تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

السبيل (١)

تذكر وتؤنث ، وأصلها من الامتداد ، ومنه قيل للمطر بين السماء والأرض سبل ، لامتداده من السحاب إلى الأرض ، وأسبلت الستر إذا أرخيته فامتد من علو إلى سفل ، والسبيل في القرآن على ثلاثة عشر وجها :

الأول : الطاعة ، قال الله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ١٩٥] ، أي : في طاعته.

الثاني : البلاغ ، قال : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران آية : ٩٧] ، أي : بلاغا ، والمراد بالاستطاعة هاهنا وجدان النفقة ، وصحة البدن ، ورفع الموانع ، وتمام الوقت.

الثالث : المخرج ، قال الله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [سورة الإسراء آية : ٤٨] ، وقال الله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) ، [سورة النساء آية : ١٥] ، وكان الله فرض أن يحصن الزاني ، وهو قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) [سورة النساء آية : ١٥] ، فلما نزل :

__________________

(١) (س ب ل :) (السّبيل) يذكّر ويؤنّث والمراد به في حديث عبادة رضي الله عنه خذوا عنّي خذوا عنّي فقد جعل الله لهنّ سبيلا ما في قوله تعالى (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وذلك أنّ تخليدهنّ في الحبس كان عقوبتهنّ في بدء الإسلام ثمّ نسخ بالجلد والرّجم يقال للمسافر ابن السّبيل لملازمته إيّاه والمراد به في الآية المسافر المنقطع عن ماله «والسابلة» المختلفة في الطّرقات في حوائجهم عن عليّ بن عيسى وإنّما أنّثت على تأويل الجماعة بطريق النّسب «وسبل» الثّمرة جعلها في سبل الخير «والسبل» بفتحتين غشاء يغطّي البصر وكأنّه من إسبال السّتر وهو إرساله. [المغرب : السين مع الباء]

والسين والباء واللام أصل واحد يدلّ على إرسال شيء من علو إلى سفل ، وعلى امتداد شيء.

فالأوّل من قيلك : أسبلت السّتر ، وأسبلت السّحابة ماءها وبمائها.

والسّبل : المطر الجود. وسبال الإنسان من هذا ، لأنّه شعر منسدل.

وقولهم لأعالي الدّلو أسبال ، من هذا ، كأنّها شبّهت بالذي ذكرناه من الإنسان. قال :

إذ أرسلوني ماتحا بدلائهم

فملأتها علقا إلى أسبالها

والممتدّ طولا : السّبيل ، وهو الطّريق ، سمّي بذلك لامتداده. والسّابلة : المختلفة في السّبل جائية وذاهبة.

وسمّي السّنبل سنبلا لامتداده. يقال أسبل الزّرع ، إذا خرج سنبله.

قال أبو عبيد : سبل الزّرع وسنبله سواء. وقد سبل وأسبل. ينظر معجم مقاييس اللغة (س ب ل).

٢٦١

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور آية : ٢] ، وقال عليه‌السلام : " قد جعل الله لهن سبيلا" (١).

وأخرج من كان عنده من الزناة محبوسا فجلدهم مائة مائة وخلاهم ، ثم فصل عليه‌السلام حد الزاني فجعل للذكر الجلد ، وللأنثى الرجم ، وقال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) [سورة النساء آية : ١٥] ، ولم يذكر الذكور ؛ لأنه معلوم أن حد الزناة مثل حد الزواني فاكتفى بذكر أحد الصنفين.

والفاحشة هنا الزنا ، واستشهدوا مثل اشهدوا كما تقول : استوقد نارا ، أي : أوقد ، هذا قول ، والأجود أن يقال : استشهد ، طلب الإشهاد.

واستوقد طلب الاستضاءة بالنار ، ولا يجوز أن يكون افعل واستفعل بمعنى واحد ، كما لا يكون علم واستعلم بمعنى واحد.

الرابع : الصنيع ، قال الله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) [سورة النساء آية : ٢٢] أي : صنيعا.

الخامس : العلة ، قال : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) [سورة النساء آية : ٣٤] ، أي : علة ، تقول : إذا نشزت المرأة على زوجها فله أن يهجرها من غير أن يمنعها النفقة والسكنى ، وإذا أطاعته فلا يبغ عليها سبيلا ، أي : لا يكلفها حبه ، فإن ذلك لا تملكه.

السادس : الدين ، قال الله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النساء آية : ١١٥] ، أي : غير دينهم ، وقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [سورة النحل آية : ١٢٥].

السابع : الهدى ، قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [سورة النساء آية : ٨٨] ، والإضلال هاهنا التسمية كما تقول : جهلت الرجل إذا سميته جاهلا ، وعدلته إذا سميته عدلا ، ومثله قوله : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [سورة الروم آية : ٢٩] ، أي : من حكم عليه باسم الضلال عقوبة له.

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت (١٦٩١) ، وأخرجه الترمذي أيضا (١٤٣٤) ، وأخرجه ابن ماجه (٢٥٥٠) ، وأخرجه أحمد (١٥٤٨٠) ، وأخرجه الدارمي (٢٣٢٧).

٢٦٢

ودليل ذلك قوله في أول الآية : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) [سورة الروم آية : ٢٩] ، ومثله : (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) [سورة الشورى آية : ٤٦].

الثامن : الحجة ، قال الله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [سورة النساء آية : ١٤١] ، أي : حجة ، وفي هذا دليل على أن الله قد مكناهم من الإيمان ؛ لأنه لو لم يمكناهم منه لكان للكافرين على من يدعوه إلى الإيمان حجة.

التاسع : الطريق ، قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) [سورة النساء آية : ٩٨] ، يعني : أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة.

وقال : (وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وابن السبيل المسافر يأخذ من الصدقة ، وإن كان له مال في بلده ، وكل من ذكر في الآية ، أنه يأخذها فإنما يأخذها بالفقر إلا ابن السبيل ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وقوله في هذه الآية : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة التوبة آية : ٦٠] ، فإنه يعني : الجهاد.

وقال الكوفيون : لا يعطى إلا الفقراء من المجاهدين ؛ فإذا أعطوها وهم فقراء فقد ملكوها وأجرى المعطي وإن لم تصرفوه في سبيل الله ، وقال الشافعي : " يعطى الغني والفقير من المجاهدين".

العاشر : الهدى ، قال : (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة آية : ٦٠] أي : عن قصد الهدى ، يعني : الإسلام ، ومثله : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة آية : ٧٧].

الحادي عشر : قيل : الانتقام ، قال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الشورى آية : ٤٢] ، وقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) [سورة التوبة آية : ٩٣].

٢٦٣

وقيل : المراد أن الحجة على الذين يستأذنونك في القعود عن الجهاد ، وهم يقدرون على النقود فيه ، وقالوا : ومثله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [سورة التوبة آية : ٩١] ، يعني : أن مناصحتهم للدين إحسان ، وليس على المحسن حجة.

الثاني عشر : الطاعة والقربة ، قال الله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [سورة الفرقان آية : ٥٧] ، أي : زلفى وقربة.

الثالث عشر : الملة ، قال الله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [سورة يوسف آية : ١٠٨] ، أي : ملتي وديني.

٢٦٤

الباب الثالث عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله شين

الشرك (١)

أصل الشرك إضافة الشيء إلى مثله ، ومنه قيل : شراكا النعل ، لأن كل واحد منها يشبه الآخر ، وشراك الطريق مشبه بشراك النعل ، وأشرك بالله عبد معه غيره ؛ لأنه أضافه إليه وشبهه به.

والشرك في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الإشراك بالله في العبادة ، كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية : ٤٨] ، وإن في موضع نصب.

والمعنى إن الله لا يغفر الشرك به إلا بالتوبة ؛ فحذف ذكر التوبة لدلالة العقل عليه ، ولشهادة السمع به ، وهو قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) [سورة مريم آية : ٦٠ ، الفرقان : ٧٠] ، وقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية : ٤٨] ، يعني : أصحاب الصغائر ؛ لأن ما دون الشرك صغائر وكبائر فلو كانا جميعا مغفورين لم يكن لقوله : (لِمَنْ

__________________

(١) (ش ر ك): (شركه) في كذا شركا وشركة وباسم الفاعل منه سمي شريك ابن سحماء الذي قذف به امرأته هلال بن أمية وشاركه فيه واشتركوا وتشاركوا وطريق مشترك (ومنه الأجير المشترك) وهو الذي يعمل لمن يشاء وأما أجير المشترك على الإضافة فلا يصح إلا على تأويل المصدر (والتشريك) بيع بعض ما اشترى بما اشتراه به (والشرك) النصيب تسمية بالمصدر (ومنه) بيع شرك من دار وأما في قوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فاسم من أشرك بالله إذا جعل له شريكا وفسر بالرياء في قوله عليه‌السلام «إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» وهي أن تعرض للصائم شهوة فيواقعها ويدع صومه (وشرك النعل) وضع عليها الشراك وهو سيرها الذي على ظهر القدم وهو مثل في القلة (وأما حديث أبي أمامة) (صلى بي النبي عليه الصلاة والسلام الظهر حين صار الفيء مثل الشراك) فإنه عنى به الفيء الذي يصير في أصل الحائط من الجانب الشرقي إذا زالت الشمس وهذا أقل ما يستبان به الزوال لا أنه تحديد له. [المغرب : الشين مع الراء]

٢٦٥

يَشاءُ) فائدة ولا يجوز أن يكون ما دون الشرك لا يكون كفرا ، لأن الشرك والكفر في أسماء الدين واحد ، وكل كافر مشرك.

وقوله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [سورة المائدة آية : ٧٢] ، وقوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة آية : ٣].

الثاني : قالوا : الشرك بمعنى الطاعة ، قال الله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [سورة إبراهيم آية : ٢٢] ، أي : أطعتموني.

وقيل : أراد أني كفرت اليوم بما أنتم في الدنيا تدعونه لي من الشرك لله ، وهو مثل قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [سورة فاطر آية : ١٤].

وقال الكلبي : هو على التقديم والتأخير ، أي : أني في دار الدنيا كفرت بربي الذي أشركتموني به.

وقال الحسن : إني كفرت بما جعلتموني إلها وما على التفسير مصدر ، أي : كفرت بإشراككم إياي بالله ، وقال أبو علي ـ رحمه‌الله ـ : أي : إني كفرت بما أشركتموني به بعد ذلك ، لأنه قد تقدمهم بالكفر.

الثالث : الربا على ما جاء في التفسير ، قال الله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [سورة الكهف آية : ١١٠] ، أي : لا يرائي فيما نفعل من العبادة.

وقيل أيضا : أنه أراد الإشراك بالله غيره ، وقوله : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [سورة الأنعام آية : ١٣٧] ، يعني : الشياطين المذكورين في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [سورة الأنعام آية : ١٠٠] ، يزينون لهم ذلك بالوسوسة ، وقيل : هم رؤساء السوء ، وقيل : هم السدنة ، وقوله : (وَهذا لِشُرَكائِنا) [سورة الأنعام آية : ١٣٦] ، يعني : للأصنام وجعلها لهم شركاء ، لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها.

٢٦٦

الشقاق

أصل الشقاق من قولهم : شققت الشيء إذا قطعته بنصفين فبعد أحدهما عن الآخر ، وكل قطعة منه شقة ، وسمي الثوب الطويل القليل العرض شقة كأنه من قلة عرضه قد شق من غيره ، وشقيق الرجل أخوه ؛ كأنه شق منه ، وسميت الأرض البعيدة شقة لطولها وتراخي بعضها عن بعض ، ومن ثم قيل للطويل أشق ، وشق الأمر على فلان طال حتى أتعبه ، وشاق فلان فلانا إذا عاداه وباعده ، والأصل في ذلك كله البعد.

والشقاق في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الضلال ، قال الله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [سورة البقرة آية : ١٧٦] ، ويجوز أن يكون أراد المجانبة والمباعدة ، أي : هم في بعد عن الحق وعن صاحب الحق شديد.

الثاني : الخلاف ، قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) [سورة النساء آية : ٣٥] ، جاء في التفسير أنه أراد الخلاف ، ويجوز أن يكون بمعنى الفرقة ، وهو أجود.

الثالث : العداوة ، قال : (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) [سورة محمد آية : ٣٢] ، أي : عادوه ، قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة الحشر آية : ٤] ، وقال : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) [سورة هود آية : ٨٩] ، وهذه الألفاظ يقام بعضها مقام بعض في هذه الآيات ، وأصلها واحد ، وإنما أوردتها على ما جاء في التفسير (١).

__________________

(١) قال الزجاج : «شاقوا» جانبوا ، وصاروا في شق غير شق المؤمنين ، والشق الجانب (شَاقُّوا اللهَ) مجاز ، والمعنى : شاقوا أولياء الله ، ودين الله.

ثم قال : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة ، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه. [مفاتيح الغيب : ٧ / ٣٧٦]

٢٦٧

الشهادة (١)

الشهادة الإخبار عن معرفة تقوم مقام الرؤية ، والشاهد المخبر بها.

وهو في اللغة على وجوه :

أحدها : الحضور ، شهدته حضرته.

والآخر : الإعلام شهد الشهود ، وهو إعلام ما عندهم ، ومنه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة آل عمران آية : ١٨] ، أراد تعريف عباده أنه لا إله إلا هو ، فقال : شهد بذلك لأن هذا القول أفخم وأوكد ومن الألفاظ ما هو أقوم فتفخم المعنى ألا ترى أن قولك : تضعضع ركن فلان أفخم من قولك : ضعف فلان ، ولذلك رغم أنف فلان أفخم من قولك : ذل فلان.

ومنه الإقرار ، وهو قوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [سورة آل عمران آية : ١٨] ، وقال : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) [سورة الأنعام آية : ١٣٠].

ومنه الحكم ، قال : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [سورة يوسف آية : ٢٦] ، واليمين في قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [سورة النور آية : ٦] ، وأربع ، والرفع على خبر الابتداء ، أي : فشهادة أحدهم أربع ، والنصب على أن تشهد أحدهم أربع شهادات ، وهو أن تقول : أشهد بالله وأحلف بالله أني صادق فيما قذفتها به ، وتقول المرأة : أشهد بالله وأحلف بالله أنه لمن الكاذبين فيما قذفني به ، فإذا فعلا ذلك فرق بينهما ، ولا يحل له أبدا عند أكثر الفقهاء.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [سورة المائدة آية : ١٠٦] ، قيل : أراد اليمين ، والصحيح أنه أراد أن أحدكم إذا حضره الموت وهو ضارب في الأرض ، أي : مسافر وأراد أن يوصي فينبغي أن يشهد على وصيته اثنين منكم ، أي : من المسلمين ، فإن لم

__________________

(١) الشهادة : هي في الشريعة : إخبار عن عيان بلفظ الشهادة في مجلس القاضي بحق للغير على آخر.

فالإخبارات ثلاثة : إما بحق للغير على آخر ، وهو الشهادة ، وإما بحق للمخبر على آخر ، وهو الدعوى ، أو بالعكس ، وهو الإقرار. [التعريفات : ١ / ٤٢]

٢٦٨

يجدها فمن أهل الذمة ، وهو قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) [سورة المائدة آية : ١٠٦] ، فإن ارتبتم في شهادتهما فأقيموها بعد الصلاة ، أي : صلاة العصر ، وذلك لتعظيم أهل الذمة لهذا الوقت ، فيحلفان على صحة شهادتهما ، وقيل : أنها منسوخة بقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [سورة الطلاق آية : ٢].

والشهداء في قوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٣] ، الكبراء الأعلام ، وقيل : الأصنام.

والشهيد في القرآن على ثمانية أوجه :

الأول : نبي كل أمة شهيد عليهم يوم القيامة ، قال : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [سورة النساء آية : ٤١] ، وقال : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [سورة القصص آية : ٧٥] ، وقال : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [سورة المائدة آية : ١١٧] ، إلا أن هذا في الدنيا.

وفي هذا دليل على أن ذنوبهم بعلمهم ، وإلا فبأي شيء يشهد عليهم ، الأنبياأ أتراهم يشهدون عليهم بأفعال الله ، وليس ذلك بمعقول.

الثاني : الحافظ ، قال الله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [سورة يونس آية : ٤٦] ، أي : حافظ له مجاز عليه.

ويجوز أن يكون العالم ومنه الشهادة في الحقوق ؛ لأنها لا تصح إلا مع العلم ، وهو قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) [سورة النور آية : ٤] ، ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ، قالوا : فشهادتهم في كتاب الله مقبولة.

وعن شريح ، وابن المسيب ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير : أن شهادته غير مقبولة ، وإن تاب.

وعن عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والشعبي ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، والزهري : أنها مقبولة إذا تاب.

٢٦٩

والصحيح أنها لا تقبل وإن تاب ؛ لأن حكم الاستثناأ أن يكون راجعا إلى ما يليه ، ولا يرجع إلى ما تقدمه ، إلا بدلالة ، ألا ترى أن قائلا لو قال لفلان علي عشرة درهم إلا ثلاثة درهم إلا درهما كان عليه ثمانية درهم ، لأن الدرهم مستثنى من الثلاثة ، هذا أصل الاستثناء.

وقد جاء في القرآن مثنا ولا لجميع المذكور ، وهو قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المائدة آية : ٣٣] ، إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) [سورة المائدة آية : ٣٣] ، فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور ، فيقول في ذلك أن الدلالة قد قامت في هذه الآية ، ولم تقم في الأول.

وقال الأوزاعي : لم تقبل شهادة محدود في قذف في الإسلام.

وقال أبو علي رحمه‌الله : تقبل شهادته إذا تاب ؛ لأنها إنما ترد عقوبة ، فإذا تاب سقطت العقوبة ، وقيل : ليس ذلك بشيء ؛ لأنه أيضا يحد عقوبة ، وإذا تاب لم يسقط الحد بالإجماع ، فكذلك الشهادة لا تقبل بالتوبة.

قلنا : وهذه المعارضة ليست بالصحيحة ؛ لأن الحد في القذف حتى لأدمي فلا يسقط بالتوبة وليست كذلك الشهادة.

وقال : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ)(١) [سورة ق آية : ٢١] ، يعني : الملك الذي حفظ عليه عمله في الدنيا يشهد عليه في الآخرة.

ومثله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [سورة الزمر آية : ٦٩] ، يعني : الحفظة من الملائكة.

__________________

(١) قال الشوكاني : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي : جاءت كل نفس من النفوس معها من يسوقها ، ومن يشهد لها ، أو عليها.

واختلف في السائق والشهيد ، فقال الضحاك : السائق من الملائكة ، والشهيد من أنفسهم ، يعني : الأيدي والأرجل. وقال الحسن ، وقتادة : سائق يسوقها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ، وقال ابن مسلم : السائق : قرينها من الشياطين ، سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد : السائق والشهيد ملكان. وقيل : السائق : الملك ، والشهيد : العمل ، وقيل : السائق : كاتب السيئات ، والشهيد : كاتب الحسنات. [فتح القدير : ٧ / ٣٠]

٢٧٠

ومثله : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [سورة غافر آية : ٥١] ، يعني : الحفظة ، ويجوز أن يكون المعنى الذين يشهدون على الناس بأعمالهم من كل أمة.

والأشهاد جمع شهيد نادر وجاء في جميع بان أبناء ، وفي جميع جان أجناء ، فقيل في مثل أجناؤها أبناؤها ، وله حديث ذكرناه في كتاب" جامع الأمثال".

الثالث : قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [سورة البقرة آية : ١٤٣] ، يعني : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة آية : ١٤٣] ، يعني : على أهل زمانه.

ولو كان شهيدا على غيرهم فمن جاء بعده لم يكن لقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [سورة البقرة آية : ١٤٣] ، أي : معرفين منبهين ، : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة آية : ١٤٣] ، أي : معرفا ومبينا ، كما قال : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [سورة هود آية : ١٧] ، وكما قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) [سورة المزمل آية : ١٥] ، والوجه أن يكون المراد الشهادة عليهم بأعمالهم.

الرابع : المستشهد في سبيل الله ، قال الله : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [سورة الحديد آية : ١٩] ، يعني : من قتل في سبيل الله وسمي شهيدا ، لأن الملائكة تشهده ، فعيل بمعنى مفعول ، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل ، أي : شهد ما سره من الثواب والبشارة الحسنة.

الخامس : الذي يشهد على الحقوق ، وقال تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، والمرضي هو العدل ، وهذا موكول إلى الاجتهاد ؛ لأنه قد يجوز أن يكون المرضي عندك غير مرضي عند غيرك.

وقال أبو يوسف : إذا سلم من الفواحش وكان ما فيه من أخلاق البر أكثر عن المعاصي الصغار قبلت شهادته ؛ لأنه لا يسلم عبد من الذنب ، ومثله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، أي : من أهل ملتكم.

٢٧١

وجواز شهادة أقل من رجلين أو رجل وامرأتين خطأ بدلالة هذه الآية ، ومن أجاز بتثبيت الحق بتميز الطالب وإشهاد شاهد واحد ؛ فإنه مبطل لظاهر هذه الآية.

والأمة مجمعة على أنها غير منسوخة ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، لفظ عام ، والمعنى خصوص ، أي : إذا خفتم رجوع أحد المبايعين عما عقد على نفسه ، فاشهدوا عليه بما عقد.

والكتاب والإشهاد واجبان عند تخوف الإضاعة ، وقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [سورة البقرة آية : ٢٨٣] ، يشهد بصحة هذا التأويل ، وقال : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [سورة الطلاق آية : ٢].

السادس : الحاضر ، قال تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) [سورة النساء آية : ٧٢] ، وقال : (وَبَنِينَ شُهُوداً) [سورة المدثر آية : ١٣] ، أي : حضورا وقال : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [سورة البقرة آية : ١٣٣] ، أي : حضورا.

السابع : الأحكام والأعلام من الناس ؛ وهو قوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ٢٣] وقد مر.

الثامن : الفطن الحاضر الذهن ؛ قال : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [سورة ق آية : ٣٧] وحقيقة إلقاء السمع الاستماع ؛ أي : استمع إليك وهو شهيد ؛ أي : قلبه شاهد عندك لا يغيب عنك فهمه ، وإذا كان كذلك انتفع بالخير الذي تدعوا إليه.

وأما قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام آية : ١٩] فمجازه أي : شيء أكبر شهادة فيكون شاهد لي على دعائي إياكم ، وتكذيبكم لي قل الله شاهد لي على ذلك.

وفي هذا دليل على أن الله شيء ؛ ألا ترى أنه لا يجوز لك إذا قيل لك : أي : الناس أصدق؟ أن تقول جبريل ؛ لأن جبريل ليس من الناس ، ولو لم يكن منفردا عند القائل والسامع أن الله شيء ؛ لكان هذا الكلام لغوا لا معنى له ؛ فإن قيل : (أَيُّ : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) تمام.

٢٧٢

وقوله : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ابتداء وليس بجواب ، ولو كان جوابا كان ما بعده من قوله : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

والشهادة في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [سورة الأنعام آية : ٧٣] ، بمعنى المشاهدة ، وأصل الكلمة الظهور ، ومنه قيل : شاهده ؛ أي : ظهر به ظهور المقابل بالشهادة ، ويشهد ذكر الشهادة وهو قول : أشهد أن لا إله إلا هو ، وتشاهدوا : تعاونوا على إقامة الشهادة.

وقال : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [سورة البروج آية : ٣] قيل : الشاهد : محمد صلوات الله عليه ، والمشهود : يوم القيامة ، والشهد : العسل على ما شوهد في موضعه قبل أن يصفى.

والشهادة في قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [سورة البقرة آية : ١٨٥] الحضور ؛ يعني : من كان حاضرا في أهله ، ومن شرائط ذلك الصحة ، والشاهد قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [سورة البقرة آية : ١٨٥].

٢٧٣

الشيع

أصلها من العموم ، ومنه شاع الخبر ؛ إذا فشا فعرفه كل أحد ، ولك سهم شائع في الدار وشاع ؛ أي : هو في جميع الدار غير مشار إليه في موضع منها دون موضع (١).

__________________

(١) الشين والياء والعين أصلان ، يدلّ أحدهما على معاضدة ومساعفة ، والآخر على بثّ وإشادة.

فالأوّل : قولهم شيّع فلان فلانا عند شخوصه.

ويقال آتيك غدا أو شيعه ، أي اليوم الذي بعده ، كأنّ الثاني مشيّع للأوّل في المضيّ.

وقال الشّاعر :

قال الخليط غدا تصدّعنا

أو شيعه أفلا تودّعنا

وقال للشجاع : المشيّع ؛ كأنّه لقوّته قد قوي وشيّع بغيره ، أو شيّع بقوّة.

وزعم ناس أنّ الشّيع شبل الأسد ، ولم أسمعه من عالم سماعا.

ويقول ناس : إنّ الشّيع المقدار ، في قولهم : أقام شهرا أو شيعه.

والصّحيح ما قلته ، في أنّ المشيّع هو الذي يساعد الآخر ويقارنه.

والشّيعة : الأعوان والأنصار.

وأما الآخر فقولهم : شاع الحديث ، إذا ذاع وانتشر. ويقال شيّع الراعي إبله ، إذا صاح فيها.

والاسم الشّياع : القصبة التي ينفخ فيها الراعي. قال :

* حنين النّيب تطرب للشّياع*

ومن الباب قولهم في ذلك : له سهم شائع ، إذا كان غير مقسوم.

وكأنّ من له سهم ونصيب انتشر في السّهم حتّى أخذه ، كما يشيع الحديث في الناس فيأخذ سمع كلّ أحد.

ومن هذا الباب : شيّعت النّار في الحطب ، إذا ألهبتها.

وشيع وشوع :

الشّوع : شجر البان ، الواحدة : شوعة. قال الطّرمّاح :

جنى ثمر بالواديين وشوع

فمن قال بفتح الواو وضمّ الشين : فالواو نسق ، وشوع : شجر البان ، ومن قال : وشوع بضمّها ، أراد : جماعة وشع ، وهو زهر البقول. والشّيع : مقدار من العدد : أقمت شهرا أو شيع شهر ، ومعه ألف رجل ، أو شيع ذاك.

والشّيع من أولاد الأسد.

وشاع الشّيء يشيع مشاعا وشيعوعة فهو شائع ، إذا ظهر. وأشعته وشعت به : أذعته. وفي لغة : أشعت به.

ورجل مشياع مذياع ، وهو الذي لا يكتم شيئا.

والمشايعة : متابعتك إنسانا على أمر.

وشيّعت النار في الحطب : أضرمته إضراما شديدا ، قال رؤبة :

شدّا كما يشيّع التّضريم

والشّياع : صوت قصبة الرّاعي. قال :

٢٧٤

وشيعة الرجل ؛ من يعينه على أموره ، وشايعه ؛ إذا عاونه معاونة عامة ، وشيع الرجل ؛ الرجل إذا سار معه كما يسير الخبر الشائع.

ويقال : هو شيعة لك ، وقيل : الشيعة مأخوذة من الشياع ؛ وهو الحطب الصغار التي تشعل بها النار ويعين الحطب الكبار على الاتقاد.

وقيل : أصل الكلمة من الاتباع ، ومنه شاعك ؛ أي : تبعك ، وشاعكم السّلام ؛ أي : تبعكم.

والشيع في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الفرق المختلفة ؛ قال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [سورة الأنعام آية : ١٥٩] يعني : أنهم فارقوا الإسلام وصاروا فرقا يهودا ونصارى وجعل الإسلام دينهم ولم يدينوا به ؛ لأنهم بدلوا إليه وأمروا به.

ويجوز أن يكون معناه أنهم فارقوا دينهم حين اختلفوا فيه ، وذلك أن النصارى يكفر بعضهم بعضا وصاروا شعابا لاختلاف فيه.

__________________

حنين النّيب تطرب للشّياع

وشيّع الرّاعي في الشّياع : نفخ في القصبة.

ورجل مشيّع القلب إذا كان شجاعا ، قد شيّع قلبه تشييعا إذا ركب كلّ هول ، قال سليمان :

مشيّع القلب ما من شأنه الفرق

وقال الرّاجز :

والخزرجيّ قلبه مشيّع

ليس من الأمر الجليل يفزع

والشّيعة : قوم يتشيّعون ، أي : يهوون أهواء قوم ويتابعونهم. وشيعة الرّجل : أصحابه وأتباعه. وكلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأصنافهم : شيع. قال الله تعالى : "(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)". أي : بأمثالهم من الشّيع الماضية.

وشيّعت فلانا إذا خرجت معه لتودّعه وتبلغه منزله.

والشّياع : دعاء الإبل إذا استأخرت. قال :

وألّا تخلد الإبل الصّفايا

ولا طول الإهابة والشّياع

ينظر معجم مقاييس الغة والعين مادة (ش ي ع).

٢٧٥

وفي هذا نهي عن إحداث البدع في الدين ، ومفارقة جميع المسلمين ، ومثله : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [سورة الروم آية : ٣٢] ، وقال : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [سورة القصص آية : ٤].

الثاني : قوله : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [سورة القصص آية : ١٥] يعني : أنه ولد ابنه إسرائيل ولم يكن من القبط.

الثالث : أهل دين ؛ قال الله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) [سورة القمر آية : ٥١] أي : من كان على دينكم ، وقال : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سورة سبأ آية : ٥٤] ، وقال : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) [سورة مريم آية : ٦٩] أي : من كل أهل دين باطل ، وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) [سورة الصافات آية : ٨٣] أي : من أهل دينه.

الرابع : اختلاف الآراء وتغاير الأهواء ، قال الله : (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) [سورة الأنعام آية : ٦٥] يوعدهم بالعذاب من فوقهم وهو الطوفان ، أو من تحت أرجلهم الخسف ، أو يلبسهم شيعا أي : يخذلهم ويخليهم من ألطافه وفوائده كل ذلك بذنوبهم فيلتبس عند ذلك أمرهم ويختلفوا حتى يذوق بعضهم بأس بعض.

٢٧٦

الباب الرابع عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله صاد

الصدق (١)

أصل الصدق من الثبات ، ومنه قيل : صدقهم القتال ؛ إذا ثبت لهم ، وتمر صادق الحلاوة يرجع إلى هذا.

والصدق خلاف الكذب ؛ لأنه يثبت ، والكذب يبطل ، والصداقة : ثبات المودة ، ثم صار الصداقة اسما لاتفاق الضمائر على المودة ؛ فإذا أضمر كل واحد من المتعاشرين مودة صاحبه ؛ فصار باطنه فيها كظاهره سميا صديقين.

ولهذا لا يجوز أن يقال : أن الله صديق المؤمن ، كما يقال : أنه وليه ، ولا يجوز أن يكون المؤمن صديقه كما أنه خليله وحبيبه ووليه ، ومعنى الولي أنه يحب الخير لوليه ، كما أن العدو يحب الضر لعدوه ، ويقول الله : (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران آية : ٦٨] بمعنى أنه يتولى حفظهم وكفايتهم ، كما أن ولي الطفل هو المتولي لشأنه والمتكفل لمعونته ، ومعنى محبة العبد لله ؛ إرادة طاعته ، ومحبة الله للعبد إرادة ثوابه.

ومعنى الخلة الاختصاص ، فقيل : أن إبراهيم خليل الله لاختصاص الله إياه بالرسالة ، ولا يجوز أن الله خليل له ؛ لأنه لا يجوز أن يخص الله بشيء غير العبادة ، والخلق في عبادة الله سواء ليس لأحد فيها خصوصية.

__________________

(١) (ص د ق) : صدق صدقا خلاف كذب فهو صادق وصدوق مبالغة وصدقته في القول يتعدّى ولا يتعدّى وصدّقته بالتّثقيل نسبته إلى الصّدق وصدّقته قلت له صدقت وصداق المرأة فيه لغات أكثرها فتح الصّاد والثّانية كسرها والجمع صدق بضمّتين والثّالثة لغة الحجاز صدقة وتجمع صدقات على لفظها.

وفي التّنزيل (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) والرّابعة لغة تميم صدقة والجمع صدقات مثل غرفة وغرفات في وجوهها وصدقة لغة خامسة وجمعها صدق مثل قرية وقرى. [المصباح المنير : الصاد مع الدال]

٢٧٧

والوجه الأجود في أصل الصدق والصداقة وما في بابه أن يقال : أن أصل الكلمة الكمال ، فقيل : الصدق لكماله في الحسن ، وصادق الحلاوة كامل الحلاوة ، والصداقة كمال المودة بحمل جميع في هذا الباب على هذا الوجه فيصح.

والصادقون في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : النبيون ؛ قال الله : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [سورة الأحزاب آية : ٨] فأخبر أنه يسأل الأنبياء ليكون غيرهم على حذر.

الثاني : المهاجرون ؛ قال تعالى : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحشر آية : ٨] جاء في التفسير أنه أراد المهاجرين خاصة ؛ لأن الآية نزلت فيهم ، وذكر بعدهم الأنصار.

الثالث : المؤمنون جميعا ؛ قال الله : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [سورة الأحزاب آية : ٢٤] يعني : المؤمنين ؛ لأن الآية نزلت فيهم.

٢٧٨

الصف

أصله في اللغة الامتداد والطول ؛ ومنه قيل : صفة البيت ؛ لأنها ممدودة طويلة ، وصف الطائر : جناحيه إذا مدهما في طيرانه ، وصفة السرج : ما غشي به ما بين القربوسين والسرحين وهما جانبا الرحل ، والصفيف من اللحم : ما شرح طولا وخفف في الشمس.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : بمعنى الجميع ؛ قال الله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)(١) [سورة الكهف آية : ٤٨] ، وقوله : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) [سورة طه آية : ٦٤] أي : جمعا ، وقيل : ذكر الواحد وأراد الجمع ؛ أي : عرضوا صفوفا ، وقيل : صفا ؛ أي : قياما ، وذلك أن القائم يصف قدميه في القيام وهو أجود.

الثاني : الصف الممدود ، قال تعالى : (اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [سورة الصف آية : ٤] ، وقال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [سورة الصافات آية : ١] يعني : صفوفا ملائكة في السماء مصلين ومسبحين.

__________________

(١) قال الرازي : لما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم ، فقال : وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في تفسير الصف وجوه. أحدها : أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضا ، قال القفال : ويشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز ، ومنه اشتق الصفصف للصحراء. وثانيها : لا يبعد أن يكون الخلق صفوفا يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض ، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفا صفوفا كقوله : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي أطفالا. وثالثها : صفا أي قياما ، كما قال تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ)[الحج : ٣٦] قالوا قياما.

المسألة الثانية : قالت المشبهة قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[الفجر : ٢٢] يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفا ، وكذلك قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان ، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضا عليه ، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم. [مفاتيح الغيب : ١٠ / ٢١٦]

٢٧٩

والمعنى ورب الصافات ، وأنث على معنى الجماعة للصافة ، ثم جمع فقال : (الصَّافَّاتِ) ، فأما قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [سورة الحج آية : ٣٦] فالمراد به أنها قائمة قد صفت بدنها ، ولم يرد أنها مصطفة لإجماع الناس أنها يجوز نحرها غير مصطفة.

فأما السنة في نحر الإبل أن تنحر قائمة ، وفي قوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [سورة الحج آية : ٣٦] ما يدل على أنه أراد بالصواف القيام ؛ لأنها إذا كانت باركة فنحرت فانقلبت على جنب ، لم يقل : أنها سقطت لجنبها.

٢٨٠