تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الغيب

أصل الغيب الستر ، وغيبت الشيء في التراب ؛ إذا سترته فيه ، والغيب : ما استتر عنك ، وأصله ما سترك من قولك : نحن في غيب هذا الوادي ؛ أي : حيث يستتر به ، وكل ما ستر شيئا فهو غيابة ، ومنه غيابة الجب.

والغيب في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الخلوة ؛ قال الله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(١) [سورة البقرة آية : ٣] يعني : أنهم يخلصون العمل في خلواتهم خلاف المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، وقيل :

__________________

(١) قال الرازي : في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قولان : الأول : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : (بِالْغَيْبِ) صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)[يوسف : ٥٢] ويقول الرجل لغيره : نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب ، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقا لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائبا عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سببا لاستحقاق الثناء العظيم. واحتج أبو مسلم على قوله بأمور : الأول : أن قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة : ٤] إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وأنه غير جائز : الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)[الأنعام : ٥٩] أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث : لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته ، فقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته ، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة ، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.

والجواب عن الأول : أن قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من

٣٦١

هو البعث ، والأول أجود عندي ؛ لأن البعث ليس يعيب مع شهرة أمره ومع ما يدل عليه من العقل والسمع.

الثاني : ما غاب عن الأبصار ؛ قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : ما غاب وما حضر.

الثالث : الوحي ؛ قال الله : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [سورة التكوير آية : ٢٤] أي : ما هو على الوحي بمتهم ، والظنين المظنون ، وظننت في هذا يتعدى إلى مفعول واحد ، ظننته أي : أتهمته.

__________________

ـ باب عطف التفصيل على الجملة ، وهو جائز كما في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)[البقرة : ٩٨] وعن الثاني : أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا ، فكان ذلك التخصيص لازما على الوجهين جميعا. فإن قيل أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره ، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، ويفيد الكلام فلا يلتبس ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث : لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور ، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد. ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم. [مفاتيح الغيب : ١ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦].

٣٦٢

الباب العشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله فاء

الفساد (١)

قد تقدم من قولنا فيه ما يكفي ، وهو في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : الميل مع الكفار ؛ قال الله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [سورة البقرة آية : ١١] وذلك أن المنافقين كانوا يمالون الكفار فيجترئون على المسلمين ويطمعون في النيل منهم والغلبة عليهم ، ويسرعون إلى محاربتهم ؛ وفي ذلك الفساد في الأرض ؛ لأن الحرب مفسدة للمال ومهلكة للنفس.

الثاني : الهلاك ؛ قال الله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [سورة المؤمنون آية : ٧١] والدليل على أنه أراد الهلاك قوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) قال بعض المفسرين : الحق هو الله تعالى ؛ أي : لو اتبع الله أهوائهم.

وقيل : هو القرآن ؛ أي : لو لا أنزل القرآن بما يريدون ، وليس يصح تفسيرا لأنه على هذه الآية على هذين الوجهين.

والصواب ما قال أبو علي رضي الله عنه : وهو أنه لو صح ما يدين به الكفار من جعلهم الأصنام آلهة مع الله لتفاوتت أفعالهم ، ولتمانعوا ففسدت السماوات والأرض ومن فيهن من الملائكة والإنس والجن ، وهذا مثل قوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة المؤمنون آية : ٩١] ، ومعنى : (لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) [سورة

__________________

(١) (ف س د) : فسد الشّيء فسودا من باب قعد فهو فاسد والجمع فسدى والاسم الفساد واعلم أنّ الفساد للحيوان أسرع منه إلى النّبات وإلى النّبات أسرع منه إلى الجماد لأنّ الرّطوبة في الحيوان أكثر من الرّطوبة في النّبات وقد يعرض للطّبيعة عارض فتعجز الحرارة بسببه عن جريانها في المجاري الطّبيعيّة الدّافعة لعوارض العفونة فتكون العفونة بالحيوان أشدّ تشبّثا منها بالنّبات فيسرع إليه الفساد فهذه هي الحكمة الّتي قال الفقهاء لأجلها ويقدّم ما يتسارع إليه الفساد فيبدأ ببيع الحيوان ويتعدّى بالهمزة والتّضعيف والمفسدة خلاف المصلحة والجمع المفاسد. [المصباح المنير : ٧ / ١٩٣].

٣٦٣

المومنون آية : ٧١] أنه لو وافق الحق أهوائهم ولعبادة هذه الأصنام ؛ فجعل موافقة الحق أهوائهم إتباعا من الحق لهواهم على سبيل المجاز ، وقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء آية : ٢٢] أي : لهلكنا ولم نقوم ، ومن هذه الآية أخذ المتكلمون دليل التمانع ، ومن قوله : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة المؤمنون آية : ٩١].

الثالث : القحط ، قال الله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم آية : ٤١] أي : قد كسبوا الذنوب فعجل لهم العقوبة بالقحط ، ودليل ذلك قوله : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [سورة الروم آية : ٤١] أي : لكي يتذكروا فيتوبوا ، ولعلا هاهنا بمعنى لام كي ، وفي هذا دليل على أن بعض ما يحمل الله العبد من المكاره تنبيه وبعضه عقوبة.

الرابع : ضد الصلاح ؛ قال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [سورة البقرة آية : ٢٠٥] ، وقال تعالى : (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) [سورة النمل آية : ٣٤] ، وقال : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [سورة الأعراف آية : ٥٦ ، ٨٥].

الخامس : قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة يونس آية : ٨١] يعني : السحرة ، وقال بعضهم : الفساد في قوله : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة الكهف آية : ٩٤] القتل ، وكذلك في قوله : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [سورة الأعراف آية : ١٢٧] ولا أعرف صحة ذلك ، وعندنا أن الفساد في هذا الموضع ضد الصلاح والقتل داخل في ذلك.

٣٦٤

الفرقان

الفرقان مصدر ، مثل : السكران ، والكفران ، والعدوان ، ثم جعل اسما للقرآن ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وفرقت بين الحق والباطل ، وبين الحسن والقبيح بالتخفيف ، وفرقت بين الشخصين بالتشديد.

وأصل الكلمة البعد ، ومنه قيل : لتباعد ما بين الثنيتين ، وتباعد ما بين الفخذين فرق. ورجل أفرق وامرأة فرقاء ، ومنه الفرقة بين الحينين ، والعرب تقول : أسرع من فريق الخيل يعنون السابق ؛ لأنه يفارق جماعتها ، والفريق من الناس الجماعة لمفارقة لغيرها.

والفرقان في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : النصرة ؛ قال الله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ)(١) [سورة البقرة آية : ٥٣] جاء في التفسير أنه أراد النصرة على أعدائه ، وذلك أنه نصره على أعدائه إذا أبعدهم الله بالإهلاك ، ومثله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [سورة الأنفال آية : ٤١] أي : يوم نصرناه ؛ يعني : يوم بدر هكذا جاء في التفسير.

ويحتمل أن يكون معنى الفرقان هاهنا ؛ الفرق بين الحق والباطل ؛ لأن الحق والباطل قد فرق بينهما يوم بدر بأن علا هذا أو سفل ذا ، وقيل : جعله يوم الفرقان ؛ لأنه فرق فيه بين المؤمنين والكافرين ، قال الله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [سورة الأنفال آية : ٤١] أي : إن كنتم صدقتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا يوم بدر من هذا الحكم ، وهو أن حسن الذي تغنمونه هو لله يجعله في الوجه الذي يريد.

والوجه الذي يريد أن يجعله فيه ؛ هو أن يكون للرسول والفقراء من بني هاشم وبني المطلب ، وجعل ذلك لهم بدلا من الصدقات المحرمة عليهم ، والفقراء اليتامى ، والمنقطع به من المسافرين ؛ وهو ابن السبيل ، فجرى الأمر على ذلك حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب" الكتاب" : التوراة ، وب" الفرقان" : الفصل بين الحق والباطل ، كما حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ ، قال : فرق به بين الحق والباطل. [جامع البيان : ٢ / ١٧٠].

٣٦٥

ثم اجتمع الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على أن يجعل بينهم الرسول في السلاح والكراع ، ويصرف الباقي إلى من سمي له في الآية ، وقيل : (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) أي : الكتاب الذي فيه الفرقان ، وقيل : معناه إنا آتينا موسى الكتاب وهو التوراة ، ومحمدا الفرقان ؛ فاكتفى بذكر الفرقان عن ذكر محمد ؛ لأنه معلوم أن الفرقان نزل عليهم.

وقال بعضهم : الكتاب التوراة ، والفرقان ؛ انفراق البحر ، وقال آخر : الفرقان ؛ بيان الحلال والحرام الذي في التوراة ، وقيل : الفرقان الموضع الذي فرق فيه بين موسى وبين فرعون ، كما سمي يوم بدر الفرقان.

الثاني : البينة في الدين ؛ قال تعالى : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [سورة البقرة آية : ١٨٥] يعني : البينة في الدين وإخراجا من الشبهة والضلالة ، وقال : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [سورة الأنفال آية : ٢٩].

الثالث : القرآن ؛ قال الله تعالى : (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [سورة الفرقان آية : ١] ، وقال : (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [سورة آل عمران آية : ٤] يعني : القرآن.

٣٦٦

الفرض (١)

أصل الفرض من التأثير ، ومنه الفرض في العود وهو الحرفية ، وفرضة النهر ترجع إلى ذلك ، وهو في الشريعة بمعنى الإلزام ، وهو قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [سورة البقرة آية : ١٩٧] أي : ألزم نفسه.

وفرض الله على الناس الفريضة ؛ أي : ألزمهم القيام بها ، والفرق بين الفرض والواجب في اللغة ؛ أن الفرض الذي له تأثير وأصله من الجزء ، وليس للواجب تأثير لأنه من السقوط ، يقال : وجب الحائط ؛ إذا سقط ، وفي القرآن : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [سورة الحج آية : ٣٦] أي : سقطت ، وللفرض في مكانه تأثير ، وليس للواجب في مكانه تأثير.

فمن يجعل الفرض أوكد من الواجب يذهب إلى هذا المعنى ، وقوم يجعلونها سواء لأن قولك أوجبت وفرضت ؛ بمعنى ألزمت ، والفرق بينهما عند بعض الفقهاء بين أيضا ، وذلك أن سجدة التلاوة عنده واجبة وليس بفرض ، وكذلك الوتر ، والفرض أيضا لا يكون من الله ، والواجب يكون منه ومن العبد ، تقول : أوجب السلطان على رعيته كذا ، ولا يقال : فرض.

__________________

(١) (ف ر ض) : فرضة القوس موضع حزّها للوتر والجمع فرض وفراض مثل برمة وبرم وبرام والفرضة في الحائط ونحوه كالفرجة وجمعها فرض وفرضة النّهر الثّلمة الّتي ينحدر منها الماء وتصعد منها السّفن وفرضت الخشبة فرضا من باب ضرب حززتها وفرض القاضي النّفقة فرضا أيضا قدّرها وحكم بها والفريضة فعيلة بمعنى مفعولة والجمع فرائض قيل اشتقاقها من الفرض الّذي هو التّقدير لأنّ الفرائض مقدّرات وقيل من فرض القوس وقد اشتهر على ألسنة النّاس تعلّموا الفرائض وعلّموها النّاس فإنّها نصف العلم بتأنيث الضّمير وإعادته إلى الفرائض لأنّها جمع مؤنّث ونقل وعلّموه فإنّه نصف العلم بالتّذكير بإعادته على محذوف تنبيها على حذفه والتّقدير تعلّموا علم الفرائض ومثله في التّنزيل وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ والأصل كم من أهل قرية فأعاد الضّمير في قوله أهلكناها على المضاف إليه.

وفي قوله (هُمْ قائِلُونَ) على المضاف المحذوف قيل سمّاه نصف العلم باعتبار قسمة الأحكام إلى متعلّق بالحيّ وإلى متعلّق بالميّت وقيل توسّعا والمراد الحثّ عليه كما في قوله «الحج عرفة» وفرض الله الأحكام فرضا أوجبها فالفرض المفروض جمعه فروض مثل فلس وفلوس والفرض جنس من التّمر بعمان. [المصباح المنير : الفاء مع الراء].

٣٦٧

فأما قولهم : فرض القاضي عليه فإن معناه ؛ أوجب عليه ما فرض لله لأن القاضي لا يفرض في الحقيقة ، فأما قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [سورة البقرة آية : ١٩٧] فهو بمعنى ألزم ، فوضع حرفا مكان حرف لتقاربهما في المعنى ، وكذلك فرض القاضي.

والفرض في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : الإلزام ؛ قال الله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) ، وقال : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) [سورة الأحزاب آية : ٥٠] يعني : المهور ، وأن لا يتجاوز الرجل تزوج أربع نسوة ، وقيل : الفرض هاهنا الإباحة ؛ أي : أبحنا لهم تزوج أربع نسوة وما ملكت أيمانهم ؛ أي : وإن اتخذوا من الإماء والسرارى ما يريدون ، وقال في آية الصدقات بعد أن عدد أهلها : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [سورة النساء آية : ١١ ، التوبة : ٦٠] ، وقيل : للصلاة المكتوبة فريضة ولسهام الميراث فرائض لذلك.

الثاني : بمعنى التبيين ؛ قال الله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [سورة التحريم آية : ٢] أي : بين لكم كيف يكفرون عن إيمانكم إذا حلفتم ، ومثله قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [سورة النور آية : ١] أي : بيناها وفضلناها ، وقيل : معنى : (فَرَضْناها) التخفيف ؛ إنا أنزلنا العمل بما فرض فيها ، ومن شدد أراد التكثير ؛ أي : فرضنا فيها فروضا.

الثالث : فرض بمعنى أحل ؛ قال الله : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) [سورة الأحزاب آية : ٣٨] يعني : فيما أحل له ، ويجوز أن يكون معناه أنه أوجب عليك العمل به.

الرابع : بمعنى أنزل ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [سورة القصص آية : ٨٥] ، أي : أنزل ، ويجوز أن يكون معناه أنه أوجب عليك العمل به

الخامس : الفريضة بعينها وهي الخصلة يلزم فعلها ؛ قال تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [سورة النساء آية : ١١ ، التوبة : ٦٠] والفريضة المهر أيضا في قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [سورة البقرة آية : ٢٣٥] الآية.

٣٦٨

والمراد أن من تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها من غير أن يدخل بها ؛ فالواجب لها عليه أن يمتعها على قدر حاله في الغنى والفقر.

قال الكوفيون : أول المتعة ثلاثة أبواب ؛ إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف مهر مثلها ، والتمتيع في هذه الآية التزويد ، وفي غيرها التلذذ ، ومنه نكاح المتعة ، وقال ابن أبي ليلى ، وأبو علي : المتعة ليست بواجبة.

وقوله تعالى : (مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة آية : ٢٤١] يدل على خلاف ما قالا ؛ لأنه جعل المتعة في شرط التقوى ، وقال : (حَقًّا) وليس في الإيجاب أوكد من هذا ، وعلى كل واحد أن يكون من المتقين ؛ فإن قيل : إنما خص المتقين بالذكر لأنها غير واجبة ، قلنا : الظاهر يقتضي وجوبها على المتقين ، وإذا وجبت عليهم وجبت على غيرهم ؛ لأن أحدا لا يفرق بين المتقي وغير المتقي في الفروض ، ولا يجوز أن يكون ندبا ؛ لأن الندب لا يختلف فيه المتقي وغيره.

٣٦٩

الفاحشة (١)

أصلها المبالغة في القبح ، ومنه قيل : أفحش الرجل ، وفحش في الكلام إذا أقذع ، والاسم الفحش ، وربما جعل الفحشاء الفجور.

والفاحشة في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : ما حرم أهل الشرك في الجاهلية ؛ قال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) [سورة الأعراف آية : ٢٨] يعني : سنن الغي التي سنها لهم آباؤهم من البحيرة والسائبة وما يجري مجراها.

الثاني : الزنا ؛ قال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) [سورة النساء آية : ١٥] ، وقال : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [سورة الأحزاب آية : ٣٠] يعني : الزنا ، وقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [سورة الأعراف آية : ٣٣] أراد الزنا ، وذلك أن العرب كانت تحل الزنا باطنا وتحرمه ظاهرا ؛ فأخبر الله أن جميعه حرام ، وقد مر ذلك قبل.

الثالث : إتيان الرجال في أدبارهم ؛ قال : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة العنكبوت آية : ٢٨].

الرابع : على قول بعض أهل التفسير : النشوز ؛ قال الله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء آية : ١٩ ، الطلاق : ١] قال : هي النشوز ، وعندنا أنه الزنا وما يجري مجراه من قبح المعاصي ؛ لأنه لا تكاد العرب تسمي بالفاحشة إلا كل ذنب شديد القبح لازم العار ، وليس النشوز مما يجري عليه اسم الفاحشة ، وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة

__________________

(١) (ف ح ش): (أفحش في الكلام) جاء بالفحش وهو السّيّئ من القول وفحّش مثله (ومنه) ما في المنتقى ثمّ فحشنا عليه أي أوردنا على أبي يوسف ما فيه غبن فاحش أو ذكرنا ما يقبح في العادة كشري مثل دار بني حريث بدرهم (ورجل فاحش وفحّاش) سيّئ الكلام (وأمر فاحش) قبيح قالوا (والفاحشة) ما جاوز حدّه في القبح وعن اللّيث كلّ أمر لم يكن موافقا للحقّ وقيل في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) إلّا أن يزنين فيخرجن للحدّ وعن إبراهيم إلّا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج لغير الإذن. [المغرب : الفاء مع الحاء].

٣٧٠

فاحشة ، وقيل : هو أن تتبدى على أهله فيحل لهم إخراجها قبل انقضاء العدة ، وذلك فاحشة منها ، وقيل : أن تزني فتخرج للحد أو فتأتي بمعصية كثيرة لا يحل مقاربها معها فتخرج.

والفاحشة والفحشاء سواء ، والشاهد قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) [سورة الأعراف آية : ٢٨] إلى أن قال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [سورة الأعراف آية : ٢٨] ولا يقال في تذكير الفحشاء : أفحش ، ونحوه ديمة هطلاء ، ولا يقال : ومطر أهطل.

وقيل : الاستثناء في هذه الآية من العضل ؛ أي : من أتت منهن بفاحشة مبينة ، وهو الزنا فلكم حبسها على ما فرض قبل نزول الحد.

وقيل : الاستثناء من الذهاب ببعض ما آتوهن ومن العضل جميعا ، ومعروف أنه لم يصح ظلمهن ؛ بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ولكن عنى ما يدخل عليها الزوج من المساءة والأذى بالحق والعدل إذا أرادت الخلع ؛ وهو أن يأخذ منها بعض ما آتاها على الخلع والمباراة ؛ لأن الظلم حينئذ جاء من قبلها ، والعضل هو الحبس والضيق.

٣٧١

الفرار (١)

أصله من الخفة والسرعة ، ومنه قيل : رجل فرفار إذا كان خفيفا كثير الكلام ، والفرفار : شجر يتخذ منه القصاص خفيف الوزن ، والفرير والفرار ولد البقرة الوحشية سمي بذلك لخفته وسرعته ، وفررت الدابة ؛ إذا فتحت فاه لتعرف سنه ؛ لأنك إذا فتحت فاه وقفت على سنه بسرعة من غير تعذر.

والفرار في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : التوبة ؛ قال الله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [سورة الذاريات آية : ٥٠] أي : توبوا إليه ولا تعدلوا عن سبيله ، وإنما عبر عن هذا المعنى بالفرار ؛ لأن من يفر إلى الإسلام لا يعرج إلى غيره.

الثاني : الهرب ؛ قال الله : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) [سورة الأحزاب آية : ١٦].

الثالث : الكراهة ؛ قال : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [سورة الجمعة آية : ٨] أي : تكرهونه.

الرابع : ترك التعرج ؛ قال الله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [سورة عبس آية : ٣٤ ، ٣٥] أي : لشغله بنفسه لا يعرج على أخيه.

الخامس : التباعد ؛ قال الله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [سورة نوح آية : ٦] أي : تباعد مني ومما أدعوهم إليه.

__________________

(١) قال الشوكاني : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : قل لهم يا محمد : ففرّوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي ، وجملة : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تعليل للأمر بالفرار ، وقيل : معنى (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) اخرجوا من مكة. وقال الحسين بن الفضل : احترزوا من كل شيء غير الله ، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه. وقيل : فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن ، وقيل : فرّوا من الجهل إلى العلم. [فتح القدير : ٧ / ٥٠].

٣٧٢

في

موضوعة في العربية الأوعية ، تقول : زيد في البيت ، والمال في الكيس ، وإنما يراد أن البيت قد حواه ، وأن الكيس قد اشتمل عليه ، ثم اتسع القول فيه ، فقيل : فلان ينظر في العلم ؛ فجعلوا العلم بمنزلة متضمن ، كما قيل : دخل عمرو في العلم وفي الصلاة ، وقالوا : في يد فلان الضيعة ؛ وإنما قيل هذا لأن ما أحاط به علمه بمنزلة ما أحاطت به يده.

وهو في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى مع ؛ قال تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة الأعراف آية : ٣٨] ، وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [سورة الأحقاف آية : ١٨] ، وقال : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [سورة النمل آية : ١٩] ، وقال : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [سورة العنكبوت آية : ٩] هذا قول بعض المفسرين.

وآخرون يقولون : أن قوله : (فِي أُمَمٍ) أي : في جملة أمم وفي جملة عبادك ، هكذا جميع ما تقدم ، وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ) [سورة النمل آية : ١٢] قال : مع تسع ، وقيل : في من صلة قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) [سورة النمل آية : ١٠] : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [سورة النمل آية : ١٢] والتأويل : وأظهر هاتين الآيتين في تسع آيات ؛ والمعنى من تسع آيات. وعندنا أن قوله : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) [سورة الأحقاف آية : ١٦] إخبار بأنه يفعل بأهل الجنة هذا الفعل ، وهؤلاء المذكورون في جملتهم ، كما تقول : أحبك وأكرمك في أهل السمع والطاعة ، وكذلك قوله : (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة فصلت آية : ٢٥ ، الأحقاف آية : ١٨].

الثاني : بمعنى على ؛ قال الله : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه آية : ٧١] وجاز أن يقع في هاهنا ؛ لأنه يكون في الجذع على جهة الطول ، والجذع مشتمل عليه فقد صار فيه ، وقال الشاعر :

هم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطشت شيبان إلّا بأجدعا

٣٧٣

الثالث : على قول بعض المفسرين بمعنى إلى ؛ قال : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [سورة النساء آية : ٩٧] قال : أراد أرض المدينة ، و : (فِيها) بمعنى إليها ، ويجوز أن يكون المعنى فسيروا فيها مهاجرين لمن يريد إذائكم في الدين حتى تصلوا إلى حيث تتمكنون من عبادة ربكم.

الرابع : بمعنى من ؛ وهو في قوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [سورة النحل آية : ٨٩] أي : من كل أمة ، كذا قيل : وإذا بعثه أشهد عليهم فينبغي أن تكون فيما بينهم ومخالطا لهم ، وإذا كان كذلك فإنه فيهم ؛ أي : في جماعتهم.

الخامس : فينا بمعنى لنا ؛ قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) [سورة العنكبوت آية : ٦٩] ذكروا أنه أراد عملوا لنا ، وقد تقدم هذا قبل ، ويجوز أن يكون فينا أي : من أجلنا ؛ يريد من أجل ديننا وأوليائنا ، كما نقول : أنا أوالي فيك وأعادي فيك ؛ أي : من أجلك.

٣٧٤

الفتح (١)

أصله الكشف والتبيين ، يقال : فتح لي فلان القول في هذا الباب ؛ أي : بين ، والفتوح : الإمطار ؛ لأنها تكشف القحط ، والفتح : الحكم ، والفاتح الحاكم ؛ قال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [سورة الأعراف آية : ٨٩] ، وفتح الباب وفتح البلد يكون بحرب وبغير حرب ، وإنما الفتح للظفر بالمكان ؛ فإذا ظفر به فقد فتحه حارب عليه أو لم يحارب.

وهو في القرآن على ثمانية أوجه :

الأول : القضاء ؛ قال الله : (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) [سورة سبأ آية : ٢٦] ، وقال : (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [سورة الأعراف آية : ة ٨٩] ، وقال : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) [سورة السجدة آية : ٢٩] أي : يوم القضاء ؛ وهو دعاء لإنزال العذاب بهم لأن ذلك حق ؛ فكأنهم قالوا : أنزل بهم ذلك ليفصل بيننا وبينهم ، والقضاء والحكم إنما هو للفصل ، ويجوز أن يكون المعنى أن اكشف أمرنا حتى ينفتح ويظهر أن الحق معنا.

الثاني : الهداية إلى الإسلام ؛ قال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [سورة الفتح آية : ١] ، وقيل عني : فتح الحد بينه ، والحد بينه بئر فسمي المكان بها ، وقيل : هو فتح مكة وليس ذلك بالوجه ؛ لقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح آية : ٢] وذلك

__________________

(١) (ف ت ح) : فتحت الباب فتحا خلاف أغلقته وفتحته فانفتح فرجته فانفرج وباب مفتوح خلاف المردود والمقفل وفتحت القناة فتحا فجرتها ليجري الماء فيسقي الزّرع وفتح الحاكم بين النّاس فتحا قضى فهو فاتح وفتّاح مبالغة وفتح السّلطان البلاد غلب عليها وتملّكها قهرا وفتح الله على نبيّه نصره واستفتحت استنصرت وفتح المأموم على إمامه قرأ ما أرتج على الإمام ليعرفه وفاتحة الكتاب سمّيت بذلك لأنّه يفتتح بها القراءة في الصّلاة وافتتحته بكذا ابتدأته به والفتحة في الشّيء الفرجة والجمع فتح مثل غرفة وغرف وباب فتح بضمّتين مفتوح واسع وقارورة فتح بضمّتين أيضا ليس لها غلاف ولا صمام والمفتاح الّذي يفتح به المغلاق والمفتح مثله وكأنّه مقصور منه وجمع الأوّل مفاتيح وجمع الثّاني مفاتح بغير ياء وقوله عليه الصّلاة والسّلام «مفتاحها الطهور» استعارة لطيفة وذلك أنّ الحدث لمّا منع من الصّلاة شبّهه بالغلق المانع من الدّخول إلى الدّار ونحوها والطّهور لمّا رفع الحدث المانع وكان سبب الإقدام على الصّلاة شبّهه بالمفتاح. [المصباح المنير : الفاء مع التاء].

٣٧٥

أنه لا يحسن أن يقول : فتحت لك هذا المكان لأغفر لك ذنبك ، وقيل : أنه فتح له الحجج والإبانة فتحا بينا إن الذي تدعوا إليه الحق ، وقيل : الفتح المبين ؛ الهداية إلى الإسلام ؛ وهذا هو الوجه.

الثالث : التخصيص ؛ قال تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [سورة فاطر آية : ٢] يعني : ما يخصهم به من رزق.

الرابع : التخلية ؛ قال الله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) [سورة الأنبياء آية : ٩٦].

الخامس : البعث ؛ قال الله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) [سورة المؤمنون آية : ٧٧] أي : بعثنا عليهم عذابا ، ولما ذكر الباب ذكر الفتح ، قال أبو علي رحمه‌الله : أراد عذاب الآخرة ؛ أي : حتى أدخلناهم جهنم إذا هم مبلسون ؛ أي : آيسون والإبلاس اليأس.

السادس : فتح الباب ؛ قال الله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [سورة الزمر آية : ٧٣] والتشديد للتكثير ، يقال : أبواب مفتحة ، ولا يقال : مفتوحة في الأكثر ، وروى لنا أبو أحمد ؛ أنه لما قال الفرزدق :

ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها

عابه الناس ، وقالوا : يقال في التكثير : فتحت وغلقت ، وغيره من أهل العربية قال : فعلت في التكثير والتقليل ، وفعلت بالتشديد لا يكون إلا في التكثير إلا في أحرف منها كلمته.

السابع : النصر ؛ قال تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) [سورة المائدة آية : ٥٢].

الثامن : الظفر بالمكان ؛ قال : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [سورة الصف آية : ١٣] يقول : يفتح لكم ما توجهتم اليد إليه من البلدان وذلك قريب ، وقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [سورة النصر آية : ١] قال بعضهم : يعني : فتح مكة وكان فتح مكة سنة ثمان ، ونزلت هذه سنة عشر بعد حجة الوداع ، وقيل : المراد أنه يفتح لك الأمم والبلدان.

٣٧٦

فوق (١)

أصله من العلو ، يقال : فاق الشيء غيره ؛ إذا علاه ، وهو فائق.

وله في القرآن ثمانية مواضع :

الأول : بمعنى دون ؛ قال بعض المفسرين : (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [سورة البقرة آية : ٢٦] قالوا : فما دونها ؛ كأنه قال : فما فوقها في الصغر.

وقال المبرد : (فَما فَوْقَها) أي : فما يتجاوزها ؛ فحق هذا أن ينظر إلى الغاية المطلوبة فيجعل فوق من ناحيتها. فإذا قيل : فلان فوق فلان في اللوم ؛ فمعناه أنه يتجاوزه فيه ، فالمطلوب هاهنا الصغير ؛ وكأنه قال : بعوضة فما يتجاوزها صغرا.

__________________

(١) (ف وق): (فوق) من ظروف المكان نقيض تحت يقال زيد فوق السّطح والعمامة فوق الرّأس وعليه قوله تعالى (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) وقد استعير بمعنى الزّيادة فقيل هذا فوق ذلك أي زائد عليه والعشرة فوق التّسعة (ومنه) (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي فما زاد عليها في الصّغر أو الكبر (وعليه) قوله عزوجل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) وهي في كلتا الآيتين في موضعها ولم يذكر أحد من المحقّقين أنّها صلة ومن المشتقّ منها (فاق النّاس) إذا فضلهم (وهو فائق في العلم والغنى) وقسم غنائم خيبر عن (فواق) أي صادرا عن سرعة يعني قسّمها سريعا وتمام التّحقيق في المعرب. [المغرب : الفاء مع الواو].

وعند ابن فارس (ف وق) : الفاء والواو والقاف أصلان صحيحان ، يدلّ أحدهما على علوّ ، والآخر على أوبة ورجوع.

فالأوّل الفوق ، وهو العلوّ. ويقال : فلان فاق أصحابه يفوقهم ، إذا علاهم وأمر فائق ، أي مرتفع عال.

وأمّا الآخر ففواق النّاقة ، وهو رجوع اللّبن في ضرعها بعد الحلب. تقول : ما أقام عنده إلّا فواق ناقة. واسم المجتمع من الدّرّ : فيقة ، والأصل فيه الواو. قال الأعشى :

حتّى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت

جاءت لترضع شقّ النفس لو رضعا

وفي بعض الحديث في ذكر القرآن : " أتفوّقه تفوّق اللّقوح" معناه لا أقرأ جزئي مرّة واحدة لكن شيئا بعد شيء. شبّهه بفواق الدّرّة. يقال فواق وفواق قال الله تعالى : (ما لَها مِنْ فَواقٍ)[ص ١٥] ، أي ما لها من رجوع ولا مثنويّة ولا ارتداد. وقال غيره : ما لها من نظرة. والمعنيان قريبان. ويقولون : أفاق السّكران يفيق ، وذلك من أوبة عقله إليه. والأفاويق : ما اجتمع من الماء في السّحاب.

ومن الباب الفوق : فوق السّهم ، وسمّي لأنّ الوتر يجعل كأنّه قد ردّ فيه ، والجمع أفواق. ويقولون : فقىّ ، وهو مقلوب. ويقال سهم أفوق ، إذا انكسر فوقه.

وممّا شذّ عن هذين الأصلين قولهم : هو يفوق بنفسه. وهذا من باب الإبدال وإنما أصله يسوق ، والفاء بدل من السين ، وذلك إذا جاد بنفسه.

٣٧٧

وقال قطرب : بل معناه أكبر منها ؛ وهو الذباب وما يجري مجراه ، ولا يقال : هذا حمار وفوق الحمار ، أو نملة فوق النملة ؛ بمعنى أصغر من ذلك ، وإنما يكون ذلك في الصفات ، يقال : هذا صغير وفوق الصغير.

ورد آخرون ذلك ، وقالوا : قد يقال : هو حمار وفوق الحمار ، كما يقال : هو صغير وفوق الصغير ليس بين الصفة والاسم في هذا فرق.

الثاني : بمعنى أفضل ؛ قال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح آية : ١٠] والمعنى ما يفعل الله بهم من الخير ويعطيهم من الثواب أفضل مما بذلوه من البيعة يوم الحديبية.

وقيل : يد الله في الوفاء فوق أيديهم ، وقيل : يد الله في المنة عليهم حين هداهم فوق أيديهم ، وتلخيص هذا أن نعمة الله عليهم فيما هداهم له من الإيمان فوق إجابتهم الرسول وطاعتهم له واليد النعمة.

وقال الضحاك : يد الله عليكم في الثواب فوق أيديكم في النصر.

الثالث : بمعنى أكثر ؛ قال الله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) [سورة النساء آية : ١١].

الرابع : أرفع في المنزلة ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة البقرة آية : ٢١٢] ، وهكذا قوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران آية : ٥٥] أي : هم أرفع منزلة.

الخامس : بمعنى على ؛ قال : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [سورة الأنعام آية : ١٦٥] أي : رفع الأغنياء على الفقراء في اليسار ، ثم قال : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [سورة الزخرف آية : ٣٢] فأخبر أنه فعل ذلك لتطرد أمور الدنيا والخير بعد ذلك ، والخيرة فيما عنده.

السادس : قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) [سورة الأحزاب آية : ١٠] أي : من أعلى الوادي ، وذلك من علو بعض الأرض على بعض من غير أن يكون له سمك ظاهر.

٣٧٨

السابع : العلو في السمك ؛ مثل قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) [سورة فصلت آية : ١٠] أي : حتى يعلو فوقها ، وقال : (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها) [سورة إبراهيم آية : ٢٦] أي : من وجهها.

الثامن : الغلبة والسلطان ؛ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [سورة الأنعام آية : ١٨ ، ٦١] يريد أنه القاهر لهم لاشتمال ملكه عليهم وفوقهم ؛ أي : غالب لهم ، ولا يجوز أن يقال : فوقهم في المسافة ؛ لأنه ليس بجسم ، ولأنه لا مدح له في ذلك ؛ لأن اختلاف الأمكنة لا يوجب قضاه ، وقوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [سورة الأعراف آية : ١٢٧] والعرب تقول : أخذت الأمر من فوق ؛ أي : أخذته بغلبة وقهر ، ومنه قول الراجز :

إن الحبان حتفه من فوقه

أي هو غالب له لا يدفعه عنه توقية.

٣٧٩

الفتنة (١)

أصل الفتنة شدة الاختبار من قولك : فتنت الذهب ؛ إذا أدخلته النار لتعلم جودته من ردائته ، وفي القرآن : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة العنكبوت آية : ٣] أي : اختبرناهم ، ومعنى الاختبار من الله ؛ التكليف على ما بينا.

وقال لموسى عليه‌السلام : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [سورة طه آية : ٤٠] أي : واستعمال الإخبار في الله تعالى مجاز ؛ لأن أصل الاختبار طلب العلم والله عالم بنفسه ، والبحر يصطفي الاختبار ، ولا يستعمل في الله قياسا على الاختبار ؛ لأن استعمال الاختبار فيه مجاز.

والمجاز لا يقاس ... قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية : ٨٢] أي : أهلها ، ولا يجوز أن يقال : سل الحمار ؛ أي : صاحبه ، وقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) [سورة الأنعام آية : ٢٣] ، ويقال : فتنت الرجل ، ولا يقال : أفتنت.

وهي في القرآن على ثمانية أوجه :

الأول : التكليف ؛ قال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة العنكبوت آية : ٣] أي : أحسنوا أن يقع منهم بأن يقولوا : آمنا ولا تكلفون أو تمتحنون بما ظهر معه إيمانهم للرسول ، وصدقهم فيه من كذبهم ، فيركن إلى من يركن إليه منهم على بصيرة.

الثاني : العذاب ؛ قال الله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [سورة الذاريات آية : ١٣ ، ١٤] أي : عذابكم ، ويجوز أن يكون المعنى ذوقوا جزاء فتنتكم فحذف الجزاء ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية : ٨٢].

وقيل : يفتنون يحرقون ومنه ، قيل : للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت الصبر ومثله قوله : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [سورة العنكبوت آية : ١٠] ، أي : عذاب الناس

__________________

(١) (ف ت ن) : فتن المال النّاس من باب ضرب فتونا استمالهم وفتن في دينه وافتتن أيضا بالبناء للمفعول مال عنه والفتنة المحنة والابتلاء والجمع فتن وأصل الفتنة من قولك فتنت الذّهب والفضّة إذا أحرقته بالنّار ليبين الجيّد من الرّديء. [المصباح المنير : الفاء مع التاء].

٣٨٠