تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

والامتراء الشك ، وأصله من المري ؛ وهو استخراج اللبن من الضرع ، مرى الناقة يمريها مريا ، ومنه ماراه إذا استخرج ما عنده بالمناظرة ، وامترى امتراء إذا استخرج الشبه الموجبة له ، ونظيره : (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى [إِلى أَجَلٍ] مُسَمًّى) [سورة الزمر آية ٤٢]. يقول : إلى أجل الموت.

الثاني : أجل العذاب قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [سورة الأعراف آية ٣٤]. إن لم يؤمنوا إليه نزل عليهم العذاب. ومثله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [سورة نوح آية ٤]. أي : أجل العذاب.

ومعنى أجل الله ، أي : الأجل الذي ضربه الله ، ولا يكون الأجل أجلا إلا بالإخبار والتوقيت ، وليس وقت كل شيء أجله ، إنما سمي وقت الشيء أجلا إذا كان على ما وصفنا.

الثالث : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة لقمان آية ٢٩]. قالوا : يعني : أن مطالع الشمس والقمر لها غاية ، ولا يتجاوزاه في شتاء ولا صيف ، ويجوز أن يكون المراد أن لهما أجلا مسمى ينتهيان إليه وهو الساعة.

الرابع : محل الديون ، قال الله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [سورة البقرة آية ١٨١]. أي : اكتبوا الأجل لأن لا يدعى فيه التقديم والتأخير غلطا أو عمدا ، وقد تكلمنا في ذلك

الخامس : قوله [تعالى] : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الحج آية ٣٣]. يقول : إلى أن تقلد فإذا قلدت لم تركب ولم تشرب ألبانها ، يعني : البدن.

السادس : أجل الولادة. قال [الله] تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الحج آية ٥]. أي : إلى وقت الولادة.

السابع : انقضاء العدة ، قال الله تعالى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) [سورة البقرة آية ٢٣٢]. والمخاطبة لأولياء النساء.

وبلوغ الأجل انقضاء العدة ، أي : لا تمنعوهن التزويج إذا انقضت عدتهن من مطلقتهن.

٦١

قال بعض الفقهاء : فيه دلالة على أن النكاح لا يصح إلا بولي ، ولو صح بغير ولي لم يكن لمخاطبة الولي بهذا الخطاب فائدة.

والعضل : المنع من التزويج ثم كثر حتى قيل : عضل الرجل امرأته إذا ضارها ؛ لأن مضارته إياها منع لها مما ينبغي عنده.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [سورة البقرة آية ٢٣١]. فالأجل هاهنا مقاربة الخروج من العدة ، أي : إذا طلقتموهن تطليقة أو تطليقتين فقاربن الخروج من العدة فأمسكوهن بمعروف ، أي : إن أردتم حينئذ مراجعتهن فراجعوهن وأمسكوهن بجميل من الفعل أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن فيتزوجن.

ومثل الأول : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [سورة البقرة آية ٢٣٥]. والعزم : إيجابك فعل الشيء على غيرك أو على نفسك ، ويقال : عزمت عليك لتفعلن ، وقد وصف الله به ، فقيل : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه. وهو مفارقة للإرادة عند أبي علي رضي الله عنه ؛ لأنك تريد خروج زيد ولا يجوز أن تعزم على خروجه. والعزم أيضا يصح على الإرادة ولا يجوز أن تريد الإرادة.

الثامن : قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الشورى آية ١٤]. لأن لا يعذب هذه الأمة بعذاب الاستئصال لأنزل بهم العذاب ، والكلمة : الساعة ، وهو قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [سورة القمر آية ٤٦]. والأجل المسمى هو الساعة أيضا ، فكأنه قال : فلو لا أني جعلت موعد الانتقام منكم الساعة لانتقمت منكم الآن.

وقال الله تعالى لهم : (ذلِكَ خَيْرٌ) [سورة الأعراف آية ٢٦]. قالوا أنزل : (عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأنفال آية ٣٢].

٦٢

إقام الصلاة

الأصل : إقامة الصلاة ، فأسقطوا الهاء تخفيفا ، ولا تسقط إلا عند الإضافة ليس.

يقال : أقام الصلاة إقاما ، ويجوز أن يكون معنى إقامة الصلاة إدامتها ، من قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ)(١) [سورة آل عمران آية ١٨]. أي : مديما لفعله ، وفلان يقيم أرزاق الجند أي : يجريها على إدامة. ويحتمل أن يكون عنى به اشتغالهم بها دون غيرها من قولهم : قامت الصلاة. أي : وقع الاشتغال بها.

وقيل : إقامتها إتمام الركوع والسجود ومراعاة المواقيت.

وقيل : هو مثل قوله : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [سورة الرحمن آية ٩]. والإقامة والتقويم سواء ، وهما خلاف الميل والاعوجاج.

وأصل الصلاة : الدعاء ، وسميت صلاة ؛ لما فيها من الدعاء.

والصلاة أيضا الترحم ؛ لأنه دعاء ، ومنه : الصلاة على الميت ؛ لأنها دعاء لا ركوع فيها ولا سجود ، وصلى فلان على فلان إذا دعا له.

قال الأعشى :

وقابلها الرّيح في دنّها

وصلى على دنّها وارتسم

وجاء في القرآن على وجهين :

الأول : الإقرار بالصلاة مع التصديق وغير التصديق ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [سورة التوبة آية ٥]. أي : فإن أقروا بهما ، ولم يرد أنهم إذا أقاموها على اعتقاد صحيح فخلوا سبيلهم ؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله ، وحقيقة

__________________

(١) قال الخازن : (قائِماً بِالْقِسْطِ)أي بالعدل نصب على الحال والقطع أو المدح ومعناه أنه تعالى قائم بتدبير خلقه كما يقال : فلان قائم بأمر فلان يعني أنه مدبر له ومتعهد له ومتعهد لأسبابه ، وفلان قائم بحق فلان ، أي أنه مجاز له فالله مدبر أمر خلقه وقائم بارزاقهم ومجاز لهم بأعمالهم. [لباب التأويل في معاني التنزيل : ١ / ٣٥٢].

٦٣

المراد دخولهم في الإسلام ، وإنما ذكر الصلاة والزكاة ؛ لأنهما من أجل شرائع الإسلام وأشهرها ومثله مع قوله : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [سورة التوبة آية ١١].

الثاني : إتمام الصلاة ، قال الله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [سورة النور آية ٥٦]. أي : أتموها في أوقاتها ، وقوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [سورة البقرة آية ٣]. ونحوه كثير.

٦٤

الاستطاعة (١)

الاستطاعة : استفعال ، من الطوع ، وهو خلاف الكره ، وذلك أن الفعل يقع بها طوعا ولا يجوز أن يسمى الله مستطيعا ؛ لأنه من قولك : انطاع له الفعل بعد أن لم يكن كذلك ، وهذا لا يجوز على الله. والطوع بمعنى : الانقياد ، والانقياد بمعنى : الذل ، يقال : طاع له طوعا وأطاعه إطاعة : إذا انقاد له. والطاعة الانقياد لمن يعتقد تعظيمه.

__________________

(١) [طوع] : طاع يطوع طوعا فهو طائع. والطّوع : نقيض الكره ، تقول : لتفعلنّه طوعا أو كرها. طائعا أو كارها ، وطاع له إذا انقاد له.

إذا مضى في أمرك فقد أطاعك ، وافقك فقد طاوعك. قال يصف دلوا :

أحلف بالله لتخرجنّه

كارهة أو لتطاوعنّه

أو لترينّ بي المرنّه

أي : الصّائحة.

والطّاعة اسم لما يكون مصدره الإطاعة ، وهو الإنقياد ، والطّواعية اسم لما يكون مصدره المطاوعة. يقال طاوعت المرأة زوجها طواعية حسنة ، ولا يقال : للرعيّة ما أحسن طواعيتهم للرّاعي ، لأنّ فعلهم الإطاعة ، وكذلك الطّاقة اسم الإطاقة والجابة اسم الإجابة ، وكذلك ما أشبهه ، قال :

حلفت بالبيت وما حوله

من عائذ بالبيت أو طاعي

أراد : أو طائع فقلبه ، مثل قسيّ ، جعل الياء في طائع بعد العين ، ويقال : بل طرح الياء أصلا ، ولم يعدها بعد العين ، إنّما هي : طاع ، كما تقول : رجل مال وقال ، يراد به : مائل ، وقائل ، مثل قول أبي ذؤيب :

وسوّد ماء المرد فاها فلونه

كلون الرّماد وهي أدماء سارها

أي : سائرها. وقال أصحاب التّصريف : هو مثل الحاجة ، أصلها : الحائجة. ألا ترى أنّهم يردّونها إلى الحوائج ، ويقولون : اشتقّت الاستطاعة من الطّوع.

ويقال : تطاوع لهذا الأمر حتّى تستطيعه. وتطوّع : تكلّف استطاعته ، وقد تطوّع لك طوعا إذا انقاد ، والعرب تحذف التّاء من استطاع ، فتقول : اسطاع يسطيع بفتح الياء ، ومنهم من يضمّ الياء ، فيقول : يسطيع ، مثل يهريق.

والتّطوّع : ما تبرّعت به ممّا لا يلزمك فريضته. والمطّوّعة بكسر الواو وتثقيل الحرفين : القوم الذين يتطوّعون بالجهاد يخرجون إلى المرابطات. ويقال للإبل وغيرها : أطاع لها الكلأ إذا أصابت فأكلت منه ما شاءت ، قال الطرمّاح :

فما سرح أبكار أطاع لسرحه

والفرس يكون طوع العنان ، أي : سلس العنان. وتقول : أنا طوع يدك ، أي : منقاد لك ، وإنّها لطوع الضّجيع. والطّوع : مصدر الطائع. قال :

طوع الشّوامت من خوف ومن صرد. [العين : طوع].

٦٥

والاستفعال في الأصل للطلب ثم استعمل في غير ذلك ، فقيل : استحسن الشيء واستقبحه. وقيل : فعلته طوعا ، أي : فعلته في سهولة ، ومثله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) [سورة المائدة آية : ٣٠]. أي : سهلته عليه ، ومن هذا الوجه أيضا لا يقال لله مستطيع ، كما لا يقال : أن هذا الفعل سهل عليه ، ومن أجل أن استطاع طلب ذلك ولا يوصف الله بأنه يطلب القدرة على الفعل ويطلب السهولة أو انطباع الفعل.

وقيل : طوعت : حسنت وزينت ، وهذا على المعنى وليس على اللفظ.

وقيل : طوعت : شجعت ، وطوعت السقاء ملأته ، وهو طواع الكف ، أي : ملؤها ، وطاع له الشيء إذا أتاه طوعا ، وقيل : طوعت : له أطاعته وتابعته ، وقرئ : فطاوعت.

والاستطاعة في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : السعة في المال ، قال الله تعالى : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة آية ٤٢]. أي : لخرجنا معكم إلى تبوك ، يعنون سعة ذات اليد للخروج وتخفيف النفقة للعيال. وقوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران آية ٩٧]. وتدخل في هذا سعة ذات اليد ، وصحة البدن ، وأمن الطريق ، وتمام الوقت.

وقال : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) [سورة النساء آية ٩٨]. أي : لا يجدون سعة يستعينون بها على الهجرة ، ويجوز أن يكون أراد عدم الصحة والقوة على السفر ، أو عنى أنهم ممنوعون من الخروج ببعض الموانع الكائنة من جهة الكفار.

وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) [سورة النساء آية ٢٥]. والطول : السعة ، وتطول الرجل أفضل من سعة وليس فيه طائل يرجع إلى هذا ، أي : إذ لم تستطيعوا نكاح الحرائر لتعذر النفقة عليكم فانكحوا الأيامى ليقع الانتفاع لكم بهن وتكون نفقتهن على مواليهن ويقل مهرهن.

٦٦

وقال بعضهم : لا يجوز نكاح الأمة مع وجود الطول. وليس كذلك ؛ لأن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى ، قال الله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [سورة النور آية : ٣٢] فعم.

الثاني : الطاقة ، قال تعالى : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [سورة القلم آية ٤٢]. فلو كانت الاستطاعة مع الفعل لكانوا عاجزين إذ لم يفعلوا ؛ لأن الفعل معدوم ، وإذا عدم الفعل عدم الاستطاعة ، ولكان أيضا من وجد الزاد والراحلة وتمام الوقت ، وهو صحيح البدن وعطل الحج ثم مات لكان معذورا ؛ لأنه كان عاجزا وإنما يكون مستطيعا عند خصومنا في وقت وجود الحج ولا لوم على العاجز.

وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يستطيعون السجود في الآخرة ، فدل على أنهم كانوا يستطيعونه في الدنيا ؛ لقوله : (وَهُمْ سالِمُونَ) [سورة القلم آية ٤٣]. وإلا فليس للكلام معنى يفهم.

وقوله تعالى : (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) [سورة الذاريات آية ٤٥]. أي : لم يطيقوا القيام لعذاب الله ، ومثله : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [سورة الكهف آية ٩٧].

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن آية ١٦]. واسطاعوا : لغة في استطاعوا ، يقال : اسطعت الشيء واستطعته.

وقوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) [سورة النساء آية ١٢٩]. أي : لا تطيقون ذلك في الحد ، هذا في الرجل له زوجتان وثلاث وأربع ، قال : وليس يستطيع أن يسوي بينهن في الشهوة ، فتشتهي هذه كما تشتهي تلك ؛ لأن الشهوة ليست من فعله فعذره فيما لا يستطيع واسع ، وليس كما يذهب إليه المجبرة في أنه تعالى كلفه العدل بينهن ، وهو لا يستطيعه ، ألا ترى أن قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) [سورة النساء آية ١٢٩]. دلالة على أنه في بعض الميل معذور ، وهو الذي لا يستطيع خلافه ، والمعنى النهي عن إيثار إحداهن للشهوة فيها والانصراف عن الأخرى حتى تصير كالمعلقة لا المتزوجة ولا المطلقة.

٦٧

وقال : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) [سورة الفرقان آية ١٩]. قال أبو علي رضي الله عنه : الخطاب للنبيّ عليه‌السلام والمؤمنين بقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) [سورة الفرقان آية ١٩]. أي : كذبوك بما تقول من توحيد الله فلا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم والانتصار لها.

وقال غيره : الخطاب للكفار يريد أن هؤلاء الذين اتخذتموهم آلهة إذا سئلوا هل كان عبادتكم إياها بدعاء منكم لها ، : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [سورة الفرقان آية ١٨]. فظهر لهم حينئذ أنهم لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا على نصرهم مما يراد إنزاله بهم.

الثالث : الاستثقال ، قال الله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) [سورة هود آية ٢٠]. أي : كانوا يستثقلون استماع القرآن والأمر بالإيمان ، وهو كقولك : لا أستطيع أن أسمع كلام فلان. أي : يثقل علي ذلك ، وهذا معروف.

الرابع : الاستطاعة ، بمعنى سؤال الفعل وطلبه ، قال الله تعالى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [سورة المائدة آية ١١٢]. والمعنى : سؤال النزول كما تقول : هل يستطيع فلان أن يقوم معنا. وأنت تعلم أنه يستطيع ولكنك تجعل ذكر الاستطاعة سؤالا للقيام ؛ لأنه ألطف وقرئ : هل يستطيع ربك. أي : هل تقدر على أن تسأل ربك ، وكانوا يعلمون أنه قادر على سؤال ربه ، ولكن قالوا ذلك ؛ لأنه ألطف في السؤال ومجازه هل يجوز أن تسأل ربك.

٦٨

الأحزاب (١)

جمع حزب ، وهو : الجماعة المتعاونة ، ومنه تحزب القوم إذا اجتمعوا وتعاونوا.

قال الراجز :

وكيف أضوي وبلال حزبي

أي : مغيثي.

وأصل الكلمة من الشدة ، ومنه يقال : حزبني إذا استبد علي ، والاسم : حزابة ، وأمر حازب وحزيب أي : شديد.

والأحزاب في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة ، وهو قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [سورة الرعد آية ٣٦]. هذا قول بعض المفسرين.

وقال غيره : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [سورة الرعد آية ٣٦]. النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون. والكتاب : القرآن ، أي : هم يفرحون به ، : (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي : هم الباقون. وقال : منهم : (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو المواضع التي تخالف دينهم ، وكانوا لا ينكرون ما فيه من الحكم والأمثال والدعاء إلى المكارم ، وليس في العقلاء من ينكر ذلك.

وسماهم أحزابا ؛ لاختلاف مذاهبهم ، وذلك أن اليهود فرقة ، والنصارى فرقة وعباد الأوثان فرقة.

__________________

(١) [حزب] : حزبني الأمر يحزبني حزبا إذا نابك. وأمر حازب وحزيب أي شديد. والحزب أصحاب الرّجل معه على رأيه وأمره ، والجميع الأحزاب. وتحزّب القوم اجتمعوا فصاروا أحزابا. وحزّبهم فلان. وحازبته كنت من حزبه. وفلان يحازب لفلان أي يعصب به وينصره. وهذيل تسمّي السّلاح الحزب ؛ تشبيها وسعة. والحزب الورد من القرآن. والحيزبون العجوز ، والنّون زائدة. وهي من النّوق الشّديدة. والحزباءة أرض حزنة ، والجميع الحزابي. والحزابية في وصف الحمار استدارة خلقه. وركب حزابية ضخمة. [المحيط في اللغة : الحاء والطاء والراء].

٦٩

وقوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [سورة ص آية ١١]. جاء في التفسير أنه عنى هؤلاء المذكورين أولا.

والوجه أن يكون من يحارب النبي صلى الله عليه من فرق المخالفين.

وفيه بشارة له عليه‌السلام ، أي : هؤلاء جند مهزوم بعد قليل ، وأنت هازم لهم وظافر بهم. و" ما" في قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ). توكيد ، كأنه قال : هم جند. وأتى جندهم وعظم أمرهم ليكون أعظم لأمر هازمهم ؛ لأن غلب العدو القوي أبلغ في المدح.

الثاني : النصارى ، قال الله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [سورة الزخرف آية ٦٥].

الثالث : قوم عاد وثمود وشعيب وفرعون ، وهو قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) [سورة غافر آية ٥]. ويجوز أن يكون المعني بذلك جميع من كذب الرسل من هؤلاء ومن غيرهم من بعدهم. وقال : (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ) [سورة ص آية ١٢ ، ١٣]. ومثله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [سورة غافر آية ٣٠]. يعني : هؤلاء.

الرابع : أبو سفيان وأصحابه يوم الخندق ، قال : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا) [سورة الأحزاب آية ٢٠]. يعينهم.

٧٠

الأمر

قد مضى القول في أصله.

وهو في القرآن على سبعة عشر وجها :

الأول : الدين ، قال الله تعالى : (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) [سورة التوبة آية ٤٨]. يعني : دينه ، وقوله تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) [سورة المؤمنون آية ٥٣]. أي : الدين الذي جاء به نبيهم ، فنسبته إليهم ؛ لأنهم المتعبدون به والمندوبون إليه ، والمعنى : أن الله أعلمهم أن أمر الأمة واحد ، وأن دينه واحد وهو الإسلام وهم قد تقطعوا واختلفوا.

الثاني : القول ، قال الله تعالى : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) [سورة الكهف آية ٢١]. قال : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) [سورة طه آية ٦٢]. أي : يتنازعون القول فيما يريدون العمل عليه ؛ لأن مثل ذلك الأمر لا يتنازع وإنما يتنازع القول فيه.

الثالث : وقت الوعيد ، قال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [سورة هود آية ٤٠]. أي : حضر وقت وعيدنا ، ويجوز أن يكون على ظاهره أي : حتى جاء أمرنا بالعذاب ، أي : حتى أمرنا بتعذيبهم.

الرابع : العذاب ، قال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة إبراهيم آية ٢٢]. أي : وجب العذاب ، ويجوز أن يكون قضاء الأمر هاهنا فضل الحساب ووقوف كل فريق على ما له عند الله من الخير والشر. ومثله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)(١) [سورة مريم آية ٣٩]. أي : وجب العذاب.

__________________

(١) قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ) أي : خوّف كفّار مكة (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يعني : يوم القيامة يتحسّر المسيء إذ لم يحسن ، والمقصّر إذ لم يزدد من الخير.

وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنة ، فيشرئبّون وينظرون ، وقيل : يا أهل النار فيشرئبّون وينظرون ، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : هذا الموت ، فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ؛ ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

٧١

الخامس : تمام العذاب وبلوغ المراد منه ، قال : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة هود آية ٤٤].

السادس : بمعنى الشيء ، قال : (وَإِذا قَضى أَمْراً) [سورة البقرة آية ١١٧]. أي : إذا أراد إحكام شيء لم يتعذر عليه.

ومثله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [سورة الشورى آية ٥٣] أي : تصير الأشياء إلى حيث لا يحكم فيه سواه ولا يقدر عليه غيره.

وجاء في التفسير أنه أراد بقوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً). عيسى عليه‌السلام أنه يكون من غير أب.

السابع : هزيمة الكفار وقتلهم ببدر ، قال الله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) ، ثم قال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [سورة الأنفال آية ٤٤] أراد هزيمة الكفار وأسرهم جزاء لهم على كفرهم ونصرة المؤمنين عليهم.

الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) [سورة غافر آية ٧٨]. يعني : القيامة ، وقيل : أراد به قتل الكفار ببدر. والأول الوجه.

__________________

". قال المفسرون : فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت ، فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنة ، ولو مات أحد حزنا مات أهل النار.

ومن موجبات الحسرة ، ما روى عديّ بن حاتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : " «يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها ، نودوا : أن اصرفوهم عنها ، لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأوّلون بمثلها ، فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا ؛ قال : ذلك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم ، هبتم الناس ولم تهابوني ، وأجللتم الناس ولم تجلّوني ، تركتم للناس ولم تتركوا لي ، فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب". ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال : ليس من نفس يوم القيامة إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة ، وبيت في النار ، ثم يقال : يعني لهؤلاء : لو عملتم ، ولأهل الجنة : لو لا أن منّ الله عليكم. ومن موجبات الحسرة : قطع الرجاء عند إطباق النار على أهلها. [زاد المسير : ٢ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦].

٧٢

وقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [سورة النحل آية ١]. يعني : القيامة والإتيان هاهنا بمعنى الدنو كقول الشاعر :

وقيل المنادي أصبح القوم أدلجوا

أي : دنا الإصباح.

ومثله قوله : (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) [سورة الحديد آية ١٤].

التاسع : فتح مكة ، قال الله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [سورة التوبة آية ٢٤]. قالوا : أراد فتح مكة ، ويجوز أن يكون المراد ظهور الإسلام وقوة أهله.

العاشر : قتل قريظة وجلاء النضير ، قال الله وحده : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [سورة البقرة آية ١٠٩]. جاء في التفسير أنه أراد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد القيامة أيضا ، ويجوز أن يكون أراد : اصفحوا عنهم إلى أن يأمركم الله بقتالهم فتنتقموا منهم.

الحادي عشر : بمعنى القضاء ، قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [سورة السجدة آية ٥] ، وقال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [سورة يونس آية ٣]. أي : يقضي القضاء.

الثاني عشر : الوحي ، قال الله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [سورة السجدة آية ٥]. قال أهل التفسير : يعني : الوحي. وقال : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [سورة الطلاق آية ١٢]. يعني : الوحي.

الثالث عشر : بمعنى النصر والسلطان ، قال : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [سورة آل عمران آية ١٥٤]. يعني : أن الغلبة لأولياء الله.

الرابع عشر : الذنب ، قال الله تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) [سورة الطلاق آية ٩] أي : جزاء ذنبها.

وأصل الوبال من الطعام الوبل ، وهو الوخم الذي لا يمري ، وقيل : الوبيل الشديد ، وأصله من الكراهة ، يقال : استوبلت المنزل إذا كرهته لقلة موافقته لك ، قال الله : (فَذاقُوا

٧٣

وَبالَ أَمْرِهِمْ) [سورة التغابن آية ٥]. أي : جزاء ذنبهم ، وقال : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) [سورة المائدة آية ٩٥].

الخامس عشر : الأمر خلاف النهي ، قال الله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [سورة الإسراء آية ١٦]. أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، وقرئ : أمرنا. أي : جعلناهم أمراء. وقيل : كثرناهم ، وأمر الشيء : كثر ، وقيل : أمرناه بالتخفيف معناه : كثرنا.

وروى الجرمي عن أبي زيد والأصمعي : أمره وأمره. أي : كثره ، وأمر هو ، فهو آمر ومأمور ومؤمر من آمره ، وأمرته أيضا : كثرته بالتثقيل ، وهو مأخوذ من أمرته بالتخفيف ؛ لأن فعلت بالتثقيل من فعلت بالتخفيف مثل : ضربت وضربت ، قال المبرد : ولا تكون ذلك من أمرت.

السادس عشر : إظهار أمر المنافقين ، قال الله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) [سورة المائدة آية ٥٢]. أي : أو أن يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار أمر المنافقين فيعاقبوا ، : (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [سورة المائدة آية ٥٢]. ويجوز أن يكون المعنى في هذا : ظهور الإسلام.

السابع عشر : العلم ، قال الله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء آية ٥٩]. قيل : يعني : العلماء ، وقيل : يعني : السلطان ، وإنما تجب طاعة السلطان إذا كان محقا.

وقال ابن عباس : أولو الفقه في الدين.

وقال أبو علي رحمه‌الله : هم الأمة وأمراؤهم ، وليس هم العلماء إلا أن يكونوا أمراء. وقال : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء آية ٥٩]. أي : إلى الكتاب والسنة ؛ لأنهما من الله ورسوله ، وفيه دليل على أن الإمامة ليست بحجة ، وفيه دليل أيضا على صحة القياس وذلك أن جميع ما يتنازع فيه المتنازعان لا يوجد في القرآن والسنة مشروحا ، ولكن يوجد أصل كل شيء فيهما أو في أحدهما ، فأمر بحمل الفروع على الأصول الموجودة فيهما ليظهر أحكامها ، ولا يأتى ذلك إلا بالقياس.

والآية عموم في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة في حياة الرسول وبعد وفاته.

٧٤

والذي يقتضيه فحوى الكلام الرد إليهما فيما لا نص فيه ؛ لأن المنصوص عليه لا احتمال فيه لغيره ولا يقع فيه التنازع من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه.

وأما الأمر في قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [سورة الطلاق آية ١]. فهو تفسير الرجعة ، وذلك أنه إذا طلقها طلاق السنة ملك رجعتها.

وطلاق السنة عند الكوفيين يعتبر فيه معنيان :

أحدهما : الوقت. والآخر : العدد.

فالوقت : أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها. والعدد : ألا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة ، فأما من لا عد عليها فيطلقها متى شاء في حيض أو طهر بغير المدخول بها.

٧٥

الأرض (١)

من الأراضة وهي الخلاقة ، مكان أريض : أي : خليق المنبت. وسميت الأرضة أرضة ؛ لأنها تكون في بطن الأرض ، وسمي الرعدة أرضا من الأرضة ؛ لأنها إذا وقعت في الخشبة أكلتها فخفت فسميت الرعدة أرضا ؛ لأنها خفة تعتري الإنسان.

وتجمع الأرض أرضين على غير قياس. وكان الأصل في الأرض أرضة والشاهد أنها تجمع أرضات ، مثل : تمرة وتمرات ، وأسقطت الأرضة أصلا حتى أنها لا يقال ، وأدخلت الواو والنون في الأرضين عوضا من الساقط وإنما أسقطت ؛ لأن التمر ينفصل كل واحدة منهما بنفسها ، والأرض ليست كذلك ، وإنما هي اسم واحد يجمع أشياء لا ينفصل بعضها من بعض. وقولنا : أرض كقولنا : تمر. اسم للجنس ، وربما جمعت على أراض مثل : تمر وأتمار.

وهي في القرآن على تسعة أوجه :

الأول : أرض الجنة ، قال الله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [سورة الأنبياء آية ١٠٥]. يعني : أرض الجنة ، هكذا قيل. وقيل : إنها أرض الدنيا ، ودليل ذلك أن الأرض إذا جاءت مطلقة ، وهي الأرض المعروفة لا غير ، ولو لم يكن ذلك كذلك ، لم يعرف بإطلاق اللفظ شيء.

الثاني : الأرض المقدسة ، قال الله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [سورة الأعراف آية ١٣٧]. أي : مشارق أرض الشام ومغاربها ؛ لأنها تعلم أن بني إسرائيل لم يملكوا أرض فارس ولا أرض خراسان ، ومنه قوله

__________________

(١) (أرض) : أرض وأرضون. وروضة أريضة : لينة الموطىء واسعة. وأرض أريضة : طيبة المعقد ليّنة ، وقيل : خليقة للمطر والخير. وكذلك رجل أريض ، وما آرضه للخير. وعليه أراضة ذاك : أي أمارته.

وتأرض الرّجل : نزل ؛ مشتق من الأرض. وهم يتارضون منزلا : أي يتخيرون أرضا أريضة للنزول.

وما في الحوض أروض : أي شيء يواري أرضه. والأرض : كرم الأرض ، أرضت تأرض أرضا.

والأرض : الرّعدة. والزكام أيضا ، ورجل مأروض : أي مزكوم. وقيل : هو الذي يحرك رأسه وجسده على غير عمد. المحيط في اللغة : ٢ / ٢٠٢.

٧٦

تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [سورة الروم آية ١ ـ ٣]. يعني : أرض الشام ، وقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) [سورة الأنبياء آية ٧١]. أي : أرض الشام.

الثالث : أرض المدينة خاصة ، قال الله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [سورة العنكبوت آية ٥٦]. يأمرهم بالهجرة إليها ، ثم فيه دلالة على أن من لا يمكنه عبادة الله في أرض فينبغي أن ينتقل عنها إلى حيث يمكنه ذلك.

والمراد على هذا التأويل أن أرض مكة تسعكم لا تجدون فيها ما تجدون في غيرها من المعاشر فانتقلوا إليها ، ويجوز أن يكون المعنى أن الطرق غير مسدودة عليكم فاخرجوا إلى حيث تتمكنون من عبادة ربكم. ومثله قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [سورة النساء آية ٩٧]. قالوا : يعني : أرض المدينة. وقال : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) [سورة الإسراء آية ٧٦]. وقال : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) [سورة النساء آية ١٠٠]. أي : مذهبا واسعا ، مأخوذ من الرغام ، والمراغمة أيضا المغايظة والمناغضة ، وأصله من الرغام وهو التراب. ويقال : راغمته إذا هاجرته وعاديته ولم لا تبال رغم أنفه أم لا.

الرابع : أرض مكة ، قال الله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) [سورة النساء آية ٩٧]. يعني : أرض مكة ، : (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) [سورة النساء آية ٩٧]. أي : أليس في أرض المدينة متسع ومحتمل ، فليس لكم عذر في المقام بمكة على ذل وهوان.

الخامس : الأرض التي تفتح لأهل الإسلام ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [سورة الرعد آية ٤١]. أي : أولم تروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما يبين لهم صدق الدعوة ، وذلك أنه كان أخبره بفتحها عليهم ، ففتحها كان بعض

٧٧

المعجزات ، وقيل : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها)(١) موت أهلها وبنقص ثمارها ، وقيل : موت العلماء والأول الوجه.

السادس : أرض مصر خاصة ، وهو قوله : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [سورة يوسف آية ٥٥]. وإنما طلب ذلك نظرا للناس ليوسع عليهم وينصفهم في القسمة ، وقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [سورة يوسف آية ٥٦]. وقال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [سورة يوسف آية ٨٠]. وقال : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [سورة القصص آية ٤] وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [سورة القصص آية ٥]. وقوله : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [سورة غافر آية ٢٦]. المعنى بهذا كله : أرض مصر. وكذلك قوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة الأعراف آية ١٢٨]. ويجوز أن يكون المعنى في هذا جميع الأرض المسكونة.

السابع : أرض الإسلام ، قال الله تعالى : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [سورة المائدة آية : ٣٣] قال أهل التفسير : يقاتلون حيث توجهوا من الأرض ولا يتركون فارين في شيء من أرض المسلمين ، وقيل : معناه أن دمائهم مباحة فمن يقتلهم لم يؤخذ بهم ، ويقال : نفيت الشيء نفيا ، والنفاية ما ينفى مثل : النحاتة والبراية.

الثامن : جميع الأرضين ، قال الله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [سورة هود آية : ٦] ، وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ) [سورة

__________________

(١) قال الشوكاني : (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني أهل مكة ، والاستفهام للإنكار ، أي : (أولم ينظروا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئا فشيئا. قال الزجاج : أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر ، يقول : أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم ، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل : إن معنى الآية : موت العلماء والصلحاء. قال القشيري : وعلى هذا فالأطراف الأشراف. وقد قال ابن الأعرابي : الطرف الرجل الكريم. قال القرطبي : وهذا القول بعيد ؛ لأن مقصود الآية : أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلّا أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى. وقيل : المراد من الآية خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها. وقيل : المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم. وقيل : المراد نقص ثمرات الأرض. وقيل : المراد جور ولاتها حتى تنقص. [فتح القدير : ٤ / ١٢٣].

٧٨

لقمان آية : ٢٧] ، وقوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [سورة الكهف آية : ٨٤] ، والفرق بين مكنا له ومكناه أن معنى مكنا له : جعلنا له ما يتمكن به في الأرض ، ومعنى مكناه : أقدرناه على ملك الأرض.

وقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [سورة الكهف آية : ٤٧] والمراد : أنا نسير الجبال فيحلوا منها وجه الأرض فتراها بارزة أي : ظاهرة لا شيء فيها ، ويجوز أن تكون بارزة بمعنى : مبرزة أي : قد أبرز جميع ما في بطنها ، وجاءت على فاعلة على النسبة كما قيل : الحاسة وهي من أحسست على النسبة لا على طلب الفعل ، أي : هي ذات كذا ، ويجوز أن يكون المعنى أنك ترى أهل الأرض بارزين كما قال : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة إبراهيم آية : ٢١] ، وقال : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [سورة إبراهيم آية : ٤٨].

التاسع : محي الأرض مثلا ، وهو قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة هود آية : ١٠٧ ، ١٠٨]. لم يرد أرضا بعينها وإنما هو على حسب قول العرب في معنى الأبد : لا أفعل ذاك ما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وما أقام الجبل وما دامت السموات والأرض.

هذا وإن كان اللفظ الليل والنهار والجبل والأرض والسماء ، فإنما المراد به الأبد ، وإنما جعلوا هذه الأشياء أمثالا في الأبد ؛ لأنها عندهم لا تتغير ، ويجوز أن يكون المراد أرض الجنة والنار.

٧٩

الاشتراء

أصل الشراء من الإمالة ومنه الشرى وهو الناحية ، فقولهم : اشتريت الشيء. كأنك جعلته في شراءك ، أي : ناحيتك ، كما تقول : احتقبته إذا جعلته في حقيبتك ، وهو من الأضداد ، اشتريته إذا أخذته بثمن واشتريته إذا بعته ، وكذلك شريته إنما سمي المشتري والبائع باسم واحد ؛ لأن كل واحد منهما يأخذ شيئا ويعطي شيئا فلتماثلهما من هذا الوجه اشتركا في الاسم الواحد ، ويجوز أن يكون من قولك : شريت به. إذا لمحت به ، ومنه يقال :

شرى البرق إذا كثر لمعانه كأنه لهج بذلك.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الاختيار ، قال : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)(١) [سورة البقرة آية : ١٦ ، ١٧٥]. أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، ومنه : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [سورة البقرة آية : ١٧٤]. أي : اختاروا على الإيمان ما نالوه من حطام الدنيا ، وسماه قليلا ؛ لأن كل شيء من الدنيا قليل لانقطاعه.

وقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [سورة لقمان آية : ٦]. يعني : يختار باطل الحديث على القرآن.

وعلى هذا التقدير يصح هذا التأويل ؛ لأن الاختيار : إيثار الشيء على غيره وهو ضرب من الإرادة واقع على هذا الوجه ، وإذا لم يقع كذلك لم يسم اختيارا.

__________________

(١) قال الخازن : (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي استبدلوا الكفر بالإيمان وإنّما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعا على سبيل الاستعارة لأن الشراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. فإن قلت كيف قال اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلي الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه بها. والضلالة الجوز عن القصد وفقد الاهتداء (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي ما ربحوا في تجارتهم والربح الفضل عن رأس المال وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي مصيبين في تجارتهم ، لأن رأس المال هو الإيمان فلما أضاعوه واعتقدوا الضلالة فقد ضلوا عن الهدى. وقيل وما كانوا مهتدين في ضلالتهم. [لباب التأويل : ١ / ١٦].

٨٠