تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

ذلك قولهم : العلوي الحماني ؛ فأما قول من قال أنه كان على دين قومه فخطأ ؛ لأن من يصلح للنبوة لا يجوز أن يستصوب عبادة الصنم.

السابع : الإحباط ؛ قال الله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد آية : ١] أي : أحبطها ولم يحصلوا على ثوابها ، وفي هذا دليل على أن الحساب لا ينفع مع الكفر.

الثامن : العذاب ؛ قال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) [سورة نوح آية : ٢٤] أي : عذابا ؛ لأنه لا يضلهم في الأول فيزيدهم ، والزيادة لا تكون إلا على أصل ، وما سمي ما يوصل إليهم من العذاب المستحق في الحال الثاني والثالث ، وما بعد ذلك زيادة لم يرد أنه يريدهم منه ما لا يستحقونه.

التاسع : تفرق الشيء حتى لا يرى ؛ قال تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [سورة السجدة آية : ١٠].

العاشر : الصد ؛ قال تعالى : (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) [سورة النساء آية : ١١٣] أن يصدوك عن الإيمان ويردونك إلى الكفر.

الحادي عشر : الخسار ؛ قال الله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [سورة القمر آية : ٤٧].

وكل ما نسبه الله إلى نفسه من الضلال فسبيله التسمية والحكم ، أو الضلال عن الثواب ، ودليل هذا قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [سورة البقرة آية : ٢٦].

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [سورة البقرة آية : ١٧٥] ، وقال : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [سورة إبراهيم آية : ٢٧].

وأما قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف آية : ١٥٥] فالفتنة ؛ المحنة والابتلاء.

٣٠١

ونسب الضلال بها إلى نفسه ، لأن الضلال وقع من بعض الناس عند ما ابتلى بها ؛ فنسب ذلك إلى نفسه ؛ كما قال : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة آية : ١٢٥] يعني : السورة ، والمراد أنهم ازدادوا رجسا عندها.

الثاني عشر : الحيرة ؛ قال تعالى : (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [سورة إبراهيم آية : ٣ ، ق : ٢٧] أي : في حيرة شديدة ، أو في حيرة بعيد دواؤها وتلافيها ويقال : ضل الطائر إذا تحير وضل الصبي ، مثله.

وأما قوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [سورة الرعد آية : ١٤] فمعناه أن دعاء الكافرين لأوثانهم باطل لا مرجوع له ، وضل الشيء إذا بطل وهلك.

وأما قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [سورة الرعد آية : ٢٧] فمعناه أنه يهدي الناس إلى ثوابه لا إلى الدين ؛ لأن الناس مهتدون إلى الدين.

وكذلك ينبغي أن يكون الإضلال هنا عن الثواب لا عن الدين ، ولو جاز أن يضل عن الدين لجاز لنا ذلك ، كما أنه جاز لنا أن نهدي إليه إذ كان الله يهدي إليه ، ولو جاز أن يضل عن الإيمان لجاز أن يدعو إلى الكفر ، ولو جاز له ذلك لجاز لنا.

٣٠٢

الباب السادس عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله طاء

الطهارة (١)

أصل الطهارة في اللغة : البعد ، يقال : طهرت الشيء وطهرته ؛ إذا أبعدته ، وسمي الطهور طهورا لأنه يبعد الفاحشة عن الجسد وغيره.

والطهور اسم ما يتطهر به ، والطهور اسم الفعل على القياس دون السماع ، والمسموع للطهر والطهارة.

والطهارة في الشريعة : اسم يقع على معان كثيرة ، منها : الصلاة ، والزكاة ، والبر ؛ كلها طهارة ؛ يعني : أنها تطهر من الذنوب ، وقوله : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [سورة النمل آية : ٥٦] يطلبون إطهار النساء ولا يأتون الرجال ، أو يأتوهن في قبل الطهر يطلبون النجاسة على ما كانت العرب تدعي من ذلك.

والطهارة في القرآن على عشرة أوجه :

الأول : طهارة المرأة من دم الحيض ؛ قال الله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [سورة البقرة آية : ٢٢٢].

__________________

(١) (ط ه ر): (الطّهارة) مصدر طهر الشّيء وطهر خلاف نجس (والطّهر) خلاف الحيض (والتّطهّر) الاغتسال يقال طهرت إذا انقطع عنها الدّم وتطهّرت واطّهّرت اغتسلت (وقوله) (خذي فرصة ممسّكة فتطهّري بها) أي امسحي بها أثر الدّم من تطهّر إذا تنزّه عن الأقذار وبالغ في تطهير النّفس وفي التّنزيل (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قيل أريد الاستنجاء (والطّهور) بالفتح مصدر بمعنى التّطهّر يقال تطهّرت طهورا حسنا و (منه) (مفتاح الصّلاة الطّهور) (وطهور) إناء أحدكم وحتّى يضع الطّهور موضعه واسم لما يتطهّر به كالسّحور والفطور وصفة في قوله تعالى (ماءً طَهُوراً) وما حكي عن ثعلب إنّ الطّهور ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره إن كان هذا زيادة بيان لنهايته في الطّهارة فصواب حسن وإلّا فليس فعول من التّفعيل في شيء وقياس هذا على ما هو مشتقّ من الأفعال المتعدّية كقطوع ومنوع غير سديد (والطّهرة) اسم من التّطهير و (المطهرة) الإداوة وكذا كلّ إناء يتطهّر به وفتح الميم لغة. [المغرب : الطاء مع الهاء].

٣٠٣

الثاني : الاغتسال ؛ وهو قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [سورة البقرة آية : ٢٢٢] أي : إذا اغتسلن أو تيممن عند عدم الماء.

ولا يجوز عند الفقهاء مجامعتهن إذا طهرن فقط ؛ لأنه قال تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [سورة البقرة آية : ٢٢٢] يعني : الفرج ، وفيه دليل على أن إيتائهن في أدبارهن حرام ؛ لأنه حرام إيتائهن في الحيض لأجل الأذى ؛ وهو القذر ، والقذر للدبر الزم.

ويجوز عند بعضهم مجامعتهن إذا طهرن قبل أن يتطهرن ، ومنه كلام كثير استقصيناه في غير موضع.

الثالث : التطهر بمعنى الاستنجاء بالماء ؛ قال الله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [سورة التوبة آية : ١٠٨] قال المفسرون : أراد غسل أثر البول والغائط بالماء ، وقيل : نزل في الأنصار وذلك أنهم كانوا يتبعون الحجر بالماء.

الرابع : الطهور من جميع الأحداث والجنابة ؛ قال الله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [سورة الأنفال آية : ١١] يعني : من الأحداث والجنابة ، ونظيره قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [سورة الفرقان آية : ٤٨].

الخامس : التنزه عن إتيان الرجال في أدبارهم ، قال : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [سورة النمل آية : ٥٦] ويحتمل أيضا الوجوه التي ذكرنا.

السادس : طهارة نساء أهل الجنة من الحيض والقذر ؛ قال الله : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [سورة البقرة آية : ٢٥] ويتضمن ذلك طهارة الأخلاق أيضا ، لأنه جاء بلفظ التكثير.

السابع : الطهارة من الذنوب ؛ قال : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة آية : ٧٩] يعني : الملائكة ، وأراد طهارتهم من الذنوب ، وقرئ المطهرون ؛ ومعناه أنهم يطهرون غيرهم وليس بالوجه ، وقيل : هو على الأمر ؛ أي : لا يمس المصحف إلا طاهر ، ومثله : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [سورة المجادلة آية : ١٢] أي : أطهر من الذنوب.

٣٠٤

ومعنى ذلك أنه يكون كفارة ، ونحوه قوله : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [سورة البقرة آية : ٢٣٢] أراد إذا لم يعضلوهن لأن أزكى لكم وأطهر لكم ولهن من الذنوب ، لأنكم تأثمون بعضلكم إياهن ، ولعل العضل يحملهن على الزنا ، والعضل : المنع من التزويج وخبرها هنا أفعل.

الثامن : التبرئة من الخطأ والغلط ؛ قال الله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) [سورة عبس آية : ١٣ ، ١٤] يعني : القرآن ، كذا قيل ؛ وقيل : يقول أنها مكرمة عند الملائكة ، مرفوعة عن الأرض.

ويجوز أن يكون أراد رفع القذر مطهرة أن ينالها يد عاصية ، ومثله : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [سورة البينة آية : ٢] يعني : القرآن أيضا ، ويجوز أن يكون : (مُطَهَّرَةً) أي : منزهة أن يكون فيها كذب وباطل.

التاسع : إبعاد الأوثان والأصنام ؛ قال الله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [سورة الحج آية : ٢٦] أي : أبعد عنه ما يعبد منها.

العاشر : تطهير الله العبد من الذنوب ؛ بمعنى أنه يمنحه ألطافا يمتنع معها من الذنوب ، قال الله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران آية : ٤٢] : (اصْطَفاكِ) اختصك بأن قيل نذر أمك فيك ففرغك لعبادته وسد أنه نبيه ، وطهرك من الذنوب بأن وفقك لمجانبتها ، واختصك من نساء العالمين بولادة عيسى عليه‌السلام من غير ذكر ؛ فلما كان المراد بالاصطفاء الأخير غير المراد بالاصطفاء الأول لم يكن تكرارا معيبا ، وقال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [سورة الأحزاب آية : ٣٣] والمعنى أن الله وفقكم لمجانبة الذنوب فتجنبتموها وكنتم طاهرين.

٣٠٥

الطاغوت (١)

كل ما عبد من دون الله وهو طاغوت ، والطاغوت أيضا الشيطان وهو من طغى يطغوا ، مثل : الملكوت من ملك يملك ، وقيل : هو أعجمي ، مثل : جالوت ، وطالوت ، وهو واحد وجمع.

وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الشيطان ؛ قال الله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) [سورة البقرة آية : ٢٥٦] قالوا : هو الشيطان ، ويجوز أن يكون الأوثان والذي لا شك فيه أنه الشيطان ، قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [سورة النساء آية : ٧٦] لأنه قال بعد ذلك : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) [سورة النساء آية : ٧٦](٢).

الثاني : الأوثان ؛ قال الله : (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [سورة النحل آية : ٣٦] وهو يذكر ويؤنث ، والتأنيث قوله : (الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [سورة الزمر آية : ١٧] ، والتذكير قوله : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [سورة النساء آية : ٦٠].

الثالث : قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [سورة النساء آية : ٦٠] جاء في التفسير أنه أراد كعب بن الأشرف ، وقيل : الكاهن.

__________________

(١) (ط غ ي) : طغا طغوا من باب قال وطغي طغى من باب تعب ومن باب نفع لغة أيضا فيقال طغيت.

وفي التّهذيب ما يوافقه قال الطّاغوت تاؤها زائدة وهي مشتقّة من طغا والطّاغوت يذكّر ويؤنّث والاسم الطّغيان وهو مجاوزة الحدّ وكلّ شيء جاوز المقدار والحدّ في العصيان فهو طاغ وأطغيته جعلته طاغيا وطغا السّيل ارتفع حتّى جاوز الحدّ في الكثرة. [المصباح المنير : الطاء مع الغين].

(٢) قال ابن الجوزي : الطاغوت ؛ فهو اسم مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، قال ابن قتيبة : الطاغوت : واحد ، وجمع ، ومذكر ، ومؤنث. قال الله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها)[الزمر : ١٧]. والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال. أحدها : أنه الشيطان ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، والسدي ، ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه الكاهن ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية. والثالث : أنه الساحر ، قاله محمد بن سيرين. والرابع : أنه الأصنام ، قاله اليزيدي ، والزجاج. والخامس : أنه مردة أهل الكتاب ، ذكره الزجاج أيضا. [زاد المسير : ١ / ٢٦٢].

٣٠٦

وأصله أن رجلا من المنافقين نازع يهوديا ، فقال اليهودي : بينك وبيني محمد صلى الله عليه.

وقال المنافق : بيني وبينك الكاهن.

وقيل : كعب بن الأشرف ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فحكم على المنافق ؛ فلم يرض ، وجاء أبا بكر فحكم عليه أيضا ، فجاءا عمر وقص اليهودي عليه القصة ؛ فأخرج السيف وقتل المنافق ؛ فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال له : أنت الفاروق ، ثم قال : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [سورة النساء آية : ٦٠] فذكر الشيطان وأراد أولياء الشيطان ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف آية : ٨٢] ، وكما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة الأحزاب آية : ٥٧] أي : أولياء الله.

٣٠٧

الطمأنينة (١)

أصلها الانخفاض ، والمطمئن من الأرض : المنخفض ، وتطأمن الشيء إذا تلاطا ثم استعمل في السكون.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : السكون ؛ قال : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية : ٢٦٠] وتزول عنه الوسوسة ؛ لأنه إذا شاهد إحياء الموتى لم يكن للشيطان إلي وسوسته سبيل ، ومثله : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) [سورة المائدة آية : ١١٣] ، ونظيره : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [سورة الرعد آية : ٢٨].

ويجوز أن يكون المعنى أنها تطمئن إلى ما وعد الله من ثوابه ، ويجوز أن يكون المعنى الذين نظروا واستدلوا فعرفوا الله من طريق الدلائل فاطمأنت قلوبهم ولم يخالجها شك ، فإن قيل : أو ليس قد قال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [سورة الحج آية : ٣٥] والوجل ضد الطمأنينة ، قلنا : المراد في هذا أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم بذكر عقوباته للعصاة ؛ وجلت قلوبهم لأنهم لا يأمنون أن يعصوه ؛ فبصروا إلى عذابه.

وقوله : (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) [سورة الرعد آية : ٢٨] أنهم إذا ذكر بذكر ثوابه اطمأنت قلوبهم لأنهم لا يعرفون من أنفسهم معصية ، وقد وثقوا بأن وعد الله حق.

الثاني : بمعنى الرضا ؛ قال : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [سورة الحج آية : ١١].

__________________

(١) (ط مء ن) : اطمأنّ القلب سكن ولم يقلق والاسم الطّمأنينة واطمأنّ بالموضع أقام به واتّخذه وطنا وموضع مطمئنّ منخفض قال بعضهم والأصل في اطمأنّ الألف مثل احمارّ واسوادّ لكنّهم همزوا فرارا من السّاكنين على غير قياس وقيل الأصل همزة متقدّمة على الميم لكنّها أخّرت على غير قياس بدليل قولهم طأمن الرّجل ظهره بالهمز على فاعل ويجوز تسهيل الهمزة فيقال طامن ومعناه حناه وخفضه. [المصباح المنير : الطاء مع الميم].

٣٠٨

الثالث : بمعنى الأمن ؛ قال الله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [سورة النساء آية : ١٠٣] ويجوز أن يكون هذا أيضا بمعنى السكون ، قال بعضهم : معناها هاهنا الإقامة ؛ أي : فإذا أقمتم فأقيموا الصلاة ؛ أي : أتموها.

٣٠٩

الطيبات (١)

أصل الياء في الطيب واو ، ومن ثم قيل للقادم : أوبة ، وطوبة ، وقيل : طوبى له ، وقيل : شيء طيب للزوم الطيب له ، كما قيل : ضيق ، وميت ، وسيد ، وما كان الصفة فيه عارضة ، قيل : فاعل ، كما قيل : ضائق.

وهي في القرآن على ستة أوجه :

الأول : الحلال ؛ قال تعالى : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [سورة الأعراف آية : ٣٢] ، وقال : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [سورة المؤمنون آية : ٥١] ، وقال : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [سورة المائدة آية : ٥] يعني : أن الطيبات أحلت لهم عند كمال الدين.

وذلك أنه قد أمنهم عند نزول هذه الآية أن ينسخ شيئا مما أحل لهم ، واليوم هو الذي أنزل فيه هذه الآية ، ويجوز أن يكون بمعنى الوقت ، ويجوز أن تكون الطيبات الأرزاق التي جعلها الله للناس ، ومنع بالنهي عن منازعتهم فيها ، وإنما سمي الحلال طيبا لطيبه في العاقبة.

__________________

(١) (ط ي ب) : الطّيب) خلاف الخبث في المعنيين يقال شيء طيّب أي طاهر نظيف أو مستلذّ طعما وريحا وخبيث أي نجس أو كريه الطّعم والرّائحة قال الله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي طاهرا عن الزّجّاج وغيره (ومنه) (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ) يعني الأرض الغدّة الكريمة التّربة والّذي خبث الأرض السّبخة الّتي لا تنبت ما ينتفع به وقوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) يعني المستلذّات من المآكل والمشارب وقوله تعالى (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) يعني كلّ شيء نجس كالدّم والميتة ونحوهما (وفي الحديث) (من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة فلا يقربنّ مسجدنا) قيل هي الكرّاث والثّوم والبصل هذا أصلهما ثمّ جعلا عبارتين عمّا يقارب ذلك من الحلّ والحرمة والفساد والجودة والرّداءة قال الله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي ما حلّ لكم وقال الله عزوجل (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي من جياد مكسوباتكم أو من حلالها وفي ضدّه : " ولا تيمّموا الخبيث" أي الرّديء أو الحرام يعني لا تقصدوا مثله فتصدّقوا به وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) عامّ في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وصحيح المذاهب وفاسدها وجيّد النّاس ورديّهم. [المغرب : الطاء مع الياء].

٣١٠

الثاني : المن والسلوى ؛ قال : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [سورة طه آية : ٨١] وهو راجع إلى الأول ؛ لأن ذلك كان حلالا ، ويجوز أن يكون المراد أنه طيب المطعم ، ومثله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [سورة يونس آية : ٩٣] ، وقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة الجاثية آية : ١٦].

الثالث : الطعام اللذيذ ، واللباس الحسن ، والجماع ؛ قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [سورة المائدة آية : ٨٧] وكان قوم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد هموا بترك ملاذ الدنيا ؛ فأنزل الله هذه الآية ، ونحوه قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [سورة الإسراء آية : ٧٠] ، ومثله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [سورة الأعراف آية : ٣٢] أي : لم يحرم الله ذلك فاللفظ لفظ الاستفهام ، والمعنى الإنكار ، وهو يرجع إلى معنى الأمر باستعمال هذه الأشياء من وجوهه وحله.

الرابع : الشحوم ولحوم الإبل ؛ قال الله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [سورة النساء آية : ١٦٠] فالمراد أنه عجل عليهم طائفة من العذاب ؛ فحرم عليهم من الماء كل ما كانت حلالا لهم ، وهي ما ذكر في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [سورة الأنعام آية : ١٤٦ ، النحل : ١١٨] كذا وكذا وذلك ما كان من ظلمهم.

الخامس : الذبائح ؛ قال : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [سورة المائدة آية : ٤] يعني : الذبائح ، والشاهد قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) [سورة المائدة آية : ٤] فقرر ذلك بما هو من جنسه.

السادس : الغنيمة ؛ قال : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة الأنفال آية : ٢٦] إلى أن قال : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [سورة الأنفال آية : ٢٦] جاء في التفسير أنه أراد الغنيمة يوم بدر ؛ لأنه في قصد بدر وأواكم ؛ يعني : أنه أسكنكم المدينة ، وقال في آخر السورة : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [سورة الأنفال آية : ٦٩] ، ويجوز

٣١١

أن يكون الطيب هاهنا الذي لا إثم فيه ؛ فهو طيب في العاقبة ، وكانت الغنائم محرمة على من قبل هذه الأمة ؛ فأحلها الله لهذه الأمة.

٣١٢

الطعام (١)

كل ما أكل للشبع أو للشهوة مما فيه صلاح للبدن فهو طعام ، وذلك أن الطير يؤكل للشهوة وليس بطعام والذي يؤكل للشبع الخبز واللحم ، وما بسبيل ذلك والذي يؤكل للشهوة والفاكهة والأدام وما يجري هذا المجرى ، والطعم : المذاق ؛ يقال : هو طيب الطعم ، والطعم أيضا اسم يقام مقام المصدر ، والمصدر الطعم بالتحريك ، ورجل مطعم من الشيء ؛ مرزوق منه كأنه جعل له طعمه ، وفلان خبيث الطعمة ؛ أي : رديء المكسب.

والطعام في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الطعام الذي يأكله الناس ؛ قال : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ)(٢) [سورة قريش آية : ٤] ، وقال : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [سورة الأنعام آية : ١٤] ، وقال : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [سورة الأحزاب آية : ٥٣] ونحوه كثير.

الثاني : مليح السمك ؛ وقال : (وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ) [سورة المائدة آية : ٩٥] كذا جاء في التفسير ، وقيل أيضا : أنه أراد ما يصب عليه الماء وأخذ فهو من طعام البحر ، وقيل : هو ما سقاه البحر فنبت فهو طعام البحر لأنه ينبت عن مائه.

__________________

(١) (ط ع م): (الطّعام) اسم لما يؤكل كالشّراب لما يشرب وجمعه أشربة وأطعمة وقد غلب على البرّ (ومنه) حديث أبي سعيد (كنّا نخرج في صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير) (وفي حديث) المصرّاة ردّها وردّ معها صاعا من طعام لا سمراء أي من تمر لا حنطة (وقوله) في باب الأذان وكان ذا طعام أي أكولا (والطّعمة) بالضّمّ الرّزق يقال جعل السّلطان ناحية كذا (طعمة لفلان) وقول الحسن القتال ثلاثة قتال على كذا وقتال لكذا وقتال على هذه الطّعمة يعني الخراج والجزية والزّكوات (وفي السّير) (أطعمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طعمة) وفي موضع طعما على الجمع وفي موضع آخر طعما وطعاما وهما بمعنى (وعن أبي حنيفة رحمه‌الله) أنّ الإطعام مختصّ بإعارة الأرض للزّراعة (وعن معاوية) أنّه أطعم عمرا خراج مصر أي أعطاه طعمة وطعم الشّيء أكله وذاقه طعما بالفتح والضّمّ إلّا أنّ الجاري على ألسنتهم في علّة الرّبا الفتح ومرادهم كون الشّيء مطعوما أو ممّا يطعم (وفي كلام) الشّافعيّ رحمه‌الله الأكل مع الجنس علّة وربّما قال الطّعم مع الجنس وقد تطعّمه إذا ذاقه (ومنه) المثل تطعّم تطعم أي ذق تشته واستطعمه سأل إطعامه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا استطعمكم الإمام فأطعموه) أي إذا أرتج عليه واستفتحكم فافتحوا عليه مجاز وأطعمت الثّمرة أدركت (ومنه) نهى عن بيع الثّمر حتّى يطعم (وشجر مطعم) أي مثمر. [المغرب : الطاء مع العين].

٣١٣

الثالث : الذبائح ؛ قال : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [سورة المائدة آية : ٥] ، ومعروف أنه لم يرد الخبز والأدام فينبغي أن يكون على الذبائح.

وقال بعضهم : أهل الكتاب هنا هم بنوا إسرائيل دون غيرهم ممن تنصر وتهود من العرب والعجم ، وليس كذلك لأن هذا اسم لمن ينتحل التوراة والإنجيل ويظهر التدين بذلك ، ولم يسموا أهل الكبائر لأنهم من بني إسرائيل ؛ فكل من شاركهم في هذه العلة فهو منكم وطعامكم حل لهم ؛ أي : حل لكم أن تطعموهم ؛ لأن الحلال أو الحرام والفرائض بعد عقد التوحيد.

الرابع : طعم بمعنى شرب ؛ قال الله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [سورة البقرة آية : ٢٤٩] أي : من لم يشربه ، ومجازه لم يذقه فيجد طعمه ، وقوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) [سورة البقرة آية : ٢٤٩] مع قوله : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) [سورة البقرة آية : ٢٤٩] دل على أن الشرب من النهر الكرع فيه ، وهو أن يضع شفته عليه فيشرب منه ، وهو من اغترف يده فليس بشارب من النهر ، وهو يدل على صحة قول أبي حنيفة فيمن قال : إن شربت من الفرات فعبدي حر أنه على الكرع ؛ وإذا شرب بيده أو بإناء لم حنث.

٣١٤

الطغيان (١)

أصله مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [سورة الحاقة آية : ١١] ، ثم استعمل في شدة الظلم ؛ لأنه تجاوز لحد الصفة ؛ وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الضلال ؛ قال الله : (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة البقرة آية : ١٥] أي : في ضلالهم يتحيرون ، ويجوز أن يكون أراد أنهم يتحيرون فيما هم فيه من مجاوزة الحد في التمرد ؛ وتحيرهم فيه لأنهم لا يعرفون وجه قباحته ، والمتحير غير عارف لوجه أمره والعمد التحير.

ومثله قوله تعالى : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) [سورة ق آية : ٢٧] أي : ما أضللته ، والشاهد قوله : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [سورة ق آية : ٢٧] ، ويجوز أن يكون المراد أي : لما حمله على التمرد وشدة الظلمة لنفسه ولغيره.

الثاني : قال تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [سورة طه آية : ٤٣] ويجوز أن يكون أراد أنه جاوز الحد في الكبر أو الظلم والغشم ، وقال : (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) [سورة الصافات آية : ٣٠].

الثالث : الارتفاع ومجاوزة الحد في الكثرة ؛ وقال : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [سورة الحاقة آية : ١١] أي : حملنا آباءكم على حسب ما يقال لبني شيبان : اليوم أنتم أصحاب يوم ذي قار.

الرابع : الخطأ ؛ قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [سورة النجم آية : ١٧] أي : ما يمل ولم يخطئ في الرؤية ، وقيل : ما عدل وما جاوز القصد في رؤيته ؛ يعني : جبريل عليه

__________________

(١) (ط غ ي) : طغا طغوا من باب قال وطغي طغى من باب تعب ومن باب نفع لغة أيضا فيقال طغيت.

وفي التّهذيب ما يوافقه قال الطّاغوت تاؤها زائدة وهي مشتقّة من طغا والطّاغوت يذكّر ويؤنّث والاسم الطّغيان وهو مجاوزة الحدّ وكلّ شيء جاوز المقدار والحدّ في العصيان فهو طاغ وأطغيته جعلته طاغيا وطغا السّيل ارتفع حتّى جاوز الحدّ في الكثرة. [المصباح المنير : الطاء مع الغين].

٣١٥

السّلام ، وزاغ : مال وعدل ، وقيل : (ما زاغَ) ما قصر عن شيء رمى إليه ببصره : (وَما طَغى) ما طلب أن يجاوز ما رآه إلى غيره.

٣١٦

الطمس (١)

أصله ذهاب الأثر ؛ طريق طامس : لا علم فيه ، كتاب مطموس : ممحو ، وجبل طامس : لا طريق إليه ؛ قال جميل :

الا يتكما أعلام بثينة قد بدت

كأنّ ذراها عممت بسبيب

طوامس لي من دونهنّ عداوة

ولي من وراد الطّامسات حبيب

بعيد على من ليس يطلب حاجة

وأمّا على ذي حاجة فقريب

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى القلب ؛ قال الله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [سورة النساء آية : ٤٧] أي : نقلبها فنجعلها إلى ما يلي أدبارها.

وقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) تفسير لطمسها ، وتصديق هذا قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [سورة الانشقاق آية : ١٠] لأن الوجوه إذا قلبت أقفاء كان أصحابها يعطون الكتب وراء ظهورهم.

الثاني : ذهاب البركات ؛ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة يونس آية : ٨٨] أي : اذهب ببركتها ومنفعتها وخذهم بالقحط ، (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة يونس آية : ٨٨] أي : حبب إليهم أوطانهم حتى لا يغار قومها لطلب الأرزاق فيموتوا هزلا وجوعا هكذا قيل.

__________________

(١) [طمس] : طمس : لغة في طسم ، أي : درس إلّا أنّه أعمّ.

وطمس النجم : ذهب ضوؤه ، والقمر مثله.

وخرق طامس ، وجبل طامس : لا نبات فيه ولا مسلك.

والطّمس الآية التاسعة من آيات موسى ـ عليه‌السلام ـ حين طمس الله ـ تعالى ـ بدعوته على أموال فرعون فصارت حجارة. [العين : طمس].

٣١٧

والصواب أن يقال : أراد أن صبرهم على البلاء والإقامة في البلد المطموس فيه على أموالهم حتى لا يجزعوا فيخرجوا منه. وذلك أن الشد على القلب والربط عليه هو تصبيره بما هو فيه.

وقوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) [سورة يونس آية : ٨٨] موصول بقوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [سورة يونس آية : ٨٨] ومعنى ذلك كله على العاقبة ؛ كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [سورة القصص آية : ٨].

الثالث : ذهاب النور ؛ قال الله : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) [سورة المرسلات آية : ٨].

٣١٨

الطائر

طار الطائر يطير طيرانا والفعلان للاضطراب ، مثل : اللمعان والضربان.

والطائر في القرآن على وجهين :

الأول : الطائر واحد الطير ؛ قال الله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [سورة الأنعام آية : ٣٨] ، وطائر وطير مثل : صاحب وصحب ، ولا يقال للواحد : طير إلا شاذا.

الثاني : الحظ ؛ قال تعالى : (طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [سورة الإسراء آية : ١٣] أي : حظه من الرزق وغيره لازم له ، كما يقال : أمانتي في عنقك ، وهذا الحق لي في عنقك ؛ أي : هو لازم لك.

وقيل : الطائر العمل الصالح من الخير ؛ أي : يلزمك ذلك حتى تجازي به ، وقيل : الحظ من الخير والشر طائر ، تقول العرب : جرى على الفلان الطائر بكذا على طريق الفأل ، ويقال : طار لي منك كذا ؛ أي : صار حظي منك.

وقيل : معناه أن الأمر الذي يجعلونه بالطائر يلزم أعناقهم ؛ والمراد أنهم إذا تشاءموا بشيء أصابهم على ما قال النبي صلى الله عليه : " البلاء موكّل بالمنطق" (١) ، ومثله : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [سورة يس آية : ١٩] أي : حظكم لأنفسكم وتطيركم لا يزيدكم ولا ينقصكم.

وقال تعالى : (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ)(٢) [سورة النمل آية : ٤٧] أي : حظكم من الجزاء على أعمالكم لا معدل لكم عنه في الآخرة.

__________________

(١) أخرجه بلفظه القضاعي في مسند الشهاب من حديث حذيفة بن اليمان (٢٢٧) ، وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة والنميمة (١٤٩) ، وأخرجه البيهقي بلفظ البلاء موكل بالقول من حديث أنس بن مالك في شعب الإيمان ، وابن بطه في إبطال الحيل من حديث عويمر بن مالك (٨٤).

(٢) قال صاحب «الكشاف» : كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته ، فأجاب صالح عليه‌السلام بقوله : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم.

٣١٩

وقال ابن الأنباري في قولهم : طير الله لا طيرك ، قال : فعل الله وحكمه لا فعلك وما يتخوفه منك ، قال الفراء : الطائر عندهم العمل ، فإن الله تعالى قال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [سورة الإسراء آية : ١٣] ، وقوله : هو ميمون الطائر ؛ يعنون الحظ ، وهو الذي تسميه العامة البخت.

__________________

وقيل : بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب ، والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيحب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره. [مفاتيح الغيب : ١٢ / ٣٦].

٣٢٠