تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

أنى (١)

يكون على وجهين :

يكون بمعنى كيف في قوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [سورة البقرة آية : ٢٥٩] أي : كيف يحييها؟! ، وقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٢٣] إلا أنه في القبل لقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ، ولقوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٢٣] إذا لا تعبر عن الدبر بالحرث ، ويكون المعنى من أين في قولك : أنى لك هذا ، أي : من أين لك هذا ، وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [سورة الأنعام آية : ١٠١] ، وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة التوبة آية : ٣٠].

والمعنيان متقاربان يجوز أن يتأول كل واحد منهما على ما يتأول عليه الآخر.

قال الكميت :

أنّى ومن أين آبك الطّرب

من حيث لا صبوة ولا ريب

فجاء بالمعنيين.

__________________

(١) " أنّى" بمعنى" كيف" كقوله جلّ ثناؤه : " أنّى يحيي هذه الله؟ ".

وتكون بمعنى : " من أين" كقوله : " أنّى يكون له ولد؟ " أي من أين. والأجود أن يقال في هذا أيضا كيف. قال الكميت :

أنّى ومن أين آبك الطرب

من حيث لا صبوة ولا ريب

فجاء بالمعنيين جميعا. [الصاحبي في فقه اللغة : باب أنى].

١٠١

أو

قالوا : تجيء في القرآن على ثلاثة أوجه ، وتأتي في غير القرآن للشك تقول : رأيت عبد الله أو محمدا ، أو تكون للتخيير بين الشيئين كقوله : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) [سورة المائدة آية : ٨٩] ، وقوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [سورة البقرة آية : ١٩٦].

قالوا : وتجيء بمعنى واو النسق ، قال الله : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) [سورة المرسلات آية : ٥ ، ٦] ، وقوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [سورة الإنسان آية : ٢٤] ، وليس كذلك.

قال المبرد : أصل أو في الكلام واحد ثم تنقسم قسمين التخيير والإباحة ، والتخيير قولك : خذ مني دينارا أو ثوبا فإنه وفاء بحقك وليس لك أن تأخذهما ، وقولك : اضرب زيدا أو عمرا أي : كل واحد منهما أهل أن يضرب وأنت مخير في واحد لا تزيد عليه ، وكذلك إذا شك المخير فقال : جاءني زيد وعمرو ولم يرد أنهما جاءه إلا أنه يعلم أن أحدهما جاء فهذا باب واحد.

والإباحة قولك : جالس زيدا أو عمرا أو خالدا وارو عن الحسن أو ابن سيرين ، أي : جالس هذا الضرب وارو عن هذا الضرب من الناس ، وإذا جالس واحدا منهم أو جالسهم جميعا فقد أطاعني ؛ لأني أردت هذا الضرب ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ولو قال : وكفورا فأطاع أحدهما ولم يطع الآخر لم يكن عاصيا ، وإذا قال : أو كفورا صار كل واحد منهما لا يطاع على حياله ، وأما قوله : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فمعناه أن الملقيات ذكرا تجمع بين الإعذار والإنذار فتعذر في وقت وتنذر في وقت كما نقول : جاءني زيد وعمرو فتعلم بذلك أن كل واحد يجوز أن يجيء إلا أن قصدي في هذه الحال واحد منهما (عُرْفاً) [سورة المرسلات آية : ١] أي : تباعا بعرف الفرس ، و : «الملقيات ذكرا» الملائكة ، وقيل : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) جمع عذير ونذير ، قال حاتم :

وقد عذرتني في طلابكم العذر

١٠٢

قال : وتقول في الاستفهام : أتأخذ دينارا أو ثوبا ، وليس معناه أن يلزمه أحدهما ، ولكن معناه أتأخذ هذين؟ فجواب هذا لا أو نعم ، ولو أراد أن يلزمه واحدا لا محالة ، يقال : أتأخذ دينارا أو درهما فجواب هذا لا يكون لا ولا نعم ، ولكن تقول : دينارا أو درهما ، وتقول : لا دينارا آخذ ولا درهما ، وتكون أو بمعنى بل في قول الفراء وأبي عبيدة قال : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [سورة الصافات آية : ١٤٧] ، وكذلك قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [سورة النحل آية : ٧٧] ، وقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [سورة النجم آية : ٩] ، وأنشد شاهدا على ما تقدم :

قضى عنكما شهرين أو نصف ثا

لث إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا

أي : ونصف ثالث لا يجوز هاهنا بل وكذلك في قوله : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) ، وقيل : (أَوْ يَزِيدُونَ) أي : أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم رائي ، قال هو لا : (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فهذا هو القول ؛ لأنه على أصل ، أو وكذلك قوله : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [سورة النحل آية : ٧٧] أي : لو رأى الرائي قدرة الله على إماتة الخلق وإحيائهم ، لقال : وذلك يكون في قدر لمح البصر أو أقل ، والساعة اسم لإماتة الخلق وإحيائهم وليس يذكر أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر.

وكذلك يقال : أو أدنى أقل عندكم لو رأيتموه لقلتم أنه كذلك ، والمراد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب أن يرى جبريل صلوات الله عليه على صورته الحقيقية ، وكان يهبط للوحي على صورة رجل فاستوى جبريل في الأفق على صورته فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [سورة النجم آية : ٨] جبريل فصار بينه وبين النبي صلوات الله عليهما القدر المذكور.

والمراد أنه دنا فتدلى فزاد قربا ، وقيل : دنا فتدلى أي : تدلى فدنا على القلب ، وهو في كلامهم واسع.

١٠٣

أم (١)

إذا قلت : أزيد في الدار أم عمرو؟ فأنت لا تدري أيهما في الدار ، ولا تدري أن أحدهما فيها أو لا ، ويصلح في جوابه لا ونعم ؛ لأنك تسأل عن الكينونة هل حصلت في الدار أم لا فإذا علمت أن أحدهما في الدار ولست تدري أيهما هو قلت : أزيد في الدار أم عمرو ، ولا يصلح في جوابه لا ولا نعم ؛ لأنك تسأل عن أحد الكائنين ففيه معنى أيهما.

قيل : وأم في القرآن على وجهين :

الأول : يكون بمعنى أو ، قال الله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) [سورة الإسراء آية : ٦٩]. وقوله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [سورة الملك آية : ١٧].

قال بعض أهل العربية : هي في هذين الموضعين بمعنى أو ، والمراد التحذير ، أي : لا تأمنوا ذلك واحذروه ما دمتم على الشرك.

الثاني : مجيئه بمعنى ألف الاستفهام ، قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء آية : ٥٤] ، والاستفهام هاهنا بمعنى النهي ، وقال الله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [سورة الطور آية : ٣٩] أراد له البنات ، وهذا الاستفهام بمعنى الزجر والتبكيت ، قال : وليس من هذا : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) [سورة ص آية : ٦٣] فإن قيل : لم سوى بين السخري وبين زاغت الأبصار عنهم؟ ، قلنا : لأن المعنى أظلمناهم بما قلنا فيهم وبما سخرنا منهم أم هم مستحقون له وقد زاغت أبصارنا عنهم وهم في النار ، فهذا حق التسوية.

والصحيح في هذه الآيات أنه لما جاء بلفظ الاستفهام في أول الكلام جاء بأم بعده لأنه للاستفهام ، والمراد بالاستفهام فيها التبكيت أو التعريف والتوقيف على ما ذكرناه ، وقال :

__________________

(١) " أم" : حرف في معنى" أو" ، ويكون في المعنى كأنّه استفهام بعد استفهام. ويكون في معنى" بل". ويقولون : أم عندك غداء حاضر : وأنت تريد : أعندك؟. ويكون مبتدأ الكلام في الخبر. ويكون زائدا كقولك : جاءك أم زيد : معناه جاءك زيد. [المحيط في اللغة : ما أوله الألف].

١٠٤

(الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [سورة السجدة آية : ١ ـ ٣] ، ولم يتقدم في الكلام أيقولون كذا فنرد عليه أم يقولون ، وقيل : إنما أراد أيقولون افتراه ، والصحيح أن أم هاهنا بمعنى بل فرد قولهم ، ثم قال : (هُوَ الْحَقُّ).

قال المبرد : لأم موضعان ، وكلاهما استفهام ، فأحدهما : أن تسأل عن شيء من شيئين أو أكثر من ذلك تدعي من الاثنين والجميع واحدا ولا تدري أيهما هو وذلك قولك : أزيد في الدار أم عمرو ، وأزيد أفضل أم خالد ، وعبد الله عندك أم عمرو وأنت الآن مدع أن أحدهما عنده ولا تدري أيهما هو ، ولا يصلح في جوابه لا ولا نعم على ما تقدم قبل ، وإنما جوابه أن تقول : فلان عندي أو تقول : كلاهما عندي ، أو تقول : لا زيد عندي ولا عمرو فإذا قلت : ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو فإنما أخبرت أنهما قد استويا عندك في الكون هناك ، وكذلك قولك : لا أبالي عمرا ضربت أم زيدا وسواء ذلك علي إن أدبر زيد أم أقبل.

وكل هذا تسوية وعلم في تقديره أنه سيقع ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [سورة النازعات آية : ٢٧] ، وقوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [سورة الدخان آية : ٣٧] خرج مخرج التوقيف والتوبيخ ، قال : واعتبر هذا يأتي فإنها تكون لأحد شيئين أو لأحد أشياء تقول : ما أبالي أي : ذلك كان وسواء علي أي : ذلك كان ، وعلمت أي : ذلك كان ، وأتى غير عامل فيها ما قبلها وإنما هي كقولك قد علمت أزيد في الدار أم عمرو.

وإذا قلت : أيهما في الدار فمعناه هذا أم هذا فمن ذلك قوله تعالى : (أَيُّ : الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [سورة الكهف آية : ١٢] ، وأما قوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [سورة الشعراء آية : ٢٢٧] فأي منصوبة بينقلبون ، كما يقول : علمت أيهم في الدار.

والوجه الثاني : أن أم تجيء للإضراب عن الشيء إلى الشيء فتكون منقطعة عما قبلها خبرا كان أو استفهاما وذلك يكون لوجهين :

١٠٥

أحدهما : الشك.

والآخر : ترك خبر إلى خبر من غير شك أو غلط ، وهذا مثل قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) [سورة المؤمنون آية : ٧٠] ، وقوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) [سورة الطور آية : ٣٢] وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) [سورة الطور آية : ٤٠] ، وقوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ) [سورة الزخرف آية : ١٦] ، وفي هذه الوجوه ومع ما ذكرنا أنه يترك خبرا إلى خبر آخر معنى التوبيخ والتوقيف.

ومثله قوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة فصلت آية : ٤٠].

ومثله قولك للرجل : السعادة خير أم الشقاء ، وإنما يراد بذلك التنبيه على ترك اختيار ما يصيره إلى الشقاء.

١٠٦

الإذن (١)

أصله من العلم ، أذنت الشيء إذا علمته ، وآذنته غيري أي : أعلمته ، وفي القرآن : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [سورة الأنبياء آية : ١٠٩] ، ثم استعمل في الاستفهام لما يقع من الاستماع من العلم ، أذن له إذا استمع له ، قال الشاعر وهو عدي بن زيد :

وسماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ما ذيّ مشار

ومن الأول : الآذان ؛ لأنه إعلام بالصلاة.

وهو في القرآن على وجهين :

__________________

(١) أذن : الأذن : موضع السّمع. وأذنته أذنا : ضربت أذنه. ورجل أذن وامرأة كذلك : إذا استمع من كلّ أحد.

والأذن : عروة الكوز ونحوه. وسمع من العرب : أذنة ؛ في الأذن.

ورجل أذانيّ : عظيم الأذن. وكبش آذن ونعجة أذناء.

وفي القلب أذنان : وهما زنمتان في أعلاه. وجاء ناشرا أذنيه : إذا جاء طامعا.

وفي مثل : " أنا أعرف الأرنب وأذنيها".

والأذن : مصدر قولك أذنت للشّيء أذنا : إذا تسمّعت له وأصغيت إليه.

وأذنت أيضا : علمت ، وما آذنني : أي ما أعلمني ، وفعله بأذني.

وإذا أذنت له في الدّخول ، والآذن : الحاجب.

والأذان : اسم التّأذين. والمئذنة : المنارة.

والتّأذّن : من قولك لأفعلنّ كذا ، من قوله عزوجل : "(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ)".

والأذنة : نسل المال وصغار الماشية والصّبيان ما داموا يرضعون.

وأذنة من ثمام : غضّ النّبتة.

وفي المثل : " لكلّ جابه جوزة ثمّ يؤذن" أي يمنع ، ويروى : يؤذّن.

وتأذّن القوم بإرسال إبلهم : أي تكلّموا به ، وهو التّأذين. وآذنوا به أيضا.

وكلّ من تقدّم : فقد تأذّن. والأذين : الزّعيم. وأذينة : اسم ملك العماليق.

ذين : مهمل عنده.

الخارزنجيّ : ذانه يذينه : إذا عابه. وهو الذّان والذّام.

ذون : أيضا مهمل عنده.

الذّونون : نبت مستطيل ، وجمعه ذآنين. وخرجوا يتذأننون. ومن أمثالهم : " أطرثوث ولا رملة ، أذونون ولا شوك له" ، وله حديث. [المحيط في اللغة : الذال والباء].

١٠٧

الأول : العلم ، وهو قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة البقرة آية : ١٠٢] يعني : والله يعلم ذلك ، وهو مجاز لهم عليه.

الثاني : الأمر ، قال الله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) [سورة البقرة آية : ٢١٣] أي : فدل الله المؤمنين إلى الحق من جملة ما اختلفوا فيه فلزموه بأمره ، وقيل : بعلمه ، وقال أبو علي رحمه‌الله : هداهم بإذنه أي : هداهم فاهتدوا بإذنه ؛ لأن هدايته فعله ، والله لا يفعل بإذن فحذف فاهتدوا لدلالة قوله : (بِإِذْنِهِ) عليه ، قال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ١٤٥] والمعنى : أنهم لا يموتون دون الأجل فلا تجنبوا عن الجهاد ، وفي الآية دليل على أن غير الله لا يقدر على الموت ، وقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) [سورة البقرة آية : ٢٢١] أي : بأمره الذي امتثلوه ، وقال : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة الرعد آية : ٣٨] ، وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [سورة إبراهيم آية : ١] ، وقال : (خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [سورة إبراهيم آية : ٢٣] أي : بأمره وإذنه في ذلك ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [سورة النساء آية : ٦٤] أي : بأمره ، وذلك أنه أمر أن يطاع ، وقيل : أرسله لأن يطاع ؛ لأنه يقول ما يقول بإذن الله ، وقيل : بإذنه بجميل صنعه وحسن توفيقه.

١٠٨

إلا

قالوا : هي على أربعة أوجه :

أولها : الاستثناء ، كقوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف آية : ٦٧] فاستثنى المتقين ؛ لأنهم ليسوا بأعداء.

الثاني : بمعنى لكن ، في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [سورة البقرة آية : ١٠٥] أي : لكن الذين ظلموا يحتجون عليكم بغير حجة لجهلهم ، وقيل : معناه لكن الذين ظلموا فلا تخشوهم.

قال أبو عبيدة : إلا هاهنا بمعنى الواو وإليه ذهب أبو علي رحمه‌الله ، أي : ولا الذين ظلموا عليكم حجة وهم من جملة الناس إلا أنه خصهم لشدة عبادهم كما خص النخل والرمان لفضلهما على غيرهما ، وقال المبرد : هذا خطأ ؛ لأن الواو للعطف ، والإشراك ، وإلا للاستثناء ولا يدخل أحدهما في باب الآخر.

قال : والأول صحيح ؛ لأن حق الاستثناء أن يكون كله على معنى لكن ، وفيه كلام كثير ليس هذا موضع ذكره.

واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر :

إلا كناشرة الّذي ضيّعتم

كالغصن في غلوائه المتنبّت

قال المبرد : معنى هذا لكن ناشرة الذي ضيعتم والكاف زائدة ، وناشرة اسم رجل أي : خرج عنكم وادعى في بني أسد فتركتموه يخاطب بني مازن.

واحتج أبو عبيدة أيضا بقول الأعشى :

إلا كخارجة المكلّف نفسه

وابني قبيصة أن أغيب وتشهدا

قال : يعني وكخارجة ، وقال المبرد : أراد ولكن كخارجة المتكلف خلاف ما عليه العشيرة.

١٠٩

وقال في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) لكن الذين ظلموا أيقولون أن لهم حجة فالمعنى أنه لا أحد له حجة ، والظالم يحتج بما لا حجة له فيه ، قال : ومن كلامهم : ما لأحد علي سبيل إلا من بغى فتأويله أنه لم يستثنه من باب سبيل ، ولكن معناه لكن من بغى مخطئ ببغيه فلا يكون هذا الباب منفردا من الأول البتة.

وقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)(١) [سورة يونس آية : ٩٨] ، وقوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [سورة النساء آية : ١٤٨] أي : لكن من ظلم ، ومثله كثير.

الثالث : بمعنى غير ، قال الله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء آية : ٢٢] أي : غير الله ، وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا إله غيره ، هكذا جاء في التفسير.

والفرق بين إلا وغير أن إلا حرف وغير اسم وينوب مناب إلا في الاستثناء ، وقد يكون صفة ، تقول : هذا درهم غير قيراط معناه : إلا قيراطا ، وغير قيراط على الصفة ولا يكون إلا مضافا ، ولا معنى له إلا مخالفة ما يضاف إليه ، ويكون فاعلا ومفعولا وظرفا ووصفا

__________________

(١) قال ابن الجوزي : قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) أي : أهل قرية. وفي «لو لا» قولان :

أحدهما : أنه بمعنى : لم تكن قرية آمنت (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي : قبل منها (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب ، إلا لقوم يونس.

والثاني : أنها بمعنى : فهلّا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج. قال الزجاج : والمعنى : فهلّا كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلا قوم يونس؟ و «إلا» هاهنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قوم يونس. قال الفراء : نصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن «ما» بعد «إلا» في الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول : ما قام أحد إلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وذكر ابن الأنباري في قوله : «إلا» قولين آخرين :

أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مروي عن أبي عبيدة ، والفراء ينكره.

والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع. [زاد المسير : ٣ / ٣١٠].

١١٠

واستثناء ، تقول : جاءني غيرك فيكون فاعلا ، وضربت غيرك يكون مفعول ، ومررت برجل غيرك وصف ، وجاءني زيد غير راكب حال ، وجئتك غير يوم ظرف زمان ، أما من المكان فطلبتك غير موضع ، وجاءني القوم غير زيد ، وما جاءني أحد غير زيد استثناء فتجريها في الإعراب مجرى الاسم الذي يجيء بعد إلا.

الرابع : ابتداء الكلام ، قال : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة التين آية : ٥ ، ٦] وأسفل السافلين مثل أرذل العمر أي : الكبر ، والمعنى : والذين آمنوا فلهم أجر غير ممنون ، ولا يكون مستثنى ؛ لأن الذين آمنوا قد رد بعضهم إلى الكبر ، وقيل : معنى أسفل سافلين : جهنم ، والذين آمنوا مستثنون ، فأما قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [سورة الشعراء آية : ٧٧]. فمعناه لكن ؛ لأن الله لا يستثنى من المخلوقين ، وكذلك : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [سورة الزخرف آية : ٢٦ ، ٢٧] ، وكذلك : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) [سورة الحجر آية : ٣٠ ، ٣١] ويجوز أن يقال : استثنى إبليس منهم ؛ لأنه كان معهم في الأمر ، وقوله : (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) [سورة النمل آية : ١٠ ، ١١]. أي : لكن من ظلم ، وثم هاهنا بمعنى الابتداء كما تقول : أريد أن أحسن إليك ثم أكرمك ، وقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [سورة النساء آية : ٩٢].

قال قطرب : معناه إلا ما يسعه ؛ لأن الخطأ واسع له ؛ لأنه لا حيلة له فيه ، وقوله : (إِلَّا اللَّمَمَ)(١) [سورة النجم آية : ٣٢] مستثنى صحيح ومعناه إلا أن يكون العبد قد ألم

__________________

(١) قال ابن الجوزي : اللّمم في كلام العرب : المقاربة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال.

أحدها : ما ألّموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية ، فإنه يغفر في الإسلام ، قاله زيد بن ثابت.

والثاني : أن يلمّ بالذّنب مرّة ثم يتوب ولا يعود ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي.

والثالث : أنه صغار الذّنوب ، كالنّظرة والقبلة وما كان دون الزّنا ، قاله ابن مسعود ، وأبو هريرة ، والشعبي ، ومسروق ، ويؤيّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنا ، فزنا العينين النّظر ، وزنا اللسان النّطق ، والنفس تشتهي وتتمنّى ، ويصدّق ذلك ويكذّبه الفرج ، فإن تقدّم بفرجه كان الزّنا ، وإلا فهو اللّمم". والرابع : أنه ما يهمّ به الإنسان ، قاله محمد بن الحنفية.

١١١

بفاحشة ثم تاب ، ويجوز أن يكون معناه إلا أن يلم بذنب ويحسب أنه صغير أو يلم بذنب ويحسب أنه ليس بذنب ، وقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) ثم قال : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [سورة الممتحنة آية : ٤] معناه أن أصحاب إبراهيم تبرأوا من كفار قومهم وعادوهم على الدين ما خلا : (قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فإن ذلك كان : (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة آية : ١١٤] فقول إبراهيم هو استثناء من قول أصحابه ، كأن معنى قوله : إذ قالوا لقومهم قولهم لقومهم.

وقيل : معناه لكن قال إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، المعنى أن إبراهيم لم يقل ما قالوه ولكن قال : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ، وقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [سورة الدخان آية : ٥٦] والموتة الأولى لم تكن في الجنة ، ولكن المعنى على البدل كأنه قال : لا يذوقون إلا الموتة الأولى كما تقول : لقيت زيدا في الدار ولقيت عمرا فلما كررت الفعل جاز أن لا يكون عمرو ملقيا في الدار وإذا لم تكرر وقلت : ظننت زيدا في الدار وعمرا لم يجز أن يكون عمرو إلا مظنونا في الدار كذلك.

قال قطرب : وفيه نظر.

وأما قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [سورة مريم آية : ٦٢] وهذا أيضا يدل على البدل ولا يكون استثناء ؛ لأن اللغو ليس بسلام كأنه قال : لا يسمعون فيها إلا سلاما.

ومثله قول سعد بن مالك :

والحرب لا يبقى لجا

حمها التخيّل والمراح

إلا الفتى الصبّار في النّ

جدات والفرس الوقّاح

__________________

ـ والخامس : أنه ألّم بالقلب ، أي : خطر ، قاله سعيد بن المسيّب.

والسادس : أنه النّظر من غير تعمّد ، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين [الأولين] يكون الاستثناء من الجنس ، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس. [زاد المسير : ٥ / ٤٤٤].

١١٢

كأنه قال : لا يبقى إلا الفتى وليس باستثناء ؛ لأن الفتى ليس من التخيل والمراح ، وأما قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [سورة النساء آية : ١٥٧] وليس العلم من اتباع الظن فمعناه إلا أنهم يتبعون الظن ، وقوله تعالى : (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) [سورة يوسف آية : ٦٨] فمعنى ذلك : لكن حاجة ، وكذلك قوله : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) [سورة يس آية : ٤٣ ، ٤٤] أي : لكن رحمة.

وقال المبرد : لكن أن يرحمهم ، وقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [سورة الغاشية آية : ٢٢ ، ٢٣] أي : لكن من تولى فإنك مسلط عليه بالقتل ، وكذلك قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) [سورة الحجر آية : ٤٢] أي : لكن لك على من اتبعك سلطان ، ويجوز أن تكون إلا في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) بمعنى الواو عند من يقول بذلك ، وقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [سورة هود آية : ٤٣] معناه : لا معصوم من أمر الله إلا من رحم يريد المؤمنين الذين مع نوح عليه‌السلام في السفينة كأنه قال : لا معصوم اليوم : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : من عذابه إلا المؤمن ، وفاعل بمعنى مفعول كثير في العربية يقولون : سر كاتم أي : مكتوم ، والراحلة بمعنى مرحولة ، وأمر عارف بمعنى معروف ، ويقولون : العارضة لما تعرض له داء من الذكارة والإناث وإنما هي معروض لها ، وكذلك تطليقة بائنة أي : مبانة ، والعائذ الذي يعوذ بها ولدها ، وعيشة راضية أي : مرضية ، وجاء الآشر بمعنى الماشورة ، ومثل هذا يجيء في مواضع لا يقع فيها إلتباس ، ويجوز أن يكون المراد بإلا من رحمه‌الله أي : لا عاصم غير الله ، ويجوز أن يكون المراد به نوح ؛ لأنه يعصم بأمر الله كما قال عيسى عليه‌السلام : (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ٤٩].

قال المبرد : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي : لا عاصم يعصم الناس من أمر الله إلا من رحم فإنه تناله الرحمة ، والعاصم الفاعل ، ومن رحم معصوم ، ولكن لذكره العصمة فهم المعنى ، وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)

١١٣

[سورة النساء آية : ١٥٩] فاستثنى من لفظه ، والمعنى : إن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ، قال الراجز :

لو قلت ما في قومها لم

تيثم يفضلها في حسب وميسم

أي : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، وقال تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [سورة الليل آية : ١٩ ، ٢٠] أي : لا يقصد لذلك ، ولكنه يقصد ابتغاء وجه ربه.

ومما يجري مع هذا الباب ما قاله المبرد : أن الاختيار في قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [سورة آل عمران آية : ١٤٧] أن يكون الاسم ما بعد إلا وليس مثل قوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [سورة الأنفال آية : ٣٥] ؛ لأن مكاء نكرة مصدر ، والاسم فيما مضى معرفة والخبر معرفة ، وكذلك قوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [سورة الجاثية آية : ٢٥] : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [سورة الأعراف آية : ٨٢] ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [سورة الأنعام آية : ٢٣] وذلك أن إلا موجبة فاختاروا أن يجعلوا الموجب الاسم وهذا كله جائز إلا إذا كان الاسم والخبر معرفتين ، وينشدون بيت الفرزدق :

وقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلّا عضّها بالأباهم

على الوجهين.

١١٤

إلى

قال سيبويه : إلى منتهى لابتداء الغاية ، تقول : من كذا إلى كذا ، ويقول الرجل : إنما أنا إليك أي : أنت غايتي ، وتقول : قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك.

وقال غيره : تقول : سرت إلى الكوفة فجائز أن تكون بلغت إليها ولم تدخلها ، وجائز أن تدخلها ولم تجاوزها ؛ لأن إلى غاية وما بعده شيء فليس بغاية.

وجاء في القرآن على وجهين :

الأول : غاية ، كقوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(١) [سورة الشورى آية : ٥٣] أي : تصير إلى حيث لا يحكم غيره.

الثاني : على ما قيل : بمعنى مع ، قال : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [سورة النساء آية : ٢] أي : مع أموالكم كذا قيل.

والوجه أن يقال : لا تضيفوها إلى أموالكم فتأكلوها معها ولم يتح لهم أن يأكلوها مفردة وإنما هو نهي عام كما تقول : لا تشتم زيدا فيمن يشتمه ، والمعنى : لا تشتمه مشاركا في شتمه ولا منفردا به ، وأنه راجع إلى الأكل أي : أكله حوب كبير ، والحوب : الإثم والمصدر الحوب حاب يحوب حوبا ، وذكر الأكل وأراد النفقة ؛ لأن أكثر النفقة وأشهرها يكون فيما يؤكل ، وسماهم بعد البلوغ يتامى بالاسم الأول.

والأصل أن يسقط عنه اسم اليتيم عند البلوغ ، واليتم في الناس من قبل الأباء وفي البهائم من قبل الأمهات.

__________________

(١) قال الطبري : قوله جلّ ثناؤه : أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ يقول جلّ ثناؤه : ألا إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الآخرة ، فيقضي بينكم بالعدل.

فإن قال قائل : أو ليست أمورهم في الدنيا إليه؟ قيل : هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك ، فإن لهم حكاما وولاة ينظرون بينهم ، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره ، فلذلك قيل : إليه تصير الأمور هنالك وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده قضاؤها وتدبيرها في كلّ حال. [جامع البيان : ٢١ / ٥٦١].

١١٥

الاستواء (١)

أكثر ما يستعمل في الاستقامة ونتكلم في أصله بعد إن شاء الله.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : القصد ، قال الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(٢) [سورة فصلت آية : ١١] أي : قصد لإخراجها من كونها دخانا إلى ما هي عليه من صلابة الخلقة ، قال ابن عباس : استوى هاهنا علا أمره.

__________________

(١) [سوي] : سويت الشّيء فاستوى وقوله في البيع : لا يسوى ولا يساوي ، أي : لا يكون هذا مع هذا سيّين من السّواء. وساويت هذا بهذا ، أي : رفعته حتّى بلغ قدره ومبلغه ، كما قال الله عزوجل : " حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ" ، أي : الجبلين ، أي : ردم طريقي يأجوج وماجوج بالقطر ، أي سوّى أحدهما بالآخر ، أيك رفعه حتّى بلغ طوله طولهما.

والمساواة والاستواء واحد ، فأمّا يسوى فإنّها نادرة ، لا يقال منه سوي ولا سوى ، وكما أنّ نكر جاءت نادرة ، ولا يقال منه ينكر ، وإذا رجعوا إلى الفعل قالوا : ينكر ، كذلك إذا رجعوا إلى الفعل من يسوى قالوا : ساوى ، وقال بعضهم : يساوي ويسوى واحد ، إلّا أنّ يسوى مولّد ، ولا يقال منه فعل ولا يفعل ، ولا يصرّف ويجمع السّيّ : أسواء ، كما قال :

النّاس أسواء وشتّى في الشّيم

وكلّهم يجمعهم بيت الأدم

أي : على اختلاف أخلاقهم ، أي : هم كبيت فيه الأدم فمنه الجيّد والوسط والرّديء.

والسّواء ، ممدود : وسط كلّ شيء.

وسوى ، مقصور ، إذا كان في موضع غير ففيها لغتان بكسر السّين ، مقصور ، وبفتحها ممدود.

ويقال : هما على سويّة من الأمر ، أي : على سواء وتسوية واستواء.

والسّيّ : موضع بالبادية أملس.

والسويّة : قتب أعجميّ للبعير ، والجميع : السّوايا.

والسّويّ : الذي سوّى الله خلقه ، لا دمامة فيه ولا داء.

وقوله جلّ وعز : "(مَكاناً سُوىً)" ، أي : معلما قد علم القوم به ، وقال الضّرير في قوله تعالى : "(مَكاناً سُوىً)" : سوى وسوى واحد ، أي : مستويا تدركه الأبصار.

وتصغير سواء وسوى : سويّ ، ويجمع على سواسية وأسواء. [العين : سوى].

(٢) قال أبو جعفر : اختلفوا في تأويل قوله : " ثم استوى إلى السّماء".

فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوى عليّ يشاتمني ـ واستوى إليّ يشاتمني. بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستشهد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال.

١١٦

الثاني : الاستيلاء ، قال الله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه آية : ٥] ، ومنه قول الشاعر :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

الثالث : الاستقرار ، قال الله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [سورة هود آية : ٤٤] أي : استقرت.

الرابع : التماثل ، قال الله : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [سورة المائدة آية : ١٠٠] أي : ليسا مثلين ، وأما قوله تعالى : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) [سورة النجم آية : ٦] أي : استوت

__________________

وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ، ثم تحوّل إلى الشام. إنما يريد : تحوّل فعله. [وقال بعضهم : قوله : " ثم استوى إلى السماء" يعني به : استوت]

وقال بعضهم : " ثم استوى إلى السماء" ، عمد لها. وقال : بل كلّ تارك عملا كان فيه إلى آخر ، فهو مستو لما عمد له ، ومستو إليه.

وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع ، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها ، هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم : بل العالي عليها : الدّخان الذي جعله الله للأرض سماء (٥).

قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوّته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرّجل. ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره. إذا استقام بعد أود.

وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى إلى السماء فسوّاهن" ، علا عليهن وارتفع ، فدبرهنّ بقدرته ، وخلقهنّ سبع سموات.

والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : " ثم استوى إلى السماء" ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه ـ إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك ـ أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها ـ إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله" استوى" أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علوّ ملك وسلطان ، لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولو لا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه ، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا. وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى. [جامع البيان : ١ / ٤٣٠].

١١٧

صورته يعني : جبريل فرآه النبي صلى الله عليه على ما هو عليه من استواء الصورة إلا كما ينزل بالوحي على صورة رجل.

١١٨

الاستفهام (١)

أصل الاستفهام الاستخبار بما جاء بمعنى التوقيف والإنكار فأما الإنكار (٢) فقوله تعالى : (خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) [سورة الكهف آية : ٧١] والدليل على أنه إنكار قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) [سورة الكهف آية : ٧١] ، وهكذا قوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) [سورة الكهف آية : ٧٤] ، ومثله كثير.

وأما التوقيف والتعريف فقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [سورة الشرح آية : ١] وتأويله أنا قد فعلنا ذلك ، ولو لا ذلك لم يعطف على : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [سورة الشرح آية : ٢] ؛ لأن لم عامله لا يقع على الفعل الماضي.

ومن التقرير قوله عزوجل : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل آية : ١٧] ، وأنزل تعالى قبل ذلك : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة الزخرف آية : ٨٧] ثم قال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وجاء على وجه التوبيخ ، وذلك أنه لما كان البنون مرغوبا فيهم والبنات مكروهات ونسبوا إلى الخالق ما يكرهون ويحهم فقال : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا

__________________

(١) قال الجرجاني : الاستفهام : استعلام ما في ضمير المخاطب ، وقيل : هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن ، فإن كانت تلك الصورة وقوع نسبة بين الشيئين ، أولا وقوعها ، فحصولها هو التصديق ، وإلا فهو التصور. [التعريفات : أسماء الأفعال].

(٢) قال المناوى : التوقيف العلم هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع أو هو صفة توجب تمييز الا يحتمل النقيض أو هو حصول صورة الشئ في العقل والاول أخص وفي البصائر المعرفة ادراك الشئ بتفكر وتدبر لا ثره وهى أخص من العلم والفرق بينها وبين العلم من وجوه لفظا ومعنى أما اللفظ ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد وفعل العلم يقتضى مفعولين وإذا وقع على مفعول كان بمعنى المعرفة وأما من جهة المعنى فمن وجوه أحدها ان المعرفة تتعلق بذات الشئ والعلم يتعلق بأحواله والثانى أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد ادراكه فإذا أدركه قيل عرفه بخلاف العلم فالمعرفة نسبة الذكر النفسي وهو حضور ما كان غائبا عن الذاكر ولهذا كان ضدها الانكار وضد العلم الجهل والثالث أن المعرفة علم لعين الشئ مفصلا عما سواه بخلاف العلم فانه قد يتعلق بالشئ مجملا ولهم فروق أخر غير ما ذكرنا وقوله (وعلم هو في نفسه) هكذا في سائر النسخ وصريحه انه كسمع لا نه لم يضبطه فهو كالاول وعليه مشى شيخنا في حاشيته فانه قال وانه يتعدى بنفسه في المعنيين الاولين والصواب أنه من حد كرم كما هو في المحكم ونصه وعلم هو نفسه. انظر تاج العروس (ع ل م).

١١٩

يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) [سورة الزخرف آية : ١٦] والدليل على أنه أراد التوبيخ قوله في مثل هذه القصة : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة الصافات آية : ١٥٤ ، ١٥٥].

وقوله للمسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [سورة المائدة آية : ١١٦] تقرير وتوبيخ لقومه ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [سورة البقرة آية : ٢٥٨] توقيف له وإخبار ببطلان دعوى هذا المحاج.

١٢٠