام كي مثل : (وَلِيَرْضَوْهُ) [سورة الأنعام آية : ١١٣] ، ولام الأصل : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) [سورة التكاثر آية : ١] ، ولام التعريف : (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [سورة البقرة آية : ٥٣] ، ولام الاستغاثة ، قول الشاعر :

يا بني بكر أبشروا لي كليبا

٤٣٢

الباب الرابع والعشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ميم

ما ومن

قال أهل العربية ما ومن أصلهما واحد ؛ جعلت من لمن يعقل ، وما لغير من يعقل ، وتجيء ما بمعنى لا ، وبمعنى ليس ، وبمعنى الاستفهام ، وبمعنى من ، وبمعنى الذي.

وهي في القرآن على هذه الوجوه كلها ؛ لمجيئها بمعنى لا ، قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [سورة فصلت آية : ٤٣] ، قيل هي : بمعنى لا ، ويجوز أن تكون بمعنى لم ، أي : لم يقل لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، وكذلك : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [سورة المائدة آية : ١١٧] ، هي هاهنا بمعنى لم لا غير.

ومجيئها بمعنى ليس ، قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [سورة الأعراف آية : ٥٩] ، أي : ليس لكم ذلك.

ومجيئها في لفظ الاستفهام وهو تقريع ، قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [سورة الانفطار آية : ٦].

وتجيء بمعنى التوكيد ، في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [سورة آل عمران آية : ١٥٩] ، أي : فبرحمة عظيمة ، لأن دخولها في هذا الموضع وأمثاله لابد أن تكون بمعنى ، وليس هاهنا معنى سوى التوكيد ، وتدخل بمعنى من ، وهو قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [سورة الشمس آية : ٥] ، أي : ومن بناها ، والعرب تقول : سبحان ما سبح الرعد بحمده ، وقيل : المراد السماء وبنائها ، وكذلك : (الْأَرْضِ وَما طَحاها) [سورة الشمس آية : ٦] ، أي : وطحوها.

٤٣٣

وتجيء بمعنى الذي ، وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) [سورة البقرة آية : ١٥٩] ، وقوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [سورة الأنفال آية : ٥].

وقال أبو عبيدة : مجازه مجاز اليمين ، كأنه قال : الذي أخرجك ربك ؛ كقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [سورة الليل آية : ٣] ، إنما هو الذي خلق الذكر والأنثى.

قال الفراء : جوابه : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) [سورة الأنفال آية : ٥] ، تقول فامض لأمرك في الغنائم على ما شئت كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهم كارهون فافعل ذلك.

وقال الكسائي : قد يكون قوله : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) [سورة الأنفال آية : ٦] ، هو والجواب فمجادلتهم الآن كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ومرادنا فيما ذكرناه من أن ما يجيء بمعنى لا وبمعنى ليس وغير ذلك إنها تقع موقع ذلك ، ويفيد فائدة ليس إن معنى ما معنى ليس وغيره مما ذكرناه.

٤٣٤

المس (١)

أصل المس اللصوق ، مسسته بيدي ثم قيل على وجه التمثيل مسه الضر ، وقيل : مسه النار ، ومس الرجل المرأة إذا جامعها ، والمس الجنون ، ورجل ممسوس مجنون ، وما مسوس نالته الأيدي ، والفرق بين المس واللمس ، أن اللمس يكون باليد لتعرف الخشونة أو اللين أو غير ذلك ، ويكون المس باليد والحجر وغيره ، وقد ذكرنا ذلك.

والمس في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الجماع ، قال الله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [سورة الأحزاب آية : ٤٩] ، وقوله : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [سورة آل عمران آية : ٤٧] ، وإنما سمي الجماع مسا ؛ لأنه مع المس يكون.

الثاني : الإصابة ، قال الله : (مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) [سورة الأعراف آية : ٩٥] ، أي : أصابتهم الشدة والرخاء ؛ فجعل المس هنا موضع الإصابة ؛ ليدل على قصر مدة ما أصابهم من ذلك ، وتعرف به أن مدة المكروه والمحبوب في الدنيا قصيرة ، وقال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [سورة ص آية : ٤١] ، وقال : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) [سورة الحجر آية : ٤٨].

الثالث : الجنون ، قال الله : (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [سورة البقرة آية : ٢٧٥].

الرابع : المس بالجارحة ، قال الله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة آية : ٧٩] ، أراد بالمطهرين الملائكة ، وهو التطهير من الذنوب ، وقيل : لفظه لفظ خبر ، ومعناه النهي ، أي : لا يمسه إلا ظاهر.

__________________

(١) قال الجوهريّ : اللّمس المسّ باليد وإذا كان اللّمس هو المسّ فكيف يفرّق الفقهاء بينهما في لمس الخنثى ويقولون لأنّه لا يخلو عن لمس أو مسّ ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الملامسة وهو أن يقول إذا لمست ثوبي ولمست ثوبك فقد وجب البيع بيننا بكذا وعلّلوه بأنّه غرر وقولهم لا يردّ يد لامس أي ليس فيه منعة. [المصباح المنير : اللام مع الميم].

٤٣٥

المعروف (١)

قد ذكرنا أصله ، وهي في القرآن على أربعة أوجه :

__________________

(١) قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في" المعروف" الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به ، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها. فقال بعضهم : ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرّب قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت.

واختلف قائلو هذا القول في معنى : " أكل ذلك بالمعروف". فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي قال ، أخبرني من سمع ابن عباس يقول : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" ، قال : بأطراف أصابعه.

وقال آخرون : بل" المعروف" في ذلك : أن يأكل ما يسدّ جوعه ، ويلبس ما وارى العورة. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : إن المعروف ليس بلبس الكتّان ولا الحلل ، ولكن ما سدّ الجوع ووارى العورة.

وقال آخرون : بل ذلك" المعروف" ، أكل تمره ، وشرب رسل ماشيته ، بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة ، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض. ذكر من قال ذلك : حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموال أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها؟ قال : بلى! قال : ألست تهنأ جرباها؟ قال : بلى! قال : ألست تلطّ حياضها؟ قال : بلى! قال : ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال : بلى! قال : فأصب من رسلها يعني : من لبنها.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : " المعروف" الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله : "(وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)" ، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله.

وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته. فلما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه ، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيما كان ربّ المال أو مدركا رشيدا وكان عليه إن تعدّى فاستهلكه بأكل أو غيره ، ضمانه لمن استهلكه عليه ، بإجماع من الجميع وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه ، سبيله سبيل غيره ، وإن فارقه في أنّ له الاستقراض منه عند الحاجة إليه ، كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه ، إذا كان قيّما بما فيه مصلحته. [جامع البيان : ٧ / ٥٩٤].

٤٣٦

الأول : القدر المستحق بحق الولاية ، قال الله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء آية : ٦] ، أي : من كان غنيا من أولياء اليتامى فليستغن بماله عن مال اليتيم ، ولا يتناول منه شيئا ، ومن كان فقيرا فليأخذ منه القدر الذي يستحقه بقيامه عليه من غير تجاوز له.

وقال بعضهم : يأخذ منه القليل على جهة القرض ، قال : والمعروف هاهنا الفرض ، وكذلك في قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [سورة النساء آية : ١١٤] ، أي : بصدقة أو قرض.

قال أبو علي رضي الله عنه : له في المال القليل أجره مثله من غير تجاوز ، وليس له في المال الكبير أجره مثله ؛ لأنها تكون أكثر من نفقته ونفقة عياله ، والله تعالى جعل له الأكل بالمعروف ؛ فإن كان أكله بالمعروف أكثره من أجره مثله لم يحل له ذلك ، وهذه الآية وهي الأصل في الحجر على المفسد لما له ؛ لأن اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس رشده ؛ منع من التصرف في ماله فغيره ممن يجري مجراه في إفساد ماله مثله.

الثاني : التزين ، قال الله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة آية : ٢٣٤] ، أي : إذا بلغن انقضاء عدتهن ؛ فلا إثم عليكم في تركهن والتزين والتطيب وطلب الأزواج من وجه يحسن ويؤلف ولا ينكر وكل ما كان حسنا مألوفا فهو معروف.

الثالث : القول الحسن ، قال الله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [سورة النساء آية : ٥] ، أي : أعطوهم ما يعطونهم إياه وعدوهم بعد ذلك وعدا حسنا جميلا ، أراد أن أعطوهم في لين مس وحسن قول من غير انتهاز وهذا على وجه الترغيب دون الإيجاب ؛ وإن كان اللفظ لفظ أمر ، ومثله قوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [سورة الحج آية : ٧٧] ، وليس ذوي القربى هاهنا بالوراث.

والشاهد أنه قربهم باليتامى والمساكين ، وقال بعضهم : نسخ أمر المشركين الفرض في القسمة وإباحة الثلث للميت يجعله حيث يريد ، ونحن نقول : أن النسخ لا يكون في

٤٣٧

النوافل ، وإنما هو في الفروض ، وقوله : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) [سورة البقرة آية : ٢٣٥] ، والمعنى إباحة التعريض للمرأة المعتدة بالنكاح دون التصريح.

الرابع : قدر الإمكان من نفقة العدة ، قال : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة آية : ٢١٤] ، يعني : نفقة العدة ، وهو حق على المتقي وغير المتقي ، ولكنه خص المتقين تشريفا لهم ، وقد تكلمنا في هذه الآية ما فيه كفاية.

٤٣٨

من

قال النحويون : من تدخل لابتداء الغاية ، وهو قولك : سرت من البصرة ، فأعلمت أن ابتداء سيرك كان منها ، وقولك : من فلان إلى فلان ، قال : وأخذت منه درهما ، وسمعت منه حديثا ، أي : هو أول هذا الذكر.

وتدخل للتبعيض في قولك : أكلت من طعامك ، وأخذت من مالك ، وقيل : معنى ذلك أنه جعل ماله ابتداء غاية ما أخذ منه ، فدل على التبعيض من حيث صار ما بقى إمهاله والأصل واحد.

قال المبرد : وتكون لإضافة الأنواع إلى الأسماء ؛ كقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [سورة المائدة آية : ٩٠] ، وقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [سورة الحج آية : ٣٠] ، والرجس يجمع الأوثان وغيرها ؛ فإذا قلت : من الأوثان وغيرها فإنما معناه الذي ابتداؤه من هذا الصنف ، قال : وكذلك قول سيبويه : هذا باب علم ما الكلم من العربية ؛ لأن الكلام يكون عجميا وعربيا فأضاف النوع إلى اسمه الذي يبين فيه ، وهو العربية ، وقيل : لما كان في الوثن رجس وغير رجس ، قال : من الأوثان فحرم الرجس منها ، وهو عبادتها ، ولم يحرم أجسامها ، ودخلت من على هذا التقدير ، وقالوا : يكون دخولها كسقوطها في قولك : ما جاءني من أحد.

وقول الله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٠٥] ، وعند المحققين من النحاة إنها هاهنا ليست زيادة ؛ لأن الزيادة في الكلام من غير فائدة عيب ، ولمن هاهنا معنى صحيح ، وهو أنك إذا قلت : ما جاءني أحد فجاز أن تكون أحد هاهنا بمعنى واحد ، وجاز أن تكون أحد الذي هو بمعنى الجنس ؛ فإذا دخل من زال اللبس فصار المعنى من الناس كلهم ؛ إذا كانوا واحدا واحدا ، وإذا لم يدخل من جاز ، لأن لا يجيئه واحد ويجيئه اثنان فما فوق.

وقال ابن درستويه : إنما أفادت هاهنا أنه لم يجيئه من هذا الجنس شيء ، وإذا لم تدخل من ، كان المعنى أنه لم يجيئه هذا الجنس كله ، ولما كان بمعنى التنكير في الوجهين ، والعموم موجود ظنوا أن من لا معنى لها.

٤٣٩

وجاء في القرآن على أربعة أوجه فيما قيل :

الأول : مجيئه بمعنى الباء ، قال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [سورة غافر آية : ١٥] ، وقال : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة الرعد آية : ١١].

الثاني : بمعنى في ، قال الله : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [سورة فاطر آية : ٤٠] ، أي : في الأرض.

الثالث : بمعنى على ، وقال الله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [سورة الأنبياء آية : ٧٧] ، أي : عليهم ، وعندنا أن ذلك يقال على المسامحة والمقاربة ، فإذا أردت هذه الوجوه إلى أصل من في العربية صحت ؛ فقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة الرعد آية : ١١] ، أي : ابتداء حفظه من ذلك ، وهكذا قوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [سورة غافر آية : ١٥] ، أي : أمره ابتداء الغاية ، وقوله : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [سورة الأحقاف آية : ٤] ، أي : ماذا خلقوا بعض الأرض.

الرابع : الوجه الذي ذكر أنه زيادة ، وهو على ما ذكرناه ، قال الله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [سورة النور آية : ٣٠] ، وقوله : (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٠٥] ، وقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) [سورة يوسف آية : ١٠١] ، قالوا : دخل من هاهنا لتختص هذا الملك من سائر الأشياء ، وكذلك قوله : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [سورة إبراهيم آية : ١٠] ، وإذا كان لدخوله معنى خرج من أن تكون زيادة ؛ فقوله : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [سورة إبراهيم آية : ١٠] ، أي : بعض ذنوبكم ، وهو الذي يتولون منه ، وقوله : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [سورة النور آية : ٣٠] ، فإن من للتبعيض ، أي : بعض أبصارهم يريد ما حرم عليهم النظر إليه ، وقيل : هو للتبيين لأنه لما قال : (يَغُضُّوا) [سورة النور آية : ٣٠] ، احتمل أشياء كثيرة ، فبين المراد بمن فقال : (مِنْ أَبْصارِهِمْ) [سورة النور آية : ٣٠] ، وأما قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [سورة النور آية : ٤٣] ، بمعنى قوله : (مِنَ السَّماءِ) [سورة النور آية : ٤٣] ،

٤٤٠