تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

المصيبة

أصل الإصابة القصد ، وفي المثل : أصاب الصواب فأخطأ الجواب أي : أراد ، ومنه قوله : (رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [سورة ص آية : ٣٦] ، أي : أراد وصاب الشيء إذا نزل من علو إلى سفل ، كأنه يقصد الوجهة التي يمر فيها ، وكذلك في إصابة السهم.

والمصيبة في القرآن على وجهين :

الأول : مكاره الدنيا من القحط والجدب والمرض ، قال الله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [سورة الشورى آية : ٣٠] ، وقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ) [سورة الحديد آية : ٢٢] ، فالمصيبة في الأرض الجدب ، وفي الأنفس المرض ، ودليل هذا قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [سورة الحديد آية : ٢٣] ، ولو أراد بالمصيبة الطاعة ، والمعصية على ما يقوله المجبرة لم يقل : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) [سورة الحديد آية : ٢٣] ، وقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة التغابن آية : ١١] ، يعني : هذه المكاره ، وقال : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [سورة الشورى آية : ٢١] ، فهذا دليل على أن المصيبة ليست بالمعصية ، إذا ذكر أنه لم يأذن بالمعصية ، وأذن بالمصبة ، والمصائب من الله حسنة ، والأذن على هذا التفسير الأمر ، وهو أن يأمر الملك بإنزال المصيبة فيهم ، ويجوز أن يكون بمعنى العلم ، والمراد أن الله يعلمها ويجازيهم عليها بالحسنى.

الثاني : الهزيمة والقتل ، قال الله : (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) [سورة التوبة آية : ٥٠] ، يعني : أنكم إن هزمتم استصوب المنافقون بخلفهم عن القتال معكم ، والأصل في هذه الوجوه واحد وهو الخلة المكروهة الشديدة الكراهة يترك الإنسان.

٤٦١

المقام

المقام يكون مصدرا يقال : قام الرجل مقاما حسنا ، أي : قياما ، ويكون موضع القيام ويجمع مقامه ، ومنه : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) [سورة البقرة آية : ١٢٥ ، آل عمران : ٩٧] ، وأصله من الاستواء ، قوم الشيء إذا سواه وأقام الوزن أي : عدله ، وقام الرجل لاستوائه منصبا ، ويقال : مقام ومقامة مثل مكان ومكانة هذا قول ، وقول آخر أن المكانة الطريقة ، ومنه قوله تعالى : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) [سورة الأنعام آية : ١٣٥] ، أي : على طريقتكم في الكفر والمقامة الجماعة ، قال زهير :

وفيهم مقاما حسّان وجوههم

والمقامة بالضم المجلس يوكل فيه ، والمقامة بالفتح المجلس يتحدث فيه ، والمقام الإقامة ، وفي قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [سورة البقرة آية : ١٢٥] ، خلاف.

قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني : الحج كله ، وروي عن مجاهد أيضا أنه قال : أي مصلى أو مدعى من صليت إذا دعوت.

وروي عن ابن عباس أيضا قال : هو المقام بعرفة ، وقال قتادة : هو الأمر بالصلاة عند المقام وإلى هذا ذهب أبو علي رضي الله عنه وقال : هو الحجر الذي فيه أثر قدم إبراهيم صلى الله عليه ، فأما المقام فالإقامة أقام إقامة ومقاما.

والمقام في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ)(١) [سورة الدخان آية : ٥١] ، قال : معناه مساكن أمن أهلها ، ومثله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [سورة الدخان آية : ٢٥ ـ ٢٦] ، يعني : مساكن حسانا ، وقيل : المقام الكريم المنابر.

__________________

(١) قال الرازي : اعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما : أن يكون آمنا عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم ، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم ، قال صاحب «الكشاف» المقام بفتح الميم هو موضع القيام ، والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملا

٤٦٢

الثاني : القيام ، قال الله : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) [سورة الأحزاب آية : ١٣] ، أي : لا يقومون لهم ، فهذا على هذا التأويل مصدر ، ويجوز أن يكون المكان ، وقرئ : (لا مُقامَ لَكُمْ) [سورة الأحزاب آية : ١٣] ، بضم الميم ، أي : لا إقامة لكم ، يقال : أقمت بالبلد مقاما وإقامة ونحوه : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [سورة الرحمن آية : ٤٦] ، يعني : من خاف القيام بين يدي ربه في الحساب ، فترك المعصية ، وقيل : من خاف مقام الله عند المعصية عرضت فذكر أنه يسأل عنها فتركها ، وحقيقة ذلك مقام العبد بحيث بدله الله عاصيا.

الثالث : المكان ، قال الله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات آية : ١٦٤] ، أي : مكان يعبد فيه ربه ، والمعنى ما منا إلا من له مقام معلوم ، فحذف من ، كما قال الشاعر :

لو قلت ما في قومها لم يت

يم لفضلها في حسب ومشيم

وقد مر ذلك.

__________________

ـ في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة ، والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني : لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون ، فلما ذكر تعالى هذين الشرطين مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة. [مفاتيح الغيب : ١٤ / ١٧].

٤٦٣

المفاتح (١)

قد ذكرنا أصل هذه الكلمة فيما تقدم ، وهو في القرآن على وجهين :

الأول : جمع مفتح ، وهو الذي يفتح به القفل وغيره ، قال الله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [سورة القصص آية : ٧٦] ، وقيل : المفاتح هاهنا الكنوز ، واحدها مفتح.

الثاني : قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) [سورة النور آية : ٦١] ، قال ابن عباس : أراد الرجل يوكل بضيعة الرجل فرخص له أن يأكل من ثمرتها أو مواشيه فرخص له أن يشرب من ألبانها.

وقال أبو علي : أراد الثبوت التي مفاتيحها بأيديكم وأنتم مؤتمنون عليها ، فجعل من الوجه الأول.

__________________

(١) [فتح] الفتح معروف ، وهو أيضا افتتاح دار الحرب. والفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك ، من قوله عزوجل" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا". وقوله" إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ" أي تستنصروا فقد جاءكم النّصر. والفتّاح الحاكم. والفتاحة والفتاحة المحاكمة. والفتحة تفتّح الإنسان بما عنده من مال. وفواتح القرآن أوائل السّور. وافتتاح الصّلاة التّكبيرة الأولى. وباب فتح واسع ، ومفتوح. وقارورة فتح لا صمام لها. والمفتح الخزانة ؛ ويقال مفتح أيضا ، والجميع المفاتح. وقيل هي الكنوز. وفاتحة الكتاب الحمد لله. وقال الفرّاء يدعى مجرى السّنخ من القدح الفتح ، وجمعه فتوح. وناقة فتوح وهي التي تشخب أخلافها إذا مشت. ويسمّى مطر الوسميّ الفتح ، والجميع الفتوح لأنّه يفتتح الشّهر بالمطر. والفتاح مخر الأرض ثمّ حرثها. وفاتح كاشف. وقوله فاتح البيع تاجره أي باشره ، وقال أبو سعيد أشطّ في السّوم. والمفتاح سمة بالفخذ والعنق. [المحيط في اللغة : ١ / ٢١٥].

٤٦٤

الباب الخامس والعشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله نون

الناس (١)

أصل الناس : أناس أسكنت الهمزة منه فأدغمت اللام ، كما قيل : لكنا ، وقيل : الناس لغة مفردة ، والأناس لغة أخرى ، ولو كان أصله أناسا لقيل في التصغير أنيس ، وإنما يقال : نويس وتجمع أناس على أناسي ، وقيل : أناسي جمع أنسي واشتقاقه من الأنس ، خلاف الوحشية ، لأن بعضهم يأنس ببعض ، والناس جماعة لا واحد لها من لفظها ، وواحدها إنسان على المعنى.

وهو في القرآن على ستة أوجه :

الأول : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء آية : ٥٤] ، جاء في التفسير أنه أراد النبي عليه‌السلام ، قيل : وهو مثل قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران آية : ١٧٣] ، وكان الذي أخبرهم بجمع أهل مكة نعيم بن مسعود الأشجعي ، ويجوز عندنا أن يكون معنى قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) [سورة النساء آية : ٥٤] ، النبي صلى الله عليه والمؤمنين ، فقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران آية : ١٧٣] ، لفظ عام ، والمعنى مخصوص ؛ لأن الناس كلهم لم يخبروهم ولم يجمعوا لهم أنصار ، وبيان هذا مستقصي في كتابنا في التفسير ،

__________________

(١) الفرق بين الناس والخلق : أن الناس هم الانس خاصة وهم جماعة لا واحد لها من لفظها ، وأصله عندهم اناس فلما سكنت الهمزة أدغمت اللام ، كما قيل لكنا وأصله لكن أنا ، وقيل الناس لغة مفردة فإشتقاقه من النوس وهو الحركة ناس ينوس نوسا إذا تحرك ، والاناس لغة اخرى ولو كان أصل الناس اناسا لقيل في التصغير انيس وإنما يقال نويس فإشتقاق اناس من الانس خلاف الوحشة وذلك أن بعضهم يأنس ببعض ، والخلق مصدر سمي به المخلوقات والشاهد قوله عزوجل" خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها" ثم عدد الاشياء من الجماد والنبات والحيوان ثم قال" هذا خَلْقُ اللهِ" وقد يختص به الناس فيقال ليس في الخلق مثله كما تقول ليس في الناس مثله ، وقد يجري على الجماعات الكثيرة فيقال جاءني خلق من الناس أي جماعة كثيرة. [الفروق اللغوي : ١ / ٥٢٧].

٤٦٥

ويذهب بعضهم إلى أنه لا صيغة للعموم في اللغة ، قال : لأن كل لفظ صيغته صيغة العموم ، قد جاء مثله في الخصوص ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن صيغة العموم معروفة ، ولا يخص إلا دلالة وحيث لا دليل فهو على أصل العموم ، ألا ترى أن قوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران آية : ١٨٥] ، لا يجوز أن تخص ، لأنه لا دليل فيه فهو على العموم ، وصيغته صيغة العموم ، وأما قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة النمل آية : ٢٣] ، فقد دل على أنه مخصوص ، فكأنه قال : قد أوتيت أكثر الأشياء فهذا الأصل ، والأول مجاز ، وإذا خرج شيء عن الأصل ؛ فإن الأصل لا يبطل به ، وكل شيء موقوف على دليله ، وألفاظ العموم من فيمن يعقل وما فيما لا يعقل ، وأين في الأمكنة ، ومتى في الأزمنة ، وكل فيمن يعقل وفيما لا يعقل ، وغير ذلك فيما ذكره العلماء.

الثاني : المؤمنون خاصة ، قال الله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة البقرة آية : ١٦١] ، يعني : أن المؤمنين يلعنونهم فاللفظ عام ، والمعنى خاص ، ويجوز أن يعني : أن بعضهم يلعن بعضا في الآخرة مع لعن المؤمنين لهم ، فيكون معنى الآية على ظاهره ، وتأويل هذا قوله تعالى (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [سورة الأعراف آية : ٣٨].

وقال الربيع : يراد لعن المؤمنين لهم ويخرج هذا على قولك المؤمنون هم الناس ؛ كأنه لا يعتد بغيرهم ، ومثل هذه الآية قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) [سورة البقرة آية : ١٣] ، أي : كما آمن غيركم من الناس ، وقيل : يعني بالناس هاهنا عبد الله بن سلام وأصحابه.

الثالث : بنو إسرائيل خاصة ، قال الله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [سورة المائدة آية : ١١٦].

الرابع : من كان على عهد آدم وأهل سفينة نوح عليه‌السلام ، قال الله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة البقرة آية : ٢١٣] ، وقد مضى هذا القول في هذا.

٤٦٦

الخامس : أهل مصر خاصة ، قال الله : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة يوسف آية : ٤٦] ، وقال : (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) [سورة يوسف آية : ٤٩].

السادس : الناس كلهم ، قال : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [سورة الإسراء آية : ٦٠] ، أي : هو قادر على جميع الناس لا يفوتونه ولا يعجزونه ، والمحيط في أسماء الله تعالى بمعنى القادر القاهر الغالب.

وقيل : الناس هاهنا أهل مكة خاصة ، ومن العام الذي معناه العموم قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، ولو جاء بصروف العموم عن ظاهره بغير دليل يجاز في هذا لأن علمه ، وإن كان محيطا بالأشياء كلها ، فقد يجوز أن يخبر عن بعضها أنه عالم به ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [سورة غافر آية : ١٩] ، وقوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [سورة الأنعام آية : ٣] ، وأما العام الذي بمعنى الخصوص ؛ فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [سورة الحج آية : ١ ، النساء : ١ ، لقمان : ٣٣] وذلك أن المراد المكلفون والخاص الذي بلفظ الخصوص : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [سورة المائدة آية : ٤١ ، ٦٧] ، والعام الذي جاء بلفظ الخصوص.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [سورة الانشقاق آية : ٦] ، وقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [سورة التين آية : ٤] ، ويكون عام يدخله الخصوص على غير هذا الوجه ، كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [سورة التوبة آية : ١٢٣].

وقد دلت السنة والإجماع على أن طائفة إذا أقاموا بذلك سقط عن الآخرين على أن جميع المؤمنين مأمورين به ، إن عليهم ذلك ما لم يقم به بعضهم ، والعرب تقول : أحمر البشر ، وإن لم يحمر جميعه ، لأن منه ما هو أصفر ، وغسلت ثيابي وإن لم يرد كل ثوب وكساء وجبة ، وإنما أراد هذا أوان احمرار البشر ، وهو أوان فراغي من الغسل.

٤٦٧

النار

أصل النار والنور واحد ، والألف في النار أصلها واو ، ولذلك يقال : تنورت النار إذا أبصرتها ، ويسمون السمة نارا ؛ لأنها بالنار تكون ، قال الراجز :

قد سبقت آباءهم بالنار إلى النار

أي لما رأى أهل الماء سماتها خلوا لها الماء حتى شربت ، وأصل الكلمة البياض ، ومنه قيل : النورة لبياضها.

وهي في القرآن على وجهين :

الأول : مثل وهو قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)(١) [سورة المائدة آية : ٦٤] ، والعرب تشبه الحرب بالنار ، ويقولون : فلان محش حرب ، إذا كان يقوم بأمرها ، وأصل الحش الإيقاد.

الثاني : النار بعينها ، قال الله : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [سورة القصص آية : ٢٩].

__________________

(١) قال الشوكاني : قوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما جمعوا للحرب جمعا وأعدوا له عدّة شتت الله جمعهم ، وذهب بريحهم ، فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة ، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم ، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ، ثم يبطل الله ذلك ، والآية مشتملة على استعارة بليغة ، وأسلوب بديع. [فتح القدير : ٢ / ٣٣٢].

٤٦٨

النسيان

أصله الترك ، وسمي خلاف الذكر نسيانا ؛ لأن الناسي للشيء تارك له ، قال الله تعالى : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [سورة مريم آية : ٢٣] ، أي : مغفولا عني متروكا ، والنسيان الذي هو خلاف الذكر يفعله الله في الإنسان عند اشتغاله عن حاجته ، وصرف الاهتمام عنها ، ونسبه الله إلى الشيطان في قوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)(١) [سورة الكهف آية : ٦٣] ، لأنه كان نسيها عند وسوسته إياه.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الترك ، قال الله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [سورة طه آية : ١١٥] ، ولم يذكر أنه نسى نهي الله إياه عن أكل الشجرة ؛ لأنه لو كان كذلك ، لم يكن له ذنب ولا عليه إثم ، وإنما المعنى أنه أكل من مثل الشجرة التي نهى عنها ، وظن أن النهي مقصور عليها ، وترك الدليل الذي لو اعتمد لدله على أن النهي عام في جميع الجنس فصار ذنبه ترك الدليل ، ومثله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٣٧] ، أي : استعملوه ولا تتركوه ، وقال : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة آية : ٦٧] ، أي : تركوا طاعته فصارت عليهم بمنزلة المنسي فتركهم من رحمته.

__________________

(١) قال الرازي : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) فيه مباحث :

البحث الأول : أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجبا ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.

البحث الثاني : قال الكعبي : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه ، أثر قال القاضي : والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى.

البحث الثالث : قوله (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الهاء في (أَنْسانِيهُ) أي : وما أنساني ذكره إلا الشيطان. [مفاتيح الغيب : ١٠ / ٢٢٩].

٤٦٩

وأصل الترك في الله مجاز وحقيقته هاهنا أنه أوجب لهم العذاب ، ويجوز أن يكون المراد أنهم تركوا ذكر الله فمنعهم الله الخير وذلك أن خيرك لا يبلغ من أنت ناسيه ، ويجوز أن يكون معناه أنهم تركوا طاعته فعاقبهم الله بنسيانهم إياها فسمي الجزاء على النسيان نسيانا.

الثاني : بمعنى التخليد في العذاب ، قال الله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) [سورة السجدة آية : ١٤] ، المعنى خلدناكم في العذاب ، وجعله نسيانا ؛ لأنه جزاء بالنسيان ، وهو ترك العمل للقاء ذلك اليوم ، وليس هو خلاف الذكر ، لأن ذلك فعل الله ، ولا يجوز أن تفعله بهم ويعذبهم عليه على أنه يجوز أن يسمى سبب النسيان الكائن منهم نسيانا ، ويذكر أنه يعذبهم على النسيان ، وهو يريد أن يعذبهم على سببه.

الثالث : خلاف الذكر ، قال الله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [سورة الأعلى آية : ٦ ـ ٧] ، خبر وليس بنهي ، وقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [سورة الكهف آية : ٧٣] ، وأراد بقوله : فلا تنسى الإخبار بفضيلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن جبريل يقرأه عليه ، وهو أمي فيحفظه ولا ينسى منه شيئا ؛ ثم يقرأ أصحابه ، وقيل : إلا ما شاء الله أن ينسخه بعد العمل فينسبه النبي عليه‌السلام أمير المؤمنين ، ومنه قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [سورة البقرة آية : ١٠٦].

٤٧٠

النشوء (١)

أصله الابتداء ومنه نشأت السحابة ؛ إذا ابتدأت ترتفع من الأفق ، وهو نشوء حسن ، والنشوء من الناس الإيقاع يقع على الذكر والأنثى ، قال نصيب :

ولو لا أن يقال صبا نصيب

لقلت نفسي النشوء الصغار

بنفسي كلّ مهضوم الحشايا

إذا ظلمت فليس لها انتصار

إذا ما الذل ضاعفن الحشايا

كفاها إنّ بلان لها الآزار

وقد نشأت إنشاء إذا شئت ، والمشيء في أسماء الله تعالى المبتدئ في الأشياء على غير مثال.

والنشوء في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الخلق ، لأنه يبدأ به ، قال الله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [سورة المؤمنون آية : ٣١] ، وقال : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) [سورة الواقعة آية : ٣٥] ، وقوله : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [سورة الملك آية : ٢٣].

الثاني : قوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) [سورة الزخرف آية : ١٨] ، يعني : البنات ، : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [سورة الزخرف آية : ١٨] ، أي : الأنثى لا يكاد يستوفي الحجة ، وجاء عن السلف لا تكاد تحتج المرأة بحجة إلا عليها ، أي : جعلوا لله بنات والبنت هذه صفتها.

الثالث : قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) [سورة المزمل آية : ٦] ، يعني : ساعات الليل ، وقال الأصم : ناشئة الليل هو أن منشوء من منامك لصلاتك ، وقال بعضهم : الليل كله

__________________

(١) (ن ش أ): (النّشء) مصدر نشأ الغلام إذا شبّ وأيفع فهو ناشئ وحقيقته الّذي ارتفع عن حدّ الصّبا وقرب من الإدراك من قولهم نشأ السّحاب إذا ارتفع ثمّ سمّي به النّسل فقيل هؤلاء نشء سوء وفلان من نشء صدق ومنه قولهم قطع النّشء وقد جاء النّشوء في مصدره أيضا على فعول وقوله وحرمة الرّضاع إنّما ثبتت باللّبن الّذي يشربه الصّغار للنّشوّ والنّموّ على القلب والإدغام للازدواج. [المغرب : النون مع الشين].

٤٧١

ناشئة ، وقال آخرون : بعد صلاة العشاء ناشئة ، : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) [سورة المزمل آية : ٦] ، أي : أشد لمواطأة القلب السمع لخلو البال بالليل ، ومن هذا قولهم : أمن عمل بليل ، وقرئ : أشد وطا [سورة المزمل آية : ٦] ، ومعناه أبلغ في القيام ، وأبلغ في القول ، ويجوز أن يكون معناه أغلظ على الإنسان من القيام بالنهار ، لصعوبة السهر ، وقال بعضهم : (أَشَدُّ وَطْئاً) [سورة المزمل آية : ٦] ، أثبت في همك لما تقرأ : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) [سورة المزمل آية : ٦] ، لأنه لا يشغلك شيء فيعرف صواب ما يقول ، وفي النهار عوارض تشغلك عن ذلك ، وقال بعضهم : (أَشَدُّ وَطْئاً) [سورة المزمل آية : ٦] ، أثبت في الدين ، : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) [سورة المزمل آية : ٦] ، أثبت في القراءة.

٤٧٢

النفس (١)

النفس الدم ، ومنه قيل : النفساء سيلان الدم منها ، وقال السموأل :

تسيل على حد السيوف نفوسنا

وليست على غير السيوف تسيل

ثم سميت الروح نفسا ؛ لأن الإنسان يعيش بها كما يعيش بالدم ، وأما النفس فالسعة ، وفي الحديث الريح من نفس الله أي : من سعة رحمته على عبادة ، ومنه قولهم : فلان في نفس من أمره ، أي : في سعة ، ومنه قوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [سورة التكوير آية : ١٨] ، إذا اتسع ضوءه ، وكل هذا يرجع إلى النفاسة ، وهي أصل الكلمة وأولها.

والنفس في القرآن على ستة أوجه :

الأول : ذكر النفس ، والمعنى لحملة الإنسان ، قال الله : (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [سورة ق آية : ١٦] ، أي : يتوسوس به هو ، وهذا مثل قولهم : كسبت يده ورأت عينه.

والمعنى أنه كسب هو ورأى ، ومثله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ) [سورة يوسف آية : ٥٣] ، أي : ما أبرءوني ، ونفس الشيء حقيقته يقال : هلكت نفس زيد ، أي : هلك هو ، وعلى هذا فسر قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [سورة المائدة آية : ١١٦] ، أي : تعلم ما أعلم ، ولا أعلم ما تعلم.

__________________

(١) (ن ف س): (النّفاس) مصدر نفست المرأة بضمّ النّون وفتحها إذا ولدت فهي نفساء وهنّ نفاس (وقول) أبي بكر رضي الله عنه إنّ أسماء نفست أي حاضت والضّمّ فيه خطأ وكلّ هذا من النّفس وهي الدّم في قول النّخعيّ كلّ شيء ليست له (نفس سائلة) فإنّه لا ينجّس الماء إذا مات فيه وإنّما سمّي بذلك لأنّ النّفس الّتي هي اسم لجملة الحيوان قوامها الدّم (وقولهم) النّفاس هو الدّم الخارج عقيب الولد تسمية بالمصدر كالحيض سواء وأمّا اشتقاقه من تنفّس الرّحم أو خروج النّفس بمعنى الولد فليس بذاك لأنّ النّفس الّتي بفتحتين واحد الأنفاس وهو ما يخرج من الحيّ حال التّنفّس ومنه لك في هذا (نفس) أي سعة (ونفسه) أي مهلة (ونفّس الله كربتك) أي فرّجها ويقال (نفّس الله عنه) إذا فرّج عنه (ونفّس عنه) إذا أمهله على ترك المفعول (وأمّا قوله) في كتاب الإقرار لو قال نفّسني فعلى تضمين معنى أمهلني أو على حذف المضاف أي نفّس كربي أو غمّي (وشيء نفيس ومنفس). [المغرب : النون مع الفاء].

٤٧٣

ويجوز أن يكون معنى ذلك إنك تعلم ما أخفيه ، ولا أعلم ما تخفيه عني ، وجعل النفس عبارة عن هذا المعنى ؛ لأن ما يخفيه الإنسان يخفيه في نفسه ؛ فأخرج الكلام على العرف ، ويجوز أن يكون المعنى تعلم غيبي ، ولا أعلم غيبك ؛ لأن ما في النفس غيب فلما ذكر النفس قابله بمثله ليحسن نظم الكلام ، والمعنى معروف.

الثاني : قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [سورة التوبة آية : ١٢٨] ، أي : منكم.

الثالث : مجيء الأنفس بمعنى الإخوان ، قال الله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [سورة النور آية : ٦١] ، أي : على إخوانكم ، وهو قريب من الأول : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة النور آية : ٦١] ، لأن الله بينها ، : (مُبارَكَةً طَيِّبَةً) [سورة النور آية : ٦١] ، أي : يبقى أجرها وطيبها لكم ، والبركة البقاء والثبات.

الرابع : مجيئها بمعنى الإنسان ، قال الله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة آية : ٤٥] ، أي : الإنسان بالإنسان ، وفي هذا دليل على أن الحر يقتل بالعبد ؛ لأن شرائع من قلناه ثابتة الحكم علينا ، ما لم يثبت نسخها ، ودليل هذا قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل آية : ١٢٦].

وقال رسول الله صلى الله عليه : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وقد استوى الحر والعبد في الإيمان" (١).

وعند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر : أنه لا قصاص بين الحر والعبد إلا في النفس.

وعند ابن أبي ليلى : أنه يجب بينهما في النفس وفي جميع الجراحات التي تستطاع فيها القصاص.

__________________

(١) أخرجه النسائي من حديث علي بن أبي طالب (٤٧٤٦) ، وفي السنن الكبرى (٨٦٢٨) ، وأحمد في مسنده (٩٦٢) ، وله شاهد من حديث أم المؤمنين عائشة أخرجه الدارقطني (٣٢٢٢).

٤٧٤

وعند مالك : أنه لا قود بين الحر والعبد في شيء من الجراح ، والعبد يقتل بالحر ، والحر لا يقتل بالعبد.

وقال الشافعي : من جرى عليه قصاص في نفس جرى عليه القصاص في الجراح ، ولا يقتل الحر بالعبد ، ولا نقيض منه فيما دون النفس ، وقول الله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [سورة البقرة آية : ١٧٨] ، يوجب القصاص على المؤمن في كل قتيل العموم لفظه ، فإن قال فقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] ، يدل على أن المراد القتلى من المؤمنين ، لأن الكافر لا يكون أخا للمؤمن ، قلنا : يحتمل أن يذكر لفظا عاما ثم يعطف عليه بحكم خاص ، كما قال : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [سورة البقرة آية : ٢٢٨] ، وهو عام في المطلقة ثلاثا ، وما دونها ، ثم قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [سورة البقرة آية : ٢٢٨] ، فعطف عليه بحكم يختص بعض المطلقات على أن يكون العبد أخا للحر في الإيمان ، فإن قيل : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] ، يدل على ما ذكرنا ، قلنا : لا خلاف أن الحكم ليس بمقصور على هذا دون غيره ، لاتفاق الجميع على جواز قتل العبد بالحر ، وقال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الأنعام آية : ١٥١] ، يعني : الإنسان ، لأن النفس على الحقيقة لا تقتل ، والحق هاهنا القصاص ، أي : لا تقتلوه قصاصا.

الخامس : الروح ، قال : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [سورة الأنعام آية : ٩٣] ، أي : أرواحكم ، والمعنى إنا نخرجها ، كما تقول للرجل وأنت تقتله : أنزع الآن روحك ، وليس نزع روحه إليه.

السادس : آدم عليه‌السلام ، قال الله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [سورة النساء آية : ١ ، الأعراف : ١٨٩ ، الزمر : ٦] ، فأنت على اللفظ ، وهو الوجه ، وأنت تقول : أتاني إنسان واحد يعني : امرأة ، وشربت شرابا طيبا ، وأنت تريد الخمر.

٤٧٥

النصيب (١)

أصله ما يخص الإنسان عن مقاسمة كأنه تصد له ليأخذه ، ثم استعمل في غير ذلك ، والفرق بينه وبين الحظ ، أن الحظ ما يرتفع به الإنسان ، ولهذا يقال : لفلان حظ في التجارة ، ولا يقال : له نصيب فيها.

والنصيب في القرآن على وجهين :

الأول : الحصة من الثلث ، وهو قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [سورة النساء آية : ٣٣] ، قد تم الكلام عند ذلك ، : (وَلِكُلٍ) يعني : التركات ، والموالي : أقارب الميت ، لأنهم أولى بالميراث ، وفي الآية حذف ، فالمراد : لكل شيء من الميراث أصحابهم أولى فأقصروه عليه ثم ابتدأ ، فقال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [سورة النساء آية : ٣٣] ، يعني : من الثلث ، ويريد الحلفاء ، وهو مثل قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) [سورة الأحزاب آية : ٦] ، وقيل : يعني : نصيبهم من النصر والموآزرة.

الثاني : الجزاء ، قال : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [سورة النساء آية : ٣٢] ، أي : لهم جزاء بما عملوا ونحوه ، : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) [سورة البقرة آية : ٢٠٢] ، يعني : الثواب ، وقوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) [سورة الأعراف آية : ٣٧] ، يعني : العقاب ، وفي هذه الآية وجوه أخرى ذكرناها في التفسير.

__________________

(١) الفرق بين النصيب والقسط : أن النصيب يجوز أن يكون عادلا وجائرا وناقصا عن الاستحقاق وزائدا يقال نصيب مبخوس وموفور ، والقسط الحصة العادلة مأخوذة من قولك أقسط إذا عدل ويقال قسط القوم الشئ بينهم إذا قسموه على القسط ، ويجوز أن يقال القسط إسم للعدل في القسم ثم سمي العزم على القسط قسطا كما يسمى الشئ بإسم سببه وهو كقولهم للنظر رؤية ، وقيل القسط ما استحق المقسط له من النصيب ولابد له منه ولهذا يقال للجوهر قسط من المسامحة أي لا بد له من ذلك. [الفروق اللغوية : ١ / ٥٤١].

٤٧٦

النكاح (١)

أصل النكاح الجماع ، ومنه قول العرب في بعض أمثالها : أنكح من خوات أي : أكثر مجامعه ، وله حديث معروف ويروى عن بعض نسائها أنه كان يقال لها خطب ، فيقول نكح يريد الجماع ، ثم استعمل في التزويج ، ومنه قول حكيمها المناكح :

الكريمة مدرجة للشرّف

ويقال : أنكح الرجل المرأة إذا جامعها ، ونكحت المرأة الرجل إذا تزوجته من قوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) [سورة البقرة آية : ٢٣٢] ، وجاء في القرآن على وجهين :

فأما ما جاء بمعنى التزويج ، فقوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [سورة الأحزاب آية : ٤٩] ، أي : تزوجتموهن ؛ لأنه ذكر عدم الدخول

__________________

(١) (ن ك ح): (أصل النّكاح) الوطء ومنه قول النّجاشيّ (والنّاكحين) بشطّي دجلة البقرا وقول الأعشى (ومنكوحة) غير ممهورة وأخرى يقال لها فادها يعني المسبيّة الموطوءة ثمّ قيل للتّزوّج (نكاحا) مجازا لأنّه سبب للوطء المباح قال الأعشى (لا تنكحنّ) جارة إنّ سرّها عليك حرام (فانكحن) أو تأبّدا أي فتزوّج أو فتوحّش وتعفّف وعليه قوله تعالى (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أنا من نكاح ولست من سفاح) وقال الزّجّاج في قوله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أي لا يتزوّج وقيل لا يطأ قال وهذا يبعد لأنّه لا يعرف شيء من ذكر النّكاح في كتاب الله تعالى إلّا على معنى التّزويج وأيضا فالمعنى لا يقوم عليه وقولهم (النّكاح) الضّمّ مجاز أيضا إلّا أنّ هذا من باب تسمية المسبّب باسم السّبب والأوّل على العكس وممّا استشهدوا به قول المتنبّي (أنكحت) صمّ حصاها خفّ يعملة تغشمرت بي إليك السّهل والجبلا (يقال) انكحوا الحصا أخفاف الإبل إذا ساروا (واليعملة) النّاقة النّجيبة المطبوعة على العمل (والتّغشمر) الأخذ قهرا يعني أخذت بي في طرق السّهولة والحزونة ويقال (نكح) الرّجل ونكحت المرأة من باب ضرب (وأنكحها) وليّها وفي المثل (أنكحنا الفرا فسرى) قال رجل لامرأته حين خطب إليه ابنته رجل وأبى أن يزوّجه إيّاها ورضيت الأمّ بتزويجه فغلبت الأب حتّى زوّجها إيّاه بكره منه وقال أنكحنا فسنرى ثمّ أساء الزّوج العشرة فطلّقها يضرب في التّحذير من العاقبة وإنّما قلب الهمزة ألفا للازدواج (والفرا) في الأصل الحمار الوحشيّ فاستعاره للرّجل استخفافا به وفي الحديث (لا ينكح المحرم ولا ينكح) وهذا خبر في معنى النّهي وفي حديث الخنساء انكحي من شئت بكسر الهمزة وامرأة ناكح في بني فلان أي ذات زوج. [المغرب : النون مع الكاف].

٤٧٧

فلا نشك في أنه أراد التزويج ، وقال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [سورة النساء آية : ٢٥] أي : تزوجوهن لأن الزوج لا يلزم أن يجامع امرأته بإذن أهلها.

والوجه الآخر : قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)(١) [سورة النساء آية : ٢٢] ، أراد الجماع ، وذلك أن الرجل إذا مات وله امرأة قال وارثه : قد ورثت امرأته كما ورثت ماله وألقى عليه ثوبا فيملك بذلك نكاحها على الصداق الأول بغير عقد ثان ، والتزويج إنما هو اسم ، وكان الولد الذي يكون بينهما يقال له : المقتى. وقال الله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) [سورة النساء آية : ٢٢] ، والمقت اسم يجمع للبغض والاستقباح ، ومقت فلان نفسه إذا ذمها على قبيح ، والمعنى أن ذلك معصيته يمقتها الله.

وقال أبو الحسن : جميع ما في القرآن من ذكر النكاح فهو التزويج إلا حرفا واحدا في سورة النور وروى عن بعضهم أنه أراد الجماع ، وهو عند غيره أراد التزويج.

قال أبو هلال رحمه‌الله هو قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [سورة النور آية : ٣] ، قال أبو بكر : لا تخلوا الآية من أن تكون خبرا أو نهيا ، وقد علمنا أنه ليس بخبر ؛ لوجودنا رأينا بتزويج غير الزانية فثبت أنه أراد النهي ثم لا تخلوا أن تكون نهيا عن الوطء أو العقد أو عنهما جميعا ، ولا يجوز أن يكون المراد العقد ، لأن حقيقة النكاح الوطء.

ولا يجوز حمل الكلام على المجاز دون الحقيقة من غير دلالة فثبت أن المراد الوطء على ما يقوله ابن عباس ، ومن تابعه أو تكون الآية منسوخة على ما يقوله سعيد بن المسيب ، وغيره ، وقال في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) [سورة النساء آية : ٢٢] ، حقيقة النكاح الوطء ، فكأنه قال : ولا تنكحوا ما وطئ آباؤكم في كل وط حراما كان أو حلالا ؛ كما أن الضرب والقتل ولا يختص بالحلال من ذلك دون الحرام.

__________________

(١) قال الشوكاني : قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا ، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه ، فقال : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها ، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي ، عن نكاح المقت ، فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها ، أو مات عنها ، ويقال لهذا الضيزن ، وأصل المقت البغض ، من مقته يمقته مقتا ، فهو ممقوت ، ومقيت. [فتح القدير : ٢ / ١٠٨].

٤٧٨

ويدل على أن الاسم حقيقة في الوطىء ، ومجاز في العقد ، أن سائر العقود من البياعات والهبات ولا يسمى نكاحا ، وإن كان قد يتوصل بها إلى وطئ الجارية ، إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطئ ؛ لأنها تصح فيمن يخطر وطؤها كالأخت من الرضاعة ، ومن السبب وكأم الزوجة ، وسمي العقد المختص بإباحة الوطئ نكاحا إذ من لا يحل للرجل وطؤها ؛ لا يحل له نكاحها.

ويدل على هذا ما قاله غلام ثعلب ، قال : الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح من الجمع بين الشيئين ، تقول العرب : أنكحنا الفراء فسنرى ، وهو مثل ضربوه في الأمر يجتمعون على المشورة فيه ، ثم ينظر عن ماذا يصدرون منه ، والمعنى جمعنا بين الحمار والأتان لننظر ما ينتج هذا الجمع إذا كان اسما للجمع ، فهو حقيقة في الوطئ ؛ لأنه هو الجمع حقيقة دون العقد.

٤٧٩

النظر (١)

أصله في العربية المقابلة ، يقال : داري ينظر إلى دارك ، أي : يقابلها ، والدار أن يتناظران أي : يتقابلان ، والنظر بالعين الإقبال بها حيال المرئي ، ونظر القلب الإقبال إلى أحوال ما تطلب معرفته.

وقال علي بن عيسى : النظر طلب ظهور الشيء ، والناظر الطالب لظهور الشيء ، والله ناظر لعباده بظهور رحمته إياهم ، ويكون الناظر الطالب لظهور الشيء بإدراكه من جهة حاسة البصر أو غيرها من حواسه ، ويكون الناظر إلى لين هذا الثواب من لين غيره.

والنظر بالقلب نظر العلم من جهة الفكر والتأمل لأحوال الأشياء ، ألا ترى أن الناظر على هذا الوجه لابد من أن يكون مفكرا ؛ إذا المفكر على هذا الوجه سمي ناظرا ، وهو معنى غير الناظر والمنظور فيه ، ألا ترى أن الإنسان يفصل بين كونه ناظرا وكونه غير ناظر ، ولا يوصف القديم بالنظر ؛ لأن النظر لا يكون إلا مع فقد العلم ، ومعلوم أنه لا يصح النظر في الشيء ليعلم إلا وهو مجهول ، والنظر يشاهد ، ولهذا نفرق بين نظر الغضبان ونظر الراضي.

والنظر في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : النظر بالعين ، وهو قوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف آية : ١٤٣] ، وقوله : (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) [سورة الأعراف آية : ١٤٣] ، فكأن موسى يعلم أن الله لا يرى بالإبصار ، ولكن سأل ذلك ليجيء الجواب من الله ؛ لتكون أوكد للحجة على قوم من أمته سألوه ذلك.

__________________

(١) [نظر] : نظر إليه ينظر نظرا ، ويجوز التخفيف في المصدر تحمله على لفظ العامّة في المصادر ، وتقول : نظرت إلى كذا وكذا من نظر العين ونظر القلب.

وقوله تعالى : "( وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي لا يرحمهم.

وقد تقول العرب : نظرت لك ، أي عطفت عليك بما عندي ، وقال الله ـ عزوجل : "(لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)" ، ولم يقل : لا ينظر لهم فيكون بمعنى التّعطّف.

ورجل نظور : لا يغفل عن النظر إلى ما أهمّه. [العين : نظر].

٤٨٠