تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الثالث : النفي ، قال الله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة آية : ٨٨] ، أي : لا يؤمنون ولا يشكرون أصلا ؛ لأنه في صفة الكفار ، والعرب تقول :

قلّت حيلتي في كذى إذا لقيت

وقال شاعرهم :

من كان يكذب ما يقول فحيلتي فيه قليلة

أي ليس لي فيه حيلة.

٤٠١

القتل (١)

إماته الحركة ، وقيل : قتلت هذا الشيء علما إذا بلغت أقصى العلم به ، وناقة ذات قتال وكتال إذا كانت ذات خلق ، والفرق بين القتل والذبح ، أن الذبح عمل معلوم ، والقتل ليس بمعلوم ، ولهذا قال أصحابنا : إن استأجر الرجل رجلا على قتل رجل قصاصا ؛ إن ذلك لا يصح وإن استأجر على ذبح شاة صح.

والقتل في القرآن على وجهين :

الأول : القتل بعينه ، قال : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [سورة البقرة آية : ١٩١ ، النساء : ٩١].

الثاني : اللعن ، قال الله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [سورة عبس آية : ١٧] ، ومثله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [سورة المدثر آية : ١٩] ، أي : لعن ، كيف قدر الباطل على النبي صلى الله عليه وعلى آله ، فقال : إنه ساحر.

__________________

(١) (ق ت ل) : قتلته قتلا أزهقت روحه فهو قتيل والمرأة قتيل أيضا إذا كان وصفا فإذا حذف الموصوف جعل اسما ودخلت الهاء نحو رأيت قتيلة بني فلان والجمع فيهما قتلى وقتلت الشّيء قتلا عرفته والقتلة بالكسر الهيئة يقال قتله قتلة سوء والقتلة بالفتح المرّة وقاتله مقاتلة وقتالا فهو مقاتل بالكسر اسم فاعل والجمع مقاتلون ومقاتلة وبالفتح اسم مفعول والمقاتلة الّذين يأخذون في القتال بالفتح والكسر من ذلك لأنّ الفعل واقع من كلّ واحد وعليه فهو فاعل ومفعول في حالة واحدة وعبارة سيبويه في هذا الباب باب الفاعلين والمفعولين اللّذين يفعل كلّ واحد بصاحبه ما يفعله صاحبه به ومثله في جواز الوجهين المكاتب والمهادن وهو كثير وأمّا الّذين يصلحون للقتال ولم يشرعوا في القتال فبالكسر لا غير لأنّ الفعل لم يقع عليهم فلم يكونوا مفعولين فلم يجز الفتح والمقتل بفتح الميم والتّاء الموضع الّذي إذا أصيب لا يكاد صاحبه يسلم كالصّدغ وتقتّل الرّجل لحاجته تقتّلا وزان تكلّم تكلّما إذا تأنّى لها. [المصباح المنير : القاف والتاء].

٤٠٢

القول (١)

عبارة عن جملة ما يتكلم به المتكلم على سبيل الحكاية ، والكلام عبارة عن جنس ما يتكلم به موجودا كان أو معدوما ، ومبتدأ أو محكيا ، وقد شرحنا هذا المعنى في التفسير.

ويقال : قال يقول من القول ، وقال يقيل من القيلولة ، والقيل دون الملك الأعظم والجمع أقيال ، والقيل شرب ونصف النهار ، وقد أقتال الرجل إذا صار قيلا ، واقتال شرب قيلا ، وكل ما يجيء بعد القول فهو مرفوع إلا أن يكون من القول ، تقول : قلت اليوم طيب فترفع ، لأن اليوم ليس من القول ، وتقول : قلت كلاما حسنا ، وقلت خيرا ؛ لأن الخير يقال ، ولا تقول : قلت ثوبا جديدا ؛ لأن الثوب ليس مما يقال.

والقائل في القرآن على وجهين :

الأول : فاعل القول ، قال تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [سورة الصافات آية : ٥١].

الثاني : من القيلولة ، قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [سورة الأعراف آية : ٤] ، [أي] نائمون في أنصاف النهار.

__________________

(١) (ق ول) : قال يقول قولا ومقالا ومقالة والقال والقيل اسمان منه لا مصدران قاله ابن السّكّيت ويعربان بحسب العوامل.

وقال في الإنصاف : هما في الأصل فعلان ماضيان جعلا اسمين واستعملا استعمال الأسماء وأبقي فتحهما ليدلّ على ما كانا عليه قال ويدلّ عليه ما في الحديث «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قيل وقال» بالفتح وحديث مقول على النّقص وتقوّل الرّجل على زيد ما لم يقل ادّعى عليه ما لا حقيقة له. [المصباح المنير : القاف مع الواو].

٤٠٣

القائم

أصل القيام الاستواء ومنه ، قام الشيء لاستوائه منتصبا ، وقومه سواه ، وقاومه استوى معه في القول أو الخصومة ، وقامت السوق لاستوائها في البيع والشراء ، وأقام أرزاق الجند ؛ إذا أجراها على استواء ، وأقام الوزن سواه وعدله ، وقوم الثوب إذا ذكر ما يساويه من الثمن ، وأقام بالمكان يرجع إلى هذا.

والقائم في القرآن على وجهين :

الأول : بمعنى المديم للفعل ، قال الله : (قائِماً بِالْقِسْطِ)(١) [سورة آل عمران آية : ١٨] ، أي : مديم لفعله ، والقسط العدل ونحوه : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [سورة آل عمران آية : ٧٥] ، أي : مديما للتقاضي.

الثاني : القائم خلاف القاعد ، قال الله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران آية : ١٩١].

__________________

(١) قال الرازي : أما قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ففيه مسائل : المسألة الأولى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) منتصب ، وفيه وجوه : الوجه الأول : نصب على الحال ، ثم فيه وجوه أحدها : التقدير : شهد الله قائما بالقسط وثانيها : يجوز أن يكون حالا من هو تقديره : لا إله إلا هو قائما بالقسط ، ويسمى هذا حالا مؤكدة كقولك : أتانا عبد الله شجاعا ، وكقولك : لا رجل إلا عبد الله شجاعا.

الوجه الثاني : أن يكون صفة المنفي ، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو ، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف. والوجه الثالث : أن يكون نصبا على المدح.

فإن قيل : أليس من حق المدح أن يكون معرفة ، كقولك ، الحمد لله الحميد. قلنا : وقد جاء نكرة أيضا ، وأنشد سيبويه :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضع مثل السعالي

المسألة الثانية : قوله (قائِماً بِالْقِسْطِ) فيه وجهان الأول : أنه حال من المؤمنين والتقدير : وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من (شَهِدَ اللهُ). المسألة الثالثة : معنى كونه (قائِماً بِالْقِسْطِ) قائما بالعدل ، كما يقال : فلان قائم بالتدبير ، أي يجريه على الاستقامة. [مفاتيح الغيب : ٤ / ١٤٤].

٤٠٤

الباب الثاني والعشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله كاف

الكتب (١)

أصل الكتب الجمع ، والكتيبة العسكر الذي قد تكتب ، أي : تجمع ، وقيل : هي الذي اجتمع فيها ما تحتاج إليه للحرب ، وكتبت البغلة جمعت بين أشعرها بحلقة ، والكتبة الخرزة لأنها تجمع من طرفي الأديم ، وسمي الكتاب كتابا ؛ لأنه جمع الحروف والمعاني ، والكتب أيضا الخلق ، قال الهذلي :

كتب البياض لها وثور لونها

فعيونها حتى الحواجب سود

أي خلقن بيضا وعيونها وحواجبها سود ، ولما كان في خلقها بياض وسواد عبر عن ذلك بالكتب تشبيها ، ويقولون : كتب الله عليكم السلامة ، أي : خلقها لكم.

__________________

(١) (ك ت ب): (كتبه) كتبة وكتابا وكتابة وقوله وإذا كانت السّرقة صحفا ليس فيها كتاب أي مكتوب (وفي حديث أنيس) واحكم بكتاب الله أي بما فرض الله من كتب عليه كذا إذا أوجبه وفرضه (ومنه) الصّلاة المكتوبة وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى» فقيل المراد قوله تعالى (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) إلى أن قال ومواليكم فيه أنّه نسبهم إلى مواليهم كما نسبهم إلى آبائهم فلمّا لم يجز التّحوّل عن الآباء لم يجز عن الأولياء ويجوز أن يراد بكتاب الله قضاؤه وحكمه على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الولاء لمن أعتق (وأكتب الغلام وكتّبه) علّمه الكتاب (ومنه) سلّم غلامه إلى مكتب أي إلى معلّم الخطّ روي بالتّخفيف والتّشديد (وأمّا المكتب) والكتّاب فمكان التّعليم وقيل الكتّاب الصّبيان (وكاتب) عبده مكاتبة وكتابا قال له حرّرتك يدا في الحال ورقبة عند أداء المال (ومنه) قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) وقد يسمّى بدل الكتابة مكاتبة وأمّا الكتابة في معناها فلم أجدها إلّا في الأساس وكذا تكاتب العبد إذا صار مكاتبا ومدار التّركيب على الجمع (ومنه كتب النّعل والقربة) خرزها (والكتب الخرز) الواحدة كتبة (ومنه كتب البغلة) إذا جمع بين شفرتيها بحلقة (والكتيبة) الطّائفة من الجيش مجتمعة (وبها سمّي) أحد حصون خيبر (وقولهم) سمّي هذا العقد مكاتبة لأنّه ضمّ حرّيّة اليد إلى حرّيّة الرّقبة أو لأنّه جمع بين نجمين فصاعدا ضعيف جدّا وإنّما الصّواب أنّ كلّا منهما كتب على نفسه أمرا هذا الوفاء وهذا الأداء. [المغرب : الكاف مع التاء].

٤٠٥

وكتب قدر والمكتوب بمعنى معلوم وبمعنى محدد ، قال أبو عبيدة : كتب قضى ، وكتب حفظ.

والكتب في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى الفرض ، قال الله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [سورة البقرة آية : ١٧٩] ، أي : فرض ، وإنما جعل الفرض كتبا ؛ لأنه فرضه في الكتاب وهو في القرآن ، ومثله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [سورة البقرة آية : ١٨٣] ، ومثله كثير.

الثاني : كتب قضى ، قال الله : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [سورة المجادلة آية : ٢١] ، ومثله : (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) [سورة التوبة آية : ٥١] ، ومثله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [سورة الحج آية : ٤] أي : قضى وبين ؛ لأن كل من تولاك ضال ، وقال : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [سورة آل عمران آية : ١٥٤] ، أي : قضى وذلك أن الله يقضي عليهم بالموت عند القتل لا محالة ، فجعل القتل من قضائه لأنه سبب لما يقضيه ، وهو الموت.

وليس ذلك بموجب أن يكون الذين قتلوا المؤمنين كانوا لا يقدرون على أن يقتلوهم ؛ لأنهم لو كانوا كذلك ما نهاهم الله عن قتلهم ، ولكن كان في المعلوم أنهم سيختارون قتلهم مع قدرتهم على تركه ؛ كما أن ما كتب أو أخبر أنه سيفعله فهو سكون لا محالة ، وأن الله قادر على أن لا يفعله.

ونزلت هذه الآية في قصة أحد لما أصيب بها المسلمون ، فقال المنافقون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قلنا هاهنا ، أي : لو كان ما يزعمه محمد حقا ما قتل إخواننا هاهنا ؛ يعنون السلطان والغلبة ، فجعل قتل إخوانهم وأوليائهم قتلا لهم ، لأنهم منهم فأجابهم الله بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [سورة آل عمران آية : ١٥٤] ، أي : لو قعد ثم في بيوتكم أراده السلامة لخرج منكم الذين كتب الله ؛ وعلم أنهم يقتلون إلى مضاجعهم ، أي : مصارعهم ، ولم يرد القتل عنهم قعودكم ، لأن خلاف ما علمه لا يكون.

٤٠٦

الثالث : الجعل ، قال الله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [سورة آل عمران آية : ٥٣ ، المائدة : ٨٣] ، أي : اجعلنا ، ويجوز أن يكون فاكتبنا مع الشاهدين في اللوح المحفوظ ؛ لأن كل شيء يفعله الله مكت فيه ، وقال : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [سورة الأعراف آية : ١٥٦] ، أي : سأجعلها ، وقيل أتشاهدون أمة محمد صلى الله عليه ، المؤمنون الذين يشهدون على الناس بأعمالهم ، ويجوز أن يكونوا الأنبياء لأنهم يشهدون على أممهم بما شاهدوا من أعمالهم ، وقيل : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [سورة الأعراف آية : ١٥٦] ، أي : سأجمعها وذلك أن رحمته ونعمته قد عمت الكافر والمؤمن في الدنيا ، وهو في الآخرة مجموعة للمؤمنين.

الرابع : الأمر ، قال الله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [سورة المائدة آية : ٢١] ، أي : أمركم بدخولها.

الخامس : الكتب المعروف ، قال الله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، أي : اكتبوا مبلغ الدين ؛ لأن لا ينسى ، ومبلغ الأجل لأن لا يزاد فيه أو ينقص ، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن هاهنا ندب وإرشاد إلى الأحوط.

وقد نقلت الأمة عقود المداينات والبياعات بغير إشهاد ولا نكير من الفقهاء.

وروي عن ابن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم : أن الإشهاد على كتب المداينات والبياعات وقليلها واجب ، وليس ذلك بمعمول عليه.

وعن الحسن ، والشعبي : أن الشهادة والكتب كانا واجبين فنسخا ، بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [سورة البقرة آية : ٢٨٣].

وقال ابن عباس : لم ينسخ ذلك ، وأما قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام آية : ٥٤] ، فمعناه أنه حكم بها وأوجبها على نفسه ، وقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [سورة المجادلة آية : ٢٢] ، أي : علامة الإيمان ، كما قال : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [سورة البقرة آية : ٩٣] ، أي : حب العجل ، فحذف.

٤٠٧

وكان بنان بن سمعان يذهب إلى أن الله كتب على وجهه وسائر أعضائه الرحمة ، ويذهب إلى أنه ليس في كلام الله مجاز ، وكان يقول أن الله يفنى سائره ويبقى وجهه ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة القصص آية : ٨٨].

٤٠٨

الكفر (١)

أصله التغطية ، ويقال : للليل كافر ؛ لأنه يغطي كل شيء بظلمته ، وكفر الغمام النجوم سترها ، والكافر الذي ليس فوق درعه ثوبا ، والزارع كافر ؛ لأنه يغيب البذر في الأرض ، وكفر النعمة إذا لم يشكرها كأنه سترها ، ويقال : لوعاء كل ثمرة كافور ؛ لأنه يغطيها ، ويقال للطلع الكفرت ؛ لأنه في غطاء ، ويكفر الذنوب بسترها كالغفران ، ومعنى ذلك أن الله لا يفضح أصحابها بها.

والكفر في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الجحد ، قال : (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ٢١] ، أي : يجحدونه ، والجحد لا يكون إلا مع العلم مثل جحد الرجل حق صاحبه ؛ فأما من ينكر ما لا يعرف صحته فليس بجاحد ، ونظيره قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [سورة البقرة آية : ٨٩] ، أي : جحدوه فجعلوا الجحد مع المعرفة على ما ذكرنا.

__________________

(١) (ك ف ر): (الكفر) في الأصل السّتر يقال كفره وكفّره إذا ستره (ومنه) الحديث في ذكر الجهاد هل ذلك مكفّر عنه خطاياه يعني هل يكفّر القتل في سبيل الله ذنوبه فقال (نعم إلّا الدّين) أي إلّا ذنب الدّين فإنّه لا بدّ من قضائه والكفّارة منه لأنّها تكفّر الذّنب (ومنها) كفّر عن يمينه وأمّا كفّر يمينه فعامّيّ (والكافور) و (الكفرّى) بضمّ الكاف وفتح الفاء وتشديد الرّاء كمّ النّخل لأنّه يستر ما في جوفه (والكفر) اسم شرعيّ ومأخذه من هذا أيضا (وأكفره) دعاه كافرا (ومنه) لا تكفّر أهل قبلتك وأمّا لا تكفّروا أهل قبلتكم فغير ثبت رواية وإن كان جائزا لغة قال الكميت يخاطب أهل البيت وكان شيعيّا وطائفة قد أكفروني بحبّكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب ويقال أكفر فلانا صاحبه إذا ألجأه بسوء المعاملة إلى العصيان بعد الطّاعة (ومنه) حديث عمر رضي الله عنه ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفّروهم يريد فتوقعوهم في الكفر لأنّهم ربّما ارتدّوا عن الإسلام إذا منعوا الحقّ (وكافرني) حقّي جحده (ومنه) قول عامر إذا أقرّ عند القاضي بشيء ثمّ كافر (وأمّا) قول محمّد رحمه‌الله رجل له على آخر دين فكافره به سنين فكأنّه ضمّنه معنى المماطلة فعدّاه تعديته (وقوله) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا أصبح ابن آدم كفّرت جميع أعضائه للقلب) فالصّواب اللّسان أي تواضعت من تكفير الذّمّيّ والعلج للملك وهو أن يطأطئ رأسه وينحني واضعا يده على صدره تعظيما له ولفظ الحديث لأبي سعيد الخدريّ موقوفا كما قرأته في الفائق (إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلّها تكفّر للّسان) الحديث (والكفر) القرية (ومنه) قول معاوية أهل الكفور هم أهل القبور والمعنى أنّ سكّان القرى بمنزلة الموتى لا يشاهدون الأمصار والجمع (ولا نكفرك) في (ق ن). [المغرب : الكاف مع الفاء].

٤٠٩

الثاني : كفر النعمة ، قال : (اشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [سورة البقرة آية : ١٥٢] ، وقوله : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [سورة النمل آية : ٤٠] ، وكقول فرعون لموسى : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) [سورة الشعراء آية : ١٩] ، أي : لنعمتي.

الثالث : بمعنى البراءة ، قال الله تعالى : (كَفَرْنا بِكُمْ) [سورة الممتحنة آية : ٤] ، وقال : (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [سورة العنكبوت آية : ٢٥] ، وقال في : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) [سورة إبراهيم آية : ٢٢] أي : تبرأت.

٤١٠

كان

أصلها الحدوث ، كان الشيء إذا أحدث فهو كائن ، ثم كثر حتى وقع موقع صار ، وموقع لم تزل وموقع هو وغير ذلك مما يذكره.

وذلك على ما حكى أهل التفسير ، وقال النحويون : كان لا يتعدى ، ومعناه حدوث الشيء ، أي : خلق ، فهو في أنه غير متعد بمنزلة قام ؛ فلما احتج إلى ذكر المضي في المبتدأ أو الخبر ، أدخلت كان على قوله : زيد قائم ، فقيل : كان زيد قائما.

والمعنى زيد قائم فيما مضى ، فرفع بها المبتدأ أو نصب الخبر ، كما قيل : ضرب زيد عمرا ؛ فإن أردت في المبتدأ والخبر الاستقبال قلت : يكون ومن أخواته ليس ، وهو ينفى به الحديث ولا ينفى به إلا ما في الحال دون المستقبل والماضي ، وهو موضوع للعبارة عن هذه الجملة.

وما دام وهما كلمتان ويعبر بذلك عن المبتدأ والخبر أيضا إذا كان له دوام ، ويرفع به الاسم ويتصرف معموله كما يتصرف معمول كان ، إلا أن ما لا يجوز أن يقدم عليه المعمول ؛ لأن المعمول هو في الصلة ، والصلة لا تقدم على الموصول. ولكن تقدم بعض الصلة على بعض ، تقول : لا أكلمك ما دام زيد قائما ، وما قائما دام زيد وما زال ، وهما كلمتان إلا أن ما حرف نفي هاهنا وليس باسم ، وما في قولك ما دام اسم مبهم ناقص ودام صلته ، وهو فعل وزال فعل منفي بما ، ومعناه ضد دام.

فلما دخلت عليه ما النافية صار بمعنى دام ؛ لأن نفي النفي إيجاب ، وتقول في المستقبل يزال ويزول ، وأما أصبح وأمسى وظل وبات فإنهن أفعال بمنزلة كان في العبارة عن بعض ، وفي أنها في الأصل غير متعدية إلا أن لكل واحد منها زيادة على ليست للآخر ؛ فأصبح يدل على وقت خاص وهو الصباح ، وأمسى تدل على وقت خاص وهو المساء ، وظل يدل على المكث في النهار ، وبات تدل على المكث بالليل.

وكان في القرآن على أربعة أوجه فيما قيل قالوا :

٤١١

الأول : أن تكون بمعنى لم يزل ، قال : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١) [سورة الفتح آية : ٧] ، أي : هو لم يزل كذلك ، ويجوز أن يكون دخول كان هاهنا للتوكيد ، وكذا في قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، ويكون المعنى أنه غفور غفرانا عظيما ، ورحيم رحمة كبيرة ، ويجوز أن يكون المراد أن الغفران وإحكام الأمور من فعله فيما مضى ، وهذا الوجه هو الصحيح.

الثاني : بمعنى صار ، قال تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [سورة البقرة آية : ٣٤] ، وكذلك قوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [سورة النبأ آية : ١٩] ، وقال : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [سورة المزمل آية : ١٤] ، أي : صارت ، وحقيقة المعنى أنها تصير كذلك ، ويجوز أن يكون معناه أنه إذا كان يوم القيامة صارت كذلك ، وهذا هو الصحيح ، وقوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [سورة المعارج آية : ٨] ، أي : تصير.

الرابع : قراءته تفسيره ، قال : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [سورة مريم آية : ٥٤ ـ ٥٥] ، وقوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [سورة الكهف آية : ٧٩] ، وإذا جاء قبل كان حرف نفي كانا بمعنى لا ينبغي وهو ، قوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [سورة مريم آية : ٣٥] ، أي : لا ينبغي له ذلك ، لأنه مستغن عنه ، وكذلك قوله : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [سورة النساء آية : ٩٢] ، وقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [سورة آل عمران آية : ١٦١].

__________________

(١) قال أبو جعفر : أما قوله : " وكان الله عزيزا حكيما" ، فإنه يعني : ولم يزل الله منتقما من أعدائه ، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله : " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله"" حكيما" ، يقول : ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقه في قضائه. يقول : فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء ، من حلول عقوبتي بكم ، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم ، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي ، وقد حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرّؤاسيّ ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " وكان الله عزيزا حكيما" ، قال : معنى ذلك : أنه كذلك. [جامع البيان : ٩ / ٣٧٨].

٤١٢

كبير (١)

أصل الصغر والكبر النقصان عن المعادلة والزيادة عليها ، ويقال الله كبير من جهة العظمة ، ولا يقال له : أنه صغير ولا قليل من جهة أنه واحد ؛ لأن الأصل في القليل أنه أنقص من غيره ، والصغير ما هو أصغر من غيره ، وهذا إنما يكون إذا كان غيره أكبر منه وأكثر.

ويجوز أن يكون الكبير في أسماء الله تعالى بمعنى أنه سيد مالك الأشياء ؛ لأن سيد القوم كبيرهم ، ويجوز أن يسمى بذلك ؛ لأنه لا مثل له ، وكذلك تسميتنا بأنه عظيم وجليل.

وأصل الصفة بكبير كبر الشخص ثم استعمل في كبر الشأن ، والكبير الشأن هو الممتنع من مساواة غيره بتضعيف أو غيره ، وذلك أن صفاته في أعلى مراتب التعظيم ، فيستحيل مساواتها الأصغر على وجه من الوجوه ، وهذه صفة الله.

والكبير الشخص ، هو الذي يمكن مساواته للأصغر بالتجزئة ، ويمكن مساواة الأصغر له بالتضعيف ، والصفة على هذا المعنى لا تجوز على الله ، ويذكر الشأن في صفاته ؛ لأنه يظهر به امتناع المساواة واستعماله على المجاز ، والله لم يزل كبيرا وأكبر من كل كبير ؛ لأنه يمتنع مساواة كبير غيره له ، ونظير الصفة تكبير عظيم ، والعظيم الشخص ، يمكن مساواة غيره له بالتضعيف.

ولا يصح في الجليل ؛ لأنه غلب عليه المدح ، والعظيم الشأن مثل الكبير الشأن ، لا يجوز مساواة غيره له ، والكبير في السن والشخص والشرف بالعلم يمكن مساواة الصغير له ؛ إما في السن فيتضاعف مدة البقاء ، وإما في الشرف بالعلم فباكتساب مثل ذلك العلم ، والكبير الشأن لا يمكن بمساواة الصغير الشأن له ؛ كفضيلة النبي بالنبوة لا يمكن أن يساويه في فضلها إنسان ، وكبر الشيء معظمه ، وقرئ في : (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) [سورة النور آية :

__________________

(١) (ك ب ر): (كبر) في القدر من باب قرب (وكبر في السّنّ) من باب لبس كبرا وهو كبير (وكبر الشّيء وكبره) معظمه (وقولهم الولاء للكبر) أي لأكبر أولاد المعتق والمراد أقربهم نسبا لا أكبرهم سنّا وكبرياء الله عظمته (والله أكبر) أي أكبر من كلّ شيء وتفسيرهم إيّاه بالكبير ضعيف (والكبر) بفتحتين اللّصف بالعربيّة ومنه أرأيت شرابا يصنع من الكبر والشّعير والثّاء المثلّثة تصحيف. [المغرب : الكاف مع الباء الموحدة].

٤١٣

١١] ، أي : معظم هذا الإفك ، ومنه الكبر من السن ؛ لأن صاحبه يعظم في الصدور ، فأما الكبر فأعجمي.

والكبير وما يتشعب منه في القرآن على ثمانية أوجه :

الأول : الشديد ، قال الله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [سورة الفرقان آية : ١٩] ، قال : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [سورة الإسراء آية : ٤] ، كل ذلك بمعنى شديد كذا قيل ، ونحن نقول : أن حقيقة الشدة والكبر في الأعراض إنما هي الزيادة في المقدار ، فقولك : علا علوا شديدا أو كبيرا أي : علوا زائدا على علو من هو في درجته أو من جنسه أو ما أشبه هذا.

الثاني : المسن ، قال : (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [سورة القصص آية : ٢٣] ، قال : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) [سورة البقرة آية : ٢٦٦].

الثالث : الزيادة في العلم والفهم ، قال : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [سورة طه آية : ٧١] ، أي : أعلمكم وأفهمكم ، ومثله قال : (كَبِيرُهُمْ) [سورة يوسف آية : ٨٠ ، الأنبياء : ٦٣] ، أي : أفضلهم رأيا ، ولم يعن أكبرهم سنا هكذا قيل ، ويجوز عندنا أن يكون أراد أكبرهم في السن.

الرابع : بمعنى الكثير ، قال الله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [سورة التوبة آية : ١٢١] ، وقوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، أي : مالا قليلا أو كثيرا ، ويجوز أن يكون أراد صغيرا أو كبيرا في القدر.

الخامس : الكبير في أسماء الله تعالى ، ومعناه الذي تقدم وهو قوله : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [سورة الرعد آية : ٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) [سورة النساء آية : ٣٤] ، والمتعال الذي يتضاعف ما يستحقه من علو الصفات ، ولم يزل الله متعاليا على هذا المعنى ، وكل شيء نسب إلى العلو ، وهو معظم الشأن ، لأن العالي ينال ولا ينال ، ويوصف الله بالتعالي أيضا على وجه آخر ، وهو أنه يتضاعف ما تنزه به عن صفات النقص ، نحو قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة المؤمنون آية : ٩٢] ، ولا يقال :

٤١٤

الله رفيع ؛ لأن الرفيع مختص بعلو المكان والعلي مشترك بين علو المكان وعلو الشأن ، ومن جهة القدر والاقتدار ، وفي الرفع أيضا معنى الزوال ، رفعته أي : أزلته إلى فوق ، ومنه يقال : ارتفع الشيء إذا زال وذهب ، وقال بعضهم : العلي هو الجليل بما يستحق من ارتفاع معاني الصفات.

السادس : الكبرياء وهو بمعنى الغلبة والسلطان ، قال الله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) [سورة يونس آية : ٧٨] ، يعني : السلطان والملك والغلبة ، وقوله : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الجاثية آية : ٣٧] ، يعني : الملك والسلطان.

السابع : كبر ثقل ، قال الله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) [سورة الأنعام آية : ٣٥] ، أي : ثقل ، وحقيقة المراد به أنه ينال منك منال الحمل الثقيل من حامله ، وذلك أن الكبير في أكثر الحال ثقيل.

الثامن : من الطويل ، قال : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [سورة الملك آية : ٩] ، قالوا معناه الطويل واستعمال الطول والكبر والثقل والعظم في الإعراض توسع إلا أن أستعمال بعض هذه الصفات في بعض الإعراض أشهر ، فلهذا قالوا : أن الكبر في الضلال بمعنى الطول ، والمراد أنه ضلال يستمر صاحبه عليه ولا يفارقه.

٤١٥

كذب (١)

أصل الكذب الترك ، ومنه قيل : كذب في الحرب إذا ترك الحملة ، وكذب الرجل في قوله ، إذا ترك العمل بما قاله.

وكذبت الرجل بالتخفيف ، أخبرته بكذب ، وكذبته بالتشديد أخبرت بأنه كاذب ، والمشكل في هذا الباب قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [سورة الأنعام آية : ٢٤].

ولا يجوز أن يكون في الآخرة كذب ؛ لأن أهلها ملجأون إلى ترك القبيح ، ولو لم يكونوا كذلك لكان القبيح قد أبيح لهم.

إنما المراد أنهم ، يقولون في الآخرة : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام آية : ٢٣] ، أي : عند أنفسنا في الدنيا.

وقال : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [سورة الأنعام آية : ٢٤] في الدنيا ، بقولهم : أنهم مصيبون فيما يشركون ، وليس هذا خبرا عن الآخرة ، وقيل : كذبهم على أنفسهم هو جحدهم على جهة النسيان ، وإنكارهم لما كانوا عليه في الدنيا.

__________________

(١) (ك ذ ب) : كذب يكذب كذبا ويجوز التّخفيف بكسر الكاف وسكون الذّال فالكذب هو الإخبار عن الشّيء بخلاف ما هو سواء فيه العمد والخطأ ولا واسطة بين الصّدق والكذب على مذهب أهل السّنّة والإثم يتبع العمد وأكذب نفسه وكذّبها بمعنى اعترف بأنّه كذب في قوله السّابق وأكذبت زيدا بالألف وجدته كاذبا وكذّبته تكذيبا نسبته إلى الكذب أو قلت له كذبت قال الكسائيّ وتقول العرب أكذبته بالألف إذا أخبرت بأنّ الّذي حدّث كذب ورجل كاذب وكذّاب.

وفي التّنزيل (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيه أدب حسن لما يلزم العظماء من صيانة ألفاظهم عن مواجهة أصحابهم بمؤلم خطابهم عند احتمال خطئهم وصوابهم ومثله قوله تعالى حكاية عن المنافقين (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ثمّ قال (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي في ضميرهم المخالف الظّاهر لأنّه قد يكون كاذبا بالميل لا في نفس الأمر فكان ألطف من قوله أصدقت أم كذبت ومن هنا يقال عند احتمال الكذب ليس الأمر كذلك ونحوه فإنّه يحتمل أنّه تعمّد الكذب أو غلط أو لبّس فأخرج الباطل في صورة الحقّ ولهذا يقول الفقهاء لا نسلّم ولكنّهم يشيرون إلى المطالبة بالدّليل تارة وإلى الخطإ في النّقل تارة وإلى التّوقّف تارة فإذا أغلظوا في الرّدّ قالوا ليس كذلك وليس بصحيح. [المصباح المنير : الكاف مع الذال].

٤١٦

وجاء لفظ كذب في القرآن على وجهين :

الأول : الجحد ، قال : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) [سورة الليل آية : ٩] ، أي : جحد الجنة ، وقوله : (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، أي : جحد وأعرض ، وقوله : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [سورة المطففين آية : ١٢].

الثاني : تكذيب الرسول ، وهو القول بأنه كاذب ، قال الله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [سورة الأنعام آية : ٣٤] ، ومثله كثير.

وأما قوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [سورة الأنعام آية : ٣٣] ، فمعناه أنهم لا يكذبونك ولكنهم يكذبونني لأني أنا المخبر لك ، وقيل : (لا يُكَذِّبُونَكَ) [سورة الأنعام آية : ٣٣] ، بحجة ، بل هو جحد ومكابرة.

وقيل : المراد أنهم لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأتهم به مما في كتبهم ؛ أنك كاذب فيه ، ويجوز أن يكون المراد أنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكن يجحدون أمرك بألسنتهم ، وقرئ لا يكذبونك ، أي : لا يصادفونك كاذبا فيما أخبرت به عن المذكور في كتبهم.

ويجوز أن يكون لا يصادقونك كاذبا إذا نظروا في أمرك حق النظر ، وأكذبت الرجل صادفته كاذبا ، وأبخلته صادفته بخيلا ، وقيل : (كَذَّبَ بِالْحُسْنى) [سورة الليل آية : ٩] ، أي : قصر به ، والعرب تقول كذب الرجل في الحرب إذا ترك الحملة.

٤١٧

الكريم (١)

أصل الكرم الشرف والفضل ، ومنه سمي الكرم لفضله على غيره من الشجر ، والكرم أيضا قلادة معروفة تشبه خرزها بورق الكرم ، ثم جاء الكرم بمعنى العز ، قالوا : هو أكرم علينا ، أي : أعز ، وتسمية الله تعالى بأنه كريم يعني : أنه عزيز من صفات ذاته ، وقد يكون أيضا بمعنى الجواد المفضال ، فيكون من صفات فعله.

والكريم وما يتصرف منه في القرآن على سبعة أوجه :

الأول : أن يكون بمعنى الأفضل ، قال الله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات آية : ١٣] ، وفي قوله : (كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [سورة الإسراء آية : ٧٠] ، أي : فضلناهم على غيرهم من الحيوان ، وقال حكاية عن إبليس : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [سورة الإسراء آية : ٦٢] ، أي : فضلت ، وقال : (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) [سورة الفجر آية : ١٥] ، أي : فضله.

الثاني : الشرف ، قال الله : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء آية : ٣١] ، أي : شريفا قرئ ندخلكم من أدخل ، وما كان من أفعل فإنه يجيء فيه مفعل ، وقرئ مدخلا ، وهو من دخل مدخلا ، وكذلك قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان آية : ٥١] ، إذا جعلته من قام فتحته ، وإذا جعلته من أقام ضممته ، ويجوز أن يكون المدخل موضع الإدخال ، والمراد به الجنة ، كما قال تعالى : (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) [سورة المؤمنون آية : ٢٩].

الثالث : الصفوح ، قال الله : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [سورة النمل آية : ٤٠].

__________________

(١) (ك ر م) : كرم الشّيء كرما نفس وعزّ فهو كريم والجمع كرام وكرماء والأنثى كريمة وجمعها كريمات وكرائم وكرائم الأموال نفائسها وخيارها وأكرمته إكراما واسم المفعول مكرم على الباب وبه سمّي الرّجل ومنه مكرم من بني جعونة كان الحجّاج بعث معه عسكرا فأقام بالعسكر على قرية بالأهواز وأحدث بها البنيان وعمرها فنسبت إليه وقيل لها عسكر مكرم وهي قريبة من تستر على نحو ثمانية فراسخ وبها العقارب المشهورة بسرعة القتل بلدغها. [المصباح المنير : الكاف مع الراء].

٤١٨

الرابع : العزيز ، قال الله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [سورة الانفطار آية : ٦] ، أي : العزيز الذي لا يغلب ولا يفوته شيء ، فما الذي غرك به فعصيته.

الخامس : الكثير ، قال الله : (رِزْقٌ كَرِيمٌ) ، قالوا : هو كثير ، ويجوز أن يكون معناه أنه يأتي صاحبه من غير امتهان ، والمراد كريم صاحبه.

السادس : الحسن ، قال : (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [سورة لقمان آية : ١٠] ، أي : حسن ، وهو مثل قوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [سورة الحج آية : ٥ ، ق : ٧] ، ومثله : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [سورة الإسراء آية : ٢٣] ، أي : حسنا.

السابع : الجواد ، قال تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [سورة الدخان آية : ٤٩] ، أي : كنت كذلك في الدنيا كذا قيل ، ويجوز أن يكون معناه أنك كنت كذلك عند نفسك ، وروي أنه قال : " أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم ، فقال الله له في جهنم ذو إنك أنت القائل هذا" ، ويجوز أن يكون المعنى أن ملائكته يقولون له ذلك ، وقيل : أراد إنك الذليل المهين ، ومعنى ذلك أنه أهل للذل والهوان لكفرك.

٤١٩

الكلمة (١)

اشتقاق الكلمة من الكلم ، وهو الجرح لأن تأثير الحروف في مخارجها وفي السمع كتأثير الجرح في المجروح ، وإن كانت أثارها أخفى ، وتقارب المعاني وتشابهها بحيث تتقارب الألفاظ ، فإذا قلت : كلمته تكليما ، فإنما أدخلت التشديد في الفعل لتدل على تكرير الفعل ، ألا ترى أن الكلمة الواحدة أقل الكلام.

وهى لا تخلوا من حروف وحركات ، وكان كل واحد من ذلك كلمه من الكلوم ، لأنها أثر بعد أثر تقع في مخارج الحروف وفي السمع ، فلذلك قيل : كلمته تكليما ، وقد يجوز كلمته كلاما ؛ لأنه يعلم أنه لا يكون مصدر كلمته إلا التكليم ، ولا مصدر تكلمت إلا التكلم ، وإن كلاما إنما ناب عن ذلك وقام مقامه ، وإن كان على غير لفظ الفعل ، لأنهم لم يستعملوا الفعل منه بغير تشديد ما لم تحل الكلمة ، وإن قل عدد حروفها من التكرير ؛ ولأنهم كرهوا التباس هذا الفعل ما هو من الجرح أيضا.

والكلمة في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الخبر ، قال الله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) [سورة يونس آية : ١٩] ، أي : لو لا الخبر السابق بأن الاستئصال لا ينزل بهذه الأمة لأنزلته بها.

الثاني : قوله تعالى : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [سورة الكهف آية : ١٠٩] ، قيل : يعني : مقدوراته ، وقيل : نعمه وعطاياه ، وعندنا أنه أراد بكلماته وعده لأهل الجنة ووعده لأهل النار ، وهو مثل قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الكهف آية : ٢٧ ، الأنعام : ١١٥] ، والمراد أنه لو يفعل ما وعد به أهل الجنة وأوعد به أهل النار حالا بعد حال ، فيما يستقبل وكتب ذلك بما في البحر ، وقد جعله مدادا وزاد عليه في مثله لنفد قبل نفاد

__________________

(١) [كلم] : الكلم : الجرح ، والجميع : الكلوم. كلمته أكلمه كلما ، وأنا كالم ، وهو مكلوم. أي : جرحته.

وكليمك : الذي يكلّمك وتكلّمه.

والكلمة : لغة حجازية ، والكلمة : تميمية ، والجميع : الكلم والكلم ، هكذا حكي عن رؤبة : لا يسمع الرّكب به رجع الكلم. [العين : الكاف والنون والفاء].

٤٢٠