تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الثاني : بمعنى التخلية ، قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام آية : ١٢٥] أي : يخلي بينه وبين ما يخرج به صدره من الكفر ؛ لأن مع الإيمان ثلج الصدور ، وليس ذلك مع الكفر.

وأما الطبع والختم واللعن والأكنة والوقر والعمى والصمم والبكم والرجس ونحو ذلك فإنه ذم وليس بمن ذكره إلا بعد ذكر المعصية ولزمهم هذه الأسماء جزاءا لذنوبهم ، ويجوز أن يكون تسميته إياهم بهذه الأسماء على جهة التمثيل ؛ لأنا نعلم أنه ليس على بصر الكافر غشاوة.

الثالث : منع الإلطاف ؛ قال الله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [سورة الإسراء آية : ٤٥] أي : تمنعه ألطافنا فيعرض عن القرآن ولا ينتفع به ؛ فكأنا جعلنا بينه وبينه حجابا ، ولو علم أن ألطافه تنفعه ما منعه إياها ولكنها لا تنفعه فهو بمنزلة من لا ألطاف له ولو كان الطبع والختم وما بسبيلهما منعا لهم عن الإيمان لما قال : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [سورة الزمر آية : ٥٤].

الرابع : بمعنى الوصف ؛ قال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [سورة الأنعام آية : ١٠٠] و : (الْجِنَ) هاهنا الملائكة سموا بذلك لاستتارهم عن الأبصار ، وأصل الجن والجنة ، والجنة والجنون الستر ، أي : وصفوا الملائكة بأنهم شركاء الله ، ونحوه قول الرجل لمن يصفه باللصوصية : جعلتني لصا ، أي : وصفتني بذلك ، ونحوه قوله : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) [سورة الزخرف آية : ١٥] ، قال بعض أهل اللغة : الجزء هاهنا بمعنى الإناث ، يقال : أجزئت المرأة إذا ولدت أنثى ، وأنشد :

إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب

وقد تجزئ الحرة المذكار أحيانا

ويجوز أن يكون الجن في قوله تعالى : (شُرَكاءَ الْجِنَ) [سورة الأنعام آية : ١٠٠]. الجن المعروف.

وكان بعض العرب يذهب إلى أن سروات الجن بنات الله ، فرد الله ذلك بهذا القول وشرح ذلك جرى في كتابنا في التفسير.

١٦١

الخامس : الخلق ، قال : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [سورة الزخرف آية : ٣] ، أي : خلقناه كذلك ، وأحدثناه ومثله : (جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) [سورة النمل آية : ٦١] ، أي : خلقها صلبة يمكن الاستقرار عليها ، ومثله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [سورة المؤمنون آية : ٥٠] ، أي : خلقه من غير ذكر ، فصار عبرة وعلامة.

السادس : الحكم ، قال الله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً)(١) [سورة الأنعام آية : ١٣٦] ، أي : حكموا بذلك.

والمراد أنهم حكموا بأن لله نصيبا في زروعهم ومواشيهم ولأصنامهم نصيبا فيها ، وسماهم شركائهم ؛ لأنهم جعلوا بعض أموالهم لها ، ثم كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى أوثانهم فينفقونه عليها ولا يصرفون ما جعلوه لأوثانهم إلى ما يتقربون به إلى الله ، وقيل الأنعام هاهنا البحيرة والسائبة.

فأما قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [سورة الفرقان آية : ٣١] ، فمعناه أنه جعل نبيه عدوا له ؛ لأنه فرض عليه محاربتهم ومناصبتهم ، فإذا جعل النبي عدوا لهم ، فقد جعلهم عدوا له ، وليس معنى ذلك أنه أمره بعداوته وأرادها منهم أو خلقها فيهم لأنه لو فعل ذلك لم يذمهم عليه ، وقوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٢٤] ، أي : لا تجعلوا القسم بالله عرضة لإيمانكم فتكثروا الحلف ، وكذلك :

__________________

(١) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام لربهم مِمَّا ذَرَأَ خالقهم ، يعني : مما خلق من الحرث والأنعام. يقال منه : " ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا ، وذروا" ، إذا خلقهم.

" نصيبا" ، يعني قسما وجزءا.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله ، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان.

فقال بعضهم : كان ذلك جزءا من حروثهم وأنعامهم يفرزونه لهذا ، وجزءا آخر لهذا.

وقال آخرون : " النصيب" الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم : أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة ، وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه. [جامع البيان : ١٢ / ١٣٤]

١٦٢

(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) [سورة النحل آية : ٩١] ، أي : ضمنتموه ثوابكم على الوفاء بإيمانكم فلا تنقضوها.

١٦٣

الجناح (١)

أصله الميل ، ومنه قيل : جنحت السفينة ، أي : مالت ، وقال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [سورة الأنفال آية : ٦١] ، وسمي الإثم جناحا ، لأنه ميل إلى هوى النفس ، وجنح الليل حين يميل ، وقيل : حين تميل الشمس للمغيب ، ومنه جناح الطائر ، لأنهما في جانبيه ما يلين عن سواء جنبك.

والجناح في القرآن على وجهين :

الأول : الإثم ، قال الله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) [سورة البقرة آية : ٢٣٥] ، أي : لا إثم عليكم في التعريض للمرأة المعتدة ترغبون في نكاحها ، إذا خرجت من العدة ، فأما التصريح بذلك ، فهو إثم.

الثاني : الضرر ، هو قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، أي : إذا تبايعتم بالنقد فلا ضرر عليكم في ترك الكتاب والإشهاد ، فإن قيل أن قوله : لا جناح عليكم في ترك ذلك في الحاضر ، دليل على أن عليه جناح في تركه في النساء ، قلنا : أراد بالجناح الضرر على ما ذكرنا ، ولم يرد الإثم ، ولو أراد الإثم لكان قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [سورة البقرة آية : ٢٨٣] ، رخصة في تركه.

__________________

(١) (ج ن ح): (جنح) جنوحا مال واجتنح مثله وفي التّنزيل (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (وفي حديث) عليّ رضي الله عنه فجاء شيخ كبير قد (اجتنح) بدنه أي مال إلى الأرض معتمدا بكفّيه على ركبتيه من ضعفه (وعن) أبي هريرة (أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالتّجنّح في الصّلاة فشكا ناس إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضّعف فأمرهم أن يستعينوا بالرّكب) قيل التّجنّح والاجتناح هو أن يعتمد على راحتيه في السّجود مجافيا لذراعيه غير مفترشهما. [المغرب : الجيم مع النون]

١٦٤

الجهاد (١)

الجهاد اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية ، وهو قتال المشركين خاصة (٢).

وأصله من الجهد ، وهو استفراغ الطاقة في الأمر ، وهو جهد وجهد لغتان ، ويقال : الجهد الطاقة نفسها ، وبلغ الرجل جهده ومجهوده ، إذا بلغ أقصى قوته.

والأرض الجهاد اليابسة لأن الرجل لا يحفرها إلا إذا بلغ مجهوده ، والمجهود والجهد سواء ، مثل : العقل والمعقول.

وجاهدت العدو إذا استفرغت قوتك في دفعه ، والمفاعلة تكون من اثنين إلا في حرف جاءت نوادر منها طالبت الحاجة ، وحاولت الشيء ، وسافرت في الأرض.

والجهاد في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الجهاد بالقول ، قال الله تعالى : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [سورة الفرقان آية : ٥٢] ، وهذه الآية مكية نزلت قبل الأمر بالكتاب.

وهذا دليل على أنه أراد بها الجهاد بالقول ، فيها دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلزم على حسب الطاقة ، يقول : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ) [سورة الفرقان آية : ٥٢] ، أي : تترك طاعتك لهم فيما يريدونه من مقاربتك إياهم جهادا كبيرا.

والجهاد هو بذل المجهود في الشيء ، وترك التقصير فيه ، : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) [سورة الفرقان آية : ٥٢] ، أي : بالقرآن الذي افتتح به أول السورة ، والأول أجود.

__________________

(١) (ج ه د): (جهده) حمّله فوق طاقته من باب منع (ومنه) قول عمر رضي الله عنه في المؤذّن يجهد نفسه وقول سعد أو رجل يجهد أن يحمل سلاحه من الضّعف على حذف المفعول وتقديره يجهد نفسه أي يكلّفها مشقّة في حمل السّلاح وأجهد لغة قليلة والجهد والجهود المشقّة ورجل مجهود ذو جهد واجتهد رأيه والجهاد مصدر جاهدت العدوّ إذا قابلته في تحمّل الجهد أو بذل كلّ منكما جهده أي طاقته في دفع صاحبه ثمّ غلب في الإسلام على قتال الكفّار ونحوه. [المغرب : الجيم مع الهاء]

(٢) قال الجرجاني : الجهاد : هو الدعاء إلى الدين الحق. [التعريفات : ١ / ٢٦]

١٦٥

الثاني : الجهاد بالسلاح ، قال الله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [سورة التحريم آية : ٩] ، وقال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة النساء آية : ٩٥] ، ثم قال : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ) [سورة النساء آية : ٩٥] كذا قال مقاتل.

وهو غلط ؛ لأن المنافق لا يقاتل ولا يقتل ، لأنه إذا أظهر الإسلام حقن دمه ، وإنما المراد أن جاهد الكفار بالسلاح والمنافقين بالغلظة عليهم والتنكير لهم ، وقيل : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، وكانوا هم الذين تصيبونها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية.

الثالث : الاجتهاد في العمل ، قال تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) [سورة العنكبوت آية : ٦] ، أي : من يعمل الخير مجتهدا فإنما يعمل لنفسه ، وقال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) [سورة العنكبوت آية : ٦٩] ، أي : عملوا لنا : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت آية : ٦٩] ، أي : يزيدهم إلطافا ويزدادون معها من الطاعة فتعلوا درجاتهم ، وقال : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) [سورة الحج آية : ٧٨] ، أي : اعملوا لله حق العمل ، هكذا فسر هذه الآيات ويجوز أن تكون بمعنى جهاد المشركين.

١٦٦

الجدال (١)

أصله من الجدل ، وهو الفتل ، يقال : جدلت الحبل جدلا إذا فتلته ، وهو مجدول ، وأصل الكلمة من القوة ، ثم سميت الأرض جداله لقوتها ، وسمي الجدال جدالا لأنك تقوم به حق القيام ، لتقوي مذهبك ، كما أن الحبل يجدل القول ، والأجدل الصقر ، وسمي بذلك لقوته ، ويجوز أن يقال : الجدال هو أن تفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهه أو شغب ، ويفتلك عن مذهبك بمثل ذلك.

والجدال في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الخصومة ، قال : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) [سورة الرعد آية : ١٣] ، أي : يخاصمون ، وقال : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) [سورة غافر آية : ٥].

الثاني : السؤال ، قال الله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [سورة هود آية : ٧٤] ، أي : تسأل رسلنا ويستثبت أمر ما يعذب به قوم لوط ، وقال أبو علي : جادلهم بما استحقوا عذاب الاستئصال ، وهل ذلك واقع بهم لا محالة ، أم هم إخافة ليقبلوا إلى الطاعة ، وهذا يقوي ما تقدم من أنه سؤال.

الثالث : المناظرة على إثبات الحق وإبطال الباطل ، قال تعالى : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [سورة هود آية : ٣٢] ، وفي هذا دليل على أن الجدال لإقامة الحجة حسن ، وأنه يقوم به الحجة ولو لا ذلك لم يجادل نوح عليه‌السلام.

وقد يكون المناظران محقين بأن يكون كل واحد منهما يناظر ليعرف الحق ، ولا يكونان متجادلين إلا وأحدهما مبطل أو كلاهما ؛ لأن الجدال هو فتل الخصم عن مذهبه ، وفتل الحق عن الحق باطل ، قال الله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) [سورة الزخرف آية : ٥٨] ،

__________________

(١) (ج د ل) : جدل الرّجل جدلا فهو جدل من باب تعب إذا اشتدّت خصومته وجادل مجادلة وجدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصّواب هذا أصله ثمّ استعمل على لسان حملة الشّرع في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها وهو محمود إن كان للوقوف على الحقّ وإلّا فمذموم ويقال أوّل من دوّن الجدل أبو عليّ الطّبريّ. [المصباح المنير : الجيم مع الدال]

١٦٧

وقد عاب الله تعالى من جادل في آياته بقوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) [سورة غافر آية : ٣٥] ، لأن الجدال بها هو الصحيح ، والجدال فيها رد ودفع.

الرابع : المراء ، قال الله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [سورة البقرة آية : ١٩٧] ، فنهى عن المراء الواقع بين المترافقين في طريق الحج ، لأن لا يؤديهما ذلك إن فعلاه إلى قول ما لا ينبغي تعظيما لأمر الحج.

وقيل معناه : أن الحج قد تبين وجوهه فلا ينسى ولا يشك فيه ، ونحوه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة غافر آية : ٤] أي : لا يماري ، والمراء أن تستخرج ما عند خصمك بالمناظرة ، وأصله من المري ، وهو استخراج اللبن من الضرع.

١٦٨

الجن (١)

أصله الستر ، ومنه الجنة وهي البستان الذي تشتبك فيه الشجر ، حتى يستر من يدخله.

والجنة السلاح ، لأنها تستر عورة صاحبه عن قرنه ، يقال : أعور الفارس إذا انكشف منه موضع للضرب أو الطعن.

والمجنون المستور على عقله ، وقد جن وأجنه الله ، ولا يقال جنه ، ومثله أجده الله وهو مجدود ، وقد جد ولا يقال : جده الله وليس مجدود من أحد ، لأن ذلك نقص للأصل ، وإنما هو على معنى أن ذلك فيه ، وكذلك أجنة الله ، وهو مجنون ، أي : فيه جنون وليس مجنون من أجن.

والولد ما دام في بطن أمه جنين ، والجمع أجنة ، لأنه مستور ، وفي القرآن : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النجم آية : ٣٢].

والجان يقع على واحد من الجن ، والجن مثل الإنس يقع على الجمع.

والجن في القرآن على وجهين :

__________________

(١) [جن] : الجنّ : جماعة ولد الجانّ ، وجمعهم الجنّة والجنّان ، سمّوا به لاستجنانهم من الناس فلا يرون.

والجانّ أبو الجنّ خلق من نار ثم خلق نسله.

والجانّ : حيّة بيضاء ، قال الله عزوجل"(تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً)".

والمجنّة : الجنون ، وجنّ الرجل ، وأجنّه الله فهو مجنون وهم مجانين.

ويقال به جنّة وجنون ومجنّة ، قال :

من الدارميّين الذين دماؤهم

شفاء من الدّاء المجنة والخبل

وأرض مجنّة : كثيرة الجنّ.

والجنان : روع القلب ، يقال : ما يستقرّ جنانه من الفزع.

وأجنّت الحامل الجنين أي الولد في بطنها ، وجمعه أجنّة.

وقد جنّ الولد يجنّ فيه جنّا ، قال : حتى إذا ما جنّ في ماء الرّحم ويقال : أجنّة اللّيل وجنّ عليه اللّيل إذا أظلم حتى يستره بظلمته.

واستجنّ فلان إذا استتر بشيء. [العين : الجيم مع النون]

١٦٩

الأول : الملائكة ، قال الله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [سورة الأنعام آية : ١٠٠] ، يعني : الملائكة ، وذلك أنهم كانوا عبدوها ، وسماهم جنا ؛ لأنهم مستورون عن الأبصار.

وذكر بعض المفسرين أنهم الجن ، وليسوا بملائكة ، وكانت العرب تعبد الجن ، وتذهب إلى أن سروات الجن بنات الله ، وفي الخبر أنه لما هدمت العزى خرجت منها جنية منفشة شعرها تدعوا بالويل فحمل خالد بن الوليد عليها فقتلها.

الثاني : الجن المعروف من غير خلاف ، قال الله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات آية : ٥٦] ويجوز أن تدخل الملائكة في ذلك ، وقوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [سورة الأحقاف آية : ٢٩].

١٧٠

الباب السادس

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله حاء

الحسنة (١)

أصل الكلمة القبول ، والحسن ما تقبله النفس إذا رأته ، والحسنة الخصلة التي تقبلها النفس.

والإحسان ما تشتهيه النفس وتقبله ، ونقيضه الإساءة ، وهي التي تكرهها وتردها ، ويقال : حسن الشيء ، وهو حسن على غير الأصل ، وإنما الأصل حسين كما يقال : قبح وهو قبيح ، ويجوز أن يقال : حسن أحسن من حسن ، ولا يقال : صدق أصدق من صدق ، ولأن الحسن فاعل ، والفاعل يصح فيه أفعل ، والصدق مصدر ولا يصح في المصادر ذلك ولو لم يكن حسن أحسن من حسن لم يكن للمبالغ في قولهم : ما أحسن زيدا فائدة ، ويقولون هذه الخصلة الحسنى ، والمرأة الحسناء.

ولا يقال في التذكير أحسن ، ولا يجوز أن يوصف الله بالحسن ؛ لأن الحسن حال في الحسن ألا تراه يقبح بعد أن كان حسنا ، ولا يجوز أن يكون الله محلا للأشياء ، ولا يجوز أن يقال بأن الله حسن في العقل أيضا ؛ لأنه لا يتصور للعقول فيحسن فيها كالحكمة والصلاح الحسن في العقول لتصوره لها.

والحسنة في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : النصرة والغنيمة ، قال الله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [سورة آل عمران آية : ١٢٠] يعني : ما كانت لهم من الدولة يوم بدر ، وكذلك المعنى في هذه الآية من

__________________

(١) حسن الشيء فهو حسن. والمحسن : الموضع الحسن في البدن ، وجمعه محاسن. وامرأة حسناء ، ورجل حسّان ، وقد يجيء فعّال نعتا ، رجل كرّام ، قال الله ـ جل وعز ـ : " مكرا كبّارا".

والحسّان : الحسن جدّا ، ولا يقال : رجل أحسن. وجارية حسّانة.

والمحاسن من الأعمال ضد المساوىء ، قال الله ـ عزوجل ـ : "(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)" أي الجنة وهي ضدّ السّوءى. [العين : حسن]

١٧١

سورة النساء وبراءة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [سورة آل عمران آية : ١٢٠] يعني : القتل والهزيمة ؛ هكذا جاء في التفسير.

ويجوز عندنا أن يدخل في الحسنة هاهنا جميع ما ينالهم من المحبوب ، وفي السيئة جميع ما يصيبهم من المكروه.

الثاني : العمل الصالح ، قال الله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام آية : ١٦٠] ، وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [سورة النمل آية : ٨٩] والسيئة التي في هاتين الآيتين بمعنى المعصية ، وقرئ : عشر أمثالها [سورة الأنعام آية : ١٦٠] ، بالإضافة أي : عشر حسنات أمثالها وقرئ : عشر أمثالها على أن أمثالها من صفة العشر.

فإن قيل : كيف قال : (عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام آية : ١٦٠] والمثل مذكر؟ قلنا : لأنه مضاف إلى مؤنث ، وهي في المعنى أيضا حسنة أو درجة فأنت على المعنى ، وأراد بذكر العشر التكثير ولم يرد عشر بعينها ، كما تقول : إن كلمتني واحدة كلمتك عشرا ؛ وكذلك قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [سورة التوبة آية : ٨٠] أراد التكثير ، ولم يرد عددا بعينه ، ألا ترى أنه لو زاد على السبعين لم يغفر الله لهم أيضا.

الثالث : الخصب والسعة ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [سورة النساء آية : ٧٨] ، يقول إن أصابهم خير وسعة وخصب نسبوه إلى الله تعالى ، وإن أصابهم ضيق وقحط نسبوه إليك ، وقالوا : إنما نالنا ذلك من شؤمك ، ومثله قوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) [سورة الأعراف آية : ٩٥] ، أي : بدل الضيق بالسعة ، ومثله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [سورة الأعراف آية : ١٦٨] ، أي : اختبرناهم بالضيق والسعة والبلوى.

والاختبار والتجربة سواء ، وحقيقة معناه فعل ما يحدث معه العلم بالمبلو المختبر ، ولا يجوز ذلك على الله ، لأنه عالم بنفسه.

١٧٢

وإنما المراد أنه يكلف عباده ويأمرهم وينهاهم ، لأن الابتلاء والامتحان هو الأمر والنهي ، فسمى الله تكليفه وأمره عباده ابتلاء من هذا الوجه على سبيل التوسع.

ولا يجوز أن يقال أنه يجرد عباده ، وإن كان الابتلاء والتجريد بمعنى واحد ، وذلك أن استعمال الابتلاء في الله مجاز ، والمجاز لا يقاس عليه ، وإنما يقاس على الحقائق ، ولو لا أن أهل اللغة استعملوا الابتلاء في الله لم يجز استعماله فيه والعلة التي في الابتلاء ليست في التجربة وهي الاستعمال.

ولو جاز القياس على المجاز لجاز أن تقول : سل الحمار وسل الشاة ، وأنت تريد صاحبها ، كما جاء : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية : ٨٢] أي : أهلها ، وفي امتناع ذلك دليل على ما قلنا.

الرابع : العافية والسلامة ، قال الله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) [سورة الرعد آية : ٦] ، يعني : أنهم يريدون تقديم العذاب لهم في الدنيا على ما هم فيه من العافية فيها ، وقوله : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [سورة الأنفال آية : ٣٢].

الخامس : العفو والمعروف من القول ، قال : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [سورة الرعد آية : ٢٢] ، أي : يدفعون القول القبيح المؤذي بالقول الحسن مرة وبالعفو أخرى ، والمعنى أنهم يتغافلون عنه فينقطع ، وكأنهم دفعوه ، ولو أجابوا عنه زيد فيه.

وقيل : معناه أنهم يدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات ، قاله الزجاج ، وهو غلط لأن ما تقدم لا يدفع ، وإنما يقال ذلك في المستقبل ، وقال تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة فصلت آية : ٣٤] ، أمره بالصفح والتغافل.

والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة ، ولا دخلت تأكيدا ، و : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي : ادفع السيئة ، ومما يلحق بما تقدم أن حد الحسن الفعل الذي يدعوا إليه العقل ، وحد القبيح الفعل الذي يزجر عنه العقل ، والإحسان الدفع الحسن ، والإساءة الضرر القبيح.

١٧٣

وكل فعل مقصود لا يخلوا من أن يكون حسنا أو قبيحا ، وتدخل في الحسنة الفرائض والنوافل ، ولا يدخل فيها المباح ؛ لأن الحسنة مرغب فيها ولا يجوز أن يرغب في المباح ؛ لأن ذلك قبيح ، والمباح حسن وليس بحسنة.

١٧٤

الحبل

أصله من الإمساك ، ومنه قيل : الحابول للحبل الذي يصعد به في النخلة ، والحبالة شبكة الصائد ، والمحتبل الصائد ، وكذلك الحابل.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : القرآن ، قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً)(١) [سورة آل عمران آية : ١٠٣] ، أي : بكتابه ، وسماه حبلا لما فيه من توكيد الحجج والبيان ، كما يؤكد العهد ، والحبل عند العرب العهد.

الثاني : الأمان ، قال الله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(٢) [سورة آل عمران آية : ١١٢] ، أي : بأمان ، قال الأعشى :

وإذا تجاوزها حبال قبيلة أخ

ذت من الأخرى إليك حبالها

__________________

(١) قال الشوكاني : قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وهو : إما تمثيل ، أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام ، أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين ، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم ، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضا ، وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر ، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام. [فتح القدير : ٢ / ٢٥]

(٢) قال الرازي : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] أي بعهد ، وإنما سمي العهد حبلا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء ، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف ، وقيل : إنه القرآن ، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أما إنها ستكون فتنة» قيل : فما المخرج منها؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين» وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هذا القرآن حبل الله» وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي» وقيل : إنه دين الله ، وقيل : هو طاعة الله ، وقيل : هو إخلاص التوبة ، وقيل : الجماعة ، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله (وَلا تَفَرَّقُوا) وهذه الأقوال كلها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله ، وأمروا بالاعتصام به. [مفاتيح الغيب : ٤ / ٣٢٦]

١٧٥

ومعنى الآية أن اليهود لا يزالون مقهورين أذلاء إلا أن يأخذوا بحبل الله ، أي : إلا أن يكونوا ذمة للمسلمين ، وعنى بالناس النبي عليه‌السلام والمسلمين ، وهذا خبر غيب ، وفيه دلالة على صحة الدعوة ، وقال : (مِنَ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ١١٢] ، أي : من أولياء الله.

ويجوز أن يكون عنى قولك لمن تعاهده إذا فعلت كذا ، فأنت أمين بأمان الله وأمان الرسول.

وقال الفراء : أراد إلا أن يعتصموا بحبل من الله فحذف لبيان المعنى ، وقال الأخفش : هذا مثل قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [سورة آل عمران آية : ١١١] ، وهو استثناء خارج من أول الكلام ، وهو بمعنى لكن ، وليس بأشد من قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [سورة مريم آية : ٦٢].

١٧٦

الحسنى

قد مضى القول فيها قبل.

وجاءت في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الخلف من النفقة في سبيل الله ، وهو قوله : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى)(١) [سورة الليل آية : ٦] ، ومثله قوله : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) [سورة الليل آية : ٩] ، أي : بما يخلفه الله عليه في الآخرة.

الثاني : الخير ، قال الله تعالى : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [سورة التوبة آية : ١٠٧] ، أي : الخير وتأنيثها على معنى الخصلة والحلة والحال ، وهي تأنيث الأحسن فكأنه سمى الخير خصلة أو حلة ، وقد يقع ذلك على الخير والشر ، يقول هذه خصلة محمودة يعني : الخير ، وهذه خصلة مذمومة ، يعني : الشر.

الثالث : الجنة ، قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [سورة يونس آية : ٢٦] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [سورة الأنبياء آية : ١٠١] ، يعني : الجنة كذا قيل ، ويجوز أن يكون المعنى : الذين سبقت لهم منا الحسنى العدة الحسنة ، وهم المؤمنون لأن الله وعدهم أحسن العدة.

__________________

(١) قال الرازي : قوله : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) فالحسنى فيها وجوه أحدها : أنها قول لا إله إلا الله ، والمعنى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى ، وذلك لأنه لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم ، وهو كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [البلد : ١٤] إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] وثانيها : أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل : أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع ، فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن وثالثها : أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ : ٣٩] والمعنى : أعطى من ماله في طاعة الله مصدقا بما وعده الله من الخلف الحسن ، وذلك أنه قال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٦١] فكان الخلف لما كان زائدا صح إطلاق لفظ الحسنى عليه. [مفاتيح الغيب : ١٧ / ٥٨]

١٧٧

الرابع : الهداية ، قال الله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) [سورة النحل آية : ٦٢] ، أي : يزعمون مع قبح فعلهم أنهم على الهداية ، وجاء في التفسير أن الحسنى هاهنا اليقين.

والمراد تصف ألسنتهم أن لهم الحسنى بدل ، أي : اليقين ، وهم كاذبون في ذلك ، أي : هم في شك أو شبهة وإن بدل من الكذب المعنى ، وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى ، وذلك الكذب لا جرم أن لهم النار رد لقولهم المعني جرم فعلهم هذا أن لهم النار ، أي : كسب ، والجرم الكسب.

وقال قطرب : أن في موضع رفع ، والمعنى وجب أن لهم النار ، وأنهم مفرطون مقدمون للنار ، وقرئ مفرطون بفتح الراء مع التشديد ، أي : متروكون كأنهم جعلوا مقدمين إلى العذاب متروكين فيه ، وقرئ مفرطون بكسر الراء وتشديده أي : فرطوا في الدنيا.

١٧٨

الحسن

على ثلاثة أوجه :

الأول : قوله عزوجل : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(١) [سورة البقرة آية : ٨٣] ، وهي قراءة أي : حقا كذا قيل ، ويجوز أن يكون المراد أن قولوا لهم قولا حسنا ، وهو أولى ؛ لأنه على مقتضى اللفظ.

الثاني : بمعنى المحتسب ، وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [سورة البقرة آية : ٢٤٥] ، أي : محتسبا كذا قيل ، ويجوز أن يقال : أن القرض الحسن هو للبر والصدقة التي لا منّ فيها ، وسمي ذلك قرضا ؛ لأنه يقرض من المال أي : يقطع منه ، والقرض القطع ، ويجوز أن يكون سماه قرضا ؛ لأنه يرد عليه جزاؤه ، فكأنه رد عليه بعينه كالقرض يرد على المقرض.

الثالث : الجنة ، قال الله : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) [سورة القصص آية : ٦١] ، يعني : الجنة ، ويجوز أن يكون حسنا أي : حسن المسموع.

__________________

(١) قال الشوكاني : معنى قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي : قولوا لهم قولا حسنا ، فهو صفة مصدر محذوف ، وهو : مصدر كبشرى. وقرأ حمزة ، والكسائي : «حسنا» بفتح الحاء ، والسين ، وكذلك قرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود. قال الأخفش هما بمعنى واحد ، مثل البخل ، والبخل ، والرّشد ، والرّشد ، وحكى الأخفش أيضا : «حسنى» بغير تنوين على فعلى. قال النحاس : وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف ، واللام نحو الفضلى ، والكبرى ، والحسنى ، وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى ، بن عمر : «حسنا» بضمتين : والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين ، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر ، وقد قيل : إن ذلك هو : كلمة التوحيد. [فتح القدير : ١ / ١٢٣]

١٧٩

الحكمة (١)

أصلها المنع ، يقال : أحكمت الرجل عن كذا ، أي : منعته عنه ، وسميت الكلمة الواعظة حكمة ، لأنها تمنع عن التورط في الجهل ، ومن ثم قيل : حكمة الراية ، وقال جرير :

أبني حنيفة احكموا سفهائكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

وسمي الحكم حكما ؛ لأنه إذا تم منع عن التخاصم ، وسمي العلم حكمة ؛ لأنه يمنع صاحبه من الموارد القبيحة التي يردها الجاهل.

وتسمية الله بأنه حكيم على وجهين :

أحدهما : يستحقه لذاته ، وهو أنه عالم.

والآخر : يستحقه لفعله ، وهو أن أفعاله محكمة ، وفعيل بمعنى مفعل معروف في اللغة ، يقال : سميع بمعنى مسمع ، قال عمرو بن معدي كرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

ويجيء فعيل بمعنى مفعل ، وفي القرآن : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان آية : ٤] ، وبصير بمعنى مبصر ، وهذا من الأول.

والحكمة في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : الحلال والحرام والسنن والأحكام ، قال الله : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) [سورة البقرة آية : ٢٣١] ، فالكتاب القرآن ، والحكمة ما فيه من وجوه التحليل والتحريم ومعرفة الشريعة كلها ، والدليل على صحة ذلك أنه أتى بذلك بعد بيان الأحكام ،

__________________

(١) الحكمة : مرجعها إلى العدل والعلم والحلم. ويقال : أحكمته التجارب إذا كان حكيما. وأحكم فلان عنّي كذا ، أي : منعه ، قال :

ألمّا يحكم الشعراء عنّي

واستحكم الأمر : وثق. واحتكم في ماله : إذا جاز فيه حكمه. والأسم : الأحكومة والحكومة ، قال الأعشى : ولمثل الذي جمعت لريب الدّهر يأبى حكومة المقتال أي لا تنفذ حكومة من يحتكم عليك من الأعداء. والمقتال : المفتعل من القول حاجة منه إلى القافية. [العين : حكم]

١٨٠