تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الخامس : الأسر ، قال الله تعالى : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) [سورة التوبة آية ٥]. أي : أسروهم واحبسوهم عن وجوهم فإن أسلموا وإلا فاقتلوهم ، وإنما أمر بقتلهم وأسرهم وحبسهم ليخافوا النكال فيؤمنوا.

والأشهر الحرم في هذه الآية : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ؛ فواحد منها فرد ، وثلاثة متوالية ، وليست هذه الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [سورة التوبة آية ٢]. لأن آخر تلك انقضاء عشر من شهر ربيع الأول ، وانقضاء الأشهر الحرم انقضاء المحرم والأربعة الأشهر الأولى ، وهي أشهر العهد ، والكلام في هذا طويل ليس ذا موضع ذكره.

السادس : الإصابة بالمكروه ، قال الله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [سورة الحجر آية ٧٣]. كذا قيل ، والصحيح أنه بمعنى الإهلاك ؛ أي : أهلكتهم هذه الصيحة ، ويجوز أن يكون نظير قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ؛ لأن الصيحة عقاب.

٤١

الاعتداء

أصله تجاوز الحد ، ومنه قيل : عداء جاوزه إذا جاوز قدره ، وسمي العدو عدوا لتجاوز حد السعي والمشي ، ويجوز أن يكون أصله من الميل ، ومنه قيل : عدوة الوادي وهي جانبه ، وفي القرآن : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى)(١) [سورة الأنفال آية ٤٢].

__________________

(١) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيقنوا ، أيها المؤمنون ، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيّنه لكم ربكم ، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر ، إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله" إذ أنتم" ، حينئذ ، " بالعدوة الدنيا" ، يقول : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة" وهم بالعدوة القصوى" ، يقول : وعدوكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة" والركب أسفل منكم" ، يقول : والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا" ، قال : شفير الوادي الأدنى ، وهم بشفير الوادي الأقصى" والركب أسفل منكم" ، قال : أبو سفيان وأصحابه ، أسفل منهم. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى" ، وهما شفير الوادي. كان نبيّ الله بأعلى الوادي ، والمشركون أسفله" والركب أسفل منكم" ، يعني : أبا سفيان ، [انحدر بالعير على حوزته] ، حتى قدم بها مكة.

ـ حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى" ، من الوادي إلى مكة" والركب أسفل منكم" ، أي : عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها ، عن غير ميعاد منكم ولا منهم.

ـ حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " والركب أسفل منكم" ، قال : أبو سفيان وأصحابه ، مقبلون من الشأم تجارا ، لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكفار قريش ، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه ، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. فاقتتلوا ، فغلبهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسروهم.

ـ حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.

ـ حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.

واختلفت القرأة في قراءة قوله : "(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ)". فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين : بالعدوة ، بضم العين. وقرأه بعض المكيين والبصريين : بالعدوة ، بكسر العين.

قال أبو جعفر : وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ينشد بيت الراعي :

وعينان حمر مآقيهما

كما نظر العدوة الجؤذر

بكسر العين من" العدوة" ، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر :

وفارس لو تحلّ الخيل عدوته ولّوا

سراعا ، وما همّوا بإقبال

[جامع البيان : ١٣ / ٥٦٤ ـ ٥٦٥].

٤٢

ومن ذلك قيل : العدو لميله عمن يعاديه ، وسمي الظلم اعتداءا ؛ لأنه ميل عن الحق ، كما سمي جورا ؛ لأنه ميل.

وهو في القرآن على وجهين :

أولهما : التجاوز ، قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [سورة البقرة آية ٢٢٩]. أي : لا تجاوزوها إلى غيرها ، : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) [سورة البقرة آية ٢٢٩] أي : يتجاوزها ، ومثله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة الطلاق آية ١].

الثاني : الظلم ، قال الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة آية ١٩٤]. أي : فمن ظلمكم فجازوه بظلمه ، فسمي الجزاء على الظلم ظلما.

قال الشاعر :

ألا لا يجهلنّ أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

لم يفتخر هذا الشاعر بالجهل وإنما أراد الجزاء على الجهل.

والجهل هاهنا : ركون الرأس في الشر ، وليس هو ضد العلم.

وأول الآية : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [سورة البقرة آية ١٩٤].

والمعنى : أن المشركين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القتال في الشهر الحرام ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ]) [سورة البقرة آية ٢١٧]. فأرادوا أن يغزوه في الشهر الحرام طمعا أن تكف عنهم فسألوا منه ، فأنزل الله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ). أي : إن استحلوا منك في الشهر الحرام شيئا فاستحل منهم مثله فيه ، وأكده ذلك بقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ). أي : لا يجوز ذلك بالمسلمين إلا قصاصا. ثم قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة آية ١٩٤]. والمعنى : إنهم إن اعتدوا فقاتلوكم في الشهر الحرام فلا تقصروا عن قتالهم فيهم ، فيكون الاعتداء من المشركين الظلم ، ومن المسلمين الانتقام.

٤٣

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة المائدة آية ٩٤]. أي : فمن قبل الدية ثم قتل فله العذاب ؛ لأنه ظالم. وفي قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ). دليل على أن الحر يقتل بالعبد ؛ لأن من قتل وليه فقد اعتدى عليه.

٤٤

الأمر بالمعروف (١)

يعبر عن كل شيء بالأمر ، وأصله في اللغة : الظهور ، ومنه قيل للعلامة : أمارة ؛ لظهورها ، والإمرة ؛ لظهور أمرها ، والأمير ظاهر الأمر على ما يعلم ، وأمر الشيء إذا كثر ، ومع الكثرة ظهور الشأن.

والمعروف كله : ما تقبله النفس وتحبه ، والمنكر كل ما تكرهه وترده.

وأصل العرفان والمعروف واحد ؛ وهو الطمأنينة والسكون ، وذلك أنك إذا عرفت الشيء سكنت إليه إن كان محبوبا ، وإن كان مكروها عملت في إزالته لتسكن.

والعرف الريح الطيبة ؛ لأن النفس تسكن إليها.

والعرف الصبر ؛ لأنه يعقب ما يسكن معه ، ورجل عروف : صبور ، والعرف والمعروف سواء ، والعرف ، عرف الدابة معروف.

__________________

(١) أمر : الأمر : نقيض النّهي ، والجميع الأمور. وائتمر الرّجل ائتمارا : استبدّ برأيه. ولا يأتمر رشدا : أي لا يأتيه. وأمرت فلانا أمره : أي أمرته بما ينبغي. وإنّه لأمور بالمعروف من قوم أمر.

والأمرة : البركة والنّماء. وامرأة أمرة : مباركة على زوجها.

وأمر الشّيء والقوم : كثروا ؛ أمارة وأمرا ؛ فهو أمر ، وكذلك إذا ولدت نعمهم. وآمرته : أكثرته ؛ وأمرته : مثله. وما لهم أمارة كثيرة. وزرع إمّر : كثير ؛ وإمر بالتّخفيف ؛ وأمر بوزن كبد. و" في وجه مالك تعرف أمرته" : أي زيادته وخيره ، وفي الدّعاء إذا أرادوا بالرّجل خيرا : ألقى الله في مالك الأمرة. وأمره ماله فهو مأمور وآمره فهو مؤمر : أي كثّره. وفي الحديث : " خير المال سكّة مأبورة أو مهرة مأمورة" وهي الكثيرة النّتاج. ومثل : " من أمر فلّ" أي من كثر غلب.

والأمرة بناء كالرّابية ، والجميع الأمر. والإمرة : الإمارة ، وأمير مؤمّر ، وأمر علينا فلان : ولي ، ولك عليّ أمرة مطاعة. والأمار : الموعد. والأمارة : العلامة ، والأمرة : مثله. وأمر أمرة وأمارة : أي صيّر علما ، وأمّر تأميرا : مثله. والإمر : العجيب من الأمور. والإمّر : الصّغير من أولاد الضّأن ، والأنثى إمّرة.

وقيل : الإمّرة الرّجل الذي لا عقل له ولا رأي ، ومنه قول السّاجع :

إذا طلعت الشّعرى سفرا

فلا ترسل فيها إمّرة ولا إمّرا

وقيل : هو الأنثى من الحملان. وسنان مؤمّر : أي محدّد.

والمؤامرة : المشاورة ، آمرت الرّجل ، ومرني : أي أشر عليّ ، ومنه قوله عزوجل : "(إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ)".

والمئمرة : المشورة. والمؤتمر من أسماء الشّهور : المحرّم ، وجمعه مؤتمرات.

والآمر : اسم أوّل يوم من أيّام العجوز ، وسمّي بذلك لأنّه يأمر النّاس بالحذر منه. والمؤتمر : اليوم الثاني ؛ لأنّه يأتمر بالنّاس أي يؤذيهم ببرده. [المحيط في اللغة : ٢ / ٤٤٤].

٤٥

وهو في القرآن على وجهين :

الوجه الأول : الأمر بتوحيد الله ، [سورة والنهي آية عن] الشرك ، قال الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة آل عمران آية آية ١١٠]. جاء في التفسير أنه أراد توحيد الله ، : (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة آل عمران آية ١١٠]. يعني : الشرك بالله ، ومثله قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة لقمان آية ١٧]. أي : بتوحيد الله : (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة لقمان آية ١٧]. أي : عن الشرك.

الوجه الثاني : قيل : هو اتباع الرسول ، قال الله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) [سورة آل عمران آية ١١٣] ، ثم قال : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة آل عمران آية ١١٤]. أي : باتباع الرسول ، : (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة آل عمران آية ١١٤]. أي : عن التكذيب به ، هكذا قالوا.

قال أبو هلال رحمه‌الله : وعندنا أن أحد هذين الوجهين داخل في الآخر ، وهما جميعا يكونان الأمر بوجوه المحاسن والطاعات كلها.

والنهي عن المنكر : النهي عن المعاصي والقبائح جميعا.

٤٦

أدنى (١)

أفعل ، من الدنو وهو القرب ، وتأنيث أدنى : دنيا ، وتجمع : دنى ، مثل : كبرى وكبر ، وسميت الدنيا دنيا ؛ لأنها تؤدي إلى آخرة.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

أحدها : بمعنى : أجدر ، قال الله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) [سورة البقرة آية ٢٨٢]. أي : أجدر أن لا تشكوا إذا رأيتم خطوطكم يخاطب الشهود. وقال : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [سورة البقرة آية ٢٨٢]. يعني : الكتب. وأقسط : أعدل ؛ لأنه أبعد من التظالم وأقوم للشهادة ؛ يعني : أنها إذا كانت مكتوبة كانت أثبت وأبعد من اعتراض شك فيه ؛ لأن صاحبها إذا رأى خطه بها لم يشك في صحتها في أكثر الحال.

ومثله : (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [سورة النساء آية ٣]. أي : أجدر ألا تجوروا وتميلوا ، والعول : الميل عن الحق ، والعول : النفقة على العيال ، عالهم عولا.

وأول الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [سورة النساء آية ٣] الآية ، والمراد : أن أحدهم كان فيما مضى يتزوج عشر نسوة فتعظم المؤونة عليه ، فيمد يده إلى مال اليتامى الذي يلي أمرهم وهو مشفق من ذلك ، فقيل له : كما خفت على نفسك في أموال اليتامى فخف عليها في حقوق النساء ، فإنهن أيضا إلى الضعف والحاجة إلى مالهن ، ولا يتزوج منهن أكثر مما يتسع له ، ثم قال : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا). أي : تزوجكم الواحدة أقرب ألا تجوروا.

وقيل : كانوا يتزوجون العشر من اليتامى رغبة في مالهن ، فربما عجزوا عن التسوية بينهن في النفقة والفراش ، فقال الله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [سورة النساء آية

__________________

(١) (د ن و): (دنا) منه قرب وأدناه غيره (ومنه) أدنت المرأة ثوبها عليها إذا أرخته وتستّرت به «وفي التنزيل» يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أي أولى من أن يعرفن فلا يتعرّض لهنّ «ورجل دني» خسيس «والدنية» النّقيصة «ومنها» قول عمر رضي الله عنه إنّ الله أعزّ الإسلام فلم نعطي «الدنية» في ديننا. [المغرب : الدال مع النون.]

٤٧

٣]. أي : في نكاح اليتامى ؛ فحذف النكاح ودل عليه بقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [سورة النساء آية ٣]. يعني : من هؤلاء اليتامى ، ولم يقل : ما طاب لكم منهن ؛ لأن لا يظن أن الخطاب مقصور عليهن دون سائر النساء ، وأراد أن يبين أن هذا ينبغي أن يستعمل فيهن وفي غيرهن من النساء ، وإذا ذكر النساء دخل اليتامى فيهن ، وإذا ذكر اليتامى لم يدخل فيه غيرهن.

الثاني : بمعنى : أقرب ، قال الله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) [سورة السجدة آية ٢١]. يعني : الجوع والضر والخوف في الدنيا ، : (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [سورة السجدة آية ٢١] في الآخرة وهي النار. هكذا قالوا (١).

وهو عندنا بمعنى أيسر ؛ لأنه جعله مع أكبر ، وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [سورة النجم آية ٩]. أي : أقرب لا غير.

الثالث : بمعنى : أقل ، قال الله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) [سورة المجادلة آية ٧]. أي : أقل.

الرابع : بمعنى : أدون ، قال الله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [سورة البقرة آية ٦١]. أي : الأرفع وهو المن والسلوى بالأوضع ، هو ما طلبوه من نبات

__________________

(١) قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وفيه ستة أقوال.

أحدها : أنه ما أصابهم يوم بدر ، رواه مسروق عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة ، والسدي.

والثاني : سنون أخذوا بها ، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود ، وبه قال النخعي. وقال مقاتل : أخذوا بالجوع سبع سنين.

والثالث : مصائب الدنيا ، قاله أبيّ بن كعب ، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة ، وأبو العالية ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك.

والرابع : الحدود ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والخامس : عذاب القبر ، قاله البراء.

والسادس : القتل والجوع ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي : قبل العذاب الأكبر ؛ وفيه قولان.

أحدهما : أنه عذاب يوم القيامة ، قاله ابن مسعود.

والثاني : أنه القتل ببدر ، قاله مقاتل. [زاد المسير : ٥ / ١١٧].

٤٨

الأرض ، و : (خَيْرٌ) هاهنا بمعنى أفعل ؛ وجعل المن والسلوى أرفع من غيرهما ، إذ لم يكن في نيلهما تعب ولا إثم.

٤٩

الإسلام (١)

أصله السكون ، ومنه قيل : السلم خلاف الحرب ؛ لما فيها من السكون. ثم استعمل في الخضوع ، فقيل : أسلم الرجل واستسلم إذا خضع وتواضع ؛ لأن مع الخضوع سكون الأطراف ، ومنه قوله تعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [سورة الحجرات آية ١٤].

__________________

(١) [سلم] السلم : ضرب من الدّلاء مستطيل لها عروة واحدة. ولدغ الحية ، والملدوغ : سليم ومسلوم. ورجل سليم : سالم ؛ سلم سلامة.

وقولهم : السّلام عليكم : أي السلامة من الله عليكم. والسّلام : السداد ، من قوله عزوجل : "(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)" أي صوابا. وقيل : سلم من العيب. وقوله : "(اللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)" ، السّلام : الله ، وداره : الجنة. وقيل : هي السلامة.

وقرئ : " ورجلا سالما لرجل" أي خالصا. والمسلم : المخلص لله عبادته. والسّلام : الحجارة ، والواحدة سلمة.

والسّلام : ضرب من دق الشّجر. والسلامى : عظام الأصابع والأشاجع والأكارع ، والجميع سلاميات.

وهو آخر ما يبقى من المخ في السّلامى والعين. والسلم : ضرب من الشجر ، الواحدة سلمة. والمسلوم : المدبوغ به. وأرض مسلوماء : كثيرة السلم. والإسلام : الاستسلام لأمر الله والانقياد لطاعته. ويقولون : سلمنا لله ربنا : أي استسلمنا له وأسلمنا. والسلم ـ أيضا ـ : الإسلام.

والمسلم : المستسلم. والمساليم : جمع المسلم. وكان كافرا ثم تمسلم : أي أسلم. وأسلمت فلانا : خذلته.

وأسلمت إليه ثوبا ، وسلّمت له وإليه. ويقولون : المظلوم عندنا يسلم ظلامته : أي يعطى ظلامته.

وتسلمت حاجتي من فلان : أي نجزت وقضيت. ولا يستلم على سخطه : أي لا يصطلح على ما يكرهه.

وكل تارك لشيء فهو مسلم له. واستلام الحجر : تناوله باليد أو بالقبلة. والسلم والسّلم والسلم والسّلام والمسالمة : واحد ؛ وهو الصّلح. وأخذه سلما : أي أسره. وإنّه لحسن السلم : أي الإسلام والدين.

والسلم ـ بفتحتين ـ : الأسر. وهو الأسير أيضا.

وأسلم الرجل بعد جنونه : إذا ترك ما كان عليه من جنون الشباب. ويقولون للرجل الكاذب : " ما تسالم خيلاه كذبا".

وكلمة سالمة العينين : أي حسنة.

والسلم : ما أسلفت فيه. وفي الحديث : " لا باس بالسّلم" ، يقال : أسلم فيه. والسلّم : السير ، والمرقى ، والجميع السلاليم. والسلم : كواكب أسفل من العانة عن يمينها. والسليم من حافر الفرس : بين الأمعر والصحن من باطنه. والأسيلم : عرق في اليد. والأسلوم : بطن من حمير. وامرأة سلمة وسلبة : إذا كانت لينة الأطراف ناعمتها. وفلان مستلم القدمين : أي لينهما. واستسلم ثكم الطريق : أخذه ولم يخطئه. وأبو سلمان : أعظم الجعلان ذو رأس عظيم. وأبو سلمى : هو الوزغ.

والسّلامانة : مثل الألاءة ، وتجمع على السلامان ، وقد سمت العرب سلامان ، وقيل : هو شجر أطول من الشيخ. والسّلام ـ أيضا ـ : شجر. [المحيط في اللغة : ٢ / ٢٦٥].

٥٠

ثم استعمل في الإخلاص ، فيقال : أسلم الرجل إذا أخلص لله ، وسلم الغلام في صناعة كذا إذا أخلصه لها ، وسلم فلان على فلان كأنه عرفه خلوص سريرته ، وقد سلم العبد أمره لله ؛ أي : فوضه إليه وأخلص التوكل فيه عليه.

والسلامة : الخلاص من الشر ، وقوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [سورة آل عمران آية ٢٠]. أي : أخلصت ديني.

ومثله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) [سورة لقمان آية ٢٢]. أي : يخلص دينه له.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

أولها : الإخلاص ، قال الله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) [سورة البقرة آية ١٣١]. أي : أخلص ، : (قالَ أَسْلَمْتُ) [سورة البقرة آية ١٣١]. أي : أخلصت.

الثاني : الإقرار ، قال الله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة آل عمران آية ٨٣]. أي : أقر بالعبادة طوعا باللسان أو كرها ؛ لما فيه من الدلالة على صنع الله فيه ، على سبيل ما قال الحكماء : كل صامت ناطق. وهذا يقوم مقام الإقرار وإن لم يكن به.

وقال تعالى : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)(١) [سورة التوبة آية ٧٤]. أي : إقرارهم بالإسلام ؛ يعني : المنافقين ، فسمى الإقرار إسلاما ؛ لأنه من شرائط الإسلام.

__________________

(١) قال أبو حيان : نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته ، قاله الحسن وروى عطية قريبا منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري ، فندم ورجع ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وذكر مجاهد ، والسدّي : أن الحارث كان يظهر الإسلام ، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه ، وقتل زيد بن قيس ، وارتد ولحق بالمشركين ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر أن يقتله إن ظفر به ، ففاته ، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة ، فنزلت إلى قوله : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا* فكتب بها قومه ، إليه فرجع تائبا.

ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ولم يسمه ، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولا وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد الحارث في أحد عشر رجلا ، وسمى

٥١

الثالث : الخضوع والاستسلام ، قال الله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [سورة الحجرات آية ١٤] وخضعنا مخافة السبي والقتل ، وهذه الآية خاصة في قوم من الأعراب ، وإن كان لفظها عاما فيهم ، إذ كان منهم من أخلص ، كما قال : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران آية ١٧٣]. وإنما قال لهم ذلك نفر ، وقيل : بل رجل واحد.

__________________

ـ منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت ، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ، وسمى منهم : أبا عامر الراهب ، والحارث ووجوها.

وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق. ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم. وقيل : هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة. قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه.

كيف : سؤال عن الأحوال ، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان ، أي : كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدّة الجرائم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها»؟.

وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم؟ انتهى.

وهذه نزعة إعتزالية ، إذ ليس المعنى عنده : إن الله يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم ، بل هما مخلوقان للعبد.

وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد ، والمعنى : ليس يهدي ، ونظيره قول الشاعر :

فهذي سيوف ، يا صديّ بن مالك

كثير ، ولكن : أين بالسيف ضارب؟

وقول الآخر :

كيف نومي على الفراش ولما

يشمل الشام غارة شعواء؟

والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق ، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم إلى الجنة إلّا إن تجوّز ، فأطلق المسبب على السبب ، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان ، فيعود إلى القول الأول. [البحر المحيط : ٣ / ٣١١].

٥٢

الإيمان (١)

أصل الإيمان السكون والطمأنينة ، ومن أمنك فقد سكن إليك ، ولهذا لا يصح أن يقال : إن الله يأتمن أنبيائه إذ لا يوصف بأنه يسكن إليهم ، ولا يوصف الأنبياء بأنهم يأتمنونه ، كما لا يوصفون بأنهم يسكنون إليه.

وقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [سورة يوسف آية ١٧]. أي : بساكن إلينا.

والمؤمن في أسماء الله بمعنى أنه يؤمن عباده من ظلمه ، ويسكن قلوبهم حتى لا يخافوا ذلك منه.

ثم استعمل الإيمان بمعنى التصديق ؛ لأنك لا تصدق الرجل إلا وقد سكنت إلى خبره.

ويكون المؤمن في أسماء الله تعالى بمعنى أنه مصدق لأوليائه ، وتصديقه لهم تسكين عباده إلى قولهم ، ويقال : آمنت لرجل إذا صدقته ، ومنه قول الشاعر :

ومن قبل آمنّا وقد كان قو

منا يصلّون الأوثان قبل محمّدا

ويجوز أن يكون معنى قوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [سورة يوسف آية ١٧]. أي : بمصدق قولنا.

وقوله تعالى : (آمَنْتُمْ لَهُ) [سورة طه آية ٧١] مفارق لقوله : (آمَنْتُمْ بِهِ) [سورة البقرة آية ١٣٧]. معنى : (آمَنْتُمْ بِهِ) : صدقتموه. ومعنى : (آمَنْتُمْ لَهُ) : أظهرتم ما أظهرتموه من عجزكم عن معارضته إعانة له لأمر توافقتم عليه ، ولستم تعرفون صدقه.

__________________

(١) الفرق بين الاسلام والايمان : لا يخفى أن الاسلام أعم من الايمان مطلقا ، كما نطقت به الاخبار الصحاح ، والروايات الصراح المروية عن أهل بيت العصمة ، صلوات الله عليهم ، وهي كثيرة جدا ، فلا يلتفت أحد إلى قول من قال من المتكلمين : إنهما مترادفان ، فمنها ما رواه ثقة الاسلام في موثقة سماعه قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الاسلام والايمان أهما مختلفان؟ فقال : " إن الايمان يشارك الاسلام ، والاسلام لا يشارك الايمان". [الفروق اللغوية : ١ / ٣١٧].

٥٣

وهذا كما تقول : فعلت ذلك لفلان. أي : ميلا إليه وإعانة له ، وإنما قال فرعون هذا القول ليوهم غيرهم أنهم على اعتقاد التكذيب لموسى ؛ لأن لا يكون ما ظهر منهم داعية لغيرهم إلى الإيمان به.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى : الإقرار باللسان من غير اعتقاد ؛ قال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [سورة المنافقون آية ٣]. يعني : أقروا علانية وكفروا سرا. وقوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) ، وقوله تعالى : [سورة [يا أيها آية الذين آمنوا](لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [سورة الممتحنة آية ١٣] هكذا جاء في التفسير.

ويجوز عندنا أن تكون المخاطبة في هذه الآية وما قبلها مخاطبة للمؤمنين حقا يأمرهم بخشوع القلوب وترك تولي المغضوب عليهم فيما يستقبل من أعمارهم.

وقيل : قوله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [سورة الحديد آية ١٦] أن هؤلاء قوم من المؤمنين قصروا بعض التقصير ولم يظهر عليهم أثر الإسلام ؛ خشوعه ووقاره فاستعتبهم الله بهذه الآية.

وقال بعضهم : كانوا بمكة مجتهدين فلما هاجروا أصابهم الزيف ففتروا عما كانوا عليه ، وأن الشيء يبين ، وأنى يأتي بمعنى دنا.

الثاني : التصديق سرا وعلانية ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [سورة البينة آية ٧].

الثالث : التوحيد ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [سورة المائدة آية ٥] ، قالوا : أراد بالتوحيد ، والمعنى على هذا : ومن يكفر بالله الموحد ، ويجوز [أن يكون] الكفر هاهنا الجحد : أي : من جحد الإيمان بهذه الأحكام التي تقدم ذكرها فقد حبط عمله ، وفيه دليل على أن من نذر طاعة ثم ارتد بطل نذره.

الرابع : إقرار المشرك ببعض ما يوافق المسلم ، قال [الله تعالى] : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف آية ١٠٦] أي : إذا سألتم عن خالقهم قالوا : الله.

٥٤

وهم بعد ذلك لا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، [ونحو ذلك] قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة لقمان آية ٢٥] ، وسمى بعض المفسرين هذا القول منهم إيمانا.

نحن لا نطلق عليه اسم الإيمان ؛ لأنه لو كان إيمانا لكان صاحبه مؤمنا بالإطلاق ، ولكنا نقول : إنه إقرار بالله والمقر بالله يجوز أن يكون كافرا ولا يجوز أن يكون المشرك مؤمنا ، وكل ما كان من أسماء الدين مدحا فإنه لا يطلق إلا على من يستحق الثواب ، مثل المؤمن والمسلم والمتقي ويجري على غيره مقيدا ، فيقول : إن اليهودي مؤمن بالله وهو متق لكذا.

٥٥

الاستغفار (١)

أصله في اللغة الستر ، ومنه قيل : للكمة من الزرد مغفر ؛ لأنها تستر الرأس ، وقد غفرت الشيء سترته ، وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه" حصنوا المسجد فإنه أغفر للنخامة" وفي هذا جواز التنخم [في المسجد].

والغفر منزل من منازل القمر ، وذلك أن القمر إذا نزل به ستره بضوئه.

والغفر أيضا النكس في المرض ؛ لأنه يحول بين صاحبه وبين العافية فكأنه سترها عنه.

والغفارة من الشعر الضفيرة ، عن أبي مالك ؛ لأنها تستر ما تحتها ، وقال غيره : الغفارة خرقة حمراء تشد على العمائم ، والجمع غفائر وهذا أصح.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : التوبة ، قال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [سورة نوح آية ١٠]. أي : توبوا إليه ، وجعل الاستغفار التوبة ؛ لأن في التوبة الاستغفار.

والتوبة على الحقيقة : هي الندم على ما مضى والعزم على ترك مثله في المستقبل ، ولو قلت : إن الندم توبة. لم تقرنه بشيء آخر صح ؛ لأنه لا يجوز أن يندم على ما فات وهو يعزم

__________________

(١) غفر : المغفر : وقاية للراس. وغفر الثّوب إذا ثار زئبره غفرا.

والغفارة : المغفر ، ومغفر البيضة : رفرفها من حلق الحديد قال الأعشى.

والشطبة القوداء تط

فر بالمدجج ذي الغفار

والغفارة : خرقة تضعها المرأة للدّهن على هامتها.

والغفارة : خرقة تلفّ على سية القوس لتلفّ فوقها إطنابة القوس ، وهو سيره الذي يشد به ، وحبل يسمى رأسه غفارة. واصل الغفر التّغطية.

والمغفور : دود يخرج من العرفط حلو يضيح بالماء فيشرب. وصمغ الإجاصة مغفور. وخرجوا يتمغفرون أي يطلبون المغافير.

والغفارة : الربابة التي تغفر الغمام عليك أي تغطّيه لأنّها تحت الغيث ، فهي تستره عنك. وجاء القوم جماء الغفير أي بلفهم ولفيفهم والغفر : ولد الأروية ، قال ذو الرمة :

وفجّ أبة أن يسلك الغفر بينه

سلكت قرانى من قراسية سمرا

والمغفر : الأرويّة ، ويقال لها : أمّ غفر. والغفر من منازل القمر.

والله الغفور الغفار يغفر الذنوب مغفرة وغفرانا وغفرا. [العين : باب الغين والراء والباء].

٥٦

على معاودة مثله ، وقوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [سورة هود آية ٣]. الاستغفار هاهنا التوبة وإنما فصل بينهما للتوكيد ، وتكرير الألفاظ على المعنى الواحد توكيد ، و : (ثُمَ) على هذا التأويل بمعنى الواو ، وهو قول الأخفش.

ويجوز [سورة أن آية يكون] قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). أي : استغفروه استغفارا بعد استغفار ، وعن علي عليه‌السلام أنه قال : الحمد لله ثم الحمد لله أي : الحمد لله مرة بعد أخرى.

ويجوز أن يكون المراد : أنكم كلما ذكرتم الذين استغفروا منه ، ويجوز أن يكون المعنى : أن استغفروا مما مضى وتوبوا مما تواقعون في المستقبل.

والفرق بين الاعتذار والتوبة ؛ أن التوبة ندم على ذنب تقر بأنه لم يكن لك في إتيانه عذر ، والاعتذار إظهار ندم على ذنب تذكر أنه كان لك في إتيانه عذر.

الثاني : الصلاة ، قال الله تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [سورة آل عمران آية ١٧] ، وقال : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [سورة الذاريات آية ١٨] هكذا جاء في التفسير.

ويجوز أن يكون معناه أنهم يصلون الليل ويستغفرون بالأسحار ، فجعل استغفارهم بالأسحار دليلا على صلاتهم بالليل ولم يذكرها.

وقالوا في قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [سورة الأنفال آية ٣٣] أنه يعني : يصلون كذا قيل.

ويجوز أن يكون المراد أن الله لا يبعث عليهم العذاب الذي طلبوه في قوله : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [سورة الأنفال آية ٣٢] وأنت فيهم وليس بالصلاح لك ولهم أن يأمرك بالخروج عنهم ولا ينزل بهم العذاب أيضا ، ومنهم من يتوب في المستقبل. والاستغفار التوبة.

قال مجاهد : يستغفرون يسلمون أي : في المستقبل.

٥٧

الثالث : طلب المغفرة وهو الأصل ، قال : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [سورة يوسف آية ٩٧] والمعنى : سل الله أن يقبل استغفارنا ؛ لأنه لا يجوز أن يذنبوا هم ويستغفر لهم غيرهم إلا إذا تابوا ، وليس ذلك إلا سؤال قبولهم.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ)(١) [سورة يوسف آية ٢٩]. قالوا : معناه استغفري زوجك ؛ لأنها كانت مشركة ، وكانوا مع الإشراك يحرمون الزنا ، ويجوز عندنا أن يكون أمرها باستغفار الله ذنبها وإن كانت مشركة ؛ لأن المشرك يقال له ذلك لأجل شركه ولغير شركه من ذنوبه ، وعلى أنه لا يقال : استغفرت إلا الله واستغفرت الرجل ليس بمعروف ، وإن كان صحيحا في العربية.

__________________

(١) قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) فيه قولان :

أحدهما : استعفي زوجك لئلا يعاقبك ، قاله ابن عباس.

والثاني : توبي من ذنبك فإنك قد أثمت.

وفي القائل لهذا قولان. أحدهما : ابن عمها. والثاني : الزوج. [زاد المسير : ٣ / ٤٢١].

٥٨

الأجل (١)

أجل الشيء : وقته ، وحد الأجل هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، [فهو أجل يجعل] جاعل له ، وما علم أنه يكون في وقت فلا أجل له إلا أن يحكم بأنه يكون فيه.

فأجل الإنسان هو وقت انقضاء عمره ، وأجل الدين محله ، وأجل الموت هو وقت حلوله ، وأجل الآخرة هو الوقت لانقضاء ما تقدم قبلها قبل ابتدائها ، هكذا وجدته عن بعض العلماء.

وأصله من التأخير ، وقد أجلته إذا أخرته.

والآجل نقيض العاجل ، والآجل : القطيع من بقر الوحش ، وذلك لتأخير بعضه على بعض حتى يجتمع.

وآجل المال يأجله أجلا إذا حبسه في المرعى كما يحتبس الآجل من البقر بعضه على بعض حتى يجتمع.

وآجل عليهم شرا : إذا جناه ؛ لأنه حبسه عليهم لإلحاقه بهم ، والمأجل حوض واسع يؤجل فيه الماء حتى يجتمع ثم يفجر في الزرع.

وللأجل في القرآن ثمانية مواضع :

الأول : أجل الدنيا ، قال تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) [سورة الأنعام آية : ٢] أي : أجل الدنيا ، : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [سورة الأنعام آية : ٢] يعني : أجل الآخرة ، وقال الحسن

__________________

(١) [اجل] : الأجل : غاية الوقت في الموت. وأجل الشّيء يأجل ، وهو آجل : نقيض العاجل. والأجيل : المرجّى إلى وقت. والآجلة : الآخرة. والأجل : مصدر قولهم أجلّوا ما لهم يأجلونه أجلا : أي حبسوه في المرعى. وهو الضّيق أيضا. ةأجل عليهم شرّا : أي جناه وبحثه ؛ أجلا. وهو يأجل لعياله : أي يكسب. والتّأجّل : الإقبال والإدبار. والمجيء والذّهاب في قول لبيد. والإجل : وجع في العنق. وأجل يأجل أجلا. وبي إجل فأجّلوني : أي داووني منه ، وآجلوني : مثله. والقطيع من بقر الوحش : إجل ، والجميع الآجال. وتأجّل الصّوار : صار قطيعا. والأجل : من قولك من أجل كذا. وفعلته من أجل كذا : أي من جرّاك ، ومن إجلك : لغة ، ومن أجلاك ؛ وأجل أنّك فعلته. والموجّل : شبه حوض واسع يؤجّل فيه ماء البئر أيّاما ثمّ يفجر في الزّرع ، والجميع المآجل. وروي قول أبي النّجم : من عبس الصّيف قرون الأجّل. أي الأيّل .. [المحيط في اللغة : ٢ / ١٣٨].

٥٩

والضحاك وقتادة : هو أجل الحياة إلى الموت ، وأجل الموت إلى البعث ، وهذه الآية دليل على صحة البعث ؛ لأن الذي قدر على الإبتداء قادر على الإعادة.

وأولها : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)(١) [سورة الأنعام آية : ٢] أي : خلق آدم الذي أنتم ولده من الطين ، كما تقول لقريش اليوم : أنتم أصحاب يوم الفجار ، أي : أباؤكم أصحابه وليس هذا انقضاء ؛ لقوله : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [سورة السجدة آية : ٨] ، لأنه أراد بذلك ولد آدم.

وقيل : أجلا أي : وقتا تحيون فيه ، : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني أجل الساعة ، وجعله عنده ؛ لأنه لا يعرفه غيره ، كما تقول : خبر فلان عندي. أي : أنا العالم به دون غيري.

وقيل : (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني أوقات حياتكم في الآخرة وجعله عنده ؛ لأنه حيث لا يحكم فيه غيره أيضا ، وقيل : قضى أجل الماضين ، وأجل مسمى عنده للباقين.

وقيل : أجل انقضاء الدنيا ، وأجل ابتداء الآخرة ، : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [سورة الأنعام آية : ٢] أي : خلقكم من طين ، وجعل الظلمات والنور ، وضرب لكم هذه الآجال وأنتم مع هذا تشكون فيه فيعبدون غيره.

__________________

(١) قال الشوكاني : قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) في معناه قولان : أحدهما ، وهو الأشهر ، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه‌السلام ، وأخرج مخرج الخطاب للجميع ، لأنهم ولده ونسله. الثاني ، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني آدم (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني أجل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل الساعة والوقوف عند الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عنه في قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) قال : أجل الدنيا ، وفي لفظ أجل موته (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : الآخرة لا يعلمه إلا الله.

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه (قَضى أَجَلاً) قال : هو اليوم يقبض فيه الروح ، ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : هو أجل موت الإنسان. [فتح القدير : ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠].

٦٠