تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

بعذاب الله. والمراد أنه إذا أصابه أذى من الناس لسبب إيمانه جزع منه ، كما يجزع من عذاب الله ، يحث على الصبر عند مس الأذى.

الثالث : الضلال ، قال الله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [سورة فاطر آية : ١٦٢] ، أي : لستم تضلون إلا من هو ضال ، أي : ليس يتبعكم على عبادة الأوثان إلا من هو مثلكم في الضلال.

والهاء في عليه راجعة إلى ما الذي ، في قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) [سورة فاطر آية : ١٦١] ، وهو مثل قولك : ما هلك فلان إلا على يد فلان.

الرابع : الصد والاستزلال ، قال الله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [سورة المائدة آية : ٤٩] ، وقال : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [سورة الإسراء آية : ٧٣].

الخامس : الكفر والشرك ، قال الله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [سورة البقرة آية : ١٩١].

السادس : الإثم ، قال الله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [سورة التوبة آية : ٤٩] ، قال : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحديد آية : ١٤] أي : أثمتم.

السابع : العبرة ، قال تعالى : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة الممتحنة آية : ٥] ، أي : يعتبرون أمرهم بأمرنا فإذا رافها في ضر وبلاء ورأوا أنفسهم في غبطة ورخاء ؛ ظنوا أنهم على الحق وأننا على الباطل.

الثامن : الجواب ، قال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ) [سورة الأنعام آية : ٢٣] ، أي : جوابهم ؛ لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال ؛ فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول ونتكلم في قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [سورة الأنعام آية : ٢٤] ، فيما بعد إن شاء الله.

٣٨١

ومثل قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [سورة البقرة آية : ١٩١] ، قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [سورة البقرة آية : ١٩٣] ، أي : قاتلوهم حتى يؤمنوا فيذهب الكفر والشرك ، ويكون الدين كله لله دون الشيطان ، وأراد المشركين خاصة أي : قاتلوهم على كل حال في الحزم وغيره ، حتى يقروا بالإسلام ولا تقبل من المشرك جزية.

وإنما هو الإسلام والسيف وإما تبقيه أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم ؛ فليتدبروا كتابهم الدال على صحة الإسلام ؛ فيسلموا وليس ذلك مع عبدة الأوثان ؛ فلا يزدادون على الإمهال إلا شركا.

وهذه الآية ناسخة لما قبلها من قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [سورة البقرة آية : ١٩١].

٣٨٢

الفرح (١)

انفتاح القلب بما يلتذ ، وقيل : هو لذة في القلب أعظم من ملاذ الحواس ، ورجل فرح إذا جعلته كالنسبة ، وفارح إذا بليته على القلب وفرحان ، وامرأة فرحانة ، وأفرحني الشيء ميزني ، وأفرحني إذا فرحني ، وهو من الأضداد ، وفي الحديث" لا يترك مفرح في الإسلام" (٢) ، فسروه المثقل بالتبن ، وقيل : مفرج بالجيم أيضا.

والفرح في القرآن ثلاثة أوجه :

الأول : البطر ، قال الله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [سورة القصص آية : ٧٦] ، ومثله : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [سورة هود آية : ١٠] ، ونظيره : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة غافر آية : ٧٥] ، أي : تبطرون ، ولم يرد الفرح المباح مثل الفرح بالولد ، وسعة الرزق ، والزوجة الحسناء ، ونظائر هذا.

الثاني : الرضى ، قال الله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة الرعد آية : ٢٦] ، أي : رضوا بها ، ومثله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [سورة المؤمنون آية : ٥٣] ، أي : راضون ، وقال : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [سورة غافر آية : ٨٣] ، أي : رضوا كذا.

قال بعض المفسرين ، ويجوز عندنا أن يكون أراد الفرح المعروف ، بل هو الصحيح ، ولا يجوز أن يعدل عما يقتضيه الظاهر إلا لضرورة.

__________________

(١) (ف ر ح) : فرح فرحا فهو فرح وفرحان ويستعمل في معان أحدها الأشر والبطر وعليه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) والثّاني الرّضا وعليه قوله تعالى (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) والثّالث السّرور وعليه قوله تعالى (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ويقال فرح بشجاعته ونعمة الله عليه وبمصيبة عدوّه فهذا الفرح لذّة القلب بنيل ما يشتهي ويتعدّى بالهمزة والتّضعيف. [المصباح المنير : الفاء مع الراء].

(٢) أخرجه ابن سعد مرسلا في الطبقات الكبرى من حديث عامر الشعبي ج ١ / ٢٣٨ ، وأخرجه ابن حجر في المطالب العالية (١٤٤٢) ، والبوصيري في إتحاف الخيرة (٣٩٤٦).

٣٨٣

فقوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [سورة غافر آية : ٨٣] ، أي : لما جاءتهم الرسل لم تنظروا في أمرهم حق النظر ؛ فخفى عليهم الحق الذي جاءوا به ، فاستحقروه واستحسنوا ما كانوا فيه من الباطل ، وفرحوا به وسمي ما كانوا يعتقدونه من الجهل علما ؛ لأنه كان علما عند أنفسهم.

الثالث : الفرح بعينه ، قال الله : (وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) [سورة يونس آية : ٢٢].

٣٨٤

الفضل (١)

أصله من الزيادة ، وفضلة الشيء بقيته ؛ لأنها زادت على الكفاية ، وقيل : الفضائل ؛ لأنها زيادة في محاسن الإنسان والمفضل الثوب الذي تلبسه المرأة في بيتها ؛ لأنه زيادة على جملة ثيابها.

وهو في القرآن على ثمانية أوجه :

الأول : الإسلام ، قال الله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [سورة يونس آية : ٥٨] ، وإنما سمي الإسلام فضلا ورحمة ؛ لأنه يؤدي إلى الفضل والرحمة.

الثاني : النبوة ، قال تعالى : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [سورة النساء آية : ١١٣] ، ومثله أن فضله كان عليك كبير ، أو يجوز أن يكون أراد فضله عليه في النبوة ، أي : نعمته فيها عظيمة.

الثالث : الثواب ، قال : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [سورة آل عمران آية : ١٧١] ، وقوله : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [سورة النساء آية : ١٧٥] ، ويجوز أن يكون الفضل في هاتين الآيتين التفضل.

الرابع : الرزق ، قال الله : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [سورة الجمعة آية : ١٠] ، وقال : (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة المزمل آية : ٢٠] ، فوضع التاجر مع المجاهدين دالا على فضل التجارة.

__________________

(١) (ف ض ل): (الفضل) الزّيادة وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه حتّى قيل فضول بلا فضل وسنّ بلا سنّ وطول بلا طول وعرض بلا عرض ثمّ قيل لمن يشتغل بما لا يعنيه (فضوليّ) وهو في اصطلاح الفقهاء من ليس بوكيل وفتح الفاء فيه خطأ (وقول عبد الله الأنصاريّ) فيمن يجعل أقلّ ممّا اجتعل إذا لم يكن أراد الفضل فلا بأس به يعني إذا لم يقصد بما فضل منه وزاد أن يحبسه لنفسه ويصرفه إلى حوائجه ويقال ثوب فضل وامرأة فضل أي على ثوب واحد ملحفة ونحوها تتوشّح به (ومنه) حديث سهلة فيراني فضلا وأمّا حديث عائشة في أفلح وأنا في ثياب فضل ففيه نظر والفضول في (ربّ). [المغرب : الفاء مع الضاد].

٣٨٥

الخامس : الغنيمة ، قال الله : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) [سورة النساء آية : ٧٣] ، ومثله كثير.

السادس : الخلف ، قال تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) [سورة البقرة آية : ٢٦٨] ، أي : مغفرة عند الصلاة ، والفضل الخلف مما أخرج في الصدقة.

السابع : اللطف ، قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [سورة النور آية : ٢١] ، أي : لو لا لطفه وتوفيقه لم تكونوا أزكياء.

والخطاب للمؤمنين وإذا فعل الإنسان ما يرضى به عنه سمي زاكيا وزكيا ، ومن ثم يقال للزرع إذا بلغ المبلغ الذي يريده الزارع ؛ أنه قد زكا ، : (اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية : ٤٩] ، أي : يفعل من يشاء من المكلفين ما يصير به مطيعا ؛ إذا كان في معلومه أنه يقبل ويصلح.

ويجوز أن يكون المراد أنه يخبر بصلاح من يشاء ، وفضله حتى يكون زكيا عند الخلق إذا كان كذلك.

الثامن : الجنة ، قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [سورة الأحزاب آية : ٤٧] ، وقد خرج لنا وجه آخر وهو ، قوله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) [سورة النور آية : ٢٢] ، يعني : بالفضل الغنى ، أي : لا يخلف أحد منكم على منع ذوي القربى واليتامى والمساكين بره ؛ إذا كان له غنى وسعة ، والواسع الغني.

والآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنه لما خاض يشطح مع أهل الأنكت في قذف عائشة رحمها الله حلف أبو بكر أن يمنعه بره وفضله ، وكان في عيال أبي بكر فنهاه الله عن ذلك فانتهى ، وعاد للإفضال عليه والبر له ، ويقال : الله واسع بمعنى أنه غني ، وللعبد موسع وقد أوسع مثل أيسر.

٣٨٦

وقال أبو مسلم : (وَلا يَأْتَلِ) أي : لا تقصر عن إيتاء ذوي القربى وإلى الرجل بالواو واتلي ما تلي إذا قصر ، قال أبو مسلم : ولا تجيء يأتلي في اليمن ، إنما يقال فيها إلى يولي ، والأول قول جميع المفسرين.

٣٨٧
٣٨٨

الباب الحادي والعشرون

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله قاف

قانتون (١)

القنوت : على وجوه أحدها الطاعة والآخر القيام في الصلاة ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه : أي : الصلاة أفضل؟ قال : " طول القنوت" (٢) ، أي : طول القيام ، وهو الدعاء وهو الطلب أيضا ، قال زيد ابن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [سورة البقرة آية : ٢٣٨] فأمسكنا.

وهي في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : السكوت ، وهو قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [سورة البقرة آية : ٢٣٨] ، وقيل : يعني : مطيعين والأول قول مجاهد ، وقال غيره : أي : دائمين على الطاعة والقنوت الدائم على الشيء ، وقال ابن عباس ، والحسن ، وعامر : هو للطلب ، وقال ابن عمر : طول القيام ، وقيل : هو الدعاء من قيام ، والداعي إذا كان قائما قانتا ، ويجوز أن يقع في جميع الطاعات لأنها لم تكن قياما على الرجلين فإنها قيام بالشيء نية وعملا ، والقنوت في كثير من آيات القرآن يدل على أنه إتمام الطاعة والصبر عليها ، قال الله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) [سورة الزمر آية : ٩] ، وقال : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة الأحزاب آية : ٣١] ، قال : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) [سورة النساء آية : ٣٤] يريد صبرهن على أزواجهن وقيامهن بطاعة الله.

__________________

(١) (ق ن ت) : القنوت مصدر من باب قعد الدّعاء ويطلق على القيام في الصّلاة ومنه قوله «أفضل الصلاة طول القنوت» ودعاء القنوت أي دعاء القيام ويسمّى السّكوت في الصّلاة قنوتا ومنه قوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ). [المصباح المنير : القاف مع النون].

(٢) أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله (٧٥٧) ، والترمذي (٣٨٧) ، وابن ماجه (١٤٢١) ، وأحمد في مسنده (١٣٨٢١) ، وابن خزيمة في صحيحه (١٠٩١).

٣٨٩

الثاني : الأقرار ، قال الله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [سورة البقرة آية : ١٦١] ، أي : مقرون بالعبودية كذا قيل ، ويجوز أن يكون بمعنى دوام الطاعة ، والمراد أن جميع ما في السماوات والأرض يشهد بربوبيته ، فكأنه يديم طاعته ، وفسر أيضا قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [سورة البقرة آية : ٢٣٨] ، على أنه أراد مقربين.

الثالث : الصلاة ، قال الله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) [سورة الزمر آية : ٩] ، وروى عنه صلّى الله عليه أنه قال : " مثل المجاهد مثل القانت الصائم" (١) ، أي : المصلي الصائم كذا قيل ، ويجوز أن يكون على الوجه الذي تقدم.

الرابع : الطاعة ، قال الله : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) [سورة الأحزاب آية : ٣٥] ، ومثله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) [سورة النحل آية : ١٢٠] ، أي : مطيعا كذا جاء في التفسير ، وهو وجه.

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، أخرجه البخاري (٢٧٨٧) ، ومسلم (١٨٨١) ، والترمذي (١٦١٩) ، والنسائي (٣١٢٤) ، وأحمد في مسنده (٩١٩٧) ، ومالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (٩٧٣).

٣٩٠

القوة (١)

أصلها التعاون ، ومنه قوي الحبل ، لأن كل واحدة منها تعين الأخرى ، وكل طاقة من الحبل قوة ، واستعمالها في صفات الله بمعنى أن أحدا لا يغلبه ، وليس معناه التعاون كما أن أصل التوبة في اللغة الرجوع ، تاب يتوب إذا رجع وكذلك تائبون ، وقولنا : (اللهُ ثَوابَ) [سورة النور آية : ١٠ ، الحجرات : ١٢] ، ليس يعني : به الرجوع.

والقوة في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : العدة ، قال : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) [سورة هود آية : ٥٢] ، أي : عدة إلى عدتكم ، وذلك أن العدة تعبر على مغالبة العدو ، وقال : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) [سورة الكهف آية : ٩٥] ، أي : بعدد من الرجال ، والمراد أن فيما أعطاني الله من المال كفاية في بناء هذا السد ، ولكن ينبغي أن تعينوني بأنفسكم ليتعجل العمل ويقع الفراغ منه بسرعة ، والخير في هذه الآية الكفاية ، والناس يقولون : فلان بخير في كفاية ، وقيل : خير أي : خير لكم من خرجكم.

الثاني : الجد ، قال الله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [سورة البقرة آية : ٦٢] ، أي بجد ، ومثله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [سورة مريم آية : ١٢] ، أي : بجد ، وقيل معناه أي : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) [سورة البقرة آية : ٦٣ ، ٩٣ ، الأعراف : ١٧١] ، من المقدرة وفي هذا دليل على أن القدرة على الأخذ معهم أخذوا أم لم يأخذوا.

الثالث : البطش ، قال الله : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [سورة فصلت آية : ١٥] ، يعني : البطش ، والبطش الأخذ بالشدة والغلبة ، ويجوز أن يكون بمعنى القدرة ، أي : من أقدر منا على الامتناع مما يراد بنا ، ويجوز أن تكون القوة هنا العدة أيضا.

__________________

(١) (ق وي) : قوي يقوى فهو قويّ والجمع أقوياء والاسم القوّة والجمع القوى مثل غرفة وغرف وقويّ على الأمر وليس له به قوّة أي طاقة والقواء بالفتح والمدّ القفر وأقوى صار بالقواء وأقوت الدّار خلت. [المصباح المنير : القاف مع الواو].

٣٩١

الرابع : السلاح وهو راجع إلى معنى العدة ، قال الله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [سورة الأنفال آية : ٦٠] ، أي : من سلاح ، والدليل على هذا ما يتلوه من ذكر الخيل ، وذلك أن الخيل يذكر مع السلاح ، وليس يجوز أن يقال أن المراد بها القدرة ؛ لأنهم لا يقدرون على فعل القدرة لأنفسهم.

الخامس : الشدة ، قال الله : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [سورة القصص آية : ٧٦] ، وتنوء بالعصبة ، أي : تغلبهم ولو ناءوا بها لكانوا قد حملوها ولكن هي نأت بهم ، أي : ارتفعت بهم فلم يطيقوها.

٣٩٢

القضاء (١)

الحتم ، ومنه أصله ، قيل القاضي لأنه يحتم على الناس الأمور ، ثم قيل : لكل شيء الحتمة ، وفرغت منه قد قضيته ، قال أبو ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابع تبع

وذلك أن من عمل عملا وفرغ منه فقد حتمه وقطعه ، والقضاء تأدية الفرض ، ومنه قضاء الدين ، وحد القضاء في اللغة فصل الأمر وإبرامه وبلوغ آخره على التمام والإحكام ، ومنه قوله للموت : قضاء الله لأنه آخر أمر الدنيا ، ومنه قوله : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [سورة الحاقة آية : ٢٧] ، ومنه التقضي والانقضاء.

وهو في القرآن على اثنى عشر وجها :

الأول : الأمر ، قال الله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء آية : ٢٢] ، أي : أمر أن نعبد الله وحده ، وفي هذا بطلان قول من يقول : أنه قضى أن نعبد الشيطان ، وقيل : فرض ، وهو قريب من الأول ، ولا يقال قضاء إلا فيما كان لازما من الفروض ؛ فأما النوافل فلا يقال فيها القضاء.

الثاني : بمعنى العلم ، قال الله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [سورة القصص آية : ٤٤] ، أي : أعلمناه ، وإذا قلت : قضيت إليك ، فهو بمعنى العلم ، وقضيت عليك بمعنى الحكم ، ومثله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [سورة الحجر آية : ٦٦] ، ثم فسر ما الأمر ، وقال : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [سورة الحجر آية : ٦٦] ، كأنه قال : وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع ، ومثله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) [سورة الإسراء آية : ٤] ، أي : أعلمناهم ذلك ، ويجوز

__________________

(١) (ق ض ي): (قضى) القاضي له عليه بذلك قضاء وقاضيته حاكمته (وفي حديث) الحديبية وقاضاهم على أن يعود أي صالحهم (وقاضي) الحرمين هو أبو الحسين تلميذ الكرخيّ وأبي طاهر الدّبّاس هكذا في كتاب الفقهاء واسم القاضي في الخنثى عامر بن الظّرب العدوانيّ وقصّته مستقصاة في المعرب (وقضيت) دينه وتقاضيته ديني وبديني واستقضيته طلبت قضاءه واقتضيت منه حقّي أخذته. [المغرب : القاف مع الضاد].

٣٩٣

أن يكون القضاء في هذه الآيات بمعنى الوحي ؛ فقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الإسراء آية : ٤] ، أي : أوحينا إلى أنبيائهم.

الثالث : الإتمام والفراغ ، قال الله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٠٠] ، أي : أتممتموها وفرغتم منها ؛ : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٠٠] ، أي : لا تقطعوا ذكره لفراغكم من متعبداتكم ، وكانت العرب إذا أرادت الصدر عن الحج وقفت بين المسجد والجبل بمنى فذكرت محاسن آباءها ومناقبهم ، فأمر الله أن يذكروه ويثنوا عليه كذكرهم آباءهم ، ثم قال : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [سورة البقرة آية : ٢٠٠] ، وأراد بل أشد ذكرا ، لأن نعم الله عليهم أكثر من نعم غيرهم ، ووقوع أو موقع بل معروف ، ومنه قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) [سورة الصافات آية : ١٤٧] ، أي : بل يزيدون.

وقال بعضهم : أو يزيدون عندكم ، ومثله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) [سورة النساء آية : ١٠٣] ، ونظيره : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [سورة الأحقاف آية : ٢٩] ، أي : فلما فرغ النبي صلى الله عليه من قراءة القرآن.

الرابع : بمعنى الفعل ، قال الله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [سورة طه آية : ٧٢] ، أي : افعل ما أنت فاعل : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) [سورة طه آية : ٧٢] ، والحياة نصب على الظرف ، ويجوز أن يكون القضاء هنا الحكم أي : احكم فينا بما أنت حاكم ، وقال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [سورة الأنفال آية : ٤٢].

الخامس : بمعنى الإرادة ، قال الله : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة غافر آية : ٦٨] ، أي : إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، أي : إذا أراد أمرا لم يتعذر عليه فعله ، وليس هناك قول ، وإنما هو عبارة عن إيجاده الفعل من غير تعذر إذا لم يحتمل الكلام على هذا المعنى فسد ؛ لأنه لا يجوز أن يخاطب المعدوم ، ولا يجوز أن تقول للموجود كن ؛ لأنه كان ، وإنما هو كقول الشاعر :

قال جناحاه ليسا فيها جفاء

٣٩٤

ولم يكن هناك قول ، بل هو إخبار عن سرعة اللحاق.

السادس : بمعنى الموت ، قال : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [سورة الزخرف آية : ٧٧] ، أي : ليمتنا ، ومثله قوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [سورة القصص آية : ١٥] ، ومثله : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [سورة الحاقة آية : ٢٧].

السابع : بمعنى الوجوب ، قال الله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة مريم آية : ٣٩] ، أي : وجب العذاب ، وقال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة إبراهيم آية : ٢٢] ، والوجوب هنا الوقوع ؛ لأن العذاب كان وجب عليهم في الدنيا ، وإنما يقع في الآخرة.

الثامن : الكتاب ، قال الله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [سورة مريم آية : ٢١] ، أي : مكتوب في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون أمرا مقتضيا ، أي : مقدرا مفروغا.

التاسع : قضى بمعنى أتم ، قال : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [سورة القصص آية : ٢٩] ، أي : أتم الشرط المشروط إلى الأجل ، ومثله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه آية : ١١٤] ، أي : من قبل أن يتم جبريل صلوات الله عليه قرآنه عليك.

العاشر : قضى بمعنى فصل ، قال الله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) [سورة الزمر آية : ٦٩] ، وقال : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام آية : ٥٨] ، ونظيره : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) [سورة الجاثية آية : ١٧].

الحادي عشر : قضى بمعنى خلق ، قال الله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [سورة فصلت آية : ١١] ، أي : فخلقهن ، ويجوز أن يقال : أتم خلقهن فيكون على الأصل.

الثاني عشر : قضى بمعنى حكم ، قال تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) [سورة غافر آية : ٢٠] ، وقريب منه ، قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَ) [سورة الأنعام آية : ٥٧].

٣٩٥

وفي هذا دليل على أنه لم يقض الكفر ؛ لأنه ليس حق فقد قال : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [سورة آل عمران آية : ١١٢] ، فدل على أن قتلهم ليس من قضائه لإخباره أنه لا يقضي إلا بالحق ، وإن زعموا أن قتلهم من قضائه لزمهم أن يقولوا أن قتلهم حق ؛ لأن قضاءه حق.

وقرئ يقضي الحق ، ويقضي أجود هنا ، لقولنا : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [سورة يوسف آية : ٤٠ ، ٦٧ ، الأنعام : ٥٧] ، والحكم والقضاء واحد ، وجميع هذه الوجوه راجع إلى ما قلنا من الأحكام ، والفراغ من نفس الشيء أو حكمه أو الخبر عنه.

٣٩٦

القدر (١)

القدر هو وجود الأفعال على مقدار الحاجة إليها والكفاية لما فعلت من أجله ؛ كان القدر هو الوجه الذي أردت إيقاع المراد عليه ، والمقدر للفعل هو الموجب له على ذلك الوجه.

وأصل القدر في العربية التوسط بين العلو والتقصير ، ومن ثم قيل : للقدرة قدرة ؛ لأن الفعل يقع على قدره ، وقيل : هذا على قدر ذلك ، وقدره أي : غير فاصل عنه ولا مقصر دونه ، ومنه قيل : القدر لأنك تطبخ فيها الطبيخ بقدر ما تحتاج إليه ، أو بقدر ما تسعه.

وسمي قدر الله قدرا لأنه يقع على قدر المصالح ، لا فضل ولا نقصان ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر آية : ٤٩] ، أي : هو على قدر الصلاح.

وقال بعضهم : أصل القدر هو وجود الفعل على مقدار ما أراده الفاعل وحقيقته في أفعال الله وجودها على قدر المصالح ، وأما قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [سورة الفرقان آية : ٢] ، فإن اللفظ عام ، والمعنى خاص ؛ لأن المعاصي لم تدخل فيه ، والشاهد قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النمل آية : ٨٨] ، والباطل ليس بمتقن.

والدليل على أن كل تجيء لغير معنى الإحاطة ، قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة النمل آية : ٢٣] ، ونحن نعلم أنها لم تؤت لحية ، وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [سورة الكهف آية : ٨٤] ، وهو القدر ، والقدر ، ثم استعمل في التقصير فقيل : قدر فلان على نفسه مثل قتر ونحوه : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [سورة الأنبياء آية : ٨٧] ، أي : ظن أن لن نضيق عليه ؛ كقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، ومنه : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [سورة الطلاق آية : ٧] ، أي : ضيق عليه.

ومن ذلك قولهم : رجل أقدر ، إذا كان قصير العنق ؛ وجاء أيضا في الزيادة ، فقيل : فرس أقدر للذي تتقدم موقع رجله موقع يده ، والخبر السابق بما يكون قدرة أيضا إذا كان

__________________

(١) [قدر] : القدر : القضاء الموفق ، يقال : قدره الله تقديرا. وإذا وافق الشيء شيئا قيل : جاء على قدره. والقدريّة : قوم يكذبون بالقدر. [العين : قدر].

٣٩٧

المخبر عنه ، ويكون على مقدار ما تقدم به الخبر ، ومنه قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [سورة الحجر آية : ٦٠] ، أي : أخبر عن ذلك ، بقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) [سورة هود آية : ٨٠] ، ومنه ، قول العجاج :

وأعلم بأن ذا الجلال قد قدر

أي أخبره ، وقيل : قدر وقدر لغتان بمعنى واحد ، وقرئ : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [سورة المرسلات آية : ٢٣] ، بالتثقيل فجمع بين اللغتين ، [كما] قال الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

والصحيح أن قدر الشيء بالتشديد وفي تكرير الفعل ، وقيل : التخفيف بمعنى القدرة والملك ، ومعنى قولهم : المقدور كائن ، أن ما أخبر الله بكونه كائن ؛ وليس أن المعنى المخلوق كائن ؛ لأن ذلك لا يشك فيه.

والقدر في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الأمر والحكم ، قال الله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [سورة الأعلى آية : ٣] ، يعني : أنه أمر في الزاني بالرجم ، وفي القاذف بالجلد ، وفي السارق بالقطع ، وفي القاتل بالقتل ، وهدى بذلك إلى ما فيه نجاة الخلق.

وفي هذا دليل على أن المعصية ليست من قدر الله ، لقوله : (قَدَّرَ فَهَدى) [سورة الأعلى آية : ٣] ، ولم يقل : قدر فأضل وأعمى.

الثاني : الخلق على قدر ، قال تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [سورة المزمل آية : ٢٠] ، أي : يخلق كل واحد منهما بعد الآخر على قدر لا زيادة ولا نقصان.

وقال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [سورة يس آية : ٣٨] ، أي : ذلك خلقه كذا قيل ، ويجوز أن يكون المعنى أنه قدر سيرها تقديرا لا يتفاوت.

٣٩٨

الثالث : التسوية ، قال الله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس آية : ٣٩] أي : سوينا له منازل ينزل فيها حالا بعد حال ، وهو راجع إلى الخلق كذا قيل ، ويجوز أن يكون المراد إنا قدرنا سيره في المنازل تقديرا لا يتفاوت.

قال أبو علي رحمه‌الله : القدر على وجهين :

أحدهما : أن يفعل الله الشيء مقدرا ، والآخر : أن يقدر لخلقه بأن يعرفهم مقداره ووقت كونه ؛ كقولك لصاحبك : كم تقدر مقامك بالبلد؟ وللخياط : ما يقدر أن تعطني الثوب ، ومعنى ذلك أن يعرفك مقداره.

٣٩٩

قليل (١)

القليل ما يقصر عن الكفاية ، وهو قل بمعنى قليل ، والقل أيضا القلة مثل النحل والنحلة ، والعذر والعذرة ، وقيل : قل فعل ولهذا جاء فاعله على فعيل ، مثل كرم ، وهو كريم ، وكثر وهو كثير ، وقيل هو فعل إلا أنه دخله معنى المبالغة فجاء فاعله على فعيل ، كما قيل : حرص وهو حريص وهذا هو الصحيح ، ويقال : هؤلاء قوم قليل وقليلون وكثير ، ولم يجيء كثيرون.

والقليل في القرآن على ثلاثة أوجه فيما ذكروا وبعضها عندنا داخل في بعض :

الأول : بمعنى اليسير ، قال : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [سورة آل عمران آية : ١٨٧] ، أراد أن أهل الكتاب تركوا العمل بكتابهم وكتموا ما يدل منه على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله ، لعرض نالوه من عرض الدنيا وذلك قليل.

الثاني : بمعنى الرياء فيما جاء عن بعضهم ، وهو قوله : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(٢) [سورة النساء آية : ١٤٢] ، وهو الأول عندنا سواء ، والمراد أن المنافقين يذكرون الله إذا لقوا المؤمنين فذكرهم له قليل بالإضافة إلى ذكر المؤمنين له ؛ لأن المؤمنين يذكرونه على كل حال.

__________________

(١) الفرق بين القليل واليسير : أن القلة تقتضي نقصان العدد يقال قوم قليل وقليلون وفي القرآن" لشرذمة قليلون" يريد أن عددهم ينقص عن عدة غيرهم وهي نقيض الكثرة وليس الكثرة إلا زيادة العدد وهي في غيره إستعارة وتشبيه ، واليسير من الاشياء ما يتيسر تحصيله أو طلبه ولا يقتضي ما يقتضيه القليل من نقصان العدد ألا ترى أنه يقال عدد قليل ولا يقال عدد يسير ولكن يقال مال يسير لان جمع مثله يتيسر فإن استعمل اليسير في موضع القليل فقد يجري اسم الشئ على غيره إذا قرب منه. [الفروق اللغوية : ١ / ٤٣٤].

(٢) قال أبو جعفر : أما قوله : " ولا يذكرون الله إلا قليلا" ، فلعل قائلا أن يقول : وهل من ذكر الله شيء قليل؟

قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله ، مخلص له الربوبية. فلذلك سماه الله" قليلا" ، لأنه غير مقصود به الله ، ولا مبتغي به التقرّب إلى الله ، ولا مراد به ثواب الله وما عنده. فهو ، وإن كثر ، من وجه نصب عامله وذاكره ، في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء. [جامع البيان : ٩ / ٣٣١].

٤٠٠