تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الباب السابع

فيما جاء من الوجوه والنظائر وفي أوله خاء

الخزي (١)

العيب التي تظهر فضيحته ويلزم الاستحياء منه ، ومن ثم سمي الحياء خزاية ، يقال :

خزى يخزي خزيا من العيب ، وخزى يخزي خزاية من الاستحياء ثم كثر حتى استعمل في الهوان ، فيقال : خزى الرجل ، إذا هان وذل.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى القتل والجلاء ، قال الله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) [سورة البقرة آية : ٨٥] ، وإنما سمي خزيا لما فيهما من الهوان يعني : قتل قريظة ، وجلاء النضير ، وقال تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) [سورة البقرة آية : ١١٤ ، المائدة ٤١] ، وفي الحج : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) [سورة الحج آية : ٩] ، يعني : القتل يوم بدر هكذا جاء في التفسير ، ويجوز أن يكون الخزي في هذه الآيات الهوان والذل يلحق العاصين في الدنيا.

الثاني : العذاب ، قال الله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [سورة هود آية : ٦٦] ، يعني : العذاب لا غير ، وجاء في تفسير قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [سورة الشعراء آية : ٨٧] ، وقوله : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ)

__________________

(١) [خزى] : الخزي : السّوء ، خزي يخزى خزيا. وأقامه على خزية ومخزاة.

والخزاية : شدّة الاستحياء. ورجل خزيان ، وامرأة خزيا ، والجميع الخزايا. وخازاني فخزيته وكرهت أن أخزيه : أي غالبته فغلبته. وأصابتنا خزية : أي خصلة يستحيا منها. [المحيط في اللغة : خزى].

الفرق بين الخزي والذل : أن الخزي ذل مع إفتضاح وقيل هو الانقماع لقبح الفعل ، والخزاية الاستحياء ، لانه إنقماع عن الشئ لما فيه من العيب قال إبن درستويه : الخزي الاقامة على السوء خزي يخزي خزيا وإذا إستحيا من سوء فعله أو فعل به قيل خزي يخزي خزاية لانهما في معنى واحد وليس ذلك بشئ لان الاقامة على السوء والاستحياء من السوء ليسا بمعنى واحد. [الفروق اللغوية : ١ / ٢١٥]

٢٠١

[سورة آل عمران آية : ١٩٤] ، وقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) [سورة التحريم آية : ٨] ، أنه أراد العذاب ، ويجوز أن يكون بمعنى الهوان أيضا.

الثالث : الهوان ، قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [سورة آل عمران آية : ١٩٢] ، أي : أهنته ، وقوله : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [سورة الحشر آية : ٥] ، أي : يهينهم ، وذلك أن اليهود أنكروا قطع المسلمين تحيلهم ، فأخبر الله أن القطع والترك بإذن الله لميزوا غيرهم يتصرفون في أفعالهم فبدلوا.

الرابع : الفضيحة ، قال الله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) [سورة هود آية : ٧٨] ، أي : لا تفضحوني.

٢٠٢

الخوف (١)

الخوف خلاف الأمن ، والأمن سكون النفس والخوف انزعاجها وقلقها ، وهو معنى غير العلم ؛ لأن العلم يبقى بعد ذهاب الخوف. وأصله من النقصان ، ومنه قيل : خوفت الشيء إذ أنقصته ، ودينار مخوف ناقص الوزن ، وقد يجيء الخوف بمعنى العلم ، قال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٢٩] ، وكذلك الخشية بمعنى العلم ، قال الله : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) [سورة الكهف آية : ٨٠] ، وقالوا : الخوف كالظن يكون شكا ويقينا ، وأنشد :

أخاف إذا ما مت ألّا أذوقها

أي أعلم ، وموضعه في الظن قولك لصاحبك قد أبق غلامك ، فيقول : قد خفت ذاك ، ويجوز أن يكون هذا من الخوف خلاف الأمن.

والخوف في القرآن على خمسة أوجه فيما زعم بعض المفسرين :

الأول : القتل ، وهو قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) [سورة البقرة آية : ١٥٥] ، يعني : القتل ، وليس بالوجه لأن قوله : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ) [سورة البقرة آية : ١٥٥] ، قد تضمن القتل ، ولكن معناه الخوف على الأنفس لكثرة الأعداء ، وذلك كان حال أهل المدينة بعد الهجرة ، وهم مخاطبون بهذه الآية.

الثاني : الحرب ، قال الله : (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) [سورة الأحزاب آية : ١٩] ، يعني : الحرب ، وسماها خوفا لما فيها من الخوف كما تسمى الحرب روعا لما فيها من الروع ، والروع والخوف سواء.

__________________

(١) (خ وف) : خاف يخاف خوفا وخيفة ومخافة وخفت الأمر يتعدّى بنفسه فهو مخوف وأخافني الأمر فهو مخيف بضمّ الميم اسم فاعل فإنّه يخيف من يراه وأخاف اللّصوص الطّريق فالطّريق مخاف على مفعل بضمّ الميم وطريق مخوف بالفتح أيضا لأنّ النّاس خافوا فيه ومال الحائط فأخاف النّاس فهو مخيف وخافوه فهو مخوف ويتعدّى بالهمزة والتّضعيف فيقال أخفته الأمر فخافه وخوّفته إيّاه فتخوّفه. [المصباح المنير : الخاء مع الواو]

٢٠٣

الثالث : العلم ، قال الله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) [سورة البقرة آية : ١٨٢] ، أي : علم ، وقد تكلمنا في هذه الآية ومثله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٢٩] ، أي : فإن علمتم ، وأول الآية : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٢٩] ، يعني : أن المهر الذي استحل به الرجل فرجها ؛ لا يحل له أن يأخذه مهرها على الكره ، ولا على سبيل الإلجاء لها إلى دفعه إليه ليتخلص منه ؛ إلا أن يكون الرجل على حال لا تصبر المرأة عليها ، فتفتدي منه بمهرها وله أن يأخذ ذلك منها ، ويسرحها.

وقيل : لا يحل لكم إذا أردتم طلاقهن أن تضاروهن حتى تفتدين أنفسهن بترك مهورهن : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٢٩] ، فيما يجد لكل واحد منهما على الآخر ، وقيل : يعني : في النشوز ؛ لأنها إذا نشزت لم يكن على الرجل جناح في أخذ ما افتدت به نفسها منه ليطلقها ، وفي النساء : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) [سورة النساء آية : ٣] ، ومثله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) [سورة الأنعام آية : ٥١].

الرابع : الخوف بعينه ، قال الله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الأعراف آية : ٣٥] ، وقال : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [سورة فصلت آية : ٣٠] ، وقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) [سورة الأعراف آية : ٥٦] ، وقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [سورة السجدة آية : ١٦].

الخامس : التخوف ، وليس هذا بابه ، وهو التنقص ، قال : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) [سورة النحل آية : ٤٧] ، أي : تنقص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم.

٢٠٤

الخسران (١)

أصله النقصان ، ومنه قيل للتاجر : إذا وضع أنه خسر ثم كثر حتى ، قيل لكل من سعى في شيء فأداه إلى مكروه خاسر ، وقيل : الخسران الضلال.

وهو في القرآن على أربعة أوجه : الأول ، بمعنى العجز ، قال الله : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) [سورة يوسف آية : ١٤] أي : عجزه ، ومثله قوله : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [سورة المؤمنون آية : ٣٤] ، وقال : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [سورة الأعراف آية : ٩٠].

الثاني : بمعنى الغبن ، قال : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [سورة الزمر آية : ١٥] ، أي : غبنوا فصاروا إلى النار ، وأصل الخسران ذهاب رأس المال ، فلما كانت النفس بمنزلة رأس المال وما يستفيده بعد ذلك بمنزلة الربح ، قال للهالك الذي خسر نفسه ؛ لأنه بمنزلة من ذهب منه رأس المال.

الثالث : الضلال ، قال : (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [سورة النساء آية : ١١٩] ، أي : ضل ضلالا بينا ، ويجوز أن يكون بمعنى الحرمان ، أي : حرم الثواب كما إذا حرم الربح ، فقد خسر ، وقال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة العصر آية : ١ ـ ٢] ، أي : في ضلال.

الرابع : النقصان ، قال : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) [سورة الشعراء آية : ١٨١] ، أي : الناقصين في الكيل والوزن ، وقال جرير :

إنّ سليطا في الخسار إنّه

أولاد قوم خلقوا أقنّه

أي : فيما ينقصهم حظهم من الشرف.

__________________

(١) (خ س ر) : خسر في تجارته خسارة بالفتح وخسرا وخسرانا ويتعدّى بالهمزة فيقال أخسرته فيها وخسر خسرا وخسرانا أيضا هلك وأخسرت الميزان إخسارا نقصت الوزن وخسرته خسرا من باب ضرب لغة فيه وخسّرت فلانا بالتّثقيل أبعدته وخسّرته نسبته إلى الخسران مثل : كذّبته بالتّثقيل إذا نسبته إلى الكذب ومثله فسّقته وفجّرته إذا نسبته إلى هذه الأفعال. [المصباح المنير : الخاء مع السين]

٢٠٥

الخلق (١)

أصله التقدير ، وكل مقدر مخلوق ، وفي كلام بعضهم لا أخلق إلا فريت ولا أعد إلا وفيت ، وأختلق الكلام إذا زوره وقدره ، ورجل مختلق ، حسن القامة ، قد قدر تقديرا جميلا وشيء أخلق أملس لأنه أحسن تقديرا من الأخشن.

والخليقة خليقة الإنسان ، وهو خليق لهذا أي : شبيه ، وامرأة خليقة ذات جسم وخلق ، وقد خلقت خلاقة ، وليس له خلاق ، أي : نصيب ، وثوب خلق وأخلاق وخليقا الجبهة مستواها ، ولا نعرف الخلق في أفعال الإنسان إلا في الأديم ، ولا يجوز إطلاق اسم الخالق في غير تقييد إلا لله تعالى.

والخلق في القرآن على ستة أوجه :

الأول : الدين ، قال : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [سورة الروم آية : ٣٠] ، أي : لدينه ، والشاهد ذلك قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة الروم آية : ٣٠] ، واللفظ خبر ، والمعنى أمر ، أي : لا تبدلوا دين الله ، وقال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [سورة النساء آية : ١١٩] ، معناه أنهم يغيرون دين الله.

لأن الله خلق الخلق على الفطرة ، فمن كفر فقد غير ما خلق له ، وهو مثل قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [سورة الروم آية : ٣٠] ، أي : لدينه ، ويجوز أن يقال : أن الدين سمي خلقا ؛ لأن الله قدره وبينه ، ويجوز أن يقال أنه دخل في قوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [سورة النساء آية : ١١٩] ، جميع ما حرموه مما أحل الله أو أحلوه مما حرم الله ، ألا ترى إلى قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [سورة الروم آية : ٢١] ، ثم

__________________

(١) [خلق] : الخليفة : الخلق ، والخليقة : الطيبعة. والجميع : الخلائق ، والخلائق : نقر في الصفا.

والخليقة : الخلق والخالق : الصانع ، وخلقت الأديم : قدرته.

وإن هذا لمخلقة للخير ، أي : جدير به ، وقد خلق لهذا الأمر فهو خليق له ، أي : جدير به.

وإنه لخليقّ لذاك ، أي : شبيه ، وما أخلقه ، أي : ما أشبهه.

وامرأة خليقة : ذات جسم وخلق ، وقد يقال : رجل خليق ، أي : تم خلقه ، وخلقت المرأة خلاقة. أي : تم خلقها وحسن. [العين : خلق]

٢٠٦

قال للذين يأتون الرجال : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) [سورة الشعراء آية : ١٦٥ ـ ١٦٦] ، وقيل : لا تغيروا الدين عن صحته.

والمراد أنه خلق الأنعام ليركبوها ، ويأكلوها ، فحرموا على أنفسهم ذلك ، أي : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة مسخرة للناس فعبدوها ، وقيل : تغيير خلق الله ......

الثاني : التخرص ، قال الله : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) [سورة الشعراء آية : ١٣٧] ، وقال : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [سورة العنكبوت آية : ١٧] ، وقال : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [سورة ص آية : ٧] ، فسمي الكذب اختلاقا ؛ لأنه يقدر ويزين ليتشبه بالصدق.

الثالث : التصوير ، قال الله : (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [سورة آل عمران آية : ٤٩] ، أي : تصوره.

الرابع : على قول بعض المفسرين النطق ، قال الله : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة فصلت آية : ٢١] ، قال : أنطقكم ، والوجه عندي ، وهو خلقكم أول مرة ناطقين فحذف لما في أول الآية من ذكر النطق.

الخامس : الجعل ، قال : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) [سورة الشعراء آية : ١٦٦] ، والجعل هاهنا الفعل.

السادس : البعث ، قال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [سورة يس آية : ٨١] ، أي : على أن يبعث.

٢٠٧

الخطأ (١)

يقال : أخطأ الرجل إذا عمد الصواب ، فأصاب غيره ، وخطئ يخطأ إذا فعل الخطأ على عمد ، والاسم من الأول الخطأ ، ومن الثاني الخطى ، وفي القرآن : (كانَ خِطْأً كَبِيراً) [سورة الإسراء آية : ٣١] ، وعند كثير من أهل اللغة أن الخطأ والخطى سواء.

والإخطاء يكون حسنا وقبيحا ، وذلك أن الإنسان إذا رمي في محظور ، فعمد الإخطاء ، كان ذلك حسنا ، وكذلك الإصابة يقع حسنه وقبيحه كالإنسان يصيب في المحظور ، فتكون إصابته قبيحة ، ولا يكون الصواب إلا حسنا ؛ لأن الصواب اسم لما وقع على وجهه وحقه ، والخطى أكثر في القراءة.

والخطأ أفشى في كلام الناس ، ولم يجيء الخطى في شيء من الشعر ، إلا في بيت واحد وهو قول الشاعر :

الخطأ فاحشة والبرّ نافلة

كعجوة غرست في الأرض تؤتبر

وقال أبو عبيدة : خطئت وأخطأت لغتان.

فمن قال : خطئت جعل الخطأ مصدرا ، والخطئ اسما.

ومن قال : أخطأت جعل الخطأ والخطئ اسمين ، والأخطاء المصدر.

وقال المبرد : الخطأ اسم مفرد كالإثم ، والخطيئة الذنب.

قال أبو عبيدة : يكون الخطأ ما لم تتعمد ، وليس هذا موضعه ، يعني : الآية التي في بني إسرائيل ، وأنشد :

وإنّ مهاجرين تكنّفاه غدا

تئذ لقد خطئا وحابا

__________________

(١) قال الجرجاني : الخطأ : هو ما ليس للإنسان فيه قصد ، وهو عذر صالح لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد ، ويصير شبهة في العقوبة حتى لا يؤثم الخاطئ ، ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص ، ولم يجعل عذرا في حق العباد حتى وجب عليه ضمان العدوان ، ووجبت به الدية ، كما إذا رمى شخصا ظنه صيدا أو حربيا ، فإذا هو مسلم ، أو غرضا فأصاب آدميا ، وما جرى مجراه ، كنائم ثم انقلب على رجل فقتله. [التعريفات : الخطأ]

٢٠٨

خطئا : ركبا ذنبا ، وحاب من الحوب ، وهو الذنب المزجور عنه مأخوذ من قولهم في زجر الإبل حوب حوب.

وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الذنب المتعمد دون الشرك ، قال : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [سورة يوسف آية : ٩٧].

الثاني : الشرك ، قال : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) [سورة القصص آية : ٨] أي مشركين.

الثالث : ما لم يتعمد من الذنوب ، قال تعالى : (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [سورة البقرة آية : ٢٨٦] ، وقال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [سورة النساء آية : ٩٢].

وقيل : هو استثناء منقطع ، كأنه قال : لكن إن قتله خطأ فحكمه كيت وكيت ، وقيل : هو استثناء صحيح وهو أن له أن يقتله في بعض الأحوال إذا رأى عليه سيماء المشركين ، وهو خطأ.

وقيل : إلا بمعنى الواو ، أي : ولا خطأ ، وليس بشيء ، وقيل : هو استثناء صحيح ، لأن الآية قد أفادت إيجاب العقاب على قاتله ، ثم قال : (إِلَّا خَطَأً) ، فإنه لا عقاب عليه ، فاستثني من هذا المعنى ، وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [سورة النساء آية : ١١٢] ، يعني : أن من أخطأ خطأ يجب فيه العزم أو يعمد إثما فيه عار فرمى غيره بذلك ليغرمه أو يلحق به عاره ، فقد احتمل الكذب أو الباطل ، وقد مضى تفسير البهتان.

٢٠٩

الخبيث (١)

أصل الخبث الدنس والرداءة ، ومنه خبث الحديد وخبث الفضة ما ينفى منها ؛ لأنه يفسدها ويدنسها ، وتستعمل في الدهاء ، فيقال : خبيث إذا كان داهيا ، ويستعمل في المعصية والحرام ، وإن ذلك كله مما يدنس العرض والدين ، ورجل خبيث : رديء المذهب ، والمخبث الذي له أصحاب خبثاء.

والخبثة الفجور ، والأخبثان الرجيع والبول ، في الحديث" لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين" (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [سورة الأعراف آية : ٥٨] ، أي : الذي رد ولا يكون إلا قليلا ، والنكد القليل ، وهو العسر أيضا ؛ لأن خير العسر قليل.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : الحرام ، قال الله : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [سورة المائدة آية : ١٠٠] ، يعني : الحلال والحرام ، معناه أن الخبيث وإن كثر فأعجب ، فإن الطيب خير منه في العافية ، وإن قل.

__________________

(١) (خ ب ث) : خبث الشّيء خبثا من باب قرب خلاف طاب والاسم الخباثة فهو خبيث والأنثى خبيثة ويطلق الخبيث على الحرام كالزّنا وعلى الرّديء المستكره طعمه أو ريحه كالثّوم والبصل ومنه الخبائث وهي الّتي كانت العرب تستخبثها مثل : الحيّة والعقرب قال تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي لا تخرجوا الرّديء في الصّدقة عن الجيّد والأخبثان البول والغائط وشيء خبيث أي نجس وجمع الخبيث خبث بضمّتين مثل : بريد وبرد وخبثاء وأخباث مثل : شرفاء وأشراف وخبثة أيضا مثل : ضعيف وضعفة ولا يكاد يوجد لهما ثالث وجمع الخبيثة خبائث وأعوذ بك من الخبث والخبائث بضمّ الباء والإسكان جائز على لغة تميم وسيأتي في الخاتمة قيل من ذكران الشّياطين وإناثهم وقيل من الكفر والمعاصي وخبث الرّجل بالمرأة يخبث من باب قتل زنى بها فهو خبيث وهي خبيثة وأخبث بالألف صار ذا خبث وشرّ. [المصباح المنير : الخاء مع الباء]

(٢) أخرجه ابن حبان من حديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها (٢٠٧٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى ج ٣ / ٧١ ، والسنن الصغرى (٤٨٣) ، وأبو يعلى في مسنده (٤٨٠٤) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (٨٠١٥) ، وله شاهد من حديث ابن عباس في مسند الربيع بن حبيب (٢٩٨).

٢١٠

والخبيث اسم يقع على جميع ما حرم الله ، والطيب اسم يتناول جميع ما أحله الله وأعجبك مخاطبة الواحد ، والمراد الجماعة ، ومجاز الكلام أن الخبيث لا يساوي الطيب ، وإن كان على حال يعجب ويسر.

وقال الله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [سورة النساء آية : ٢] ، أي : لا تأخذوا الحرام من أموال اليتامى بدلا مما أحل من سائر الأموال.

الثاني : الكافر ، قال الله : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [سورة آل عمران آية : ١٧٩] ، يعني : الكافر والمؤمن ، والخبيث والفاجر ، قال الله : (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [سورة النور آية : ٢٦] من الرجال.

وهذه الآية منسوخة بالإجماع ، ونزلت في الوقت الذي نزل فيه قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) [سورة النور آية : ٣] ، وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه كان طيبا من الرجال فينبغي أن تكون أزواجه طيبات لقضية الله بذلك في هذه الآية.

وفي قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) دليل على أن الزناة ليسوا بمؤمنين في أسماء الدين التي هي على جهة المدح ، ولو كانوا مؤمنين على ما تقول المرجئة ، لكان هذا التحريم يجب أن يعم هؤلاء الزناة كما عم المؤمنين لاجتماعهم في هذا الاسم الذي أجرى الله التحريم عليه في قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النور آية : ٣] ، فلما كان هذا ناقضا لحكم الآية موجبا أن يكون حلل فيها ما حرم فيها ذلك على أن الزناة لا يدخلون في هذا الاسم.

٢١١

الخير (١)

الخير اسم لكل منفعة ومنه الخيرة في الأمور والاختيار ، اختيارك الشيء على الشيء لما في المخبار من المنفعة في الظاهر ، وقد تكلمنا في هذا الحرف بأكثر من هذا في كتابنا في التفسير.

والخير في القرآن على عشرة أوجه :

الأول : المال ، قال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [سورة البقرة آية : ١٨٠] ، وقال : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [سورة ص آية : ٣٢] ، وقيل : الخير هنا المال الكثير الذي له قدر ، وكذلك في قوله : (حُبَّ الْخَيْرِ) [سورة ص آية : ٣٢].

وروي أن رجلا من بني هاشم حضرته الوفاة ، فأراد أن يوصي ، فقال علي عليه‌السلام : كم ترك ، قيل : أربع مائة ، فقال : إن هذا قليل إن الله يقول : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) ، وقيل : كانت سبع مائة.

وقال قتادة : الخير ألف درهم فصاعدا.

وقال الزهري : الخير كل ما وقع عليه اسم المال من كثير وقليل ، وأزاد علي عليه‌السلام : أن المال إذا كان قليلا يوفر على الورثة ولا يوصي منه استحبابا لا إيجابا.

الثاني : الإيمان ، قال الله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [سورة الأنفال آية : ٢٣] ، وكانوا يقترحون أن يسمعهم الله كلام الموتى ، فقال : لو علم الله أنهم إن سمعوا ذلك آمنوا لفعل ذلك ، وقيل : معناه لو علم فيهم إيمانا لسماهم سمعاء ، ولم يسمهم بكما وصما.

الثالث : الثواب ، قال : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [سورة هود آية : ٣١] ، أي : ثوابا أي : لا أقول أن أعمالهم الحسنة تضيع عند الله لأجل فقرهم ، والمراد أن المؤمن الزري المنظر ليس عند الله بمحروم ، كما أنه عندكم محروم.

__________________

(١) (خ ي ر) : الخير بالكسر الكرم والجود والنّسبة إليه خيريّ على لفظه ومنه قيل للمنثور خيريّ لكنّه غلب على الأصفر منه لأنّه الّذي يخرج دهنه ويدخل في الأدوية وفلان ذو خير أي ذو كرم ويقال للخزامى خيريّ البرّ لأنّه أذكى نبات البادية ريحا. [المصباح المنير : الخاء مع الياء]

٢١٢

الرابع : القرآن ، قال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٠٥] ، ويجوز أن يكون المراد ما يرزقهم الله من نعمة وسعة.

الخامس : بمعنى أفضل ، قال الله : (قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [سورة المؤمنون آية : ١١٨] ، ومثله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، و : (خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [سورة الأعراف آية : ٨٧ ، سورة يونس آية : ١٠٩ ، سورة يوسف آية : ٨٠] ، وخير وشر يجيئان بمعنى أفعل ، ولا يقال : أخير ولا أشر.

السادس : النعمة ، قال الله : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [سورة يونس آية : ١٠٧] ، يعني : بنعمة وعافية.

السابع : المنفعة ، قال : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) [سورة الحج آية : ٣٦] ، يعني : في ظهورها وألبانها.

الثامن : الطعام ، قال : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [سورة القصص آية : ٢٤].

التاسع : الظفر في القتال ، قال الله : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [سورة الأحزاب آية : ٢٥] ، أي : ظفرا ولا غنيمة.

العاشر : الهدى والبيان ، قال الله : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [سورة النحل آية : ٣٠] ، أي : بيانا وهدى ، والمراد القرآن ، وخرج لنا وجه آخر ، وهو الخير بمعنى الكفاية ، قال الله : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [سورة الكهف آية : ٩٥] ، أي : كفاية ، وأنت تقول : فلان في خير أي : في كفاية وتشبع القول في ذلك في باب القاف إن شاء الله.

ومما يجري مع هذا الباب الكلام في الاختيار والإيثار ، فالاختيار إرادة الشيء بدلا من غيره ، والإيثار مثل الاختيار ؛ إلا أنه قيل في قوله : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [سورة يوسف آية : ٩١] ، أي : قدم اختيارك علينا ، فكان الإيثار وهو الاختيار المقدم ؛ ولا يكون أيضا إيثار شيء إلا على شيء.

٢١٣

وأجود من هذا أن يقال : الإيثار اختصاص الشيء دون غيره مأخوذ من قولهم : هو عندي من أهل الأثرة ، أي : من أهل الاختصاص ، وذلك لما يظهر فيه من آثار الصلاح ، والاختيار إرادة الشيء دون غيره ، لما فيه من الخير.

وسميت الإرادة اختيارا ؛ لأن المريد من الأجسام لا يريد في الأغلب إلا الخير في الحقيقة ، أو ما هو عنده خير ثم اتسع فيه فسميت كل إرادة أوثر بها على شيء اختيارا ، وسميت أفعال الجوارح اختيارا تفرقة بين حركة البطش ، وحركة المرتعش ، كأنه سمي المختار منه اختيارا ، كما سمي المشتهي شهوة ، والمسروق سرقة.

٢١٤

الخيانة (١)

الخيانة ترك الوفاء للمؤتمن ، وأصله من النقص تخونه إذا تنقصه ، وبين الخائن والسارق فرق ، وكل سارق خائن ، وليس كل خائن سارقا.

والخيانة في القتل على وجهين :

الأول : المعصية ، قال الله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٨٧] ، وقال : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) [سورة الأنفال آية : ٢٧] ، كذا قيل ، والصحيح أنه أراد أنكم تنقصون أنفسكم من شهواتها بامتناعكم عن مباشرتهن لنهينا إياكم ، والمخاطبة على هذا عامة ، ويجوز أن تكون خاصة لقوم لا يصرون على الفرض ، فيتركونه فينقصون أنفسهم الثواب ، ويقال : ما يتخونك عندي إلا خصلة ، أي : ما ينقصك.

الثاني : خيانة المؤتمن ، قال الله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [سورة النساء آية : ١٠٥] ، نزلت في طعيمة بن أثيرق ، رجل من بني ظفر من الأنصار ، سرق درعا من حديد ، وخفاها في جراب دقيق ، وأودعها يهوديا ، فاطلع عليه فعذره بنو ظفر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألزموا اليهودي الذنب ، فهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقوبته ، فأنزل الله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [سورة النساء آية : ١٠٥] ، أي : معينا واستغفر الله من همك باليهودي ، ثم خاف طعيمة القطع فهرب إلى مكة فنقب بيت الحجاج بن غلاط ، فتشبث في النقب فأخذ ثم خلى لجوازه فمضى نحو الشام فسرق في منزل نزله ، فرمي بالحجارة حتى قتل ، وفيه نزل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [سورة المائدة آية : ٣٨] ، قال ابن عباس : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٨٧] ، أي : تظلمونها بالخيانة ، وقيل : لا تنصحون لتعرضكم إياها للعذاب الدائم.

__________________

(١) (خ ون): (الخيانة) خلاف الأمانة وهي تدخل في أشياء سوى المال من ذلك (قوله) عليه‌السلام (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة) وأريد بها في قوله تعالى (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) نكث العهد ونقضه وقد خانه (ومنه) تقول النّعمة كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة خنت ولم أحفظ وهو فعلت على ما لم يسمّ فاعله خائنة الأعين مسارقة النّظر (ومنه) الحديث (ما كان لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين) (والخوان) ما يؤكل عليه والجمع خون وأخونة. [المغرب : الخاء مع الواو]

٢١٥

والخصيم (١)

المخاصم خاصمه ، وهو خصيمه ، مثل عاشره وهو عشيره ، وخالطه وهو خليطه ، ومن خاصم عن الإنسان فهو معينه ، ولهذا قيل : أن الخصيم المعين ، وقد ذكرنا أن كل سارق خائن ، وليس كل خائن سارقا ، ولهذا سمى الله طعيمة خائنا في هذه الآية ، وقيل : للدهر خؤون ؛ لأنه يأتي بأحداثه من حيث يؤمر.

وذكر في الخائنين كل ذي ذنب كبير ، لأن الآتي بالكبير خائن لنفسه ، كأنه لم يناصحها إذ عرضها لغضب الله عزوجل.

__________________

(١) [خصم] : الخصم واحد وجميع ممن يخاصمك ، وهو الخصيم أيضا ، ويجمع على الخصيم والخصماء.

والخصومة ـ مصدر ـ التخاصم والخصام. وأخصم فلان فلانا لقنه حجته حتى يخصم بها خصمه.

والخصم طرف الرواية الذي بحيال العزلاء في مؤخرها. والأخصام الذي عند الكلية من كل شيء.

والخصوم أفواه الأودية. والأصول في قول الطرماح :

حمائم سرحات تسامى خصومها

[المحيط في اللغة : ١ / ٣٤٧]

٢١٦

الباب الثامن

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله دال

الدين

أصله في العربية اللزوم ، ويتصرف في العربية على خمسة أوجه : الملة ، والعادة ، والحساب ، والطاعة ، والجزاء. وكل ذلك مما يلزم الإنسان أو يلزمه الإنسان ، ومن ثم أيضا قيل : الدين للزومه الدائن لا يسقط عنه إلا بالأداء.

وهو في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : التوحيد ، قال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة غافر آية : ١٤] ، وقال : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)(١) [سورة الزمر آية : ٣] ، يعني : التوحيد كذا قيل ، ويجوز أن يكون أراد جملة ما عليه المؤمن من دينه.

الثاني : الحساب ، قال الله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [سورة الفاتحة آية : ٤] ، أي : يوم الحساب ، وقيل من دان نفسه ربح : أي : من حاسبها ، وقيل : الدين هنا الجزاء ومثله : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) [سورة الصافات آية : ٢٠] ، ومثله : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [سورة المطففين آية : ١١] ، والتكذيب به جحده.

الثالث : الحكم ، قال الله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [سورة النور آية : ٢] ، أي : في حكمه ، وفيه دليل على أن الزاني والزانية ليسا بمؤمنين لإخراجه إياهما من

__________________

(١) قال الشوكاني : جملة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإخلاص ، أي : إن الدين الخالص من شوائب الشرك ، وغيره هو لله ، وما سواه من الأديان ، فليس بدين الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص ، وأن الدين الخالص له لا لغيره بيّن بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص [فتح القدير : ٦ / ٢٦٧]

٢١٧

استحقاق الرأفة والرحمة اللاتي جعلهما للمؤمنين ، ويجوز أن يكون الدين هاهنا بمعنى الملة ، وقيل : في طاعة الله ، وقيل : لا تأخذكم بهما رأفة فتقصروا في دين الله.

الرابع : الطاعة ، قال الله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [سورة يوسف آية : ٧٦] ، أي : في طاعته ، وقد دان الناس لملكهم إذا أطاعوه ، قال الشاعر :

لئن حللت بحيّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

الخامس : الملة ، قال الله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [سورة الفتح آية : ٢٨] ، أي : ليعلو على كل دين يدان به ، والظهور العلو ، وظهر فوق البيت علاه ، وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران آية : ١٩] ، وقال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة التوبة آية : ٣٦] ، أي : الملة المستقيمة.

وقال بعض الشعوبية : الدين فارسي واستدل على ذلك بأن الدين يوجد في كتب الفرس القديمة فقالوا دين ذو يرى على قديم الدهر من قبل أن تدخل العربية أرضهم ، يعنون خطا يكتبون به علوم دينهم ، ونحن لا نعرف هذا ، والصحيح أن الدين عربي معروف.

٢١٨

الدعاء (١)

أصله الطلب ، يقول : دعا إلى الشيء ، أي : طلب المصير إليه ، وادعى على فلان حقا ؛ لأنه يطلبه.

والدعوة إلى الطعام معروفة ، ثم كثر حتى سمي الطعام دعوة ، وسمي بالمصدر من قولك : دعا دعوة واحدة ، والدعوة في النسب ؛ لأنه طلب الدخول فيه.

والدعاء أيضا الاستعانة ، لأنها طلب الإعانة ، قال الله عزوجل : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٣] ، أي : استعينوهم ، قال الشاعر :

وقبلك كلّ خصم قد تمالوا

عليّ فما جزعت ولا دعوت

أي : ما استعنت غيري على دفعهم.

وكل ما وقع لأجله الفعل فهو داع إليه إلا أن يقع على غير الاختيار ، كالمتولد الذي يقع سببه عن سهو.

والدعاء في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : القول ، قال الله : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا) [سورة الأعراف آية : ٥] ، وقال : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [سورة الأنبياء آية : ١٥] ، أي : ما زالت تلك الكلمة دعواهم ، أي : يدعونها ، وهو قوله : (قالُوا يا وَيْلَنا) [سورة

__________________

(١) (د ع و) : دعوت الله أدعوه دعاء ابتهلت إليه بالسّؤال ورغبت فيما عنده من الخير ودعوت زيدا ناديته وطلبت إقباله ودعا المؤذّن النّاس إلى الصّلاة فهو داعي الله والجمع دعاة وداعون مثل : قاض وقضاة وقاضون والنّبيّ داعي الخلق إلى التّوحيد ودعوت الولد زيدا وبزيد إذا سمّيته بهذا الاسم والدّعوة بالكسر في النّسبة يقال دعوته بابن زيد وقال الأزهريّ الدّعوة بالكسر ادّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه يقال هو دعيّ بيّن الدّعوة بالكسر إذا كان يدّعي إلى غير أبيه أو يدّعيه غير أبيه فهو بمعنى فاعل من الأوّل وبمعنى مفعول من الثّاني والدّعوى والدّعاوة بالفتح والادّعاء مثل : ذلك وعن الكسائيّ لي في القوم دعوة بالكسر أي قرابة وإخاء والدّعوة بالفتح في الطّعام اسم من دعوت النّاس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك يقال نحن في دعوة فلان ومدعاته ودعائه بمعنى قال أبو عبيد وهذا كلام أكثر العرب إلّا عديّ الرّباب فإنّهم يعكسون ويجعلون الفتح في النّسب والكسر في الطّعام ودعوى فلان كذا أي قوله. [المصباح المنير : الدال مع العين]

٢١٩

الأنبياء آية : ١٤ ، يس : ٥٢ ، الصافات : ٢٠] ، ويقولون : فلان يدعوا بالويل ، إذا كان يقول : يا ويله ، وقال : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [سورة يونس آية : ١٠].

الثاني : العبادة ، قال : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) [سورة الأنعام آية : ٧١] ، وقال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [سورة المؤمنون آية : ١١٧] ، وقال : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [سورة الفرقان آية : ٧٧] ، أي : لو لا عبادتكم الأوثان لم ينال لعذابكم.

الثالث : الدعاء بعينه ، وهو النداء ، قال : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) [سورة القمر آية : ١٠] ، وقال : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) [سورة القمر آية : ٦] ، وقال : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء آية : ٥٢] ، وقال : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) [سورة الأنبياء آية : ٤٥] ، وقال : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) [سورة فاطر آية : ١٤] ، أي : يراكم.

الرابع : الاستعانة ، قال الله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٣] ، وقال : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة يونس آية : ٣٨] ، قال : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) [سورة غافر آية : ٢٦] ، أي : ليستعن به.

الخامس : السؤال ، قال الله : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) [سورة البقرة آية : ٦٨] ، أي : سله ، وقال : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) [سورة الأعراف آية : ١٣٤] ، أي : سله يفعل ، وقال : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [سورة الزخرف آية : ٤٩] ، وقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) [سورة الأعراف آية : ٥٥ ، غافر : ٤٩] ، أي : سلوه ، وهذا الضرب من السؤال واجب على العبد ، لأن الأمر قد جاء به مطلقا ، والأمر على الوجوب.

٢٢٠