تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

وأصله من الخير كأنك تؤثر خير الشيئين عندك ، وقالوا : لهو الحديث الغناء ؛ لأنه يلهي عن الذكر ، قالوا : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرى المرأة المغنية.

وقيل : هو جميع ما يلهي عن الذكر ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة الداري وكان يشتري من كتب الأعاجم فارس والروم ويقرأوها على قريش فيستحسنونها ويعجبهم ما يسمعون من أخبارهم فيها فيشتغلون بها عن استماع القرآن.

وقوله : (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) [سورة لقمان آية : ٦]. يعني : سبيل الله ، ومعناه الإسلام.

الثاني : الابتياع ، قال الله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة آية : ١١١]. هكذا قيل ، وهو مجاز وحقيقته أنه جعل الجنة ثوابا لهم على بذلهم نفوسهم وأموالهم في سبيل الله ، وسمي ذلك اشتراء ؛ لأنه جعل الجنة بدلا من ذلك كما أن ثمن السلعة بدل منها.

الثالث : بمعنى البيع ، قال تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة آية : ٩٠] أي : باعوها ، وهذا أيضا مجاز ، ومعناه أنهم أذنبوا فاستحقوا النار فإذا صاروا إليها لم ينتفعوا لنفوسهم فكأنهم باعوها ؛ لأن من باع الشيء حرم الانتفاع به.

٨١

الأحد (١)

أصله الانفراد ، يقال : رجل وحد إذا كان منفردا ، ولهذا قالوا : مررت برجل وحده. لما أرادوا معنى الانفراد ، كأنهم أرادوا برجل أفرادا ، وأفرادا منصوب نصب المصدر فنصبوا وحده ؛ لأنه جعل موضع أفراد.

__________________

(١) [وحد] : الوحد : المنفرد. رجل وحد ، وثور وحد. وتفسير الرّجل الوحد : الذي لا يعرف له أصل.

قال :

بذي الليل على مستأنس وحد

والوحد ـ خفيف ـ : حدة كل شيء. والوحد : منصوب في كلّ شيء ، لأنّه يجري مجرى المصدر خارجا من الوصف ، ليس بنعت فيتبع الاسم. وليس بخبر فيقصد إليه دون ما أضيف إليه ، فكان النّصب أولى به ، إلّا أنّ العرب قد أضافت إليه ، فقالت : هو نسيج وحده ، وهما نسيجا وحدهما ، وهم نسجاء وحدهم ، وهي نسيجة وحدها ، وهنّ نسائج وحدهنّ : وهو الرّجل المصيب الرأي. وكذلك قريع وحده وكذلك صرفه ، وهو الذي لا يقارعه في الفضل أحد.

ووحد الشّيء فهو يحد حدة ، وكل شيء على حدة بائن من آخر. يقال : ذلك على حدته وهما على حدتهما ، وهم على حدتهم ، والرّجل الوحيد ذو الوحدة ، وهو المنفرد لا أنيس معه ، وقد وحد يوحد وحادة ووحدة ووحدا.

والتّوحيد : الإيمان بالله وحده لا شريك له ، والله الواحد الأحد ذو التّوحّد والوحدانيّة. والواحد : أوّل عدد من الحساب. تقول في ابتداء العدد : واحد ، اثنان ، ثلاثة إلى عشرة. وإن شئت قلت : أحد ، اثنان ، ثلاثة ، وفي التّأنيث : واحدة وإحدى. ولا يقال غير أحد ، وإحدى في أحد عشر ، وإحدى عشرة. ويقال : واحد وعشرون ، وواحدة وعشرون ، فإذا حملوا الأحد على الفاعل أجري مجرى الثّاني والثالث ، وقالوا : هذا حادي عشرهم ، وثاني عشرهم وهذه الليلة الحادية عشرة واليوم الحادي عشر. وهذا مقلوب كجذب وجبذ.

والوحدان : جماعة الواحد.

وتقول : هو أحدهم ، وهي إحداهنّ ، فإذا كانت امرأة مع رجال لم يستقم أن تقول : إحداهم ، ولا أحدهم ، إلا أن تقول : هي كأحدهم ، أو هي واحدة منهم.

وتقول : الجلوس والقعود واحد ، وأصحابك وأصحابي واحد.

والموحد كالمثنى والمثلث ، تقول : جاءوا مثنى ومثلث وموحد ، وجاءوا ثناء وثلاث وأحاد. والميحاد كالمعشار ، وهو جزء واحد ، كما أنّ المعشار عشر.

والمواحيد : جماعة الميحاد ، ولو رأيت أكمات منفردات كلّ واحدة بائنة عن الأخرى كانت ميحادا أو مواحيد.

وتقول : ذاك أمر لست فيه بأوحد ، أي : لست على حدة. والحدة أصلها الواو. [العين : وحد].

٨٢

وجاء في كلامهم نسيج وحده ، وعيير وحده ، وجحيش وحده بالجر ، وإنما هذا مضاف إلى المصدر كأنهم قالوا : نسيج إفرادا لا يوجد مثله ؛ لانفراده بدأ به وعمله.

وقالوا : في جمع أحد آحاد ، وجمع واحد وحدان وأحدان ، ويقولون : أحد الرجلين ولا يقولون : واحد الرجلين ، ولزموا أحدا وإحدى في العدد.

ولو استعملوا في أحد وعشرين وإحدى وعشرين واحدا وعشرين وواحدة وعشرين كان جائزا ولكن لما كان باب العدد وباب التعبير لزموا فيه أحدا وإحدى وهما مغيران عن الأصل ، وقالوا : واحد ولم يقولوا في التثنية : واحدان ؛ لأن واحدا اسم لما لا ثاني له ، وقالوا : اثنان حين أرادوا أن كل واحد منهما ثان للآخر.

وأحد في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : يعني : الله سبحانه وتعالى ، وهو قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [سورة البلد آية : ٥] يعني : أن لن يقدر عليه الله ، أو أن يحسب أن لن يقدر الله أن يبعثه.

وكذا قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [سورة البلد آية : ٧] وأول الآية : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) [سورة البلد آية : ٦] أي : أنفقت المال الكثير في وجوه كثيرة ، ومن أحصاه علي فيحاسبني به ، فقال الله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي : لم يره الله.

الثاني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) [سورة الحشر آية : ١١] يعنون النبي صلى الله عليه ، وكذلك قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) [سورة آل عمران آية : ١٥٣] يعني : على النبي عليه‌السلام ؛ لأنه ثبت حين انهزموا فمروا على وجوههم ، ولم يقيموا عليه ، ويجوز أن يكون المعنى أن بعضكم لم يقم على بعض.

الثالث : قوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) [سورة الليل آية : ١٩] جاء في التفسير أنه عني بلالا مولى أبي بكر رضي الله عنه وأراد أنه لم تكن لبلال نعمة عند أبي بكر يعتقه من أجلها ، وإنما أعتقه لوجه الله ، ويجوز أن تكون الآية فيه وفي غيره ممن يفعل الخير لا ليد يجازي بها ولكنها لله تعالى.

٨٣

الآل (١)

أصل الآل من الأول وهو الرجوع ، والآل الشخص يرفع في الصحاري للناظر فيراه ليس بشيء ، وسمي آلاء ؛ لأنه يخفى ثم يرجع فيظهر ، وبه سمي شخص الرجل آلاء ، والأله الشدة من شدائد الدهر ؛ لأنها تذهب ثم ترجع ، قالت الخنساء :

سأحمل نفسي على آلة ف

ـ إمّا عليها وإمّا لها

والآلة : الحالة ؛ لأنها لا تبقى.

والآل ربما جاء بمعنى الأهل ، وبينهما فرق يقال : أهل العلم وأهل البلد ، ولا يقال :

آل العلم وآل البلد ، ويقال : أهل الرجل لأقاربه وهم آله أيضا وآله أتباعه ، فكان الآل من جهة القرابة والصحبة ، والأهل من جهة النسب والاختصاص.

وقيل : العرب تقول في تصغير آل : أهيل فهذا يدل على أن أصل الهمزة في آل هاء.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى الأتباع ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [سورة القمر آية : ٤١] يعني : أتباعه ، والمعنى : جاءته النذر وجاءتهم أيضا ، ومثله : (آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر آية : ٤٦] فاكتفى بذكرهم عن ذكره لدلالته عليه ، ومعلوم أنها إذا جاءتهم لأجل كفرهم وهو كافر مثلهم ، فقد جاء به وهذا من الإيجاز المحمود.

الثاني : أهل بيت الرجل ، قال الله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [سورة القمر آية : ٣٤] وهذا مثل الأول ؛ لأنه نجاه ونجى أهل بيته فاكتفى بذكر أهل بيته لبيان المعنى ، ومثله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر آية : ٥٩].

__________________

(١) الفرق بين الآل والشخص : أن الآل هو الشخص الذى يظهر لك من بعيد ، شبه بالآل الذي يرتفع في الصحاري ، وهو غير السراب وإنما السراب سبخة تطلع عليها الشمس فتبرق كأنها ماء ، والآل شخوص ترتفع في الصحاري للناظر وليست بشىء ، وقيل الآل من الشخوص ما لم يشتبه وقال بعضهم" الآل من الاجسام ما طال ولهذا سمي الخشب آلا". [الفروق اللغوية : ١ / ٧].

٨٤

الثالث : الذرية ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) [سورة آل عمران آية : ٣٣] يعني : إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، و : (وَآلَ عِمْرانَ) [سورة آل عمران آية : ٣٣] يعني : موسى وهارون ؛ اختارهم على عالمي زمانهم.

والفرق بين الولد والذرية : أن الذرية يقع على أولاد الرجل الذكور والإناث ، وعلى أولاد بنيه وبناته من الذكور والإناث ، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [سورة الأنعام آية : ٨٤] ثم عد عيسى مع المذكورين ، وولد الرجل هم من ولدهم لا يدخل أولاد البنات فيهم ؛ لأن أولاد البنات منسوبون إلى آبائهم ، قال الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

فأما تسميته الحسن والحسين عليهما‌السلام ولدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك شيء خصا به دون غيرهما تكريما لهما واختصاصا.

٨٥

أوى (١)

أصله الميل ، ومأوى الرجل منزله الذي يميل إليه ويقيم فيه ، أويت أنا وأويت غيري إذا ضممته إليك كأنك أملته إليك بعطفك ورحمتك.

وجاء في القرآن على وجهين :

الأول : الضم ، قال : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) [سورة المؤمنون آية : ٥٠] أي : ضمهما.

الثاني : الانتهاء ، قال الله تعالى : (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) [سورة الكهف آية : ٦٣] ، وقال : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [سورة الكهف آية : ١٦] أي : انتهوا ، ويجوز أن يكون أراد الميل في الوجهين ، : (آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أملناهما ، : (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) ملنا ، : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) مالوا. والمعين : الماء الطاهر التي تناله العين وهو من قولك : عنته إذا أبصرته واختار لهم الربوة ؛ لأنها أبعد من اللثق وما يكون فيها من الماء والخضرة فهو أحسن والعرب تقول : أحسن من رياض الحزن ، قال الأعشى :

ما روضة من رياض الحزن معشّبة

خضراء جار عليها مسبل هطل

والحزن : ما ارتفع من الأرض في غلظ.

__________________

(١) [أوى] : تقول العرب : أوى الإنسان إلى منزله يأوي أويّا وإواء والأويّ : أحسن ، وآويته إيواء.

والتّأوّي : التّجمّع ... وتأوّت الطّير ، إذا انضمّ بعضها إلى بعض ، فهنّ أويّ ، ومتأوّيات قال العجاج : كما تدانى الحدأ الأويّ يصف الأثافي ، وقد شبّه كلّ أثفية بحدأة بوزن فعلة.

وتقول : أويت لفلان آوي أوية وأيّة ومأوية ومأواة إذا رحمته ورثيت له ، قال :

على أمر من لم يشوني ضرّ أمره

ولو أننّي استأويته ما أوى ليا

وابن آوى : لا يصر فل على حال ، ويحمل على أفعل مثل : أحوى. [العين : أوى].

٨٦

الأول (١)

أول كل شيء ما ابتدئ فيه واشتقاقه من الأول ، وهو الرجوع ، كأن كل شيء ترجع صفته إلى ما بدئ منه ، والأول في أسماء الله تعالى بمعنى أنه لا شيء قبله.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : أول من كفر من أهل الكتاب ، وهو قوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [سورة البقرة آية : ٤١] أي : أول من كفر به من أهل الكتاب ؛ لأن قريشا كفروا به قبلهم ، ودلهم هذا على أن جميع من كفر منهم بعد فإنه سببه ويلزمهم مثل وزره.

قال أبو العباس المبرد : أول يضاف إلى ما بعده على وجهين :

أحدهما : أن يكون ما بعده متصلا به.

والآخر : أن يكون مقدرا لذلك ، وذلك قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) إنما قال هذا للمخاطبين ؛ لأنهم قبل غيرهم ممن يلزمهم ما لزمهم فقيل لهم : أنتم أيها المخاطبون لا تكفروا بما سمعتم فيكون بعدكم الكافر والمؤمن فلا تكونوا أول الكفار ، وكافر في موضع الجماعة إذا كانوا واحدا واحدا ، وقبيلا قبيلا ، يقول : كل رجل في الدار فأعطه درهما ، أي : أعطهم رجلا رجلا حتى يعطي كلهم ، ولو قال قائل : أول من يأتني فله درهم فأتاه واحد ولم يأت غيره لوقع عليه اسم الأول ؛ لأنه في التقدير أن يأتي غيره ، ولو قال : آخر رجل يأتيني وآخر عبدا ملكه لم يعلم إلا بعد موته ؛ لأن الأول مقدر لما بعده ، والآخر لا يقع عليه هذا الاسم ، وكذلك إذا قال : أول عبد لي حر فأول عبد يشتريه يعتق ، فإذا قال : آخر عبد لم يعلم ذلك إلا بعد موته.

__________________

(١) (أول): (الأول) الرّجوع وقولهم آلت الضّربة إلى النّفس أي رجعت إلى إهلاكها يعني أدّى أثرها إلى القتل يقال طبخت النّبيذ حتّى آل المنّان منّا واحدا أي صار وفعلت هذا عاما أوّل على الوصف وعام الأوّل على الإضافة وقوله أيّ رجل دخل أوّل فله كذا وكذا مبنيّ على الضّمّ كما في من قبل ومن بعد ومعناه دخل أوّل كلّ أحد وقبل كلّ أحد وموضعه باب الواو وألنا في (ف ج). [المغرب : الهمزة مع الواو].

٨٧

الثاني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [سورة الزخرف آية : ٨١] قيل : أول الموحدين لله من أهل زمانه ، ومثله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [سورة الأنعام آية : ١٤] ، وقوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الزمر آية : ١٢] أي : ابتدئ بإظهار الإسلام ليتلو في الناس.

الثالث : أول المؤمنين ، أي : أول المؤمنين بذلك ، ويجوز أن يكون معناه أنه أول المؤمنين بهذا وبغيره مما هو من دين الله ليس أنه لم يكن مؤمنا به قبل ذلك وإنما أراد أنه يجدد له إيمان بعد إيمان قبل أن يتجدد ذلك لغيره فهو أول فيه.

الرابع : قوله تعالى : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الشعراء آية : ٥١] أي : أول المؤمنين من اتباع فرعون ، وقيل : كانوا أول مؤمني أهل دهرهم ، وذلك غلط ؛ لأن موسى وهارون عليهما‌السلام كانا مؤمنين قبلهم ، وقوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الأعراف آية : ١٠٥] دليل على أن موسى كان قد علم أن من بني إسرائيل من هو مؤمن ، وكان فرعون يتعبدهم فطلب منه إرساله إياه.

٨٨

الاستئناس (١)

أصله طلب الأنس ، والإيناس من الرؤية يفيد الأنس بما يراه المؤنس ، ولهذا لا يقال لله تعالى يؤنس كما يقال : أنه يرى.

وجاء في القرآن على وجهين :

الأول : الاستئذان ، قال الله تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [سورة النور آية : ٢٧] ونسق التلاوة يدل على أنه أراد الاستئذان ، وهو قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة النور آية : ٥٩].

وقرأ ابن عباس رحمه‌الله : حتى تستأذنوا ، وقال : غلط الكاتب وإنما سمي استئذانهم استئناسا ؛ لأنهم إذا استأنسوا أنس بعضهم ببعض.

__________________

(١) الأنس : جماعة النّاس ، وهم الإنس. والاناس : جماعة النّاس ؛ وجمع الإنس أيضا ـ بمنزلة إجل وآجال ـ.

وقيل : سمي الإنسان إنسانا لظهورهم وإدراك البصر إيّاهم ، وهو فعلان ، ويصغر : أنيسيان وأنيسيين.

ويقولون : هذه إنسانة للمرأة. وطيّيء تقول في الإنسان : إيسان ـ بالياء ـ ، ويجمع أياسين.

وقوله عزوجل : "(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)" يريد : يا إنسان. وقوله : "(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ)" أي يا أيّها الناس ، يقال : ما هو من الإنسان : أي من النّاس. وتأنست الأرض : نبتت.

وفي المثل الخاص بأخيه قولهم : " فلان ابن أنس فلان". والإنسان : الأنملة. إنسي القدم : ما أقبل عليك.

وإنسي الإنسان : شقه الأيسر. والأنس : الاستئناس والتّأنس ، وقد أنست بفلان وأنست به ـ بفتح النّون ـ والآنسة : الجارية الطّيبة النفس التي تحب حديثها. ويقولون : كيف أنسك وإنسك ، و" كيف ترى ابن أنسك" أي نفسك ، وقيل : هو خاصته وخليله. ويقال للسلاح : المؤنسات ؛ لأن الرّجل يستأنس بسلاحه.

وآنست فزعا وشخصا وضعفا من مكان : أي رأيت. وكذلك آنست : إذا أحسست شيئا.

والبازي يتأنس : إذا جلّى ونظر رافعا رأسه. والأنيسة : النّار ؛ لأنّها آنس الأشياء ، وقيل : هو من أنها تؤنس أي تبصر.

وموضع مأنوس : فيه إنس والاستئناس : الاستئذان. وتأنّس للشيء : إذا تسمع له. [المحيط في الغة : ٢ / ٢٧٩].

٨٩

وفي قوله تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن صاحب الدار أذن ، ولذلك قال مجاهد : هو التنحم والتنحنح كأنه أراد أن يعلمهم بدخوله.

وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول من غير إذن ومعلوم أن الإذن مشروط في إباحة الدخول ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) [سورة النور آية : ٢٨] فحظر الدخول إلا بالإذن.

الثاني : طلب الأنس بالحديث ، قال الله تعالى : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) [سورة الأحزاب آية : ٥٣] ، وقال عمر رضي الله عنه : أأستأنس يا رسول الله ، فقال له : استأنس يعني : استئناس الحديث.

ومستأنسين نصب على الحال من محذوف ، أي : فلا تدخلوها مستأنسين أو لا تجلسوا بعد الفراغ من الأكل ، وقيل : موضعه خفض مستأنسين على اتباع : (ناظِرِينَ إِناهُ).

٩٠

الآية (١)

أصل الآية العلامة الثابتة من قولك : تأييت بالمكان إذا أقمت به وثبت فيه ، ومن ثم يقال : لأجعلنك آية ، أي : علامة ، وسميت الآية من القرآن آية ؛ لأنها بمفارقتها كلام البشر علامة على صدق الدعوة ، وقيل : الآية جماعة حروف من قولهم : خرج القوم على آيتهم أي : بجماعتهم.

وهي في القرآن على وجهين :

الأول : العبرة ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [سورة المؤمنون آية : ٥٠] أي : عبرة يعتبر بها ، وتكون علامة لصدقه وشاهدا على أن الله تعالى قادر على ما يريده ، ويجوز أن يكون قولهم : لأجعلنك آية من ذلك أي : عبرة ، ومثله : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [سورة العنكبوت آية : ١٥] ولم يقل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ؛ لأن الأمر فيهما يؤول إلى شيء واحد.

الثاني : العلامة ، قال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [سورة يس آية : ٤١] ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [سورة الروم آية : ٢٥] ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الشورى آية : ٢٩ ، الروم :

__________________

(١) الآية : العلامة ، وجمعها آي ثمّ آياء. والجماعة من النّاس ، وخرج القوم بآيتهم. والغاية. والآيات من القرآن ، والجميع الآي ، وآية مؤيّاة وقد أيّيت ، وسمّيت آية لأنّها علامة لانقطاع الكلام ، وقيل : لأنّها عجب ، وإذا أضفت إلى آية قلت : آويّ وآييّ.

وآية الرّجل : شخصه ، يقال : تأيّيت آيته : أي تعمّدت شخصه.

وآي الدّار : علاماتها.

والآء : الواحدة آءة شجرة لها حمل تأكله النّعام ، وثمرتها الآء ، وتصغيرها أويأة بوزن عويعة. وأرض مآءة على مفعلة.

والتّأيّي : التّنظّر والتّوءدة ، تأيّا الرّجل يتأيّا ، وليست بدارتئيّة : أي انتظار للمقام بها.

وتآييت بالمدّ : تعمّدت.

وتآييت القوم : لحقتهم وأدركتهم وتلاقيتهم.

وتأيّيت الأثر : التمسته وتعرّفته.

وأيايا : في الزّجر ، أيّيت بالإبل أيّى تأيية ، وأيّا يأيّي تأيية. [المحيط في الغة : ٢ / ٤٩٠].

٩١

٢٢] ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)(١) [سورة الروم آية : ٢١] أي : ومن العلامات على ربوبيته.

والوجهان متقاربان يصلح استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وإنما أوردناهما على حسب ما جاء في التفسير.

__________________

(١) قال الشوكاني : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) قال المفسرون : يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم. أو المعنى : خلق لكم من جنسكم أزواجا لتستأنسوا بها ، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ، ويستوحش من غير جنسه ، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ، ولهذا قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). [فتح القدير : ٤ / ٢٤٢].

٩٢

الآخرة

سميت الآخرة آخرة ؛ لأن الدنيا تؤدي إليها ، وآخر الشيء خلاف أوله ، فأوله ما بدئ منه وآخره ما ينقطع عند تمامه.

وقد يجوز مع ذلك أن يجعل أول الشيء آخره ، وآخر الشيء أوله إذ قدر غير التقدير الأول ، وقد استقصينا ذلك في كتاب الفرق.

وآخر الشيء منه كما أن أوله منه ، وليست الآخرة من الدنيا على أنه لو لا الدنيا لم يقل آخره ، وأنثت الآخرة على تأنيث الدار.

وهي في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : القيامة ، قال الله تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سورة الإسراء آية : ١٠ ، المؤمنون : ٧٤] يعني : القيامة.

الثاني : الجنة بعينها ، قال الله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [سورة البقرة آية : ٢٠٠] أي : ما لهم في الجنة من نصيب ، والخلاق النصيب وسمي خلاقا ؛ لأنه قدر لصاحبه ، وأصل الخلق التقدير وسنذكره ، وقال تعالى : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف آية : ٣٥] ، وقال : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) [سورة القصص آية : ٨٣] ، ونظير الأول قوله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [سورة الشورى آية : ٢٠].

الثالث : جهنم خاصة ، قال : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [سورة الزمر آية : ٩] أي : يحذر جهنم.

الرابع : قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [سورة إبراهيم آية : ٢٧] وجاء في التفسير أنه أراد القبر حين يأتيه منكر ونكير ، ويجوز أن يكون معناه القيامة يثبته الله فيها على الصراط.

٩٣

الخامس : قوله تعالى : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ)(١) [سورة ص آية : ٧] وهي ملة عيسى عليه‌السلام ، كذا قيل ، ويجوز عندنا أن يكون معناه : ما سمعنا أن مثل ما تأتي به يكون في آخر الزمان.

__________________

(١) قال ابن الجوزي : (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) وفيها ثلاثة أقوال :

أحدها : النصرانية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإبراهيم بن المهاجر عن مجاهد ، وبه قال محمد بن كعب القرظي ، ومقاتل.

والثاني : أنها ملّة قريش ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة.

والثالث : اليهودية والنصرانية ، قاله الفراء ، والزجاج ؛ والمعنى أن اليهود أشركت بعزير ، والنصارى قالت : ثالث ثلاثة ، فلهذا أنكرت التوحيد. [زاد المسير : ٥ / ٢٢٧].

٩٤

الأخ (١)

أصل الأخ أخو على وزن فعل ، ودليل ذلك أنك تقول في التثنية أخوان ، وكذلك الأب ؛ لأنك تقول في تثنيته أبوان.

قال المبرد : إنما حذفوا الواو من أخ علامة للتضمين ، ومعنى التضمين عندنا أنك إذا قلت : أخ فقد ضمنت شيئا معلوما وهو أخ آخر ، وكذلك إذا قلت : أب وابن وليس كذلك في مثل قولك : رأس ؛ لأنك إذا قلت : رأس جاز أن تريد رأس عصا ورأس رجل ورأس بقرة ، وليس يدل قولك : رأس على شيء بعينه ، والمضمون في قولك : أخ وابن معلوم ، وأصل اشتقاق الأخ من القصد ، ومن ثم قيل : توخيت الشيء إذا قصدته وأصله تأخيت

__________________

(١) الأخ ، وكان أصل تأليف بنائه على بناء فعل بثلاث حركات ، وكذلك : الأب ، فاستثقلوا ذلك وفيها ثلاثة أشياء : حرف وصوت وصرف ، فربما ألقوا الواو والياء لصرفها وابقوا منها الصوت فاعتمد الصوت على حركة ما قبله فإذا كانت الحركة فتحة صار الصوت معها ألفا ليفة ، وإن كانت ضمة صار معها واو لينة ، وإن كانت كسرة صار معها ياء لينة ، فاعتمد صوت واو الأخ على فتحة فصار معها ألفا لينة : أخا ، وكذلك أبا كألف رمى وغزا ونحوهما.

ثم ألقوا الألف استخفافا لكثرة استعمالهم إياها وبقيت الخاء على حركتها فجرت على وجوه النحو لقصر الأسم.

فإذا لم يضيفوه قوّوه بالتنوين ، وإذا أضافوه لم يحسن التنوين فقوّوه بالمد في حالات الإضافة ، فإذا ثنوا قالوا أخوان وأبوان ، لأن الأسم متحرك الحشو فلو تصر حركته خلفا من الواو والساقطة كما صارت حركة الدال في اليد ، وحركة الميم في الدم ، فقالوا يدان ودمان ، لأن حشوهما ساكن فصار تحرك الدال والميم خلفا من الحرف الساقط ، فقالوا : دمان ويدان ، وجاء في الشعر دميان ، قال :

فلو أنّا على حجر ذبحنا

جرى الدّميان بالخبر اليقين

وإنما قالوا : دميان على الدّماء كقولك : دمي وجه فلان أشد الدّماء ، فحرك الحشو ، وكذلك قالوا إخوان ، وهم الإخوة إذا كانوا لأب ، وهم الإخوان إذا لم يكونوا لأب. وفي القرآن : " فأصلحوا بين أخويكم".

والتّأخي : اتّخاذ الأخوان بينهما إخاء وأخوّة.

والأخت : كان حدّها أخة والأعراب على الهاء والخاء في موضع الرفع ولكنها انفتحت لحال هاء التأنيث ، لأنها لا تعتمد إلا على حرف متحرك بالفتحة ، وأسكنت الخاء فحول صرفها على الألف ، وصارت الهاء تاء كانها من أصل الكلمة ، ووقع الإعراب على التاء ، وألزمت الضمة التي كانت في الخاء الألف ، وكذلك نحو ذلك.

أخخ : أخّ : فارسية يتوجع بها عند التوجع من شيء. [العين : الخاء والقاف].

٩٥

الشيء وتأخيت أخا للفرق بين المعنيين ، ويجوز أن يكون توخيت الشيء مأخوذا من الوحي ، وهو الطريق القاصد وهذا أجود الوجهين.

وهو في القرآن على ستة أوجه :

الأول : الأخ من الأب والأم ، قال : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) [سورة المائدة آية : ٣٠] ، وقال : (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) [سورة المائدة آية : ٣١] ونحوه كثير ، وسماها سوأة ؛ لأنها جيفة.

الثاني : الأخ في النسب ، قال الله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [سورة الأعراف آية : ٦٥] ، وقوله : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [سورة الأعراف آية : ٧٣] ، وقوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [سورة الأعراف آية : ٨٥] ، وقال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] فإن قيل : فلم سمي ولي الدم أخا القاتل في هذه الآية ، والقاتل فاسق والفاسق لا يكون أخا لمؤمن ، قلنا : سماه بذلك كما سمي هودا أخا عاد ، والقوم إذا كانوا من جيل واحد وقبيلة واحدة سموا أخوة ؛ لأنهم ينتهون إلى أب واحد قريب أو بعيد ، وسنفسر هذه الآية فيما بعد إن شاء الله.

الثالث : الأخ في الكفر والشرك ، قال الله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ)(١) [سورة الأعراف آية : ٢٠٢] ، وقال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [سورة الإسراء آية : ٢٧] ، ونحوه : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [سورة الأعراف آية : ٣٨].

__________________

(١) قال الخازن : (وَإِخْوانُهُمْ) يعني وإخوان الشياطين من المشركين (يَمُدُّونَهُمْ) أي يمدهم الشياطين فِي الغَيِّ قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين يمدونهم أي يطيلون لهم في الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) يعني لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين لأن المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر والكافر مستمر في ضلالته لا يتذكر ولا يرعوي. وقال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئآت ولا الشياطين يمسكون عنه فعلى هذا القول يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعا. [لباب التأويل : ٣ / ١٥٠].

٩٦

الرابع : الأخ في الإسلام ، قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [سورة الحجرات آية : ١٠] ، وقال : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [سورة آل عمران آية : ١٠٣].

الخامس : الأخ في المودة ، قال في وصف أهل الجنة : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [سورة الحجر آية : ٤٧].

السادس : الأخ بمعنى الصاحب ، قال تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [سورة ص آية : ٢٣] ، وقوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [سورة الحجرات آية : ١٢] أي : لحم صاحبه.

ويجوز أن يكون معناه الأخ في الدين ، فجعل الغيبة أكل اللحم ، قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله ما الغيبة؟ قال : " ذكر أخيك بما يكره" ، قال : قلت : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته" (١).

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (٢٥٩١) ، وأخرجه الترمذي أيضا (١٩٣٤) ، وأخرجه أبو داود (٤٨٧٤) ، وأخرجه أحمد (٨٧٥٩) ، وأخرجه الدارمي (٢٧١٤).

٩٧

الإثم (١)

الإثم عند العرب الذنب ، وسميت الخمر إثما لأنها توقع في الذنوب ، ويقال : أثم فهو آثم وأثيم مبالغة كما تقول : علم فهو عالم وعليم مبالغة.

وقال ابن السكيت : إن الإثم في قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) [سورة الأعراف آية : ٣٣] يعني : به : الخمر ، وأنشد :

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وجاء في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الكذب ، قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [سورة المائدة آية : ٦٣] أي : الكذب بأن عزيرا ابن الله وأن يد الله مغلولة.

الثاني : المعصية ، قال الله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [سورة المائدة آية : ٣] أي : مائل إلى المعصية ، والجنف الميل.

وقال بعض الفقهاء : الإثم أن يأكل منه أكثر مما يحتاج إليه لسد جوعه ، وقال غيره : له أن يأكل منه ما يريد ويتزوده فإذا استغنى عنه طرحه ، والضرورة المذكورة في الآية تدفع ذلك ، والأول قول أصحابنا.

وقال : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الأعراف آية : ٣٣] ولا يكون البغي إلا بالحق ، وإنما هو مثل قولك : بغى علي ظلما ، ولا يجوز أن يبغي عليه عدلا ، وإنما هو تأكيد في الكلام.

__________________

(١) [أثم] : أثم : وقع في الإثم. وتأثّم : تحرّج منه وكفّ عنه. والأثام : عقوبة الإثم ، والآثام جمعه. وفلان مؤثم : أي ادّعى الإثم. والأثيم والأثيمة : في كثرة ركوب الإثم. والآثم : الفاعل. ويقولون : لا يأثمني الله في كذا ولا يؤثمني بمعنى واحد : أي لا يجزيني الأثام.

والإثم : من أسماء الخمر ؛ في قوله عزوجل : "(ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)".

والمؤاثم : الذي يكذب في السّير. [المحيط في اللغة : ٢ / ٤٢٤].

٩٨

وقال تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة آية : ٢] هو الإثم وكذلك البغي.

وإنما كرر المعنى بغير لفظه أراد التأكيد على ما بيننا ، ومثله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [سورة الأنعام آية : ١٢٠] يعني : ظاهر المعصية وباطنها.

وقال بعضهم : أراد الزنا وليس له أن يقصره على الزنا وحده إلا بدليل ولدليل فإن كان ما روي أن العرب كانت تحل الزنا باطنا وتحرمه ظاهرا فأخبر الله تعالى بأن ذلك كله محرم صحيحا فهو الدليل.

الثالث : الحرج والضيق ، قال الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة آية : ٢٠٣] أي : إن نفر الحاج من مكة اليوم الأول من أيام التشريق أو الثاني أو تأخر بمنى إلى اليوم الثالث فلا حرج عليه : (لِمَنِ اتَّقى) أي : لمن توخى التقوى.

وهذا دليل على أن أعمال البر لا تنفع إلا مع الإيمان والتقوى والإثم الحرام ، قال الله تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [سورة النساء آية : ٢٠] أي : حراما بينا ، والبهتان : الباطل الذي يتحير في بطلانه ، وأصله من قولهم : بهت الرجل إذا تحير ، وقال الله : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [سورة البقرة آية : ٢٥٨].

الرابع : قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) [سورة البقرة آية : ١٨٢] جاء في بعض التفسير أنه أراد بالإثم الخطأ ، وقيل : الجنف هاهنا الخطأ ، وقيل : المعنى من علم من الموصي ميلا إلى ما هو إثم وجور في الوصية مما يعود بالضر على ورثته فسبيله أن يصلح بينه وبينهم حتى يرجع أمرهم إلى السداد ، ولما قال : (جَنَفاً) دل على معدول عنه ومعدول إليه ، وهم الموصي والورثة ، فقال تعالى : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) [سورة البقرة آية : ١٨٢]

٩٩

والفرق بين الجنف والحيف : أن الجنف هو العدول عن الحق والحيف الحمل على الشيء حتى تنقصه ، وتحيفت الشيء تنقصته من حافاته (١).

فإن قيل : لم قال : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة آية : ١٨٢] وهو محسن؟ قلنا : لأن المتوسط من أنهن لا يعدم أن ينقص أحدهما بعض حقه الذي في ذلك من الصلاح ، والصلح لا يكون إلا كذلك فبين أنه لا إثم عليه في النقصان والزيادة.

__________________

(١) الجنف : الميل في الكلام ، وفي الأمور كلّها ، تقول : جنف فلان علينا ، وأجنف في حكمه ، وهو شبيه بالحيف ، إلا أنّ الحيف من الحاكم خاصّة ، والجنف عام. ومنه قول الله عزوجل : " فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً". وقوله جلّ وعزّ"" غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ، أي متمايل متعمد". [العين : الجنف].

١٠٠