تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

وشرح الحلال والحرام ، وسمي ذلك حكمة ؛ لأنه يمنع من الوقوع في المحظور ، ومثله : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة آل عمران آية : ٤٣].

الثاني : الفهم والعلم ، قال الله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [سورة لقمان آية : ١٢] ، وقال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [سورة مريم آية : ١٢] ، يعني الحكمة ، وهو الفهم والعلم والحكمة والحكم سواء ، وهو مثل العذر والعذرة ، والقل والقلة ، والنحل والنحلة ، وهي العطية والخير والخيرة.

ومثله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [سورة الأنعام آية : ٨٩] ، يعني : الفهم ، وقال : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [سورة يوسف آية : ٢٢] ، ويجوز أن يكون الحكم هنا القضاء ، أي : جعله قاضيا بين الناس ، وقال : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة آل عمران آية : ٤٣] ، أي : علمناه الخط ، يقال : كتب كتابا ، والحكمة : ما أجري على لسانه من الكلم الداعية إلى الرشد الزاجرة عن الغي ، وقيل : الحكمة هنا الشرائع.

الثالث : النبوة ، قال : (آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة النساء آية : ٥٤] ، يعني : النبوة ، ومثله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [سورة ص آية : ٢٠] ، يعني : النبوة ، والفصل الذي ينفصل به بين المتخاصمين ، وقيل : فصل الخطاب هو أما بعد وداود أول من قاله ، والأول الوجه. ومثله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة البقرة آية : ٢٥١] ، أي : النبوة ، أي : أتى الله داود الملك والحكمة بعد قتل جالوت ، فدل على أن ملك جالوت انتقل إلى داود بعد قتله جالوت أو بعد موت طالوت.

الرابع : تفسير القرآن ، قال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [سورة البقرة آية : ٢٦٩] ، قالوا : يعنى العلم بتفسير القرآن ، ويجوز أن تكون الحكمة القرآن نفسه ، ومصداق ذلك قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [سورة الإسراء آية : ٣٩].

ويجوز أن تكون النبوة والشاهد قوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة النساء آية : ٥٤] ، ويجوز أن يكون العلم والأصالة كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ

١٨١

الْحِكْمَةَ) [سورة لقمان آية : ١٢] ، وجماع الحكمة ، والحكم الرد إلى الصواب فكل ما رد إلى الصواب حكمة وحكمه التامة من ذل ؛ لأنها ترد إلى القصد.

الخامس : القرآن ، قال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [سورة النحل آية : ١٢٥] يعني القرآن ونظيره : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [سورة الإسراء آية : ٣٩] ، ويجوز أن يكون المعنى في قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [سورة النحل آية : ١٢٥] ، القرآن ، وغيره من الكلم المرشدة الزاجرة ، وكل ذلك تسمى حكمة.

١٨٢

الحشر (١)

أصل الحشر الجمع مع السوق (٢) ، قال الله تعالى : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [سورة الشعراء آية : ٣٦] ، أي : رجالا يجمعون السحرة إليك ، ويقال : حشرت القوم إذا جمعتهم وسقتهم ، ويجوز أن يكون أصله من الخفة كأن الذي تحشره يخف لك ، ولهذا قيل : إذن حشرة ، أي : حقيقة ، وسهم حشرات خفيف ، وحشرات الأرض صغار دوابها ، وناقة حشور ملززة الحلق ، وقيل : المنتفخة الجنين العظيمة البطن كأنها من الأضداد.

وفسر الحشر في القرآن على وجهين :

الأول : الجمع ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) [سورة يونس آية : ٢٨] ، أي : نجمعهم ، قال : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [سورة الكهف آية : ٤٧] ، ومثله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [سورة التكوير آية : ٥] ، أي : جمعت ، وقوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) [سورة النمل آية : ١٧] ، وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [سورة الصافات آية : ٢٢] ، ولا يكون هذا بمعنى السوق ، لأنه يقال : (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة الصافات آية : ٢٢ ـ ٢٣] ،

__________________

(١) [حشر] : الحشر : حشر يوم القيامة. والمحشر : المجمع ، وهو المحشر أيضا. وحشرتهم السّنة : ضمّتهم من النّواحي ، وتهلك في خلال ذلك. والحشرة : صغار دوابّ الأرض ، والجميع الحشرات. والحشور من الدّوابّ : كلّ ملزّز الخلق شديده. وهو أيضا : العظيم الجنبين. والحشر من الآذان ومن قذذ ريش السّهام : ما لطف. وحشرت السّنان فهو محشور : رقّقته. والحشرة : القشرة تكون على حبّ السّنبلة ، وموضع ذلك : المحشرة. وقيل : هو ما بقي في الأرض من نبات بعد حصد الزّرع ، وينبت أخضر. ووطب حشر : اجتمع عليه الوسخ. وحشر فلان في رأسه واحتشر : كذلك. وعجوز حشورة : هي المتظرّفة البخيلة. [المحيط في اللغة : حشر].

(٢) الفرق بين الحشر والجمع : أن الحشر هو الجمع مع السوق ، والشاهد قوله تعالى" (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ)" أي إبعث من يجمع السحرة ويسوقهم إليك ، ومنه يوم الحشر لان الخلق يجمعون فيه ويساقون إلى الموقف ، وقال صاحب المفصل : لا يكون الحشر إلا في المكروه ، وليس كما قال لان الله تعالى يقول" (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)". [الفروق اللغوية : ١ / ١٨٨]

١٨٣

يعني : الأصنام ، والأصنام لا تساق ، ولكن يجمع على أنه يقال في الجماد والأغراض السوق على سبيل المجاز.

الثاني : السوق ، قال الله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [سورة الإسراء آية : ٩٧] ، أي : نسوقهم ، وقال : الأول الحشر يعني : سوقهم إلى الشام ، وجعله أولا لأن الناس يحشرون إلى الشام يوم القيامة ، أي : يجمعون ويساقون ، وهؤلاء بنو النضير ، أخرجهم الله من ديارهم واعتمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل لأول الحشر ، أي : هو أول ما حشروا : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [سورة آل عمران آية : ١٩٥] ، وهذا أصح وأقرب.

١٨٤

الحق (١)

الحق : العقد على المعنى على ما هو به ، ويدعوا إليه الحكمة ، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم والقوة فيما طريقه غالب الظن.

والحق أعم من الأصلح ، لأن الأصلح حق وإلا دون في الصلاح حق ، ومعنى الحق وقوع الشيء في موقعه.

والصلاح : استقامة الشيء على مقدار ، وأصله من الثبات ، ويقول : تحققت الشيء ، أي : ثبت عندي ، وهذا حقك ؛ لأنه قد ثبت لك ملكه ، والحق من الإبل الذي يثبت للعمل.

والحق خلاف الباطل ؛ لأنه يثبت ، والحق في أسماء الله تعالى بمعنى أنه الدائم الثابت الملك غير زائل السلطان ، وأنا أحق بكذا ، أي : هو أثبت لي ، وفي القرآن : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) [سورة يونس آية : ٣٥] ، وقال : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) [سورة الأنعام آية : ٨١].

وفسر الحق في القرآن على عشرة أوجه :

__________________

(١) [حق] : الحقّ نقيض الباطل. حقّ الشيء يحقّ حقّا أي وجب وجوبا. وتقول : يحقّ عليك أنّ تفعل كذا ، وأنت حقيق على أن تفعله. وحقيق فعيل في موضع مفعول.

وقول الله ـ عزوجل ـ : "(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ)" معناه محقوق كما تقول : واجب. وكلّ مفعول ردّ إلى فعيل فمذكّره ومؤنّته بغير الهاء ، وتقول للمرأة : أنت حقيقة لذلك ، وأنت محقوقة أن تفظعلي ذلك ، قال الأعشى :

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أنّ المعان موفّق

والحقّة من الحقّ كأنّها أوجب وأخصّ. تقول : هذه حقّتي أي حقّي.

قال : وحقّه ليست بقول الترّهة.

والحقيقة : ما يصير إليه حقّ الأمر ووجوبه. وبلغت حقيقة هذا : أي يقين شأنه. وفي الحديث : " لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى لا يعيب على مسلم بعيب هو فيه".

وحقيقة الرجل : ما لزمه الدفاع عنه من أهل بيته ، والجميع حقائق.

وتقول : أحقّ الرجل إذا قال حقّا وادّعى حقّا فوجب له وحقّق ، كقولك : صدّق وقال هذا هو الحقّ. [العين : ١ / ١٢٦]

١٨٥

الأول : يعني : به الله تعالى ، قال : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) [سورة المؤمنون آية : ٧١] ، قالوا : معناه لو اتبع الله أهواءهم ، ويجوز أن يكون الحق هاهنا هو الحق في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [سورة المؤمنون آية : ٧٠] ، : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) [سورة المؤمنون آية : ٧١] ، أي : لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت الأمور ، وفسر قوله أيضا : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) [سورة العصر آية : ٣] ، أي : أن الله واحد ، وهذا بعيد ، والصحيح أن بعضهم يوصي بعضا باستعمال الحق وترك تجاوزه.

الثاني : القرآن ، قال الله : (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) [سورة الزخرف آية : ٢٩ ـ ٣٠] ، يعني : القرآن قالوا : هذا سحر ، وإنما سموه سحرا لخفاء مسلكه عندهم ، وقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [سورة ق آية : ٥] ، وقال : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [سورة القصص آية : ٤٨] ، أو لم يكتفوا من الدلالة بالقرآن مع عجزهم عنه فطلبوا مثلا آيات موسى فأخبرهم أنهم مع تلك الآيات أيضا كفروا على الحجة في القرآن أبلغ منها في قلب العصا حية ؛ لأن التحدي بالقرآن قد وقع على قوم كان صناعتهم الكلام.

وكان السحر في أيام موسى عليه‌السلام في القليل من الناس كهو فينا اليوم ، ولأن القرآن يبقى على الأيد ويقف عليه في الأطراف ، من لا يقف على أمر للعصا إلا بالإخبار.

الثالث : الإسلام ، قال الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [سورة الإسراء آية : ٨١] ، يعني : مجيء الإسلام وذهاب الشرك ، والزهوق الهلاك ، وقال : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [سورة الأنفال آية : ٨] ، أي : ثبت الإسلام ويزيل الشرك.

الرابع : العدل ، قال الله : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) [سورة النور آية : ٢٥] ، أي : جزاءهم العدل : (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [سورة النور آية : ٢٥] ، وقربت منه : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [سورة المؤمنون آية : ٧٠] ، أي : بالعجز ، ويجوز أن يكون اسلم عنى بالصدق ، ويجوز أن يكون الحق هاهنا خلاف الباطل ؛ لأنه قال : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [سورة النور آية : ٧٠] ، على حسب ما تقول : الحق مر.

١٨٦

الخامس : الصدق ، قال الله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) [سورة النساء آية : ١٢٢ ، يونس : ٤ ، لقمان : ٩] أي : صدقا ، وقال : (قَوْلُهُ الْحَقُ) [سورة الأنعام آية : ٧٣] ، يعني : الصدق.

السادس : حق بمعنى وجب ، قال الله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) [سورة السجدة آية : ١٣] ، أي : وجب ، : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [سورة غافر آية : ٦] ، يعني : وجبت.

السابع : الحق خلاف الباطل قال الله : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الحجر آية : ٨٥] ، أي : للحق ، يقول : ليعمل فيها بالحق دون الباطل ، وفيه دليل على بطلان قول المجبرة.

الثامن : قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [سورة الأنعام آية : ٦٢] ، أي : مولاهم على الحقيقة.

التاسع : بمعنى الدين ، قال : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] ، أي : الذي عليه الدين ، وإنما يملي الذي عليه الحق ؛ لأنه مشهود عليه وإملاؤه إقراره تشهد به عليه ، : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] أي : ليتق عذاب الله ولا ينقص مما عليه شيئا.

وفي هذا دلالة على أن القول قول المطلوب فيما يقر به ، لأن البخس النقصان ، وقد وعظه الله أن ينقص فدل علي أنه إذا بخس ، أو ذكر الزيادة أو نقص الأجل أن القول قوله فيه.

وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) [سورة البقرة آية : ٢٢٨] ، لما وعظهن الله في الكتمان ، دل على أن القول قولهن في الحمل ، : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] أي : فإن كان ضعيف العقل أو عيبا لا يستطيع الإملاء ، أملى وليه ، يعني : ولي الصغير والضعيف العقل.

١٨٧

والمراد بالإملاء لإشهاد على نفسه بما حصل على الصغير ، والضعيف العقل لولايته عليهما ؛ لأن الشهادة لا تقع إلا على العاقل ، والشاهد على أنه أراد بالإملاء الإشهاد إجماع الأمة لو أملى غيره الكتاب جاز.

العاشر : بمعنى الحظ ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) [سورة المعارج آية : ٢٤] ، أي : حظ ، وإنما جعله حقا ؛ لأنهم أوجبوه على أنفسهم ، فصار كالدين.

وأما قوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الحجر آية : ٨] ، فمعناه أنه لا ننزل الملائكة إلا بوحي أو بأجل ، وكلاهما حق ، : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [سورة الحجر آية : ٨] ، أي : لو نزل الملائكة لم يمهلوا وانقطع التوبة ، فلم يقبلوا ، والفرق بين الإنظار والإمهال أن الإنظار مقرون بمقدار ما يقع فيه النظر ، والإمهال مبهم.

١٨٨

الحساب

أصل الحساب في العربية الكفاية ، يقال : أحسبني الشيء ، أي : كفاني ، وحسبي الله ، أي : كافي الله ، وفي القرآن : (عَطاءً حِساباً)(١) [سورة النبأ آية : ٣٦] ، أي : كافيا ، : (حَسْبَكَ اللهُ) [سورة الأنفال آية : ٦٢] ، أي : هو العالم لفعلك ، ومجازاتك عليه.

وقيل : الحسيب المقتدر ، وقيل : الحسيب الكافي ، ومعناه كافي إياك الله ، وقيل : الحسيب المحاسب كما يقال للمحافظ الحفيظ ، وللمشارب الشريب ، وفي القرآن : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) [سورة الأنفال آية : ٦٤] ، أي : كافيك الله ، وسمي الحساب حسابا لأنك تكتفي به من وكيلك ومعاملك ، ولا تطلب شيئا بعده.

وهو في القرآن على عدة أوجه :

الأول : الجزاء ، قال الله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) [سورة الشعراء آية : ١١٣] ، أي : جزاؤهم ، وقال : (إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [سورة الغاشية آية :

__________________

(١) قال الرازي : قوله : (حِساباً) فيه وجوه الأول : أن يكون بمعنى كافيا مأخوذ من قولهم : أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني ، ومنه قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، أي كفاني من سؤالي ، ومنه قوله :

فلما حللت به ضمني ... فأولى جميلا وأعطى حسابا

أي أعطى ما كفى والوجه الثاني : أن قوله : حسابا مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله : (عَطاءً حِساباً) أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف ، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه ، وجه منها على عشرة أضعاف ، ووجه على سبعمائة ضعف ، ووجه على ما لا نهاية له ، كما قال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)[الزمر : ١٠] ، الوجه الثالث : وهو قول ابن قتيبة : (عَطاءً حِساباً) أي كثيرا وأحسبت فلانا أي أكثرت له ، قال الشاعر :

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع

الوجه الرابع : أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائدا على الجزء إليهم ، ثم قال : (حِساباً) ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب الوجه الخامس : أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار : (جَزاءً وِفاقاً) ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حسابا أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب ، لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير ، والله أعلم بمراده.

المسألة الرابعة : قرأ ابن قطيب : حسابا بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك ، هكذا ذكره صاحب «الكشاف». [مفاتيح الغيب : ١٦ / ٣٠٧]

١٨٩

٢٦] ، جاء في التفسير أنه أراد بهاتين الآيتين الجزاء ، وكذلك قالوا في قوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [سورة المؤمنون آية : ١١٧] ، أي : جزاؤه.

والأجود أن يفسر على الوجه المعروف ، فيقال : أراد أن عليك أن تبلغهم ، وعلينا أن نحاسبهم ، وفي هذا تهديد شديد ، وهو أيضا يرجع إلى معنى الجزاء ، لأنه إذا حاسبهم جازاهم.

الثاني : الحساب المعروف ، قال : (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [سورة الإسراء آية : ١٢] ، وأراد بالحساب هاهنا عدد الأيام والأعوام ، ومدد الأعمار والآجال والديون ، وغير ذلك مما يجري مجراه.

ولم يعن حساب الأموال وما بسبيلها ، وقال : (سَرِيعُ الْحِسابِ) [سورة البقرة آية : ٢٠٢] ، ومعنى ذلك أنه إذا أراد حسابهم لم يتعذر عليه ، وفي هذا دليل على أنه ليس بجسم ؛ لأن الجسم يتعذر عليه حساب الجماعات الكثيرة في حال واحدة.

وقيل الحساب أن تأخذ ما لك ، وتعطي ما عليك ، والله تعالى قد أحصى الأعمال ؛ فهو يجازي عليها من غير تعذر ولا إطالة.

الثالث : بمعنى الكافي ، قال الله : (عَطاءً حِساباً) [سورة النبأ آية : ٣٦] ، أي : كافيا على ما ذكرنا.

ووجه رابع : وهو قوله : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة غافر آية : ٤٠] ، قال المبرد : المراد أنه يتجاوز بهم جد ما فعلوا ، وعندنا أن هذا موضوعه للكثرة ، يقال : أعطاه بغير حساب ، أي : أعطاه كثيرا ، وذلك أن الحساب للإحاطة والحصر ؛ وكأنه قد أعطاه عطاء لا يحصر كثرة ، ومثله قوله : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة آل عمران آية : ٣٧] ، ويجوز أن يكون تفضل عليه ، بغير استحقاق ، والتفضل غير محسوب.

١٩٠

الحياة (١)

أصلها من الطراة والجدة ، ومن ثم قيل : والشمس بيضاء حية ، أي : باقية على حالها غير حائلة اللون ، وسمي الحياء حياء ؛ لأن اللون يحمر معه ، والحمرة لون الحياة ؛ وسمي الحي من القرب ؛ لأن بعضهم يجيء مع بعض ، وسميت الحية حية ؛ لأنها لا تموت حتى تقتل وإلا فهي حية أبدا تكبر إلى أن تنتهي ثم تبتدئ فتصغر حتى تنتهي ثم تكبر وكذلك أبدا إلى أن يصاب هكذا قالوا ، وأنشدوا :

داهية قد صغرت من الكبر

والحياة في القرآن على ستة أوجه :

الأول : تميز الصورة ونفخ الروح قال : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٨] ، أي : كنتم نطفا فميز صورتكم ، ونفخ فيكم الروح كذا قيل ، ويجوز عندنا أن يكون أراد أنكم كنتم نطفا أمواتا فجعلكم أحياء.

وليس في الكلام دلالة على أنه أراد تمييز الصورة ، وسمي النطف أمواتا ؛ لأن كل ما ينفصل من الإنسان سمي ميتا مثل النطفة والدم وما بسبيلهما ونحوه ، : (هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [سورة الحج آية : ٦٦] ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [سورة الروم آية : ١٩] ، قالوا : معناه يخرج الحيوان من النطفة والطائر من البيضة ، وقيل : يخرج المؤمن من

__________________

(١) (ح ي ي): (حيي) حياة فهو حيّ (وبه سمّي) جدّ جدّ الحسن بن صالح بن صالح بن مسلم بن حيّ (وبتصغيره) سمّي حييّ بن عبد الله المعافريّ (وبتأنيثه) على قلب الياء واوا حيوة بن شريح (واستحياه) تركه حيّا ومنه) (واستحيوا شرخهم) وحياة الشّمس بقاء ضوثها وبياضها وقيل بقاء حرّها وقوّتها والأوّل أظهر يدلّ عليه العرف وقول ذي الرّمّة يصف حمار وحش فلمّا استبان اللّيل والشّمس حيّة حياة الّتي تقضي حشاشة نازع ألا ترى كيف شبّه حالة الشّمس بعد ما دنت للمغيب بحال نفس شارفت أن تموت فهي كأنّها تقضي دين الحياة وتؤدّي ما عندها من وديعة الرّمق بعد أن ذكر مشافهة طلائع اللّيل ومشاهدة أوائله فأين هذه الحالة من بقاء قوّتها وحرارتها. [المغرب : الحاء مع الياء].

وقال الجرجاني : الحياة : هي صفة توجب للموصوف بها أن يعلم ويقدر.

والحياة الدنيا : هي ما يشغل العبد عن الآخرة. [التعريفات : ١ / ٣١]

١٩١

الكافر ، ويجوز أن يكون أراد أنكم كنتم ترابا فجعلكم أحياء ، والجماد قد تسمى ميتا على جهة التوسع ؛ لأنه عدم الحس والحركة.

الثاني : محي الحي بمعنى العاقل العارف ، قال الله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [سورة يس آية : ٧٠] ، ونحوه قول الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

أي : لو تنادي عاقلا ، والمراد أنه لا يستعمل عقله ، ولو لم يكن له عقل أصلا لم يكن مكلفا.

الثالث : الحي بمعنى المهتدي ، قال الله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [سورة الأنعام آية : ١٢٢] ، أي : كافرا فهديناه ونحوه قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [سورة فاطر آية : ٢٢ ،] معناه لا يستوي المؤمن ولا الكافر ، فأخرج ما لا يقع عليه الحاسة إلى ما يقع عليه الحاسة ، كما قال : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [سورة إبراهيم آية : ١٨] ، وما كان يجري هذا المجرى ، وهو أعظم في البيان ؛ لأن العيان فضلا على ما سواه.

الرابع : الحياة بمعنى البقاء ، قال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١) [سورة البقرة آية : ١٧٩] ، يعني : أن من يعرف أنه إذا قتل اقتص منه كف عن القتل فبقى.

__________________

(١) قال الرازي : اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات ، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقل القتل ، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل ، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا ، وبيان التفاوت من وجوه : أحدها : أن قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أخصر من الكل ، لأن قوله : (وَلَكُمْ) لا يدخل في هذا الباب ، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، لأن قول القائل : قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله ، وكذلك في قولهم : القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أشد اختصارا من قولهم : القتل أنفى للقتل وثانيها : أن قولهم : القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال ، وقوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ليس كذلك ، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة وثالثها : أن قولهم القتل أنفى للقتل ، فيه تكرار

١٩٢

والمراد أنه يبقى حيا فحقيقة المعنى أن لكم في القصاص بقاء حياة ونحوه ، : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) [سورة الأعراف آية : ١٤١] ، أي : يستبقونهن فتضاعف المحنة عليكم ببقاء النساء مع فناء الرجال ، واستحياه واستبقاه بمعنى واحد فاستبقاه طلب بقاءه ، واستحياه طلب حياته ، ولا يستبقيه إلا وهو يستحييه ، ولكن لفظ الاستبقاء أكثر في الاستعمال فلأجل هذا فسروا الاستحياء بالاستبقاء ، أخرجوا الأغمض إلى الأشهر.

الخامس : مثل قال الله : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [سورة المائدة آية : ٣٢] ، أي : من استنقذها من الضلال أو أغاثها من المكروه فكأنه أحيا الناس جميعا ، أي : أجره أجر من أحيا الناس جميعا وأجر من يحيي الناس جميعا يتضاعف على قدر ذلك ، ويجوز أن يكون معناه أنه قد أسدى إلى كل واحد منهم يدا بإحيائه أخاه المؤمن ؛ فكأنه أحياهم كما تقول للرجل يسدي إليك يدا قد أحييتني ، وإن كان لا يقدر على ذلك.

السادس : الحياة بعد الموت ، قال : (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ٤٩] ، وقال : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [سورة القيامة آية : ٤٠].

__________________

ـ للفظ القتل وليس قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كذلك ورابعها : أن قول القائل : القتل أنفى للقتل. لا يفيد إلا الردع عن القتل ، وقوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها : أن نفي القتل مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي ، فكان هذا أولى وسادسها : أن القتل ظلما قتل ، مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب لزيادة القتل ، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، أما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا ، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. [مفاتيح الغيب : ٣ / ٦٩]

١٩٣

حين (١)

الحين يقع على كل شيء من الأوقات قصير وطويل ، ويكون محدود أو غير محدود ، وأصله من القرب ، ومنه حان الشيء إذا قرب ، والحائن الذي قرب أجله ، والاسم الحين.

والحين في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : السنة ، قال : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [سورة إبراهيم آية : ٢٥] ، أي : كل سنة ، هذا قول بعض الفقهاء ، وإليه ذهب مقاتل.

وذهب الكوفيون إلى أن الحين هنا ستة أشهر ، وهو من أوان الطلع إلى وقت الضرام ، قالوا : فمن حلف لا يكلم فلانا حينا ، فهو ستة أشهر ، لأنه قد علم أنه لم يرد أقصر الأوقات ومعلوم أنه لم يرد أربعين سنة ؛ لأن من أراد ذلك حلف على التأييد دون التوقيت ثم كان قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [سورة إبراهيم آية : ٢٥] ، لما اختلف السلف فيه كان أقصر الأوقات فيه ستة أشهر أولها أوان الطلع وآخرها وقت الضرام ، وهو أولى من اعتبار السنة ؛ لأن وقت الثمرة لا يمتد سنة ، بل ينقطع حتى لا يكون منه شيء ، وأما الشهران فلا معنى لاعتبارهما إذ قد علم أن الزمان بين ضرام النخل ، وبين ظهور الطلع أكثر من شهرين فلما بطل اعتبار السنة واعتبار الشهرين ثبت اعتبار السنة إلا شهر.

الثاني : منتهى الآجال ، قال الله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [سورة البقرة آية : ٣٦] ، وقال : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [سورة يونس آية : ٩٨].

__________________

(١) [حين] : الحين : الهلاك ، حان يحين ، وحيّنه الله فتحيّن. والحائنة : النّازلة ذات الحين ، والجميع : الحوائن. والحين : وقت من الزّمان ، حان يحين حينونة ، ويجمع على الأحيان ؛ ثمّ على الأحايين ، وحيّنته : جعلت له حينا. والحين : يوم القيامة. والتّحيين : أن تعمل عملا في حين واحد.

وحيّن الضّيفان وأحيونا : أطعموا في اليوم واللّيلة مرّة. وحينئذ : تبعيد قولك الآن. والتّحيين : أن تحلب النّاقة في اليوم مرّة. ومتى حينة ناقتك : أي وقتها الذي تحلب فيه ، وكذلك حلابها بالرّطل. والحينة ـ بالفتح ـ الوجبة. وبلغ محيان ذاك : أي جاء حينه. والحائن : الأحمق ، وامرأة حائنة. [المحيط في اللغة : حين]

١٩٤

الثالث : قال الله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، [سورة الروم آية : ١٧] ، ثم قال : (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [سورة الروم آية : ١٨] ، يعني : ساعة غروب الشمس ، وساعة طلوعها ، وساعة الظهر ، وأراد بالتسبيح هاهنا ، وجوب الصلاة في هذه الأوقات.

الرابع : زمان غير مؤقت ، قال الله : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [سورة ص آية : ٨٨] ، وكان المراد به ما كان ببدر من الدبرة على الكفار ، فلم يؤقت في وقت الإنزال ، وقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [سورة الإنسان آية : ١].

١٩٥

الحرج (١)

أصل الحرج من الضيق ، ومكان حرج ضيق ، والحرجة الشجر الملتف.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الشك ، قال الله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [سورة النساء آية : ٦٥] أي : شكا ، وذلك أن الرجل يضيق بالشك صدرا ، والثلج هو مع العلم واليقين ، ومثله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [سورة الأعراف آية : ١] المخاطبة له والمعنى لأمتة كما قال في موضع آخر ، : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [سورة الإسراء آية : ٣٩].

وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية : ٦٥] ، وليس كل ما خاطب به النبيين والمؤمنين أرادهم به ، ألا ترى إلى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [سورة البقرة آية : ١٧٨] ، والقصاص في العمد فكأنه أثبت لهم الإيمان مع قتل العمد ، وقتل العمد يبطل الإيمان ، وإنما أراد أن يعلمهم الحكم فيمن يستوجب ذلك ، ونحوه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) [سورة الأنفال آية : ٢٧] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) [سورة آل عمران آية : ١٣٠].

الثاني : الضيق ، قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج آية : ٧٨] ، أي : من ضيق ، وقيل : من ضيق لا مخرج منه ، وذلك أنه يتخلص من الذنب بالتوبة ، فالتوبة مخرج.

__________________

(١) (ح ر ج) : حرج صدره حرجا من باب تعب ضاق وحرج الرّجل أثم وصدر حرج ضيّق ورجل حرج آثم وتحرّج الإنسان تحرّجا هذا ممّا ورد لفظه مخالفا لمعناه والمراد فعل فعلا جانب به الحرج كما يقال تحنّث إذا فعل ما يخرج به عن الحنث قال ابن الأعرابيّ للعرب أفعال تخالف معانيها ألفاظها قالوا تحرّج وتحنّث وتأثّم وتهجّد إذا ترك الهجود ومن هذا الباب ما ورد بلفظ الدّعاء ولا يراد به الدّعاء بل الحثّ والتّحريض كقوله تربت يداك وعقرى حلقى وما أشبه ذلك. [المصباح المنير : الحاء مع الراء]

١٩٦

وليس في الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقوبته ، ويحتج به فيما اختلف فيه من الحوادث ، فقيل : أن ما أدى إلى الضيق وهو منفي ، وما أوجب التوسعة فهو أولى ، وقال : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام آية : ١٢٥] ، والمعنى أنه تعالى يمنعهم الطاعة التي ينشرح مع أمثالها قلوب المؤمنين جزاء بما قدموا من الذنوب ، ودليل ذلك قوله في آخر الآية : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام آية : ١٢٥] ، فيحلهم الذنب كما تسمع.

الثالث : الإثم ، قال الله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة التوبة آية : ٩١] ، أي : إثم ، وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [سورة النور آية : ٦١] ، وإذا لم يكن عليه مع العمى إثم ، فكيف يكون مع عدم القدرة عليه الإثم والعقاب.

وقال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وعميانهم في بيوتهم ، ودفعوا إليهم المفاتيح ، وقالوا لهم : أحللنا لكم أن تأكلوا منها ؛ فكانوا يتحرجون من ذلك فنزل قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [سورة النور آية : ٦١].

وذهب أبو علي رحمه‌الله إلى أن معنى قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [سورة النور آية : ٦١] ، أنه ليس عليه ضيق في ترك القتال ، والصحيح الذي قلنا ، والدليل على ذلك قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [سورة النور آية : ٦١] ، فتلى ذكر الأكل بذكر الأكل ، وليس بالوجه أن يتلو ذكر الحرب بذكر الأكل.

١٩٧

حتى

حتى بمعنى الغاية تقارب إلى ، وهي من عوامل الأسماء خاصة ؛ فإذا وقع بعده الفعل أضمرت بينهما أن ، فتكون أن مع الفعل اسما ، كقولك : أسير حتي تمنعني ، ويرتفع بعدها الفعل أيضا ؛ وإن ارتفع فهو خبر لمحذوف ، وذلك قولك : مرض حتى تمر به الطائر فترحمه ، كأنه قال : حتى أنه هذه حالة ، ويكون أيضا بمعنى كم فينصب ، كقولك : أطع الله حتى يدخلك الجنة ، ويرتفع الفعل بعده ، فيقول : سرت حتى أدخلها ؛ أي : كان مني سير فدخول ، أي : أنا في حالة دخول اتصل به سير ونحوه ، فإن المبدئ رحلة فركوب.

ولها في الرفع موضع آخر ، وهو قولك مرض حتى لا يرجونه ، أي : هو الآن كذلك ، ويقع الاسم بعدها مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ، تقول : ضربت القوم حتى زيد وقدم القوم حتى المشاة ، وأكلت السمكة حتى رأسها ، وينشد :

ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله

والزّاد حتّى نعله ألقاها

نصبوا نعله وخفضوها ورفعوها فمن نصب جعلها بمنزلة الواو على قولك : ضربت زيدا وعمرا كلمته.

ومن رفع فعلى قولك : ضربت زيدا وعمرو كلمته ، ومن خفضها فعلى قولك : غاية بمنزلة ، أي : إلى أن أنتهي إلى نعله.

وكذلك القول في أكلت السمكة حتى رأسها ، ورأسها ، ورأسها ، والكلام فيه يطول.

وحتى في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى إلى ، قال تعالى : (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) [سورة الذاريات آية : ٤٣] ، أي : إلى حين ، وقال : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) [سورة المؤمنون آية : ٥٤] أي : إلى حين ، وقال : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر آية : ٥].

الثاني : بمعنى فلما ، وذلك إذا وقعت مع إذا ، قال تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) [سورة يوسف آية : ١١٠] ، وقال : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) [سورة

١٩٨

الانبياء آية : ٩٦] ، وقال : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) [سورة المؤمنون آية : ٦٤] ، وقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [سورة هود آية : ٤٠].

الثالث : بمعنى إلى أن ، قال تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) [سورة التوبة آية : ٢٩] ، كذا جاء عن أهل التفسير فينبغي أن يحمل هذه الوجوه على الأصول التي ذكرناها في أول الباب ؛ فيصح.

١٩٩

الحرام (١)

أصله المنع ، ومنه حرمته عطاءه حرمانا أي : منعته إياه وحريم الرجل ما يجب عليه منعه وكذلك حرمته ، وهو ذو رحم محرم ؛ لأنه منع عن نكاحها بالنهي والشهر الحرام الممنوع فيه عن سفك الدماء ، والبلد الحرام قربت من ذلك.

وجاء في القرآن على وجهين :

الأول : المنع بالنهي ، وهو قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [سورة المائدة آية : ٣] ، وهي ما قد مات من غير تذكية مما شرط علينا التذكية وإباحته ، والدم يعني : المسفوح لأن الكبد والطحال مباحان بالإجماع ، ولحم الخنزير ، وذكر اللحم وأراد جميع أجزائه من شحم وعظم ، وغير ذلك ، لأن اللحم معظمه ، وإذا ذكره فقد دخل فيه غيره ، : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [سورة المائدة آية : ٣] ، وهذا يوجب أن ترك التسمية عليه يقتضي تحريمه ؛ لأنه لا فرق بين التسمية عليه وبين تسمية زيد عليه.

الثاني : عدم الإمكان وهو قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [سورة المائدة آية : ٢٦] ، ودليل هذا قوله : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة المائدة آية : ٢٦] ، ونظيره قول الشاعر :

إنّي امرؤ صرعي عليك حرام

يخاطب فرسه أي : لا يمكنك صرعي إني جيد الفروسية.

__________________

(١) (ح ر م) : حرم الشّيء بالضّمّ حرما وحرما مثل : عسر وعسر امتنع فعله وزاد ابن القوطيّة حرمة بضمّ الحاء وكسرها وحرمت الصّلاة من بابي قرب وتعب حراما وحرما امتنع فعلها أيضا وحرّمت الشّيء تحريما وباسم المفعول سمّي الشّهر الأوّل من السّنة وأدخلوا عليه الألف واللّام لمحا للصّفة في الأصل وجعلوه علما بهما مثل : النّجم والدّبران ونحوهما ولا يجوز دخولهما على غيره من الشّهور عند قوم وعند قوم يجوز على صفر وشوّال وجمع المحرّم محرّمات وسمع أحرمته بمعنى حرمته والممنوع يسمّى حراما تسمية بالمصدر وبه سمّي ومنه أمّ حرام وقد يقصر فيقال حرم مثل : زمان وزمن والحرم وزان حمل لغة في الحرام أيضا. [المصباح المنير : الحاء مع الراء]

٢٠٠